هارب من الأيام
أعترف بأن عنوان هذه القصة وقع من نفسي موقع الغرابة؛ فليس الهرب من الأيام شيئًا يُتاح للأحياء مهما يفعلوا إلا أن يفرضوا على أنفسهم الموت، أو يفرضوا عليها الفعلة المطلقة المطبقة.
فالإنسان الحي أسير الزمن يدخل فيه منذ تشيع الحياة، ولا يخرج منه إلا حين تنقطع الأسباب بينه وبين الحياة، أو حين يضطر نفسه إلى الذهول الشامل الذي يصرفه عن كل شيء ويقطع الصلة أو يُخيل إلى صاحبه أنه يقطع الصلة بينه وبين الزمان والمكان وما يتعاقب فيهما من الأحداث وما يلم بالأحياء والأشياء بينهما من الخطوب.
وأنا أقدِّر أن الهارب من الأيام في هذه القصة هو هذا العمدة الذي جعله الكاتب محورًا تدور الأحداث حوله، والذي انتهى في آخر القصة إلى أن يترك منصبه ويهجر القرية التي كان يُدير أمرها متصلًا أو موقوتًا، ولكن هذا العمدة لم يهرب من الأيام، وإنما هرب من منصبه وهرب من القرية التي لم يُحسن القيام عليها … ورحم الله أبا العلاء الذي أنبأنا بألا مهرب من الزمان للكائن الحي ما دام حيًّا؛ وذلك في بيته الرائع الخالد:
وأكبر الظن أن هذا العنوان إنما راق المؤلف لأن فيه شيئًا من الغرابة والغموض يروعانه هو أولًا، ويروعان كثيرًا من قرائه بعد ذلك وإن كان شيء منهما لم يرعني، ولو أني أطعت العنوان لانصرفت عن قراءة القصة ولحرمت نفسي متعة قيِّمة حقًّا؛ فقد أُتيح للأستاذ ثروت أباظة حظٌّ حسنٌّ جدًّا من الإجادة مكَّنه من أن يفرض عليك المضي في القصة إذا بدأتها حتى تبلغ غايتها، بل مكَّنه من أن يفرض عليَّ أنا قراءتها مرتين لم أباعد بينهما في الزمان؛ لأني وجدت فيها روحًا عذبًا يجري في ألفاظها وأسلوبها وترتيب الأحداث فيها، واستخراج بعض هذه الأحداث من بعض في غير تكلُّف ولا تصنُّع، ودون أن يعنف بالقارئ أو يثير أمامه ضروب المشكلات التي تقفه عن القراءة هنا أو هناك.
وإنما القارئ يمضي في قراءته مضيًّا يسيرًا يوحي إليه بأن الكاتب نفسه قد مضى في كتابة قصته مضيًّا يسيرًا أيضًا لم يجد فيه شيئًا من عناء، أو هو قد أوجد العناء كل العناء، ولكنه استأثر به ولم يُظهر القارئ على شيء منه شأن الكاتب المطبوع الذي يجدُّ ويكدُّ ويشقى بالجدِّ والكدِّ فيما بينه وبين نفسه ليقدِّم إلى قارئه آخر الأمر أثرًا أدبيًّا قيِّمًا ينعم بقراءته دون أن يُحس في هذا النعيم جدًّا أو كدًّا أو شقاءً.
وما أظن الواقعيين بين كُتَّابنا من الشباب يرضون عن هذه القصة كل الرِّضَى؛ فهي لا تصوِّر الواقع كما يصورونه وكما يحبون أن يصوره غيرهم من الذين يعرضون لكتابة القصة خاصةً أو للإنشاء الأدبي بوجه عام.
ذلك أن القصة واقعية في تفصيلها، ولكنها ليست واقعية في جملتها ولا في غايتها.
فهي تعرض عليك قرية هادئة مطمئنة ينعم أغنياؤها بالعيش ويشقى فقراؤها بالعيش أيضًا، ولكنهم قد تعودوا شقاءهم وألفوه؛ فهم لا يشكون منه ولا يُظهرون الضيق به، قد عرفوا أن من طبيعة الحياة في قريتهم أن ينعم الأغنياء ويبتئس الفقراء، وهم لا يريدون ولا يستطيعون أن ينكروا طبيعة الأشياء، ولا أن يضيقوا بما قسم الله بينهم من الحظ.
واسم القرية نفسه يوحي بهذا؛ فهي قرية السلام.
وأنت ترى أول ما ترى عمدة القرية وقد أفاق من نومه آخر الليل وأول النهار، وهو عَجِل يحرص على شيئين أشد الحرص أولهما أن يصليَ صلاة الفجر قبل أن يفوته وقتها، وهو من أجل ذلك يتعجَّل الخادم لتُحضر له وَضُوءه قبل أن تفوته الصلاة، وقد ازدحمت في نفسه أمور الدين وأمور الدنيا ما أباح الله منها وما حرَّم، يرى هذا كله طبيعيًّا لا غرابة فيه فهو يُجري أثناء الوضوء لسانه بهذه الأدعية التي يرددها المسلمون حين يتوضَّئُون، ولكنه يقطع هذه الأدعية بين حين وحين بالسؤال عن زوجه وعن ابنته، وعن صالح هذا البائس الذي وعده برشوة من الدجاج لأنه أصلح الأمر بينه وبين زوجه التي كانت مغاضبة له.
أما الأمر الثاني الذي يحرص عليه أشد الحرص فهو إرضاء حاجته إلى الإفطار، وهو يسأل عما يُقدم إليه — إذا أتم صلاته — من الألوان، والخادم تنبئه بذلك في شيء من التفصيل كأنها تريد أن تثير نهمه، وكأنها تستحضر ما سيصيبها من الطعام إذا فرغ العمدة من إفطاره.
والعمدة يؤدي صلاته ويستقبل طعامه تحمله إليه ابنته درية ذات الجمال الرائع والحسن البارع، والرجل فَرِح بطعامه مبهور بجمال ابنته لا يخفي حرصه على أن يجد لهذه الفتاة النَّضِرة زوجًا غنيًّا موفورًا، ولكن صوتًا يرتفع بالدعاء من وراء النافذة، هو صوت كمال هذا البائس الذي يتكفف الناس ويصيب طعامه إذا أصبح كل يوم في بيت العمدة، وهو البطل الأول من أبطال هذه القصة، تنكشف عنه الأحداث فجأة؛ فهو ذليل يدعو للناس جميعًا بالثراء والسعادة وطول العمر ليظفر منهم بالعطاء القليل حينًا وبالزجر والانتهار أحيانًا وبالسخرية والازدراء دائمًا، وهو حاقد أشد الحقد على هؤلاء الأغنياء الذين يعيشون في السعة وينعمون بطيبات الحياة على حين لا يجد هو ما يُقيم أوده إلا بالجهد والمشقة وابتذال ماء الوجه والإلحاح في مسألة الكرام والبخلاء.
وهو يطوف في القرية منذ يصبح إلى أن يمسيَ لا عمل له إلا أن يستجديَ من جهة، وينبئ أهل القرية بما يجري فيها من أحداث الخير والشر ومن شئون الموت والزواج خاصةً، وهو لا يُصيب صدقة من أحد إلا استنزل عليه الخير بلسانه وتمنى بقلبه أن تغوله الغوائل وأن تصب عليه الخطوب، وهو يشعر بأنه على حظٍّ من القوة في جسمه ومن الذكاء في عقله وبأنه أجدر بالغنى والسعة من هؤلاء الأغنياء؛ الأغبياء الذين يتكففهم والذين يستأثرون من دونه بالنعيم.
كذلك يقضي نهاره، فإذا جنَّه الليل مضى إلى جماعة من الرفاق يجتمعون عند أحدهم على الحشيش، فيجلس بينهم خادمًا يتملقهم ويأخذ بحظه مما هم فيه، وهو لا يُقبل كل صباح على بيت العمدة ليفطر فحسب، بل ليستمتع كذلك من فتاة البيت بنظرة يرفعها إليها ونظرة أخرى تلقيها الفتاة إليه؛ فهو لهذه الفتاة محبٌّ وهو بها كلف مشغوف، ولكنه يائس، وأين هو منها وأين هي منه! إنما مكانه منها مكانه من الشمس لا يستطيع أن يرقى إليها ولا تستطيع الشمس أن تنزل إليه.
وكما صوَّر الكاتب هذا الشخص الأول من أشخاص القصة تصويرًا دقيقًا كل الدقة رائعًا كل الروعة، فهو قد صوَّر سائر أشخاص القصة على هذا النحو من الدقة والتحقيق؛ فهذا العمدة الذي يأمر في بيته وينهى ويأمر في قريته وينهى أيضًا يهابه الناس جميعًا، ويشعر هو بهيبتهم له وإشفاقهم منه، هذا العمدة نفسه خائف وجل من المأمور يرهبه ويتملقه ويتقي شره ويبتغي رضاه أكثر مما يعمل معه أهل القرية.
وهو يقبل الرشوة من الناس ويغريهم بتقديمها إليه، ولكنه هو أيضًا يرشو المأمور ويُحسن إغراء المأمور له بالرشوة؛ فهو يأخذ ممن دونه ويعطي من فوقه، وهو بذلك راضٍ وإليه مطمئن، وهو يدير أمور القرية على هذا النحو من الأخذ والعطاء يُخيف ويَخاف ويَأخذ الرشوة ويُعطيها، وكل ما يعرض عليك الكاتب من صورٍ للأشخاص والأشياء دقيق متقَن على هذا النحو.
فالقصة من هذه الناحية لا تعرض عليك إلا صورًا واقعة يعرفها كل من عرف القرى في بلادنا، ولا سيما في بعض الأوقات وفي بعض الظروف.
ولكن القصة لا تلبث أن ترقى عن الواقع شيئًا؛ فهذا البائس المتكفف الذي أذلَّه البؤس وأكل قلبه الحقد لا يتمنى شيئًا كما يتمنى أن يصبح غنيًّا موفورًا، ورث حياته البائسة هذه عن أبيه وورثها أبوه عن جده، لكنه يطمع في أن يكون خيرًا من أبيه وجده، وهو لا يجد الوسائل إلى الغنى إلا أن يصبح فاتكًا ويسرق ويروِّع الآمنين، وهو لا يسأل الله إلا شيئًا واحدًا هو أن يتيح له أداة من أدوات الفتك.
وهو يلتمس الوسيلة إلى هذه الأداة فلا يجدها حتى يظفر بها ذات ليلة في مجلسه ذاك مع رفاقه أولئك على الحشيش؛ فبين هؤلاء الرفاق فاتك معروف، وهو منصور الدفراوي الذي قتل فاتكًا مثله منذ أيام بأمر من كبير يعيش في قرية مجاورة، ورفاقه يسألونه في ليلتهم تلك كيف قتل صاحبه، وكيف أفلت من النيابة وكيف أخفى سلاحه، ويعرفون منه بعد إلحاح في السؤال أنه أخفى السلاح في قبر أخته هناك في تلك المقبرة التي يعرفونها، ولا يسمع كمال هذا الحديث حتى يمتلئ قلبه رِضًى وأملًا.
وفي القرية مأذون صوَّره الكاتب فبرع في تصويره؛ فهو جمَّاع للمال حريص عليه يُؤْثر التفريق بين الأزواج على الجمع بينهم؛ لأنه إذا فرق بين زوجين أخذ أجر الطلاق، ثم أُتيح له أن يُزوِّج الرجل وأن يُزوِّج المرأة فيأخذ على كل زواج أجرًا، فالطلاق أربح له وأجدى عليه من الزواج إذنْ، وهو لا يجمع بالزواج بين اثنين إلا تمنى أن يكون يوم التفريق بينهما قريبًا، وكلما وقع إليه شيء من مال أضافه إلى ما ادخر، ثم هو لا يأمن على ماله الخزائن أو المصارف، وإنما يحمله دائمًا في منطقة يديرها حول جسمه من دون ثيابه، يُحس هو ثقلها ويجد دفئها وينعم بجوارها المتصل.
وقد خرج المأذون ذات مساء ليفرِّق بين زوجين في قرية بعيدة وعاد إلى قريته وقد أظلم الليل، ولكنه يسمع في الطريق صوتًا مروِّعًا يدعوه إلى الوقوف، فإذا همَّ أن يمضيَ روَّعه الصوت مرة أخرى فوقف وقد ملأه الفزع، ولا يكاد يقف حتى يُحس برد السلاح على قفاه، ويسمع الصوت يدعوه إلى أن يُعطيَ ما معه من المال، فإذا همَّ أن يمتنع خيَّره الصوت بين المال والحياة، فيختار الحياة آخر الأمر وينزل عن ماله ويعود إلى أهله مسلوب المال والصحة والعقل جميعًا.
ويتصل هذا النوع من الإرهاب مرة ومرة ومرة حتى تمتلئ قرية السلام رعبًا وذعرًا، ولا يجد العمدة سبيلًا إلى استكشاف هذا الشيطان الذي روَّع القرية بعد أمنها فأرَّق ليلها ونغَّص نهارها وأفسد أمرها كله، والمأمور يُطالب العمدة بالمجرم ويُنذره بالوقف إن لم يدل عليه.
وإذا كان العمدة لا يعرف هذا المجرم فالقارئ يعرفه حق المعرفة؛ فهو كمال الذي يتكفف الناس في النهار ويسلب الأغنياء أموالهم إذا كان الليل. وقد جلس كمال إلى رفاقه يتداولون بينهم الحشيش ذات ليلة ويتحدثون في أمر القرية وما ألمَّ بها من الهول، ولكن مجلسهم ذاك لا ينقضي حتى يكون كمال قد أقنع رفاقه الأربعة بأن يكونوا مثله قُطَّاعًا للطريق يسلبون الأغنياء ويروِّعون الآمنين ويتخذونه لهم رئيسًا.
