الكلمة الضائعة
إنها كلمة شاعت وذاعت وضاعت في الوقت نفسه بين الذين يكتبون ويقرءون والذين لا يكتبون ولا يقرءون، وبين الذين يعلمون ويفهمون والذين لا يعلمون ولا يفهمون، ينطلق بها كل لسان ويجري بها كل قلم ويخوض فيها كلها متحدث، وهي مع ذلك لا تدل على شيء؛ لأننا نريد أن ندل بها على كل شيء. ألم تعرف هذه الكلمة بعدُ؟ إنها كلمة الفن! هذه التي تفيض بأحاديثها الصحف والمجلات، وتضطرب بها ألسنة المتحدثين في الجماعات القليلة الضئيلة والجماعات الكبيرة الكثيرة، ويخلو إليها كثير من الناس بين حين وحين فيضطربون في خلوتهم إليها بين الأمل واليأس وبين الرِّضَى والسخط وبين السرور والحزن.
يخلو إليها المصور حين ينفق الجهد الثقيل ويحتمل العناء الثقيل ليعرب عن ذات نفسه في الصورة الرائعة، ويخلو إليها صاحب هذه الأداة التي تلتقط الصور الشمسية حين ينقل على الورق صور الأحداث التي تحدث والجماعات التي تأتلف والأفراد الذين يعملون، دون أن يُكلِّف نفسه جهدًا ذا بال إلى أن يكون ما ينبغي من الحركات المستأنية لتلتقط أداته في عجل وسرع ما يريدها على أن تلتقطه من صور الأشياء والأحياء.
كلا الرجلين يُسمِّي عمله فنًّا، ويُسمِّيه الناس كذلك فنًّا، وقُل مثل ذلك في الصحفي الذي يتلقط الأخبار من هنا وهناك ليملأ بها مكانًا من صحيفة وليطرف قُرَّاءه حين يصبحون وحين يمسون، وقُل مثل ذلك أيضًا في الصحفي الذي يفرغ لنقل الأنباء من رسائل البرق إلى اللغة العربية أداءً لواجبه الصحفي وإظهارًا لقُرَّائه على ما يقع من الأحداث وما يرسَل من الأقوال في أقطار الأرض، وفي الكاتب الذي يفرغ لمعنًى المعاني فيُطيل به التفكير ويُمعن فيه التروية ويتعمقه حتى يصل إلى خلاصته ويصفيه وينقيه وينفي عنه الشوائب، ثم يَجِدُّ ويَكُدُّ ويشقى ليؤديَه إلى القارئ في صورة شائقة رائعة تبلغ أعماق نفسه، وتثيره إلى الخير فيحبه ويسعى إليه أو تنفره من الشر فيبغضه ويبرئ نفسه منه، ويُحبِّب إلى الناس ما أحب ويُكرِّه إليهم ما كره وينشر فيهم الدعوة إلى الإصلاح — ما استطاع إلى ذلك سبيلًا — لأن الكاتب أحسن التعبير عما أراد وأحسن التصوير كما أراد، ولأنه هو قد أحسن القراءة والفهم والانتفاع. وقُل مثل ذلك في الشاعر الذي ينفق بياض يومه وسواد ليله أو بياض أيامه وسواد لياليه حتى يُخرج قطعة من الشعر رائعة بارعة، يقرؤها القارئ أو يسمعها السامع فتشيع الموسيقى في نفسه ويشيع الجمال في قلبه وتأخذه البهجة والسرور من جميع أقطاره، وفي الناظم الذي يجمع الكلمات من هنا وهناك ويلائم بينها حتى يؤلف منها كلامًا له وزن وقافية، وقُل مثل ذلك في الرجل الذي يفرغ لخاطر من خواطره أو لصورة من صور الحياة أو صور الطبيعة فيملأ بها قلبه وعقله وذوقه، ثم يَجِدُّ ويَكُدُّ ويَشقى كثيرًا ويَسعد قليلًا ليُعرب عن ذات نفسه في هذا اللون أو ذاك، بل في هذه الألوان أو تلك من ألوان النغم، حتى إذا أتيح له التوفيق أَخرج لحنًا موسيقيًّا يملك عليك أمرك كله ويملأ عليك قلبك كله ويُنسيك نفسك ويُنسيك ما حولك ومن حولك، ويُخرجك من هذا العالم المادي والمعنوي الذي يعيش فيه مكدودًا مجهودًا ويرفعك إلى عالم آخر كله راحة ورَوح ونعيم؛ فيجدد نشاطك ويخلقك خلقًا جديدًا ويهيِّئك لاستقبال حياتك التي تحياها قويًّا جلدًا قادرًا على احتمال أثقالها والنفوذ من مشكلاتها، وفي هذا الرجل الآخر الذي يعبث بالأصوات والأنغام في غير جهد ولا مشقة ليؤلِّف لك في آخر الأمر لحنًا من هذه الألحان التي تُثير غرائزك وتُغريك باللذائذ وتسلِّط عليك هذا الفتور الذي يستأثر بالنفس حين تتحكم فيها غريزة من الغرائز وتسيطر عليها شهوة من الشهوات؛ فتفقد عزمها وحزمها وتفقد جدها وحدها، ويصيبها شيء يشبه التخدير الذي يصيب المريض حين يسلَّط عليه هذا المخدر أو ذاك ليفقد حسه بالألم وشعوره بما سيتعرض له من عبث الجراح بهذا الجزء أو ذاك من أجزاء جسمه.
كل هؤلاء يسمون أعمالهم فنًّا ويسميها الناس فنًّا كذلك.
وتستطيع أن تمد هذه الكلمة إلى ما شئت من المعاني وما أحببت من الأعمال؛ فستجدها رضيَّة طيِّعة تمتد إلى غير غاية ما دمت قادرًا على أن تمدها. فآثار شكسبير وراسين وموليير ومن شئت من أعلام شعراء التمثيل وكتابة فن وتهريج المهرجين في الملاعب وفي الإذاعة لتسلية النظارة والمستمعين وتلهيتهم فن، وكل ما يُعرض في السينما سواءٌ أكان جيدًا أم رديئًا، قيِّمًا أم سخيفًا، نافعًا أم ضارًّا؛ كل ذلك فن. وليس من شك في أن كل لعب له حظ من نظامٍ فنٌّ أيضًا مهما تكن قيمته ومهما تكن نتائجه. وقد كانت في مصر مجلات خُصصت للفن وأهل الفن، وأحسب بعضها لا يزال قائمًا وحديثها كله أو جله مقصور على ما نُسمِّيه في مصر سينما أو تمثيلًا، مع أننا نعلم حق العلم أن ليس في مصر سينما ولا تمثيل، وقد تتحدث هذه المجلات والصحف عن الموسيقى والموسيقيين، عن الموسيقى المصرية بالطبع والموسيقيين المصريين بالطبع أيضًا، مع أننا نعلم حق العلم أن الموسيقى غريبة في مصر تزورنا لمامًا ولا يعرفها من المصريين إلا أفراد نعرفهم ونستطيع أن نُسمِّيَهم وأن نُحصيَهم في غير مشقة ولا عناء لأنهم أقل جدًّا من القليل، وقد تتحدث هذه المجلات والصحف عن الغناء المصري والمغنين المصريين، مع أننا نعلم حق العلم أن الغناء في مصر غريب يلم بها بين حين وحين أثناء الشتاء، ثم ينصرف عنها قبل أن يُقبل الربيع.
كل هذا عندنا فن لأن كلمة الفن قد فقدت في مصر معناها وقيمتها، وأصبحت كلمة من هذه الكلمات التي لا تكاد تشيع حتى تضيع.
ولذلك لم أعجب ولم يأخذني من الدهش قليل ولا كثير حين رأيت صديقنا الأستاذ سامي داود حائرًا في مقاله يوم الخميس الماضي؛ لا يدري أيطلب إلى مجلس الفنون والآداب أن يوجِد في مصر فن الموسيقى بمعناه الصحيح الدقيق، وفنًّا آخر يحبه المصريون كلَّ الحب ويخافون منه كلَّ الخوف، تشتهيه قلوبهم وتخافه ألسنتهم فيعبرون عنه بكلمة أجنبية تؤدي بعض معناه ولا تؤدي معناه كله، وهي كلمة الباليه.
وهم يريدون الرقص بمعناه الفني الدقيق الذي لا يثير بعض الغرائز ولا يُهيِّج بعض الشهوات، وإنما يُمتع لأنه لون من ألوان الفن الرفيع.
كان صديقنا حائرًا مشفقًا، لا يدري أيطلب إلى مجلس الفنون والآداب أن يوطِّن الموسيقى والرقص بمعناهما الفني الرفيع، أم لا يطلب لأنه بالطبع مشفق من أن يُغضب قومًا لا يحب أن يغضبوا ويُثير قومًا لا يحب أن يثوروا. وأنا أكتب الآن لأرد على الصديق بعض الطمأنينة وبعض الأمل أيضًا، فمن حقه ومن الحق عليه أن يطلب إلى مجلس الفنون والآداب تحقيق أمنيته هذه التي يتمناها مثله كثيرون، ولكنهم يترددون كما تردد ويشفقون كما أشفق؛ لأنهم يكرهون أن يُغضبوا قومًا ويُثيروا آخرين، ولأنهم يعلمون أن الذوق الفني الصحيح الجدير بهذا الاسم لم يَشِعْ بعدُ بين المواطنين، وليس من الممكن أن يشيع قبل أن تشيع الثقافة ويعم التعليم ويعرف المصريون حقائق الحياة الحديثة التي يريدون أن يحيوها، والتي لا مفر لهم من أن يحيوها إلا أن يُؤْثروا الموت على الحياة والخمول على نباهة الشأن وارتفاع المنزلة.
فالشعوب لا تعيش في هذه الأيام بالتهريج ولا ترقى باللعب ولا تنهض بأعباء الحياة وهي نائمة كاليقِظة ويقظة كالنائمة، والحضارة التي تلائم الحياة الحديثة شيء كامل لا يمكن أن يؤخذ بعضه ويُترك بعضه الآخر، وإنما يُؤخذ كله أو يُترك كله؛ فالذين يأخذونه كله هم الذين يحيون ويرقون ويفرضون أنفسهم على الزمان وعلى غيرهم من الناس، والذين يتركونه كله أو يأخذون بعضه ويتركون بعضه الآخر هم الذين يموتون أو يخملون ويتعرضون للاستذلال والاستغلال ويُطمعون الناس في أنفسهم ووطنهم ومرافقهم كلها.
وفي الحضارة الحديثة كثير من النقائص وكثير من الآثام، ولكن الشعوب الجديرة بهذا الاسم تجد في إصلاح هذه النقائص وهذه الآثام تنقية الحياة الإنسانية من كل شائبة تُنقص من قدرها، فإذا دعونا إلى الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة كاملة فنحن لا ندعو إلى الأخذ بما فيها من النقائص والآثام، ولم نسمع قط أن الفن الجميل نقص أو إثم، وإنما سمعنا دائمًا وعرفنا دائمًا أن الفن الجميل كمال ونقاء فيه تزكية القلوب وترقية العقول وتصفية الأذواق، والذي أعلمه من مجلس الفنون والآداب أنه إنما أنشئ للإصلاح ولإصلاح الفنون والآداب خاصةً، وسبيل هذا الإصلاح إنما هو أن يعرف الناس حقائق الفن الجميل وحقائق الأدب الرفيع معرفة لا تقتصر على طائفة خاصة من الناس، بل تعم الشعب كله ليتقارب أبناؤه في الفهم والذوق والشعور، ولا يمتاز الممتازون منهم إلا بالجد والكد في سبيل الخدمة العامة وفي سبيل إسعاد الناس، والجهل لا يُسعد أحدًا وجفاء الطبع وغلظ الذوق لا يُسعدان أحدًا، وليست سعادة الناس في أن يجدوا في يُسر ما يحتاجون إليه من الغذاء والكساء وصحة الأجسام كما كان يقال في أيام المرض، وإنما هي في أن يجدوا هذه الأشياء في يُسر ويجدوا معها صحة النفوس وذكاء القلوب ونقاء الضمائر وصفاء الأذواق وسماحة الأخلاق.
والفنون الجميلة بمعناها الدقيق هي السبيل الوحيدة إلى هذه السعادة يجب أن تسموَ نفس الشعب لتسموَ آماله وأعماله ومقاصده وغاياته، والفن الجميل على اختلاف أنواعه هو السُّلم الذي يتيح للشعب أن يرقى ويسموَ ويُعنَى بعظائم الأمور وجلائل الأعمال.
وجهد المجلس الجديد في إصلاح الفنون والآداب هو الذي يجب أن يميز الخبيث من الطيب ويفرق بين صحيح الفن وزائفه، أو قل — إن شئت — بين الفن الجميل والتهريج.
فليطمئن الكاتب الأديب وأمثاله الذين يجدون مثل ما يجد ويشفقون من مثل ما يشفق منه، فأنا أرجو وأعرف أن الزملاء من أعضاء المجلس يرجون مثلي أن يأتيَ على مصر يوم قريب أو بعيد تعرف فيه للفن الجميل حقه وقدره فتحبه وتُؤْثره على كل شيء، وتنفي عن نفسها وعن غيرها من الشعوب العربية ما تشقى به الآن من صنوف العبث والسخف والتهريج التي تُسمِّي نفسها فنًّا وليست من الفن في شيء: