واقعيون
ولكنهم يفهمون مذهبهم على نحوٍ مريح لا يكلفهم جهدًا ولا عناءً، وإنما يُغريهم بالنقل والتسجيل، وهم وادعون لا يُحسون شيئًا من هذا العذاب الذي يعرفه ويشقى به الأديب الحق، حين تعرض له صورة من الصور فيريد أن يؤديَها إليك حرة حية قوية، تقع في نفسك فتُحدث فيها أثرًا مثلها حرًّا حيًّا قويًّا يُغريك بالأمل والعمل أو يدفعك إلى شقاء اليأس والاستسلام، يملك عليك أمرك حين تقرؤه ويلزمك ساعاتٍ طوالًا وقد يلزمك أيامًا طوالًا لأنه صادف من نفسك حاجة إليه فاستأثر بها. لا يجدون هذا العذاب الذي يجده الأديب الحق حين تعرض له هذه الصورة فيريد أن يؤديَها إليك على هذا النحو ليوجِّهك إلى ما يريد أن يوجِّهك إليه، ولكنه يجدها عَصيَّة أبيَّة لا تستجيب له في يُسر ولا تُسلم إليه قيادها إلا بعد طول الجد والكد وبذل الجهد الطويل الثقيل؛ فهو يساورها ويداورها، يريد أن يظفر بها ويذللها للغته أو يذلل لها لغته، فكلما خُيِّل إليه أنها قد أصبحت طَيِّعة قريبة المنال وهمَّ أن يضع يده عليها أفلتت منه وارتدَّت إليه يده خالية لا شيء فيها، وما يزال في المساورة والمداورة وفي المحاولة والمطاولة حتى يبلغها وما كاد؛ كذلك يفعل الأديب الحق، وكذلك يشقى بأدبه ولكنه شقاءٌ خيرٌ من السعادة؛ لأنه مليء بالجهد ومليء بالنَّجْح أيضًا، ولأنه حين يملك صورها التي يعرضها عليك واثق بأنه سيملكك وسيملك أمثالك من قرائه لا أثناء القراءة فحسب، بل بعد القراءة بأزمان طوال.
ولكن أصحابنا لا يعرفون هذا الشقاء ولا يحبون أن يعرفوه؛ فهو يناقض طبائعهم التي لا تحب الثقل وإنما تحب الخفة، ولا تألف الضيق وإنما تألف السعة، ولا تميل إلى العناء وإنما تميل إلى الدَّعَة، نشَئُوا على الكلام اليسير يُقدَّم إليهم في يُسر فيقرءونه في يُسر ويتخففون منه في يُسر، ثم يستأنفون حياتهم كأن شيئًا لم يُقدَّم إليهم وكأنهم لم يقرءوا شيئًا.
فما يمنعهم أن يكتبوا كلامًا يسيرًا كهذا الكلام اليسير الذي يقرءونه في كل يوم وتقرؤه آلاف مؤلفة مثلهم في كل يوم، ثم ينسونه كما تنساه الآلاف المؤلفة لا يجدون في ذلك مشقة، ولا يحتملون فيه جهدًا، وإنما هي أقلام تُجرى وصحف تُجمع، ثم تُقدَّم إلى الناس فتُقرأ وتُنسى كما تُقرأ وتُنسى صحف الصباح وصحف المساء.
أعرفتَ هؤلاء السادة أم لم تعرفهم بعدُ وما زلتَ في حاجة إلى أن أقدمهم إليك؟! إنهم الواقعيون الذين يملَئُون عليك مصر ضجيجًا وعجيجًا وأخذًا وردًّا واختلافًا وائتلافًا في هذه الأيام. وما أُحب أن يغضبوا؛ فليس أبغض إليَّ من أن أسوءهم أو أشق عليهم. وأنا أعرفهم رقاقًا دقاقًا يُؤْثرون اللين ولا يحتملون الشدة، يؤذيهم أيسر القول ويحسبون كل صيحة عليهم هم العدو، ولكن ما الحيلة وقد حاولنا معهم الرفق فلم يجد الرفق عليهم ولا علينا شيئًا، ظلوا على واقعيتهم هذه التي لا صلة بينها وبين الفن إلا بمقدار ما تكون الصلة بين أحاديث الناس في الشوارع والطرقات وبين الفن.