وهم يفعلون بعد أن أقسموا على المصحف ليكتُمُنَّ السر، وليسمَعُنَّ للرئيس، وليطيعُنَّ أمره في غير تردد ولا جدال.
وقد وضع كمال لهذه العصبة قاعدة غريبة كل الغرابة فنأى بالقصة عن الواقع كل النأي؛ فهي تأخذ من الأغنياء لترد على الفقراء أقل ما تأخذ وتستأثر بسائره؛ تتخذ الخير والبر وسيلة إلى الإجرام والإثم، تريد أن تُرضيَ الفقراء على حساب الأغنياء في ظاهر الأمر وتريد أن تعز أولئك وتسلب هؤلاء في حقيقة الأمر. ولا تلبث العصبة أن تفرض الإتاوة على كل قنطار من القطن يُباع، وعلى كل ما يُمكن أن تفرض عليه الإتاوة، ولا تتردد في قتل من لا يستجيب لها من الذين تفرض عليهم إتاواتها، وقد قتلت بالفعل مرة فملأت القرية فزعًا وهلعًا حتى أذعن المالكون لأمرها، وكان العمدة نفسه بين المذعنين وإن أخفى تأديته للإتاوة محافظة على ظاهرٍ من احترام هيبة الحكم والسلطان.
وجعلت الألسنة تنطلق بالثناء على «جماعة الخير» هذه والدعاء لها في الإعلان، وتكتم القلوب بغضها ومقتها واستعداء الله عليها في أعماق الضمائر، وأصبح كمال غنيًّا موفورًا قد ظفر بإرضاء حاجته إلى الغنى وبإرضاء نفسه من إذلال الأغنياء الذين كان يتحرق حقدًا عليهم وحسدًا لهم.
ولكن فردًا واحدًا من أهل القرية يأبى أن يذعن لأمر المجرمين، ويزمع أن يُخرج قناطيره القليلة من القطن إلى المدينة سرًّا في ظلمة الليل فيبيعه ويعود بثمنه آمنًا، ولكن العصبة فطنت له فتربصت به في الطريق وقتلته، وكان العمدة وأحد الخفراء عائدَين من المحطة فسمعا صوت السلاح واستخفيا، ولكنهما استطاعا أن يريا شخص القاتل، وأنبأ العمدة المحققين بما رأى وشهد الخفير وقُبض على القاتل، وافتضح بعض أمر الجماعة فأزمع كمال أن يُروِّع العمدة حتى ينكر ما أثبت في التحقيق، ووجد الوسيلة إلى ترويعه فاختطف ابنته تلك التي أحبها واستيأس منها وهو لا يزال لها محبًّا ومنها يائسًا، فهو لا يريد بها شرًّا وهو لا يطمع منها في شيء، ولكنه يأمر الذين كانوا يصحبون الفتاة حين اختُطفت أن ينبئوا أباها بأن ابنته ستُرد عليه آمنة يوم يعدل أمام النيابة عما أثبت في محضر التحقيق.
ويلجأ العمدة بعد خطوب إلى ذلك الكبير الشرير الذي يُقيم في قرية مجاورة، والذي اتصلت المودة بينه وبين المجرمين ليرد عليه ابنته فيعده بذلك، ويتقدم إلى أصدقائه في أن يردوا الفتاة على أبيها لأنه محتاج إليه في الانتخابات المقبلة، ويأبى الأصدقاء إشفاقًا على أنفسهم وعلى زميلهم ذلك السجين، ويخرجون وقد انتقض الود بينهم وبين صديقهم ذلك الكبير الشرير؛ فهُم قد أضمروا قتله من ليلتهم وهو قد أمر رجاله بقتلهم من ليلتهم أيضًا، وتكون موقعة بين الجماعة وبين رجال الكبير الشرير فتقتل «الجماعة» وترد الفتاة على أبيها ويعود الأمن إلى القرية، وتنتهي هنا قصة الروع، فتنتهي معها قصة أخرى لحب لم نُشر إليه.
ففي القرية فتًى من أبناء الأغنياء قد أتم التعليم العاليَ أو كاد يتمه، وأبوه صديق للعمدة، وبين الفتى والفتاة حب قديم يرجع إلى الطفولة، وقد طلب الفتى إلى أبيه أن يخطب إلى العمدة ابنته، فرفض العمدة الخطبة لأنه يريد لابنته زوجًا أوسع ثراءً وأعظم جاهًا من ابن صديقه. ولكن قصة الروع تنتهي فتنتهي معها قصة الحب؛ لأن العمدة يقبل الفتى صهرًا له ويرشحه مكانه عمدة للقرية ويزمع السفر إلى القاهرة هاربًا من القرية ومما لقي فيها من روع، لا هاربًا من الأيام كما ظن الكاتب.
وقد لخصت لك هذه القصة في إطالة شديدة وفي إيجاز أشد منها، لم أجد بدًّا من الإطالة لأبين لك أن القصة واقعية في تفصيلها نائية في جملتها وفي غايتها عن الواقع. كل التفصيلات يعرفها الناس ويرَوْن أشباهًا لها في حياة بعض القرى أحيانًا، ولكن هذه الجماعة التي تأتلف لتأخذ من الأغنياء وترد على الفقراء ليست من واقع الحياة في شيء، ليس من واقع الحياة أن يتخذ الناس الإثم والمنكر وسيلة إلى الخير، وأن يتخذوا هذا الخير نفسه — وهو إعطاء الفقراء — وسيلة إلى اقتراف الجرائم والآثام.
كل هذا قد ابتكره خيال الكاتب الشاب ابتكارًا وليس عليه بذلك بأس، من حق الكاتب أن يستجيب لخياله حتى حين ينأى به عن الواقع شيئًا، ولكن ليس للكاتب أن ينسى أن قصته تُنشر على الناس فيقرؤها منهم الراشدون والقاصرون ويقرؤها منهم العقلاء والأغرار، وقد ينخدع بعض هؤلاء عن بعض ما يقرءون، وقد يصادف من نفوسهم مواطن الضعف، وقد يورطهم ذلك في بعض ما يسوءهم ويسوء الناس بهم. والكاتب مسئول أمام ضميره أولًا وأمام «الجماعة» التي يكتب لها ثانيًا؛ فليس له بد من أن يستحضر تبعته حين يكتب وحين ينشر أو يذيع. ولست أدري من أين اشتق خيال الكاتب لهذه الصورة صورة العصبة الآثمة التي تتخذ الإثم وسيلة إلى البر، وتتخذ البر نفسه وسيلة إلى الإثم! أيمكن أن يكون قد قرأ كثيرًا أو قليلًا من أخبار الصعاليك في حياة الجاهلية وفي بعض الأمصار العربية بعد الإسلام؟ أولئك الذين كانت تضيق بهم سبل العيش ويكرهون النظام الاجتماعي الذي لا يتيح لهم تحقيق ما يطمحون إليه؛ فيخرجون على النظام ويستبيحون لأنفسهم النهب والسلب والقتل أحيانًا ويعيشون في عزلة عن الجماعة لا يدنون منها إلا ليروِّعوها ويرزءوها في أموالها، ثم ينأون عنها ليعيشوا في عزلتهم أجوادًا كرامًا يُؤمِّنون الخائف الذي تنقطع به الطريق ويُطعمون الجائع ويعطون المحروم. يرون هذا كله مكملًا لمروءتهم ومحققًا لرجولتهم، ويفاخرون بهذا كله في شعرهم الذي حفظت منه كتب الأدب أقوالًا لا بأس بها.
ولكن عصر الصعاليك قد انقضى؛ فنحن لا نعيش في البادية ولا في القرن الأول للهجرة، وإنما نعيش في الحاضرة ونعيش في القرن الرابع عشر للهجرة، وما ينبغي لعصر الصعاليك أن يعود وهو لم يَعُدْ والحمد لله، فيكون الأستاذ قد قرأ شيئًا من أخبار هؤلاء الصعاليك الذين يأخذون من الأغنياء ليردوا على الفقراء.
ولا يغضب الكاتب؛ فقد كنت أحب له أن يجد صيغة أخرى غير الأخذ من الأغنياء والرد على الفقراء؛ لأن هذه الصيغة مكانها الملحوظ في فرض الزكاة وتحبيب الصدقة إلى الناس.
وأنا بعد هذا معجب بمنهج الكاتب في قصته ومذهبه في هذه الكتابة باللغة الفصيحة النقية التي لا تشق على قارئ مهما يكن حظه من الثقافة، وهي لا تنأى مع ذلك عن اللغة التي تليق بالأدباء، ولا تنحط بهم إلى الإسفاف والابتذال.
وأنا واثق بأن كاتبنا الشاب قد بدأ طريقًا طويلًا أصابه شيء كثير من النجح في أولها، وما أشك في أن حظه من النجح والتوفيق سيزداد ويعظم كلما مضى إلى أمام.