في الذوق الأدبي
عشت هذين اليومين الأخيرين في عصرٍ ما أحسب أن كثيرًا من قرائنا اليوم يعيشون فيه، بل ما أحسب أنه يخطر لهم على بال، وهو القرن الثامن عشر الفرنسي، وأقول: إن كثيرًا من قرائنا — ولا بأس من أن أضيف إليهم شعراءنا وكُتَّابنا — لا يعيشون فيه ولا يُخطرونه لأنفسهم على بال؛ لأنهم قلما يفكرون في أمْس وقلما يمعنون التفكير في غد، وإنما هم يعيشون لا أقول لليوم الذي هم فيه، بل للساعة التي هم فيها، وربما علقوا آمالهم بالغد لأنهم يرجون أن يكون خيرًا من اليوم، ثم لا يكادون يصنعون لهذا شيئًا … أما أمس فقد مضى بخيره وشره وبحلوه ومره وأصبح الرجوع إليه إضاعة للوقت كما أصبح التفكير فيه لونًا من العبث، وحسبهم أنهم شقوا بالأمس القريب والبعيد أيام كانوا تلاميذ يحفظون التاريخ ويتهيَّئُون للامتحان فيه ويرهِقون أنفسهم به وبغيره من مواد الدراسة أشد إرهاق، ويعاهدون أنفسهم في بعض ساعات العناء على أن ينسوه ويُعرضوا عنه متى وضعوا عن أنفسهم أعباء الدروس والامتحان.
ولم أعِشْ في سياسة القرن الثامن عشر ولا في علمه ولا في فلسفته، وإنما عشت في أدبه وبين اثنين من أدبائه خاصةً، هما مونتسكيو وفولتير، وربما لقيت أديبًا ثالثًا من أدباء ذلك العصر فكلفت به وأخذت نفسي بأن أعود إليه من غد وهو «ديدرو».
وقد عشت بين هؤلاء الأدباء في قراءة آثار ضئيلة جدًّا لهم ممتعة على ضآلتها كل الإمتاع؛ لأنها تدور كلها حول الذوق الأدبي، يتحدث بعضهم عنها رمزًا فيترك العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي يضطرب بين أهلها، بل يزعم أنه ليس هو الذي يتحدث، وإنما يترجم عن يوناني قديم عاش في القرن السادس قبل المسيح، وجعل للذوق إلهًا وجعل له معبدًا وجعل يتخير من يؤذَن له في الإلمام بهذا المعبد والقرب من هذا الإله، ومن يجب أن يُقصى عنه إقصاءً ويُحظر عليه الدنوُّ منه فضلًا عن الولوج فيه.
وهذا الأديب هو مونتسكيو في رسالة صغيرة جدًّا له تُقرأ في أقل من ساعة، ولكنها تفرض عليك التأمل الطويل والتفكير العميق ساعات بل أيامًا؛ وأما الآخر وهو فولتير فيجعل للذوق معبدًا كصاحبه، ولكنه لا يترجم عن أحد ولا يعيش في عصر قديم ولا يتحدث عن القدماء إلا حين يحتاج إلى أن يتحدث عنهم، وإنما يتحدث عن عصره وعن معاصريه والذين سبقوه قليلًا، فيأذن لبعضهم في دخول المعبد ويردُّ بعضهم عنه ردًّا عنيفًا، ويملأ قلوب كثير من الأدباء عداءً له وسخطًا عليه، وهو يكتب رسالته الصغيرة نثرًا رائعًا ولكنه يزينها بالشعر بين حين وحين، وبمقدار ما يحرص مونتسكيو على إيثار العافية واتقاء المكروه يُمعن فولتير في الصراحة ويُسمِّي الناس بأسمائهم ويرمي بعضهم بسهام حادة نافذة، أما الثالث وهو ديدرو فَيدرُس الذوق على اختلاف موضوعاته درسًا فلسفيًّا تحليليًّا دقيقًا.
وكان العصر الذي عاش فيه هؤلاء الأدباء مشبهًا للعصر الذي نعيش فيه من بعض الوجوه، كان فيه اختلاف عظيم بين الأدباء حول المثل الأعلى في الفن الأدبي، يراه بعضهم في تقليد القدماء من اليونان واللاتين، ويراه بعضهم في تقليد الأدباء الفرنسيين الذين عاشوا في القرن السابع عشر وأعطَوا الأدب الفرنسي صورته الرائعة التي فرضت نفسها أو أرادت أن تفرض نفسها على الأدباء في جميع العصور الفرنسية.
وآخرون يحاولون في استحياء أن يُنشئوا لأنفسهم أدبًا جديدًا يلائم ما يطمحون إليه من الحياة الجديدة، ولكنهم لا يبلغون ذلك لأنهم لم يتهيَّئُوا بعد لإنشاء هذا الأدب، وأولئك وهؤلاء يختصمون أشد الخصومة وأقساها؛ يختصمون فيما يمثَّل في الملاعب وفيما يُنشر من الكتب، ويختصمون في هذا كله بالكتب يؤلفونها وبالمقالات يكتبونها وبالأحاديث يديرونها بينهم في الأندية والقهوات.
ولعل هذا التشابه بين العصر الذي عاش فيه أولئك الأدباء والعصر الذي عشنا فيه منذ أوائل هذا القرن هو الذي أغراني بالرجوع إلى تلك الآثار وإطالة الوقوف عندها.
والذين يذكرون الربع الأول من هذا القرن لم ينسَوْا بالطبع تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين شباب الأدباء وشيوخهم حول المثل الأعلى في الشعر أولًا وفي النثر بعد ذلك، ولم ينسَوْا أن المصريين خضعوا لتيارين خطيرين من التيارات الأدبية، كان أحدهما يأتيهم من الغرب الأوروبي، وكان الآخر يأتيهم من الأدب العربي القديم الذي أخذ يحيا ويسيطر على النفوس والأذواق منذ أواسط القرن الماضي، ولعلهم يذكرون أن تلك الخصومات كانت خصبة حقًّا، وأنها لم تمضِ مع رياح الصيف أو رياح الشتاء، وإنما تركت في أدبنا العربي الحديث آثارًا ما زالت باقية وإن كان كل شيء يدعوها إلى العفاء في هذه الأيام، وحسب هذه الخصومات أنها أنشأت نثرًا عربيًّا خالصًا لم يفنَ في المغرب الأوروبي ولم يفنَ في أدب الجاهليين والإسلاميين والعباسيين، وإنما صور شخصية مصرية ممتازة من هذين الأدبين، ثم أذاع هذه الشخصية فيما وراء حدود مصر من أقطار العالم العربي، وكان قوام هذه الخصومة الثورة على الفناء في القديم العربي من جهة الشباب والإغراق في المحافظة على هذا القديم من جهة الشيوخ.
وكان أدباء الشباب يقومون مقامًا وسطًا بين الغلو في التجديد وبين الغلو في المحافظة؛ يستمسكون باللغة العربية الفصحى لا ينحرفون عنها ولا يعنفون بها، ولكنهم يرَوْن هذه اللغة ملكًا لهم ولا يرَوْن أنفسهم ملكًا، لها يطوعونها لما يريدون من أغراض الحياة الحديثة التي يحياها الناس والتي لم يعرفها القدماء، ولكنهم لا يفسدون أصولها ولا يخرجون على قواعدها يستبيحون لأنفسهم أن يثوروا على المعجمات القديمة التي وقفت باللغة العربية عند القرن الثاني للهجرة، ويبتكرون ما يحتاجون إليه من الألفاظ لا يجدون بذلك بأسًا، ولا يتحرَّجون من أن هذه الألفاظ ليست مسجلة في هذا المعجم القديم أو ذاك، فمن حقهم أن يسخِّروا اللغة لأغراضهم لا أن يسخِّروا أنفسهم للغة، ومن الحق عليهم إذنْ أن يُغْنوها ويضيفوا إليها من جديد الألفاظ ما لم يكن فيها؛ ثم يثورون كذلك على أساليب القدماء في التعبير الشعري والنثري، لا يُلزمون أنفسهم أن ينظموا الشعر كما كان ينظمه الجاهليون والإسلاميون والمحدثون من شعراء العصر العباسي أو من شعراء الأندلس، ولا يأخذون أنفسهم بأن يكتبوا كما كان يكتب ابن المقفع والجاحظ وغيرهما من الكُتَّاب القدماء، وإنما يصطنعون من الأساليب ما يلائم قلوبهم وأذواقهم وعقولهم الحديثة من جهة، وما يلائم حاجاتهم وما تثير هذه الحاجات في نفوسهم من العواطف والخواطر والآراء، وهم على رغم ثورتهم هذه لا يفرطون في القديم، وإنما يحفظونه ويمضون في إحيائه يرَوْنه من كنوزهم النفيسة التي لا ينبغي التقصير في رعايتها وحمايتها وصيانتها من الضياع والفساد جميعًا؛ كانوا يصلون القديم بالجديد ويلائمون بين ما كان وما هو كائن، ويحاولون أن يلائموا بين هذا كله وبين ما سيكون في مستقبل الأيام.
كانوا يرَوْن أن الأمة العربية الحديثة لم تنشأ من غير شيء، وإنما نشأت من أمة قديمة، وكانوا يرَوْن أن الحديث طور من أطوار الحياة الشعبية، وأن هذا الحديث سيصبح قديمًا في يوم من الأيام وسينشأ عنه حديث آخر، وأن الأمة الحية هي التي تساير الزمن وتتأثر بالأحداث تأثُّر من ينتفع بها ولا يغنى فيها وأن تتطور حسب ما تمليه الظروف.
وكانوا يرَوْن أن قدماء العرب قد أخطأتهم فنون من الأدب لم يُنشئوها لأنهم لم يعرفوها، وأن على المحدثين بعد أن عرفوا هذه الفنون أن يوطنوها في بلادهم، وأن يواصلوها في لغتهم وأن يشاركوا فيها ويسهموا في تنميتها وتطويرها كما يفعل أصحابها من الغربيين، وهم من أجل ذلك حاولوا إنشاء القصة الحديثة وحاولوا توطين التمثيل في البيئة العربية ووُفِّقوا من ذلك إلى شيء كثير، وكوَّنوا لمصر المعاصرة ذوقًا أدبيًّا جديدًا قد ينكره القدماء لو ظهروا عليه، ولكنه على ذلك عربيٌّ خالص لا شك في عروبته ومصريٌّ خالص لا شك في مصريته، وملائم مع ذلك كل الملاءمة لأغراض الحياة المعاصرة على اختلافها، وكان قائلهم يقول: إن قدماء العرب قد عرفوا حضارات الأمم القديمة فأخذوا منها ما لاءم حاجاتهم وأضافوا إليه من عند أنفسهم ووطَّنوه في بيئته العربية الخالصة وأهدَوْه بعد ذلك إلى الإنسانية؛ فأعانوها على الحياة وعلى الرقي في بعض العصور، وطوعوا اللغةَ ألفاظَها وأساليبَها لما نشأ لهم من الحاجات والأغراض، فهم حين يجددون إنما يسلكون سبيل آبائهم من قبلُ لا يأتون بدعًا من الأمر ولا يخرجون على المألوف من مضي الأمم في حياتها إلى أمام، وقد انتصر أولئك الشباب في أعقاب الحرب العالمية الأولى انتصارًا لا يُنكره ولا يشك فيه إلا المحمقون، ولم يكن لهم في تلك الخصومات ولا في ذلك الجهاد العنيف سلاح إلا العزم والصبر والطموح والجد في الدرس والحرص على أن يأخذوا من الثقافة القديمة والحديثة بأعظم حظ مستطاع، لم يقصروا في العلم بقديمهم، وعسى أن يكون كثير منهم قد عرفه خيرًا مما عرفه القدماء أنفسهم، ولم يقصروا في العلم بالحديث على اختلاف مصادره، تعلموا من اللغات الأجنبية ما أتاح لهم أن يظهروا على علوم الغرب وآدابه وثقافاته المختلفة، وفتحوا للأجيال الناشئة أبواب هذا كله ومهَّدوا لهم طرقه بمقدار ما استطاعوا، وإذا أردنا أن نحدد هذا الذوق الأدبي الحديث الذي أنشأه أولئك الشباب منذ أوائل هذا القرن إلى أن كانت الحرب العالمية الثانية، فلن نجد في ذلك مشقة ولا عسرًا؛ فهو يقوم على شيء واحد هو القصد والتوسط بين الغلو في المحافظة الذي ينتهي باللغة العربية إلى الجمود ثم إلى الموت، وبين الغلو في التجديد الذي ينتهي باللغة العربية إلى الفناء في اللغات الأجنبية أو في الحياة الأجنبية، أو فيما شئت من هذه الأعراض التي تعرض للذين يخرجون عن القصد فيغامرون فيفقدون قديمهم ولا يظفرون بجديد صحيح، وإنما ينتهون بلغتهم إلى مثل ما تنتهي به المحافظة الغالية من الضياع والموت.
واقرأ ما شئت من آثار أولئك الشباب على اختلافها فستراهم دائمًا محافظين على الطريق الوسطى لا يسرفون على أنفسهم ولا على قُرَّائهم في محافظة ولا في تجديد، وإنما يأخذون من كلا الطرفين بمقدار.
كذلك كان الذوق الذي عاش عليه الأدب المصري الحديث في النصف الأول لهذا القرن، ولكن الأحداث تحدث والنوائب تنوب، فإلامَ صار هذا الذوق الأدبي الحديث؟ إلى فناء أم بقاء؟! مسألة فيها نظر.
•••
كنت أسأل منذ خمسة عشر يومًا عن الذوق الأدبي الذي عرفه المصريون في النصف الأول من هذا القرن؛ أصائر هو إلى البقاء أم إلى الفناء.
وكان هذا السؤال لا يخلو من سرف؛ فكل شيء يدل على أنه صائر إلى تغير خطير هو بالفناء أشبه منه بالبقاء، ولكن التفاؤل يغري بالأمل … ولم تخلُ مصر بعدُ من قلة تؤثر ذلك الذوق الأدبي وتدعو إليه وتود لو أشاعته بين القراء وبين الكُتَّاب والشعراء أيضًا.
ولا بد من تسجيل حقيقةٍ ما أظن أحدًا يجادل فيها، وهي أن الشعر المصري الحديث أقل تطورًا وأبطأ حركة من النثر؛ فالناس لا يصطنعون الشعر للإعراب عما يضطرب في نفوسهم من شئون الحياة اليومية، وهم لا يحررون الصحف شعرًا ولا يكتبون فيما يريدون أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا، وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة، والشعراء يطرفون أنفسهم ويطرفون قُرَّاءهم بالقصيدة أو الديوان أو القصة التمثيلية الشعرية حين يتهيأ لهم ذلك وتدفعهم إليه الدوافع وتُحس به نفوسهم وطباعهم التي تختلف حظوظها من الخصب وقدرتها على الإجادة والبراعة.
ومن هنا كان الشعر المعاصر محتفظًا بتلك المقاييس التي ألفها شعراؤنا في أول هذا القرن لم يكادوا يتحولون عنها. وهناك تجارب للتجديد في الشعر من حيث الأوزان والقوافي ومن حيث الموضوعات والأساليب، ولكنها لم تَعْدُ طور التجارب والمحاولات، لم يتقبلها أكثر الذين يقرضون الشعر ولم يُقبِل عليها أكثر الذين يقرءونه ولم يمضِ فيها أصحابها لأنهم لا يجدون عليها تشجيعًا؛ ومن أجل هذا ظل الشعر المصري المعاصر في جملته — كما عرفناه أيام الممتازين من شعرائنا — لم يكد يتقدم خطوة إلى أمام، وأصابه شيء من الجمود والعقم؛ لأن الدنيا تغيرت من حوله ولم يستطع هو أن يُساير التغير ولا أن يستجيب له.
وإذا أتيحت الإجادة لشاعر من شعرائنا المعاصرين فقلَّ أن يضيف إلى ما ورثناه عن شعرائنا القدماء والمحدثين شيئًا ذا بال.
أما النثر فأمره مختلف جدًّا؛ فهو قد ساير الحياة وتأثر بما أدركها من تطور وتأثر كذلك بما أصابها من قصور، وعسى أن يكون قد أسرف في تطوره وتأثر بأسباب القصور والضعف أكثر مما تأثر بأسباب القوة والازدهار.
ولا بد من أن نلاحظ أن الذين طوَّروا الذوق الأدبي في النصف الأول لهذا القرن لم يكونوا كما يظن كثير من الناس في هذه الأيام يعيشون في البروج العاجية، ولا يعتزلون الحياة الشعبية، ولا ينأون بحالٍ من الأحوال عن آلام الناس وآمالهم، ولا يهملون قدرتهم وطاقاتهم، وإنما كانوا يعيشون مع الشعب، بل يعيشون بالشعب وللشعب، يعيشون له لأنهم كانوا يُعربون عن ذات نفسه، يصوِّرون له آماله ليحرص عليها ويجدَّ في تحقيقها، ويفتحون له آفاقًا جديدة من الأمل ليسرع إليها ويمعن فيها، ويصورون له آلامه ليبرأ منها ويضع عن نفسه أثقالها …
وأيسر القراءة فيما كانوا يكتبون تُبيِّن ذلك في غير لبس ولا غموض.
فهم الذين صوَّروا له الاستقلال وزيَّنوه في قلبه.
وهم الذين بغَّضوا إليه الاحتلال وأثاروه على الإنجليز.
وهم الذين كرَّهوا إليه الاستبداد وأطمعوه في الحرية وأغرَوْه بالإلحاح في طلبها.
وهم الذين أعدُّوه للثورة وأسخطوه على حياةٍ سيئة كان يحياها وهَيَّئُوا ضميره ليسرع إلى الخير حين يُدعى إليه، وينصرف عن الشر حين يُرد عنه، ويتقبل الإصلاح حين يعرض له.
وهم قاوموا الاستبداد ولَقُوا في مقاومته ضروبًا من الأذى وفنونًا من النُّكر.
وهم قوَّموا المعوجين من الحكام وجدُّوا في صرف الشعب عنهم وتزهيده منهم.
فعلوا كل هذا وتقبَّل الشعب منهم ما فعلوا، واستجاب الشعب لهم حين دعوه واستمع لهم حين تحدثوا إليه، وآية ذلك أنه كان يقرأ لهم حين يكتبون ويسمع لهم حين يخطبون أو يتحدثون.
وهم على كثرة ما فعلوا وحسن ما أبلَوْا قد احتفظوا للأدب العربي بروعته ونَضرته، وأرسلت بعض الكُتَّاب إلى السجون وصادرت بعضهم الآخر في رزقه؛ كل هذا الشر كان عقبة خطيرة في سبيل الأدب المصري الحديث أثناء الربع الثاني لهذا القرن.
والغريب أن الأدباء في تلك الأيام قد استطاعوا أن يقهروا تلك الظروف وينفذوا بما أقيم أمامهم من المصاعب، حيل بين أقلامهم وبين الحرية في الصحف؛ فأقبلوا على الكتب يؤلفونها ويستمتعون في تأليفها بالحرية الكاملة؛ لأن الوزراء وأعوانهم لم يكونوا يقرءون الكتب ولا يفرغون لها.
وكذلك كانت تلك الأيام السود أيام خصب للتأليف والإنشاء الأدبي الرفيع، ومن الكُتَّاب من عمد إلى الرمز في بعض ما كان يكتب في الصحف وفي بعض ما كان ينشئ من الكتب؛ فداور السياسة حتى غلبها وقال للظالمين ما أراد أن يقول، وهذه الأحكام العرفية التي اتصلت منذ أُعلنت الحرب العالمية الثانية إلى الآن ولم تُرفع في هذه السنين الطوال إلا فترات قصارًا، والأحداث الكثيرة التي عرضت فصرفت الناس أو كادت تصرفهم في بعض الأوقات عن الفراغ للإنشاء والقراءة.
فإذا أضفت إلى هذا كله أن التعليم العام لم يستجب لحاجات النهضة الأدبية وإنما اقتضت ظروفه ألا يتقدم إلا في بطء شديد، واقتضت ظروفه أيضًا أن يحسب القائمون على أموره حسابًا أي حساب للمغالين في المحافظة والمسرفين في الجمود والمبغضين لكل تطور أو تجديد، فظلت اللغة العربية وعلومها وآدابها تُدرس للتلاميذ في مدارس التعليم العام أثناء هذا القرن كما كانت تُدرس للتلاميذ منذ أكثر من ألف عام.
وظل التلاميذ يسمعون لدروس أساتذتهم دون أن يحققوها أو يذوقوها، ودون أن تُقبِل عليها قلوبهم أو تستسيغها عقولهم؛ فكانوا يرون أنفسهم مسخَّرين لهذه الدروس تسخيرًا، وكانوا يرَوْن الإقبال عليها شقاءً والجد فيها عناءً، ثم يخرجون من المدارس وهم لا يقيمون ألسنتهم إذا تكلموا ولا يحسنون الإعراب عن نفوسهم إذا كتبوا؛ لأنهم لم يتعلموا وسائل التعبير الصحيح الرائق بالكتابة أو الكلام.
فأي غرابة بعد هذا كله في أن يقصر الشباب عن قراءة الأدب الرفيع أو ذوقه، فضلًا عن محاولة إنشائه والمشاركة فيه.
وفي أثناء ذلك تطورت الصحافة تطورًا خطيرًا، فأعرضت — أو كادت تعرض — عن الأدب بعد أن كانت تحبه وتكلف به وتتنافس في نشره وتُغري بين الأدباء ليختصموا في مشكلاته … أعرضت عن الأدب وانصرفت إلى الأخبار والإعلان والأحاديث اليسيرة القصار التي تُقرأ وتُفهم في غير حاجة إلى تفكير أو تذوُّق أو أي نوع من أنواع الجهد، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما شُغفت الصحف بالصور، وكثرت الصحف الأسبوعية التي تكتب للناس باللغة التي يتكلمونها وتُكثر لهم من المغريات بقراءتها والمرغبات في الإقبال عليها والتنافس في شرائها.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كان من إغراء السينما، ومن الكلام الفارغ الكثير الذي تصبه الإذاعة في آذان الناس صبًّا في كل ساعات النهار وفي كثير من ساعات الليل، لم تُنكر ما ظهر في الذوق الأدبي من أعراض التغيير الذي يميل إلى الضعف والانحلال؛ لأنه آثر السهل على العسير وآثر من القراءة ما يعين على قطع الوقت، وأعرض عن القراءة التي تُكلف صاحبها الجهد في الروية والتفكير، والتي تحتاج إلى الأناءة والتمهُّل ولا يلائمها السرع والعجل.
صحف يومية جادة قد أعرضت عن الأدب إعراضًا وآثرت أيسر ما يُكتب ليُقرأ في أقصر وقت وأيسر جهد … وصحف أسبوعية تطلع مع الشمس في كل يوم على قُرَّائها وهي تتحدث إليهم بلغة الشارع وتنشر لهم الصور المغرية، وتُسلِّيهم بالفكاهات التي لا صلة بينها وبين الجمال الذي يستحبه الذوق.
فليس عجيبًا بعد هذا كله أن يُؤْثر الشباب القريب منهم على البعيد عنهم، وليس عجيبًا أن يرى كل قارئ في نفسه القدرة على أن يكتب كلامًا يسيرًا قريبًا كهذا الذي يقرأ مصبحًا وممسيًا وغاديًا ورائحًا.
وإذا الشباب كلهم كُتَّاب، وإذا كل من استطاع أن يُجريَ قلمًا على قرطاس يرى نفسه كاتبًا، فإن نشرت له الصحف ما يكتب فهو الأديب الذي ذاع اسمه في الآفاق وقرأته الألوف المؤلفة من القُرَّاء، وإن لم تنشر له الصحف ما يكتب فهو الأديب المغمور المظلوم الذي أُهدر حقه وأُنكر أدبه، ولم تظلمه الصحف وحدها، بل ظلمه معها القُرَّاء أيضًا؛ لأن قراءته لم تُتح لهم، ومن حقه أن يسخط على الناس جميعًا، ومن حق المظلوم أن يسخط على الظالمين، وأحق الناس بسخطه عليهم هم الذين تنشر لهم الصحف ويراهم أقل منه براعة، ويراهم مع ذلك قد ظفروا من الشهرة بما لا ينبغي لهم أن يظفروا به، والسخط يدعو إلى الحسد، وإذا كاتبنا المغمور المظلوم حاسد لكل كاتب يخلو له وجه صحيفة يومية أو أسبوعية.
وإذا كانت الصحف تروج على هذا النحو ويُقبل الناس على قراءتها إلى هذا الحد، فما يمنع أن تُؤلف الكتب بنفس اللغة التي تُكتب بها الصحف؟! وما يمنع أن تُذاع هذه الكتب في الناس وأن تُنشر عليهم في مواعيد منظمة كما تُنشر الصحف والمجلات؟! وما يمنع الناس أن يقرءوها مقبلين عليها راغبين فيها يستعينون بها على قطع الوقت وعلى احتمال أثقال الحياة، ويتسلَّون بها عما يعرض لهم من الأحداث، وما يلم بهم من بعض ما يكرهون. وكذلك يتبذل الذوق ويتبذل معه الأدب وتسقط معهما اللغة ويدركها الفساد، وفيمَ هذا العناء الكثير الذي يحتمله الأدباء المجوِّدون؟! وفيمَ قراءة هذا الكلام الذي يشق على الكاتب أن يكتبه، ويشق على القارئ أن يقرأه، ويشق على الذوق المبتذل أن يسيغه، وابتذال الذوق والأدب وابتذال اللغة معهما لا يغير مع ذلك من الحياة شيئًا.
فالشمس تشرق وتغرب والليل والنهار يختلفان والأحداث تجري فيهما كما تعودت أن تجري، والناس يسعدون ويشقون ويحزنون ويأسون كما كانوا يتعرضون لذلك كله حين كان الذوق مصفًّى والأدب رفيعًا واللغة نقية مبرأة من الفساد.
ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما يتعقد شيئًا فشيئًا؛ لأن بعض المذاهب تطرأ وتصل إلى مصر، ويجد فيها بعض الشباب الذين يكتبون ملاءمة لضعفهم في اللغة وقصورهم في الأدب وإيثارهم لليسر؛ فيستحبونها أولًا ويكلفون بها ثانيًا، ويتعصبون لها آخر الأمر ويريدون أن تتسلط على الإنتاج الأدبي والفني والنقد جميعًا.
ولكن حديث هذه المذاهب الأجنبية في الأدب وإقبال فريق من شبابنا عليها واستمساكهم بها، حتى بعد أن ضاق بها أصحابها؛ حديث هذا كله يطول، فلنرجئه إلى الأسبوع المقبل إن شاء الله.
•••
إذا أردت تحقيق التاريخ الأدبي للنصف الأول من هذا القرن، فليس لك بد من أن تسجل ظاهرتين يحسن الوقوف عندهما وقفة قصيرة.
إحداهما أن اللغة التي كان الناس يكتبونها كانت في جملتها لغة فصيحة ربما انسلَّ الخطأ إليها بين حين وحين، ولكن الفصاحة كانت عليها أغلب وبها ألصق.
وكانت هذه اللغة مع ذلك تذهب مذهبين في الأداء لما يريد الكُتَّاب أن يؤدُّوه. يذهب الأدباء مذهب الارتقاء في الأسلوب والارتفاع عن كل مبتذل من اللفظ، والاحتياط في غير الكلمات التي لا تسرف في الغرابة فيقصر عنها الفهم، ولا تسرف في الإسفاف فيجفو عنها الذوق.
وكان أخص ما تمتاز به لغة الأدباء وأساليبهم الصفاء والفصاحة والوضوح مع ذلك؛ بحيث يستطيع أصحاب الثقافة العليا وأصحاب الثقافة المتوسطة والذين تقل حظوظهم من المعرفة أن يقرءوها ويسيغوها ويجدوا الراحة إليها، وربما وجد كثير منهم الشغف بها.
وكان كُتَّاب الصحف يرسلون أنفسهم على سجيتها ويُجرون أقلامهم بما يواتيهم من الألفاظ والأساليب، لا يتعمدون انحرافًا عن فصيح الكلام إلا أن يتورطوا في هذا الانحراف تورطًا أو يُضطَروا إليه اضطرارًا.
وكان الأدباء يصطنعون لغتهم تلك فيما ينشئون من الشعر والنثر وما يؤلفون من الكتب.
وكانت الصحف تتنافس في آثار هؤلاء الأدباء تنشرها بين حين وحين، تتجمل بنشرها وتتقرب به إلى قرائها الذين يحبون رائع القول، ويودون لو أتيح لهم بين حين وحين في شيء من اليسر لا يكلفهم عناءً ولا يرزؤهم في أموالهم شيئًا.
فكانت هناك إذن اللغة العليا واللغة المتوسطة، كلتاهما فصيحة، ولكن حظهما من العناية والتجويد يختلف اختلافًا ظاهرًا تدعو إليه طبيعة الأدب من ناحية وطبيعة الصحافة من ناحية أخرى.
فالأديب محتاج إلى المهل والأناة وإلى الرَّوِيَّة والتفكير، وإلى إيثار الجمال والصدق حين يشعر أو يفكر، وإيثارهما أيضًا حين يُعرب عن عقله وقلبه، لا يتحكم فيه الوقت ولا تعنف به الضرورات المختلفة.
والصحافة محتاجة إلى السرعة ومحتاجة إلى النظام الدقيق، ومحتاجة بعد هذا كله إلى أن تملأ الأنهار التي أخذت نفسها بأن تقدمها إلى قُرَّائها في كل يوم أو في كل أسبوع.
والأديب يكتب للذي يسيغون الأدب ويقولونه ويجدون في قراءته لذة ومتاعًا.
والصحفي يكتب لكل قارئ، أو قُل يكتب لكل إنسان؛ فما أكثرَ ما يجلس الأميون إلى هذا القارئ أو ذاك ويستمعون لما يُتلى عليهم!
وليس بد للصحفي من أن يكتب لهؤلاء جميعًا كلامًا يفهمونه حين يقرءونه أو يسمعونه، ولم تخلُ مصر مع ذلك من صحف أسبوعية فكاهية تتحدث إلى الناس بلغة تلائم ذوق الشعب، لا تكلُّف في ألفاظها ولا تأنُّق في أساليبها ولا تعمُّق في موضوعاتها، وإنما الحديث الساذج الذي يديره الناس بينهم في أعمالهم حين يعملون وفي أسمارهم حين يسمرون.
وكان الناس جميعًا يقرءون هذه الصحف ويجدون فيها شيئًا من متاع؛ لأنها تُصور لهم فكاهة الشعب ساذجة حلوة، وعبث الشعب بقادته وحكامه حين يخلو بعض الناس إلى بعض.
وكان الأدباء أنفسهم يتفكهون بقراءة هذه الصحف ويتفكهون بالحديث عنها حين يلتقون، لا يأخذونها مأخذ الجد وإنما يضعونها حيث وضعت نفسها؛ فأصحابها لم يريدوا إلا التفكهة والتسلية والإعراب عما يضطرب في نفوس العامة بنفس اللغة التي تنطلق بها ألسنتهم حين يتحدث بعضهم إلى بعض.
وليس بدٌّ أيضًا من الاعتراف بأن الثورة المصرية بالاحتلال الإنجليزي في أعقاب الحرب العالمية الأولى قد فتحت للغة العامية أبوابًا واسعة؛ فاندفعت منها وكادت تغلب بعض الأدباء من الشباب على أدبهم.
فهذا التمثيل المضحك الذي راج واشتدت العناية به، وعظم الإقبال عليه وكثر الحديث عنه، والتفكه بما يجري فيه من النوادر والمضحكات؛ قد كان يؤثر باللغة العامية، وينفذ بها إلى قلوب الكثرة الكثيرة من النظارة.
وقد كانت الثورة شعبية، وكان من الطبيعي أن تكون لها أصداء شعبية أيضًا، وكان التمثيل من أقوى هذه الأصداء إن لم يكن أقواها.
ولم يكن الأدباء يضيقون بهذا التمثيل ولا يترفعون عنه، وربما أَحَبَّه بعضهم أشد الحب وأكثرَ الاختلافَ إلى ملاعبه يأنس فيها إلى هذا الروح الشعبي الحلو، ويجد فيها كنوزًا من عواطف الناس ومشاعرهم، قد تنفعه أعظم النفع حين يعود إلى أدبه الرفيع فيسجل فيه بعض عواطف الناس وخواطرهم وأحكامهم، وكان هذا كله طبيعيًّا لا يأتي عن تكلُّف ولا يصدر عن اعتداد بالنفس ولا يتأثر بجهل اللغة العربية وأدبها، وإنما كان الشعب ثائرًا فأعرب بعض أبنائه عن عواطفه وأهوائه كما كان يُعرب عنها هو في أنديته وأسماره ومواقفه المختلفة.
ولا كذلك ما انتهى إليه تطور الذوق حين انتصف هذا القرن أو حين أوشك أن ينتصف، وإنما جدت ظواهر لم تكن معروفة أو لم يكن يعرفها إلا الأقلون.
وهذه الظواهر جاءت من بعض المذاهب الأوروبية التي وصلت إلى مصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وصلت إليها في الكتب والصحف، ووصلت إليها من طريق الإذاعة أيضًا، ووصلت إليها من طريق الرحلات والأسفار التي كانت تُتاح لبعض الشباب، فيلقون الناس ويسمعون منهم ويقولون لهم ويرَوْن الكتب والصحف فيقرءون، وتصادف هذه القراءة أهواءً في نفوسهم فيرضون ويستزيدون.
وهذا أيضًا طبيعي؛ فالكتب والصحف إنما كُتبت وأُذيعت لتُقرأ وليتأثر بها من تصادف هوًى في نفسه.
وأَخَص ما تمتاز به هذه المذاهب الأدبية أنها تُقيم الأدب على مقاييس لم يكن الناس يعرفونها في أوروبا قبل هذا القرن، ولم تكن تخطر للمصريين على بال قبل الحرب العالمية الثانية.
فالأدب لا يُقاس بالجمال ولا يُقاس بإرضاء الذوق ولا يُقاس بتعمُّق المعاني والآراء وهذا المذهب الفلسفي أو ذاك، وإنما يُقاس قبل كل شيء بالإعراب عن حاجة الشعوب إلى ما يُقيم حياتها المادية قبل كل شيء.
ذلك أن الجائع والظمآن والذي لا يُحسن اتقاء الآفات الطبيعية أو لا يجد السبيل إلى اتقائها لا تعنيه فلسفة ولا تعنيه حكمة، ولا يحفل بذوق ولا يهمه أن يتعمق هذا المعنى أو ذاك ولا يلذه أن تتخير له روائع الكلام، وإنما يعنيه — قبل كل شيء — أن يُكشف عنه الضر ويزول عنه الجوع والمرض، ويأمن من آفات البرد والقيظ، ويظفر بهذا الشعور الذي حرمه الناس أجيالًا طوالًا، وهو الشعور بالعدل الشامل الكامل الذي لا يُتاح لفريق دون فريق، ولا يقصر على طبقة دون طبقة، وإنما يتناول الناس جميعًا لا يُستثنى منهم فرد ولا جماعة.
وربما كان شاعرنا العربي القديم — من شعراء القرن الرابع أو الخامس للهجرة — قد صوَّر حاجة الشعب إلى هذا الشعور بحقه في الأمن من البؤس والحرمان في هذين البيتين المشهورين اللذين تداولتهما الأجيال العربية إلى الآن في مجالس التعليم ولم تجد فيهما إلا فكاهة حلوة؛ مع أنهما يصوران المرارة المُرة والبؤس البئيس، وذلك حين يقول:
قوم إذنْ قد أتاحت لهم الحياة أن يفرغوا للهو وأن يصطبحوا قبل مطلع الفجر، وهم يطلبون إلى صديقهم أن يشاركهم في لهوهم ويقترح عليهم بعض ما يشتهي من ألوان اللذة، ولكن صديقهم بائس لا يستطيع أن يخرج من بيته لأنه لا يجد الكساء؛ فليس له مطمع في اللهو ولا أرَب في اللذة، وإنما هو في حاجة إلى قميص يفيضه على جسمه العاري وجُبَّة يتقي بها قسوة الجو.
والذين درسوا علوم البلاغة يذكرون هذين البيتين، ويذكرون مثلًا من أمثال التشبيه طالما أضحكهم على مرارته؛ وذلك حين يذكر أصحاب البيان تشبيه الجائع وجهًا جميلًا بالرغيف.
وفي أمثال العرب الجاهليين مثلٌ يصور هذه الحاجة تصويرًا رائعًا على غرابته.
فقد أقبل أعرابي من سفر بعيد فلم يكد يصل إلى خبائه حتى بُشر بغلام وُلد له، وأقبل النساء عليه بهذا الطفل يعرضونه عليه فصاح مغضبًا: ماذا أصنع به، آكله أم أشربه؟! قالت امرأته: «غرثان فاربكوا له.» تريد أن تقول: جائع فهيئوا له طعامًا.
فهذا الأعرابي الذي هلك الجوع عليه أمره كله لم يكن في حاجة إلى أن يُبشر بهذا الغلام، ولا إلى أن يراه، وإنما كان قبل كل شيء محتاجًا إلى أن يدفع عن نفسه ألم الجوع.
هذه الحاجة الطبيعية التي يجدها الناس جميعًا ولا يمس لذعها وألمها إلا المحرومون المعذَّبون؛ لم يكن الأدب يخلص لها من دون سائر الحاجات التي يشعر بها الناس؛ حاجات القلوب والعقول والأذواق، فضلًا عن حاجات الأجسام إلى فنون من الترف واللين.
وقد قوي الشعور بهذه الحاجة وقوي الشعور بهذا الحرمان الذي فُرض على كثرة الناس، وجدَّ بعض الفلاسفة في التماس أسبابه ومحاولة الطب له بتحقيق العدل الكامل والمساواة العامة.
ولم يكد أصحاب هذه الفلسفة ينتصرون حتى اتخذوا من فلسفتهم مقياسًا لكل شيء؛ مقياسًا للأدب وللفن وللعلم وللفلسفة وللسياسة ونظم الاجتماع.
وإلى هنا يستطيع الأدب أن يستقيم مع هذه الفلسفة؛ فهو مهما يكن من أمره لم يوجد في حياة الناس عبثًا، وإنما وجد لأن الناس احتاجوا إليه فأوجدوه، أحسوا فأعربوا عما يحسون، واضطربت في قلوبهم ونفوسهم الخواطر والعواطف والأهواء فأعربوا عنها وصوروها على أنحاء مختلفة من الإعراب، بالأدب مرة وبالفن مرة وبالموسيقى مرة أخرى، وهذه الفنون — ومنها الأدب — تتطور بطبعها كلما تطور الناس الذين يعربون بها عن ذات نفوسهم.
فلا غرابة إذنْ في أن يتجه الأدب والفن إلى تصوير العدل الشامل والمساواة الكاملة حين يصبح العدل والمساواة أساسًا لحياة الناس، وإنما يأتي الخطر كل الخطر على الأدب والفن حين يُراد الأدباء والمصورون والموسيقيون وغيرهم من أصحاب الفنون على أن يخضعوا لسلطان دقيق منظم يوجههم هو إلى ما يريد لا إلى ما تريد طبيعة العدل أو طبيعة المساواة أو حاجة الناس إلى أن يخلصوا من الحرمان، بل إلى أن يصبح الأدب والفن أداة للإعلان ونشر دعوة بعينها؛ هنا يفقد الأدب ويفقد الفن أخص خصائصهما وهو حرية الأديب وحرية الفنان.
فالأدب الذي يُنشئه صاحبه عن أمر السلطان — سواءٌ أكان هذا السلطان متمثلًا في فرد أو في جماعة — ليس أدبًا ولا فنًّا، وإنما هو صدًى لما يصدر إلى مُنشئه من أمر، فهو لا يصدر عن القلب ولا عن العقل ولا عن الذوق، وإنما ينزل على الأديب والفنان لا من إله الفن كما كان اليونان يقولون، ولا من شيطان الفن كما كان العرب يقولون أيضًا، ولكن من فرد أو جماعة من الناس أُتيحت لهم القوة فسخَّروه لما يشتهون لا لما يشتهي.
وليس أدل على ذلك من هذه الثورة التي يشهد الناس بعض مظاهرها الآن في بعض البلاد الأوروبية هناك، حيث تقوى المطالبة بالحرية وبحرية الفن خاصة.
ولست أدري أيقرأ أصحاب هذه المذاهب من شبابنا ما يصل إلى مصر من أنباء هذه الثورة ومن أنباء الثورة الأدبية منها خاصةً أم لا يقرءون، وإذا كانوا يقرءون هذه الأنباء فهل يغيرون من مذهبهم في الفن أم هل يظلون على مذهبهم القديم لا ينحرفون عنه قليلًا ولا كثيرًا؟! والتعقيد الذي أصاب أصحاب هذا المذهب من أدبائنا يأتيهم من أنهم لم يحسنوا درس اللغة العربية ولم يُتح لهم إتقان التعبير بها عما يريدون، وفي طبائعهم خصب وفي نفوسهم استعداد قوي وفي قلوبهم وعقولهم ما يريدون أن يقولوا للناس، وليس لهم بدٌّ من أن يقولوه؛ لأنهم خُلقوا ليكونوا أدباء وحرموا مع ذلك أيسر الوسائل إلى التعبير الأدبي، وقرروا في أنفسهم أن أوجب الواجبات عليهم أن يكونوا صادقين حين يكتبون، وأخطَئُوا فهْم الصدق على وجهه فظنوا أنهم لا يستطيعون أن يصوروا حياة الشعب إلا إذا كتبوا باللغة التي يتكلمها الناس في أداء أغراضهم اليومية؛ فاتخذوا اللغة العامية لغةً لأدبهم، فأضاعوا قيمته وغضوا منه وجعلوه أدنى إلى الابتذال منه إلى الارتفاع الذي ينبغي للفن الجميل.
وليس صحيحًا أن الصدق يفرض عليهم الكتابة في العامية؛ فبين أدباء الشباب أفراد ممتازون يصورون حياة الشعب أصدق تصوير وأبرعه وأروعه دون أن ينحرفوا عن اللغة الفصحى التي هي وحدها لغة الأدب، والتي هي وحدها القادرة على أن تثبت لتعاقب الأجيال واختلاف اللهجات بين الشعوب التي تتكلم اللغة العربية في أقطار الأرض كلها.
ويكفي أن أذكر لهم أديبنا البارع نجيب محفوظ، فلست أعرف أصدق منه تصويرًا لحياة الشعب المصري، ولست أشك في أن كل قارئ أو سامع لقصصه يفهم عنه في غير مشقة مهما تكن بيئته، ومهما يكن حظه من الثقافة والتعليم، وهو على ذلك يكتب بلغة فصيحة لا غبار عليها، ويرتقي بقصصه أحيانًا إلى منازل الشعر الرفيع دون أن يشق على قارئ أو سامع في شيء مما يكتب أو يقول.
ليس حتمًا إذنْ أن يكتب الأديب باللغة العامية ليكون صادقًا، وليس حقًّا أن اللغة العامية تستطيع أن تكون لغة الجمال الأدبي الرفيع، وليس حقًّا أن تصوير الحاجة إلى العدل والمساواة يفرض على الأدباء الإسفاف والابتذال، وقديمًا قيل: خير الأمور أوسطها.
فليُعِدْ أدباؤنا من الشباب النظر في قضية الأدب، وما أشك في أنهم سيلائمون بين ما يُريدون من حماية الشعب من الحرمان وبين الأدب الرفيع، وسيهتدون إن صدقت النيات وصحت العزائم إلى قصد السبيل، وسيعيدون إلى الأدب العربي المعاصر نَضرته التي أوشكت أن يُدركها الذبول.