التجديد في الشعر
لم نفرغ بعدُ — ويظهر أننا لن نفرغ في وقت قريب — من مشكلة العامية والفصحى وما يتصل بها من هذه الواقعية التي يعتذر بها أصحابها عن الكسل والقصور؛ الكسل الذي يَحُول دون القراءة والتفقُّه وإتقان أداة التعبير والتصوير والأخذ بأسباب الأدب الرفيع؛ فلم نكد ندعو كُتَّابنا من الشباب إلى أن يعرفوا لأنفسهم حقها في الجد والأناة والبحث والدرس والاستقصاء والإتقان، والارتفاع إلى ما يليق بهم وبوطنهم، وبما ينبغي له من أدب رفيع ممتاز منزَّه عن الابتذال مبرَّأ من هذا السخف الكثير الذي يشيع فيه؛ حتى ثار ثائرهم وأخذتهم العزة بالإثم فجحدوا كل حق وأنكروا كل عارفة، وتلقونا وتلقوا غيرنا من الذين لم يعرضوا لهم ولم يفكروا فيهم بما استطاعوا من ألوان المساءة وضروب الأذى، وقال قائلهم: إننا قد انحرفنا عن المصرية وجهلنا حق وطننا علينا والتمسنا أدبنا في بطون الكتب وأعماق العصور التي انقضى عهدها، والتي لا تمس المصرية الحديثة من قُرب أو بُعد.
ولهم الشكر مع ذلك على أنهم عرفوا لكاتب مثلي أنه أصدر كتاب الأيام فكان فيه مصريًّا، ولكنه لم يلبث بعد ذلك أن انحرف عن هذه المصرية إلى بطون الأسفار وأعماق الكتب يلتمس فيها أدبًا لا يغني عن المصريين شيئًا، كأن الذي أصدر كتاب الأيام لم يُصدر كتبًا أخرى غيره تُصور الحياة المصرية على اختلاف ألوانها وطبقات أصحابها، وكأنه لم يُنفق حياته معلمًا لأجيال من المصريين يُثقِّف عقولهم ويفتح لهم أبوابًا إلى التفكير الحر المستقيم، وكأنه لم يُنفق حياته كاتبًا للأحاديث التي تُحصى بالألوف الكثيرة من صميم الحياة المصرية ومظاهرها المختلفة من أدب ودين ومن سياسة واجتماع، وكأن زملاءه الذين نالهم مثل ما ناله من القذف بالانحراف عن المصرية لم يصنعوا صنيعه ولم يتركوا آثارًا مثل آثاره أو خيرًا منها. وأطرف ما في الأمر أن هؤلاء السادة لا يريدون بشيوخهم شرًّا ولا يعمدون إليهم بأذًى، وإنما جهلوا وسائل التعبير الصحيح الدقيق فأذوا شيوخهم من حيث لا يريدون، وأطلقوا ألسنتهم وأقلامهم فأرسلتْ كلامًا يُقال في غير طائل ولا يُصوِّر ما في قلوبهم ولا يُعرِب عن ذات نفوسهم، وإنما هي ألفاظ يقولونها ويكتبونها ولا يحققونها؛ لأنهم لا يعرفون لغتهم ولا يُحسنون تصريفها فيما يريدون إليه من القول؛ فما ينبغي أن نلومهم ولا أن نعتب عليهم ولا أن نأخذهم بما انطلقت به ألسنة جائرة عن القصد وما جرت به أقلام منحرفة، لا عن المصرية بل عن الأدب الجدير بأن يسمى أدبًا. وننصح لهم مُلحِّين في النصح أن يحسنوا العلم بالكلام قبل أن يتكلموا، وبالكتابة قبل أن يكتبوا، وبالأدب قبل أن يخوضوا فيه.
لم نفرغ بعدُ — ويظهر أننا لن نفرغ في وقت قريب — من مشكلة العامية الواقعية هذه الجديدة حتى أثيرت لنا مشكلة جديدة خليقة حقًّا بأن نُفكر فيها ونطيل الوقوف عندها ونقول فيها كلمة الحق؛ وهي مشكلة الشعر المنثور أو النثر — المشعور — كما يقول شاعرنا الكبير عزيز أباظة.
ففي الشباب العربي نزعة إلى التحرُّر من قيود الشعر العربي الموروث، هم لا يريدون أن يقيدوا شعرهم بالقافية، يمضي بعضهم في ذلك إلى أبعد الحدود فيلغي القافية إلغاءً، ويقتصد بعضهم فيحتفظ بشيء من تقفية ولكن في حدود اليسر والإسماح. وهم يريدون أن يتحرَّروا من قيود الوزن التقليدي الذي تركه لنا العرب القدماء، ويذهبون في هذا التحرر مذهبهم في شأن القافية؛ يغلو بعضهم فيرسل الكلام إرسالًا يطلقه من كل قيد لفظي، ويقصد بعضهم الآخر فيُقيِّد كلامه في أوزان خاصة يراها ملائمة لما يضطرب في نفسه من العواطف والأهواء والميول؛ وهذا كله لا يُرضي شاعرنا الكبير عزيز أباظة فيما نشرت عنه الجمهورية منذ يومين، وفيما كتب هو حين قدَّم لبعض الدواوين.
والأستاذ عزيز أباظة حريص على أن يكون محافظًا في الشعر معتزًّا بهذه المحافظة يرى الخروج عليها انحلالًا وإفسادًا للفن، ويسأل الخارجين على هذه المحافظة ما بالهم لا يتحرَّرون من قواعد النحو كما تحرروا من قواعد الوزن والقافية! ولشاعرنا الكبير حقه الكامل في أن يكون محافظًا، وفي أن يلزم طريقة شوقي والذين قلَّدهم شوقي من القدماء، لا ينبغي لأحد أن ينازعه في شيء من ذلك.
ولكن لغيره — فيما أظن — الحق الكامل كذلك في أن يذهبوا في الشعر المذاهب التي تلائم طبائعهم وأمزجتهم والصور الجديدة التي صُورت فيها نفوسهم، لا غرابة في ذلك ولا خطر فيه؛ فليس الشعر تقليدًا وليس الشعر توقيعًا، وإنما الشعر صدًى للقلوب والنفوس والطبائع جميعًا، يصدر عنها كما هي لا كما نحب لها أن تكون. وليس على أحد حرج من التجديد في الشعر أوزانِه وقوافيه، وقد جدد القدماء من العرب في شعرهم فابتكروا في الإسلام أوزانًا لم تكن في العصر الجاهلي، وابتكروا في العصور المتأخرة أوزانًا لم تكن في الشعر الإسلامي الأول، وصنعوا بالقافية مثل ما صنعوا بالوزن.
عرفوا ألوانًا من الموسيقى لم يعرفها قدماء العرب، وعرفوا فنونًا من الغناء لم يعرفها قدماء العرب أيضًا؛ فلاءموا بين شعرهم وبين ما عرفوا من ألوان الموسيقى والغناء. وأتيحت لهم حضارة جديدة أثارت في نفوسهم عواطفَ وأهواءً جديدة، بل غيَّرت طبائعهم وأمزجتهم تغييرًا؛ فلاءموا بين هذا كله وبين ما أنشَئُوا من الشعر. لم يكن عليهم في ذلك حرج ولا جناح، وإنما كان ذلك ملائمًا لطبيعة الأشياء، فتقصير الأوزان الطوال وابتكار أوزان جديدة والمزاوجة بين القوافي والمخالفة بينها أحيانًا؛ كل هذه أمور عرفها القدماء ولم ينكرها عليهم أحد إلا أن يكون بعض المسرفين على أنفسهم وعلى الناس. وفي بعض العصور الإسلامية تنافس الشعراء والكُتَّاب وعدا بعضهم على فنون بعض؛ فنظم الشعراء نثر الكُتَّاب ونثر الكُتَّاب نظم الشعراء، وهجم بعض الكُتَّاب على فنون من القول كانت مقصورة على الشعر في الزمان الأول فتفوقوا فيها على الشعراء أحيانًا، كما فعل الجاحظ حين عدا على فن الهجاء فبلغ فيه بكتاب التربيع والتدوير ما لم يبلغه شاعر من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه، وذهب بعض الشعراء بشعرهم مذهب الكُتَّاب في التفصيل والتحليل والتطويل كما صنع ابن الرومي في بعض شعره وفي فن العتاب خاصة.
جدد الشعراء في أوزان الشعر وقوافيه كما جددوا في صوره ومعانيه ملائمين بذلك بين شعرهم وحضارتهم، وما كان لهم من أمزجة جديدة ومن طبيعة جديدة أيضًا، وضاق بذلك بعض المحافظين فلم يصنعوا شيئًا ولم يصدوهم عن التجديد، وقد لعب شعراء المغرب العربي بأوزان الشعر وقوافيه ما شاء لهم اللعب؛ فاستحب الناس — وما زالوا يستحبون — لعبهم ذاك. وما أظن شاعرنا الكبير عزيز أباظة يُنكر الموشحات أو يأبى عليها إن دعته إليها طبيعته في بعض الظروف؛ ذلك أن الشعر — كما قلت — صدًى لعواطف القلب وأهواء النفس أو هو صوت العقول كما كان أبو تمام يقول. والأصل في الفن حرية خالصة من جهةٍ وقيود ثقال من جهةٍ أخرى.
حرية في التعبير وطرائقه وما يُبتكر فيه من الصور والمعاني، وقيود يفرضها صاحب الفن على نفسه في مذاهب الأداء يلتزمها هو ولا يُلزمه إياها أحد غيره، وقد عرفت الإنسانية شعرًا رائعًا خالدًا ولم يعرف القافية لأنها لم تلائم طبعه ولا لغته ولا بيئته.
لم يعرف الشعر اليوناني القديم قافية ولم يعرف الشعر اللاتيني قافية، وأتيح لكليهما — رغم ذلك — من الروعة والخلود ما لا يرقى إليه الشك، وتحلل بعض الشعراء الأوروبيين من الأوزان والقوافي التقليدية فلم يُزْرِ ذلك بشعر المُجيدين منهم.
فليس على شبابنا من الشعراء بأس — فيما أرى — من أن يتحرَّروا من قيود الوزن والقافية إذا نافرت أمزجتهم وطبائعهم، لا يُطلب إليهم في هذه الحرية إلا أن يكونوا صادقين غير متكلِّفين، وصادرين عن أنفسهم غير مقلِّدين لهذا الشاعر الأجنبي أو ذاك، ومبدعين فيما ينشِئون غير مسفِّين إلى سخف القول وما لا غناء فيه.
فإذا أتيحت لأحدهم أو لكثير منهم هذه الحرية الخصبة المنتجة المبدعة، كنَّا أحبَّ الناس لشعره وأكلفَهم به؛ لأننا سنجد فيه ريًّا من ظمأ وشفاءً لهذه الغلة التي تحرق نفوسنا تحريقًا، فما أشدَّ ظمأَنا إلى نفحات جديدة في الشعر! وما أحرَّ تشوُّقَنا إلى لون جديد من هذا الفن الأدبي الرفيع يُرضي حاجتنا إلى تصوير جديد للجمال.