ما أكثرَ ما تحدثتُ إلى الأفراد والجماعات منهم بأن التصوير الفوتوغرافي غير التصوير الفني، وبأن الأديب الحق ليس أداة من هذه الأدوات التي نُسمِّيها الفونوغراف، والتي تسجل الأصوات مهما تكن! فلم يحفلوا بذلك ولم يأبهوا له ولم يلقوا إليه بالًا؛ لأنهم لا يريدون أن يتكلفوا مشقة ولا أن يحتملوا عناءً ولا أن يبذلوا جهدًا، وإنما يريدون أن يمضوا على سيرتهم هذه كما تمضي الأيام والليالي على سيرتهما منذ كانت الأيام والليالي. فيمَ يتكلفون استنباط الماء من أعماق الأرضِ والنيلُ منهم قريب يستطيعون أن يمدوا إليه أيديَهم ويغترفوا منه ماءً كثيرًا يقدمونه إلى الناس غير حافلين بأن ماء النيل يجب أن يُصفَّى قبل أن يُقدَّم إلى الشاربين؟!
وكان القدماء يتحدثون عن شاعرين قديمين بأن أحدهما كان يغرف من البحر وأن آخرهما كان ينحت من صخر، وكانوا يريدون أن أحدهما كان سهل الطبع سمح الملكة تستجيب له أوابد الشعر إذا دعاها لا تكلفه إبعادًا في السعي إليها، وأن آخرهما كان عسير الطبع بطيء الملكة وكانت أوابد الشعر تعصيه وتأبى عليه فيَجِدُّ في أثرها ويأخذها بالعنف أحيانًا وبالحيلة أحيانًا أخرى، وكان لفظ أولهما سهلًا سمحًا، ولفظ ثانيهما صعبًا مبهمًا، وكان أولهما يعرض الصورة الغريبة في اللفظ القريب، وكان ثانيهما يعرض الصورة الغريبة في اللفظ الغريب. فأما الآن فيجب أن يتغير معنى هذا الحديث الذي كان القدماء يتحدثون به عن الشاعرين القديمين؛ فالذين يغترفون من البحر أو النهر في هذه الأيام لا يؤدون إليك مثل ما كان يؤديه ذلك الشاعر العظيم حين كان يغترف من بحره؛ لأن بحره كان صفوًا رائقًا لا كَدَرَ فيه، وأصحابنا يغرفون من أنهار وبحار يملؤها ما شاء الله أن يملأها من الكَدَرِ والغُثَاء.
فأما النحت من صخر فلا يكاد يوجد في هذه الأيام؛ لأننا نعيش في عصر مترف أَخَصُّ مزاياه أن الحياة قد يُسِّرت على الذين يعيشون فيه، فقرَّب إليهم بعيدها وليَّن لهم شديدها، وأصبحت لا تُكلِّف أكثر الناس إلا أقل الجهد.
وأغرب ما في الأمر أن الشاعرين القديمين اللذَين كان أحدهما يغرف من البحر وآخرهما ينحت من الصخر كانا جميعًا واقعيين لا يعيشان في السحاب، ولا يحاولان اصطياد العَنْقاء، ولا يتحدثان إلى الناس إلا بما كان منهم قريبًا يرونه بأعينهم ويسمعونه بآذانهم ويلمسونه بأيديهم، ولم تضطرهما الواقعية مع ذلك إلى أن يسفُّوا ولا أن ينظموا الشعر من أحاديث العامة في الشوارع، وإنما أدَّيَا إلى الناس صورًا رائعة في ألفاظ بارعة، وكَلِفَ بهما الناس أشدَّ الكَلَفِ وذاقوهما كلَّ الذوق، وهما قد أسرفا في الواقعية أحيانًا فقالا كلامًا يأخذنا الحياء حين نقرؤه ويُعجزنا الحياء عن أن نُنشده جهرة في هذه الأيام لتغيُّر الأذواق واختلاف الطباع. وكان الشعراء الذين عاصروهما واقعيين أيضًا، عاشوا مع الناس واشتقوا شعرهم من لب الحياة التي كان الناس يحيونها.
وقل مثل ذلك في الذين كانوا يخطبون وفي الذين كانوا يكتبون؛ كان أدبنا العربي القديم واقعيًّا قريبًا من الناس مشتقًّا من حياتهم حتى قال فيه القائلون من أهل الغرب إنه كان قليل الحظ من الخيال لأن أدباءنا من العرب القدماء لم يبعدوا ولم يعيشوا في السماء، وإنما عاشوا في الأرض كما عاش فيها غيرهم من الناس. وأشد من هذا كله غرابةً أن هذه الواقعية لم تُقصَر على العرب، وإنما عرفها الأدباء من شعراء اليونان والرومان وخطبائهم وكُتَّابهم، فأُتيح لهم مثل ما أُتيح لأدباء العرب من البقاء والخلود.
وعرف المحدثون من أدباء الغرب هذه الواقعية فصوَّروا للناس حياتهم التي يحيونها في فن رائع بارع بريء من الإسفاف والابتذال، فأما واقعيتنا نحن الجديدة فهي بدع من واقعية الأمم المختلفة قديمها وحديثها شرقيِّها وغربيِّها؛ لأن أصحابها لم يريدوا أن يكونوا أصحاب فن وأدب، وإنما أردوا أن يكونوا أصحاب تصوير وتسجيل بأداة الفوتوغرافيا وأداة الفونوغراف؛ ذلك أقرب إليهم وأيسر عليهم، وهو كذلك أقرب إلى القراء وأيسر عليهم، ولكنه بعيد عن الأدب كلَّ البعد، لن يكون له حظ من شيوع ولن يكون له حظ من بقاء.
لن يشيع إلا أن يُنقل إلى لهجات الأمم العربية المختلفة ولهجات الأقاليم المصرية المختلفة أيضًا، ولن يبقى لأن حسن ظننا بمصر يملأ قلوبنا ثقة بأنها ستتعلم بعد جهل وستقوى بعد ضعف وسترقى بعد انحطاط، وسيأتي عليها يوم قريب أو بعيد تعرف فيه الأدب الحق وتنبذ فيه الأدب الذي زُيِّف على بعض أجيالها تزييفًا.
وسيُؤرَّخ الأدب في مصر غدًا أو بعد غد، وسيكتشف الذين يؤرِّخونه أن جيلًا من المصريين أحب الكسل وأنس إلى الراحة والدَّعَة، وأراد مع ذلك أن ينال بالكسل والراحة ما لا يُنال إلا بالجهد والكدِّ والعناء؛ فكتب كلامًا ظنه أدبًا، وقرأه الناس لأنهم لم يجدوا غيره شيئًا يقرءونه. وسيقرر هؤلاء المؤرخون أن مصر عاشت وقتًا طويلًا أو قصيرًا وليس فيها من الأدب الحق إلا القليل.
وسيُثبت المؤرخون أن مصر عاشت حينًا من الدهر طويلًا أو قصيرًا كانت لغتُها الرسمية فيه هي اللغة العربية، وكانت لغتها بحكم الدستور هي اللغة العربية، ولكن فريقًا من كُتَّابها كانوا يصطنعون رطانة تُقارب العربية وليست منها؛ لأنهم لم يُكلِّفوا أنفسهم أن يتعلموا الأداة الأولى للأدب وهي لغته، ولأن تعلُّم هذه اللغة كان عسيرًا يفرض على الذين يريدون أن يعرفوها جدًّا وكدًّا وعناءً، ولأن الدولة لم تحاول أن تيسِّر تعليم هذه اللغة وتقرِّبه إلى الناس؛ فضاع الأدب عند جماعة من المصريين لتقصير الدولة من جهة وقصور الشباب من جهة أخرى.
وأمْر الواقعيين هؤلاء لا يقف عند اللغة وحدها ولكنه يتجاوزها إلى المعاني أو إلى المضمون كما يحبون أن يقولوا؛ فأكثرهم متشائم سيئ الظن بالحياة والأحياء، مظلم النفس إذا تحدث إلى الناس في كلام مكتوب، وأقول في كلام مكتوب عمدًا؛ فحياة كثير من هؤلاء الواقعيين وأحاديثهم التي لا يكتبونها ليست متشائمة ولا مظلمة، فهم يَلقونك ويَلقى بعضهم بعضًا فتجري أحاديثهم كما تجري أحاديث الناس فيها ما يُرضي وما يُسخط، وفيها ما يَسرُّ وما يَسوء، وربما شاع فيها المرح حين تريد الظروف أن يكون المتحدثون مرحين. وهم كغيرهم من المصريين المعاصرين يأخذون الحياة غير ضيقين بها ولا زاهدين فيها ولا يائسين منها، فإذا جرت أقلامهم على الصحف تغير هذا كله وأظلمت الحياة إظلامًا قاتمًا بعد أن كان النور يشيع فيها بين حين وحين فيمنحها شيئًا من الإشراق، وتسلط الشر على كل شيء بعد أن كانت صراعًا بين الخير والشر.
وكذلك يحيا الواقعيون من شبابنا حياة متناقضة يشتد ظلامها حين يكتبون، ويلم بها النور إذا تركوا القلم والقرطاس وهم مؤمنون بهذه الواقعية، مؤمنون بأنهم فيها صادقون يُنتجون أدبًا صادقًا، مثلهم في ذلك مثل صاحب الأداة الفوتوغرافية الذي يعيش كما يعيش غيره من الناس، ولكنه لا يسلط أداته إلا على ما يُحزن ويَسوء من مظاهر الحياة المظلمة المؤلمة.
أو مثلهم في ذلك مثل الممثل الذي يظهر في المأساة بائسًا يائسًا محزونًا مكلوم الفؤاد مفرق النفس، فإذا انصرف عن الملعب أو استراح بين فصل وفصل استأنف حياته كما يعرفها، فيها الرِّضَى والسخط وفيها الفرح والحزن وفيها الابتهاج والاكتئاب؛ ومثل الممثل في الكوميديا يظهر في الملعب فيغرقك في الضحك إلى أذنيك، وربما تراه بعيدًا عن الملعب يحيا حياته اليومية فيملأ قلبك لوعة وأسًى.
كُتَّابنا الواقعيون إذنْ يصطنعون واقعيتهم هذه اصطناعًا ولا يشتقُّونها من طبائعهم، وهم مع ذلك يرون هذا صدقًا في الفن، وليس هذا من الصدق في شيء كما أنه ليس من الفن في شيء كما رأيت آنفًا.
هذا كلام ثقيل سيقرؤه فريق الواقعيين فيضيقون به أشدَّ الضيق، وسيُضيفون إليَّ من الجرائم والآثام ما تعوَّدوا أن يضيفوه إلى الذين يقولون فيهم ما لا يحبون. ومعذرتي إليهم أني لا أصدر في هذه القسوة إلا عن رفق بهم وإيثار لهم بالخير أيضًا.
وسيقرؤه فريق آخر من الواقعيين فيرضَوْن عنه كل الرِّضَ؛ لأنهم يؤمنون بمثل ما أُومِن به، ولكنهم يُؤْثرون العافية فيسكتون عما لا أحب السكوت عنه. والله يعلم أمخطئون هم أم مصيبون! فأما أنا فقد ألفت ألا أُوثِر العافية حين أرى طريق الخير، وآثرت أن أكون كما قال ذلك الشاعر القديم: