الكابتان ميخالي
كانت هذه القصة أروع ما قرأت أثناء الصيف، بل أروع ما قرأت أثناء العام كله على كثرة ما قرأت فيه. ومع أنها طويلة توشك أن تبلغ من الصفحات خمسمائة قد طُبعت في حروف دقيقة، فلم آسَ على شيء كما أسيت على الفراغ من قراءتها، وما أرى إلا أني سأقرؤها إن شاء الله مرةً ومرةً.
ومع أني في هذه الأسابيع كنت — كغيري من المصريين — مشغول البال بما يجري من الأحداث السياسية التي اضطرب لها الشرق والغرب جميعًا، فقد كنت أجد في قراءتها رَوحًا وراحة، ولم أكن أُحس أن قراءتها تخرجني مما يشغل بالي من الأحداث؛ فهي تتحدث منذ الكلمة الأولى إلى الكلمة الأخيرة منها عن الحرية والموت، وأي شيء يشغلنا في هذه الأيام إلا هذا الاختيار اليسير على النفوس الكريمة، العسير على النفوس الهيِّنة الذليلة، إلا هذا الاختيار بين الحرية والموت!
ولم أكد أمضي في قراءتها شيئًا حتى خُيِّل إليَّ أني أقرأ الألياذة، ولكنها الألياذة الحديثة التي لم تُنظَم شعرًا وإنما كُتبت نثرًا، والتي لا تقع أحداثها في القرن العاشر قبل المسيح، وإنما تقع في القرن التاسع عشر وفي أواخر القرن التاسع عشر بعد المسيح، والتي لا تُصوِّر أحداثًا وقعت في آسيا الصغرى حول هذه المدينة التي حفظ التاريخ اسمها إلى آخر الدهر، وإنما تقع أحداثها في جزيرة من جزر البحر الأبيض المتوسط هي جزيرة أقريطش كما كان العرب يسمونها، أو جزيرة كريت كما يسميها الناس الآن؛ فالشبه قوي أشد القوة بين هذه القصة المعاصرة التي كتبها كاتب يوناني حديث، وبين تلك القصيدة القديمة التي لم يتفق العلماء على منشئها بعدُ وإن اتفقوا على أنها تُنسب إلى شاعر يُسمَّى هوميروس.
والكاتب الحديث لا يستوحي ربة الشعر في أول قصته كما فعل الشاعر القديم، وإنما يأخذ في حديثه مباشرة يتحدث إلى الناس من وحي نفسه ومن وحي وطنه لا من وحي هذه الإلهة أو تلك من الآلهة القدماء، ولكنه بعد ذلك يمضي في قصته كما مضى الشاعر القديم في قصيدته، مصورًا أبرع تصوير وأروعه، وأشد استئثارًا بالقلوب والعقول ثورة اليونان في جزيرة كريت بالترك الذين كانوا يتسلطون عليها، وغضب اليونان لحريتهم الإنسانية وكرامتهم الوطنية، وحرص اليونان على أن يظفروا من العزة بمثل ما ظفر به مواطنوهم في الأرض اليونانية الأوروبية، وضيق الترك بهذه الثورة ومقاومتهم لها وبطشهم بالثائرين بين حين وحين بطشًا لا يقوم به الجند وحدهم، وإنما يقوم به المدنيون الذي استعمروا هذه الجزيرة من الترك، وإمعان اليونان في الغضب والثورة كلما أمعن الترك في المقاومة والبطش، وفي هذا الصراع الهائل العنيف الذي لا تخبو ناره إلا لتشب، ولا تهدأ حدته إلى لتزداد هولًا وعنفًا؛ في هذا الصراع يظهر الأبطال الذين يشبهون أشد الشبه وأقواه أبطال الألياذة في حدة القلوب وشدة الذكاء ومضاء العزيمة وسعة الحيلة ودقة المكر والمهارة في الكيد، والميل مع هذا كله إلى الاستمتاع بطيبات الحياة في غير قصد ولا اعتدال. أجل، وفي هذا الصراع أيضًا تظهر القوى الخفية التي تمد اليونان بالبأس والأيد، وتيسر لهم الأمور حين يشتد عسرها، وتفرج عنهم الكروب حين يشتد ضيقها.
فهؤلاء القديسون الذين تقوم تماثيلهم في الكنائس وتستقر صورهم في الدور يعملون في هذه القصة عمل الآلهة القدماء في قصيدة هوميروس؛ هذا قديس قد استقر تمثاله في الكنيسة لا يشك اليونان في أنه يخرج بين حين وحين من كنيسته وقد امتطى فرسه فيملأ قلوب الترك رعبًا وفَرَقًا، والترك أنفسهم يصدقون ذلك ويشفقون منه من حين إلى حين. وكما أنك تجد في الألياذة بعض الصعاليك البائسين الذين يعيشون حول ملوك اليونان ناقمين عليهم ساخرين منهم مستمتعين — مع ذلك — بما عندهم من السعة واللين، فأنت واجد في هذه القصة شعارهم ذاك، وهم يصلون نار العدو: الحرية أو الموت.
بعض هؤلاء الفقراء البائسين الذين يعيشون حول أغنياء اليونان والترك يستمتعون في ظلهم بما يساقط عليهم من طيبات الحياة ويطلقون فيهم ألسنتهم مع ذلك بغير ما يحبون، ثم لا يمنعهم هذا حين يجدُّ الجدُّ من أن يبلوا في الحرب أحسن البلاء ويتعرضوا للهول ويصيحوا. والقصة بعد ذلك حديثة كلها لأنها تصور أحداثًا وقعت في القرن الماضي كما قلت آنفًا؛ فالتفكير فيها حديث والتعبير فيها حديث وأدوات الحرب حديثة أيضًا، ولكنها على ذلك تصور عقولًا يونانية وتركية لا تُفكر كما يُفكر غيرها من العقول الأوروبية، وإنما تفكر على نحوٍ خاص أقرب إلى تفكير العصور الوسطى، فيه كثير من الجهل، وفيه كثير من الثقة، وفيه كثير من الإيمان بهذه القوة الغريبة التي تسيطر على الطبيعة وتسخرها وتخالف بها عن قوانينها المألوفة؛ فتُحدث المعجزات أحيانًا وترد الشر الذي لا مردَّ له أحيانًا أخرى، وفي القصة بعد هذا كله أبطال لا يمتازون بالشجاعة والبأس وحدهما، ولا يمتازون باحتمال المكروه والصبر على ما لا يُطاق الصبر عليه والنفوذ إلى الموت في غير تردد ولا تحفظ ولا احتياط، ولكنهم يمتازون على ذلك بأشياء أخرى؛ ففيهم المُعرض عن طيبات الحياة أشد الإعراض وأقواه، المؤثر للصمت الذي لا يكاد يتكلم إلا حين لا يكون من الكلام بد، المُؤْثر للعُبوس الذي لا يبسم للصديق ولا يبسم للزوج ولا للأبناء حين يخلو إليهم، ولكنه على ذلك يخلو إلى لهوه مرتين في كل عام، فيجمع إليه نفرًا من الصديق ويخلص لهم ويخلصون له في نفق من أنفاق داره أسبوعًا كاملًا لا يلقون فيه أحدًا، قد عكفوا فيه على لهوهم، فهم يشربون ويأكلون ويسمعون للموسيقى وصاحبهم ذاك جالس منهم مجلس الملك الغضوب العنيف قد قطب جبينه وغشي وجهَه العُبوس؛ فهو يشرب كما يشرب أصحابه ويأكل كما يأكلون ويسمع للموسيقى كما يسمعون لها.
لكنه عابس دائمًا مقطب دائمًا قد علَّق سوطه إلى جانبه ينشط به أصحابه إن أدركهم الفتور، حتى إذا انقضى الأسبوع صرف أصحابه ومضى يضطرب في أعمال الحياة كأنه لم يفرغ للهو ولم يعكف عليه.
وفهم البطل العابث دائمًا المداعب للصديق دائمًا الذي لا يغضب إلا حين يجدُّ الجدُّ، والذي لا يكره أن يأخذ من الحياة كلها ما تقدم له من اللذات غير حافل بما كان أمسِ ولا بما سيكون غدًا من جلائل الأعمال وعظائم الأمور، لا يحرص على الحياة ولا يرهب الموت، ولا يحفل إلا بشيء واحد هو أن يحقق الحرية لجزيرته حين تتاح له الفرصة لتحقيقها، ومنهم هذا الذي آمن بالعدل واستيقن بأنه يجب أن يملأ الأرض كلها بعد أن ملأها الجور كلها، وأن جزيرته يجب أن تنال نصيبها من هذا العدل، وأن الترك هم أصل الجور، وأن الأقوياء من ملوك أوروبا قادرون على أن يردوا إلى جزيرته حقها من العدل ويعينوا أهلها على إجلاء الترك عنها كما أعانوا اليونان على إجلاء الترك عن الوطن اليوناني الأوروبي؛ وهو من أجل ذلك قد لزم داره لا يكاد يبرحها وهو ينفق نهاره كله في كتابة الرسائل إلى هؤلاء الملوك وإلى رؤساء الجمهوريات؛ يكتب مرة إلى فيكتوريا ومرة أخرى إلى القيصر الروسي ومرة ثالثة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، يكتب دائمًا وينتظر رد الملوك دائمًا، ويسأل كل صباح عما حمل البريد إليه، ولكن البريد لا يحمل إليه شيئًا، ولا يفل ذلك من عزمه؛ فهو كاتب دائمًا منتظر دائمًا، ولا يمنعه ذلك من أن يموت — حين يجدُّ الجدُّ — موت الأبطال.
ومنهم هذا الشيخ الذي أنفق حياته مجاهدًا يثور مع الثائرين ويقود فرقته ويخوض معها غمرات الموت، فإذا أخفقت الثورة وخبت نارها عاد إلى قريته فلها واستمتع بالحياة وأضاف مالًا إلى مال وثراءً إلى ثراء وثمَّر ثروته ما وجد إلى تثميرها سبيلًا.
واستكثر من الولد وحث أبناءه على أن يستكثروا منه؛ لأن الجزيرة في حاجة إلى أن يكثر فيها الشباب المجاهدون. وهو يدفع الشباب من أبنائه إلى الجهاد بعد أن أثقلته السن ويبتهج حين يعلم أنهم قد أحسنوا البلاء فيه، ولا يأسى حين يعلم أن أحدهم قد قُتل في هذا الميدان أو ذاك، وإنما يغتبط بذلك ويحتفل له فيُطعم الناس ويسقيهم ويُعطيهم السلاح ويُرسلهم إلى الميدان ليكسبوا الحرية للجزيرة أو يموتوا كرامًا. والناس يأكلون عنده ويشربون ويطربون ويأخذون سلاحه ويمضون به إلى الميدان، فمنهم من يموت كريمًا ومنهم من يعود وقد أحسن البلاء وانتظر فرصة أخرى ليكسب الحرية للجزيرة أو يكسب لنفسه موتًا كريمًا.
وكما أن الألياذة تُصور أول ما تصور غضب أخيل البطل اليوناني القديم، بل هي تدور كلها حول هذا الغضب، فإن هذه القصة تدور كلها حول بطل حديث غضب فكان غضبه محور القصة وقوامها، به تبدأ وبه تنتهي، وهذا البطل هو الكابتان ميخالي الذي جعل الكاتب اسمه عنوانًا لهذه القصة، وإن جعل لها المترجم الفرنسي عنوانًا آخر هو الحرية أو الموت.
والكابتان ميخالي هو هذا البطل الذي أشرت إليه آنفًا، والذي هو مغضب دائمًا عابث دائمًا، والذي لا يكاد يخرج من صمته إلا حين تدعوه الضرورة إلى أن يقول شيئًا، فإذا قال أوجز في القول أشد الإيجاز، وهو على ذلك عريض في الفضاء طويل في السماء مهيب المنظر والمظهر، يملأ الأرض من حوله خوفًا ولا يتحدث الناس إليه إلا في تحفُّظ أي تحفُّظ، تخافه زوجه فلا تكلمه إلا أن يريدها على ذلك، وتكبر ابنته وتود لو كانت فتًى لتسير سيرته وتتخذه لها مثالًا، وتخفي امرأته عليه صبيتها الصغيرة؛ لأنه أعلن إليها أنه لا يحب أن يرى البنات ولا أن يسمع صوتهن، ويحذو ابنه الغلام حذوه فيقود أترابه في المدرسة ويغريهم بالكيد للمعلم ويسبقهم إلى ذلك ويحمل عنهم تبعاته.
وكابتان ميخالي لا يثير الخوف في نفوس اليونان وحدهم، بل يثيره في نفوس الترك أيضًا؛ فهم يرهبونه ويتقونه ولا يعاملونه إلا في تلطف له وتودد إليه، وله خصم من الترك عنيف مثله قوي مثله مغامر مثله أيضًا، وقد اختصما ذات يوم فإذا الكابتان ميشيل يأخذه من منطقته فيرفعه ويهزه في الهواء ويلقيه على سقف من السقوف، والتركي منذ ذلك اليوم يكبره ويتجنب الإساءة إليه. وفي ذات يوم يرسل هذا التركي إلى الكابتان ميخالي غلامه الأسود يدعوه لزيارته، فيتردد الكابتان ميخالي طويلًا ثم يزوره لا خوفًا منه على نفسه بل خوفًا منه على اليونان، وهو قد سمع مواطنيه ذات يوم يتحدثون من حوله فيسأل بعضهم بعضًا عما يحب أن يملك أهو الفرس الأصيل الذي يركبه ذلك التركي أم هي الزوجة الشركسية الحسناء التي يحجبها ويحبها أشد الحب وأقواه ويغار عليها أعنف الغيرة وأعظمها؛ فينهرهم ويحذرهم أن يخوضوا عنده في مثل هذا الحديث؛ فهو لا يكره شيئًا كما يكره أن تُذكر المرأة أو الترك عنده، هو يزدري المرأة لأنها تغري بإخلاد إلى الدعة واللذة، ويزدري الترك لأنهم عدوه وعدو اليونان منذ افتُتحت قسطنطينية، وقد اشتد عداؤه وعداء اليونان للترك منذ تحررت بلاد اليونان وظلت كريت خاضعة لسلطان الترك. وقد أقبل الكابتان ميخالي ذاك مساءً على قصر نوري بك مستجيبًا لدعوته، فتلقاه التركي أحسن لقاء وتحدث إليه في رفق عن أخيه ذاك المقيم في قرية خارج أسوار المدينة، والذي يؤذي الترك بالقول والعمل، والذي اجترأ ذات يوم فحمل حمارًا ومضى به إلى المسجد ليقيم الصلاة، قال التركي: وما أريد أن آخذه بإثمه فيفسد الأمر بيننا وبين اليونان، وإنما أتوسل بك إليه لتكف عنَّا يده ولسانه، فنكف عنه أيديَنا وألسنتنا.
وقد سمع له الكابتان ميخالي ثم سكت عنه وكاد الأمر يفسد بين الرجلين، ثم بدا للتركي فقال لصاحبه: إن المدينة لا تحتملنا جميعًا؛ فلا بد لأحدنا من أن يقتل صاحبه أو نصير إلى الإخاء وأنا أوثر ذلك، فهلُمَّ نُحدث بيننا إخاءً يمحو ما تُكِنُّ قلوبنا من العداء، ثم مد ذراعه إلى الكابتان ميخالي فأحدث فيها جُرحًا أسال دمه، ومد الكابتان ميخالي ذراعه إلى التركي ففعل بها مثل ذلك ومزج دمه ودم صاحبه في كأس شرب منها كلاهما جرعة فأصبحا أخوين لا تستطيع الأحداث أن تعدوَ على ما بينهما من المودة، وابتهج التركي بذلك أشد الابتهاج فدعا بالخمر وشربا على إخائهما، ثم لعبت الخمر بعقله شيئًا فألغى كل حجاب بينه وبين أخيه وصفق فأقبلت خادم له سوداء، فأمرها أن تدعوَ زوجه أمينة لتحضر ومعها قيثارتها، وما هي إلا أن تُقبل الزوج الشابة ذات الحسن الرائع والجمال الذي يخلب الألباب، فلا يكاد الكابتان ميخالي يراها حتى يؤخذ وإذا هي قد ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا، وأخذت الحسناء في العزف فسحرت اليوناني وأخرجته عن طوره، ولكنه على ذلك يكظم حبه وغيظه ويضع أصبعين من أصابعه في كأس أمامه، ثم يفرج بينهما في عنف فيحطم الكأس ويسيل ما فيها من الخمر، وترى الشركسية ذلك فتسحرها وتبهرها هذه القوة، وترمي زوجها التركي بنظرة فيها كثير من الازدراء وتتحداه سائلة إياه أن يفعل كما فعل أخوه، ونوري بك ينظر ويعجب ويأخذه الغيظ ويثيره التحدي ويهمُّ أن يفعل مثل أخيه، ثم يشفق أن يدركه الضعف وإذا هو مستخذٍ متهالك، وقد نهض اليوناني فودع وانصرف وفي قلبه من الفتون والغيظ والحفيظة ما فيه، ويصل إلى داره وقد أضمر شيئًا ولكنه يتهيأ لما أضمر، فيقبل على لهوه ذلك يدعو أصحابه أولئك ويعكف معهم في نفق من أنفاق الدار على الطعام والشراب والموسيقى، ولكنه لا يتحرك للخمر ولا للموسيقى، لا يبسم ولا ينطق وإنما هو مغضب ينظر أمامه ويشرب ويدخن، ويخلي بين أصحابه وبين ما يصنعون غير حافل بهم ولا ملتفت إليهم، وقد تعود أن يقضيَ معهم في لهوهم ذاك أسبوعًا كل ستة أشهر، ولكنه في هذه المرة يقطع الأسبوع قبل أن يتقدم، ويثور فجأة فيلهب أجسام أصحابه بالسوط حتى يخرجهم من النفق وهم سكارى لا يعرفون كيف يصنعون، وقد خلا إلى نفسه حتى سكت عنه الغضب شيئًا، ثم ركب فرسه ومضى إلى قهوة يجتمع فيها الترك من أهل المدينة وأسراتهم خاصة، فدخلها مقتحمًا على ظهر فرسه وطرد منها روادها من الترك بسوطه وصياحه، وأمر صاحبها أن يهيئ له قدحًا من قهوة يشربها كما هو لا يترجل ولا يتخذ مجلسًا، والترك يهمون أن يقاوموا ولكن عقلاءهم يردونهم عن ذلك إشفاقًا من العاقبة. وقد ذاعت فعلته هذه بين الترك فأثارتهم، وبين اليونان فأخافتهم؛ أراد أولئك أن ينقموا وأشفق هؤلاء من المذبحة، وخاف بعض القوم بعضًا، وكان الوالي أشد القوم خوفًا، فجمع إليه سراة الترك وحاول أن يكفهم عن الشر مخافة الثورة وائتمر القوم وطال ائتمارهم، ثم انتهوا إلى أن أخذ نوري بك نفسه أمامهم بقتل الكابتان ميخالي، فرضوا ورضيَ الوالي وأمره أن يتلطف في ذلك.
ومضت أيام لم يغير الكابتان ميخالي من سيرته شيئًا، بل جعل يغدو على عمله ويروح إلى أهله، ويركب فرسه بعد ذلك فيخرج من المدينة ويمضي أمامه لا يلوي على شيء يفرِّج عن نفسه بعض ما يملأ صدره من الغيظ والهم، ولكنه لا يبلغ من ذلك شيئًا فيعود إلى داره غضبان أسفًا لا يكلم أحدًا ولا يكلمه أحد. وفي ذات يوم يخرج نوري بك من المدينة على جواده الأصيل ويمضي إلى القرية التي يُقيم فيها أخو الكابتان ميخالي وهو مثله كابتان قد خاض غمرات الحرب وقاد فيها فرقته وقتل فيها كثيرًا من الترك، وقد تحرَّج نوري بك من أن يعرض للكابتان ميخالي خوفًا منه أو رعاية لما بينهما من الإخاء؛ فقصد قصد أخيه ذاك يريد أن يقتله عقابًا له على إهانته للمسجد، ويلتقي الخصمان ويقتتلان ويقتل نوري بك أخا الكابتان ميخالي، ولكن هذا لا يموت حتى يفعل بخصمه فعلة نكراء؛ يضرب بخنجره بين فخذيه فيُلغي رجولته إلغاءً.
وقد عاد نوري بك إلى داره كما استطاع وأوى إلى سريره بين الحياة والموت، وقام الأساة على جراحه يأسونها كما يستطيعون، وسعى السعاة بموت أخي الكابتان ميخالي إلى أهله أولًا وإلى الكابتان بعد ذلك، فشُغل أهل القتيل بجنازة قتيلهم وشارك فيها الكابتان. ورأى الكابتان بعد الفراغ من الجنازة ابن أخيه غلامًا لم يبلغ الحلم بعد، رآه يتهيأ للثأر من قاتل أبيه، فرده عن ذلك ساخرًا منه ومضى إلى داره، ولكن الغلام لم يرتد وإنما أخذ خنجر أبيه ومضى أمامه لا يلوي على شيء غير حافل بزجر عمه ولا بنهي أمه، ومنذ ذلك اليوم بدأت طلائع الثورة؛ فهذا الغلام لم يرح ولم يسترح حتى قتل غلامًا تركيًّا في مثل سنه من أقارب نوري بك، ثم اشتد في العَدْو بعد ذلك لاجئًا إلى الجبل فاحتمى به، وأخذ الشباب يجتمعون إليه مغاضبين للترك خارجين على السلطان، وثارت ثائرة الترك بالطبع فهمُّوا أن يبطشوا باليونان في مدينة كانديا عاصمة الجزيرة وفيما حولها من القرى، ولكن الوالي وأصحاب المصالح منهم كانوا يمسكونهم ويصدونهم عن هذا البطش في كثير من العناء إيثارًا للعافية وانتهازًا للفرصة.
واضح أن الكابتان ميخالي قد أزمع الثأر لأخيه من نوري بك، ولكنه جعل ينتظر شفاءه، وجعل هذا الشفاء يبطئ، وجعل الترك يتحرقون شوقًا إلى الانتقام، وفي أثناء ذلك أو قبل ذلك بقليل زُلزلت الأرض في الجزيرة زلزالًا يسيرًا أخاف الناس وأخرج كثيرًا منهم من بيوتهم، وخرجت بين الخارجين أمينة تلك الشركسية مذعورة تتبعها خادمها السوداء، وقد ملكها الذعر فأُغمي عليها ورأى ذلك كابتان يوناني شجاع يقال له بولكسنجيس، وهو من أصدقاء الكابتان ميخالي فخفَّ لنجدتها ولم يكد يراها حتى شغفته حبًّا … وما هي إلا أن تتصل الأسباب بينه وبين الشركسية وإذا هو خليل لها قد أنساه حبها — أو كاد ينسيه — ما بين الترك واليونان من العداء. وهو يروح إليها إذا كان الليل من كل يوم وقد أخذ يُعنَى بشخصه وزيه وظهرت عليه آيات ذلك فيما كان يتضوع حوله من نشر المسك. ولم يتحرج من أن يتحدث في ذلك إلى صديقه الكابتان ميخالي؛ فلامه فيه أعنف اللوم وكاد يصمه بالخيانة حتى فسد الأمر بينهما. ومن هنا تتعقد القصة من جهة ويشتد شبهها بالألياذة من جهة أخرى؛ فقد كان غضب أخيل في الألياذة ناشئًا عن أن أجامنون قد غصب جارية حسناء من أسراه.
وهذه الشركسية التي ملكت قلب الكابتان ميخالي يستأثر بها عدوه وأخوه نوري بك؛ لأنه زوجها وإن لم تحببه، ويستأثر بها من ناحية أخرى صديقه وزميله في الحرب بولكسنجيس.
وهي تمنحه من عطفها ولطفها ما يشاء، وإن كانت فيما بينها وبين نفسها لا تحب إلا ذلك الرجل القوي العنيف الذي رأته يُحطم الكأس حين فرج بين أصبعيه.
وقد جاءت الأنباء إلى الكابتان ميخالي بأن نوري بك قد أخذ يبل من جراحته، ثم جاءته الأنباء بأن شفاءه قد تم وبأنه قد أخذ يخرج في المدينة وفيما وراء المدينة على جواده الأصيل؛ فرأى أن قد حان الوقت للظفر بثأره، وأقبل ذات يوم على قصر نوري بك فتلقاه صاحب القصر لقاءً حسنًا وعرف أنه أقبل يطلب منه المبارزة، وهمَّ بأن يتحدث إليه في ذلك، ولكن الكابتان ميخالي لم يلبث أن رآه ضعيفًا منهوكًا لا يكاد يقدر على شيء، فانصرف عنه رفيقًا به يرى أن مبارزة مثل هذا الرجل المجهود لا تليق بمثله، وأحس نوري بك بذلك فلم يلبث أن أسرع إلى غرفته فأوصى بأن يُنحر جواده على قبره، ثم قتل نفسه، وبلغ الغضب بالترك أقصاه فثاروا باليونان وجعلوا يقتلون الرجال والنساء والأطفال، وجعل القادرون على حمل السلاح من اليونان يفرون من المدينة، وجعل رؤساؤهم والكابتان ميخالي خاصة يواعدونهم على اللقاء والتجمع في الجبل، وما هي إلا أن تصبح الثورة أمرًا واقعًا وتبلغ من العنف أقصاه ويُضطَر الوالي إلى أن يقاومها بما يملك من قوة وجند.
ويشارك الرهبان في هذه الثورة أشد المشاركة فيحاصرهم الجند في ديرهم ويخف الثائرون لمعونتهم، وقد اجتمع القادرون على الحرب من أبطال الثورات الماضية فاستأنفوا القتال كعهدهم به أيام الشباب، وتعاون الصديقان المختصمان في هذه الشركسية تعاونًا موقوتًا، وكانت هذه الشركسية قد أزمعت أن تنتصر وتتزوج خليلها، فلما شبت الثورة فرت إلى القرية التي تقيم فيها أسرة هذا الخليل وأقامت تتعلم أصول المسيحية والاقتران بصاحبها في يوم معلوم، وأقبل ذات ليلة بعض اليونان فأنبأ الكابتان ميخالي بأن الترك قد اختطفوا هذه الشركسية وأزمعوا العودة بها إلى المدينة ليمسكوها على دينها ويعاقبوها على خيانتها؛ فيختار الكابتان ميخالي رهطًا من أصحابه ويُسرع بهم في أثر هؤلاء الترك ويستنقذ منهم الشركسية، ثم لا ينظر إليها وإنما يأمر أحد أصحابه بأن يذهب بها حتى يحرزها في بيت من بيوت أسرته هو.
فإذا عاد إلى مكانه من الموقعة كان الترك قد انتصروا على الثائرين فحرقوا الدير وقتلوا رهبانه وفرَّقوا حماته، وكان اليونان قد افتقدوا قائدهم فلم يجدوه، أشد ما يكونون حاجة إليه، فلما عاد ورأى بقايا الدير تحترق أزمع أن يقاوم الترك ولو احترق كما يحترق هذا الدير، ولكنه على ذلك مشغول بالشركسية يريد أن يخلص منها ليفرغ للحرب، وهو لا يحفل بسخط اليونان عليه ولومهم له وتشهيرهم به، وإنما يمضي حتى ينسل إلى تلك الدار التي تُقيم فيها الشركسية ذات ليلة فيطوف بها كاللص، ثم يدخلها متلطفًا ويتجسس على الشركسية حتى يعرف الحجرة التي هي نائمة فيها، فيسعى إليها خفيفًا حتى إذا وقف بإزائها ملأ عينيه منها وقد أفاقت الشركسية من نومها فرأت شخصه وعرفته، ولكنه لم يمهلها وإنما أغمد خنجره في صدرها، ثم استله وانصرف به عائدًا إلى مكانه من الجبل متهيئًا لحرب الترك.
واتصلت الثورة ما استطاعت أن تتصل حتى ملَّ الترك طولها وشدتها واشتد بلاؤها على اليونان، وقد جعلت الأمداد تصل من القسطنطينية، وجعل اليونان يستيئسون من النصر، وجعل الوالي يؤمِّن الثائرين ليعودوا إلى الحياة العاملة ويجنحوا إلى السلم، وجعل النصح يصل من أثينا إلى اليونان بأن يضعوا السلاح، وأخذ اليونان يسمعون لهذا النصح ويضعون أسلحتهم ويعودون إلى أعمالهم يُضمرون في نفوسهم انتهاز الفرصة لثورة أخرى حين تتيحها لهم الظروف إلا رجلًا واحدًا لم يقبل أمان الوالي ولم يحفل بجيوش الترك ولم يسمع لأمر الأسقف ولم يحفل بنصح أثينا، وإنما ظل رابضًا في الجبل ناصبًا حربة للترك ومعه ابن أخيه ذاك الغلام ورهط من اليونان لا يبلغون العشرين، وقد أخذ بعضهم يتركه حتى إذا مضى غير بعيد استخذى منه ثم عاد إليه. وقد جاءه رسول أبيه الشيخ ينبئه أن أباه مشرف على الموت وأنه يريد أن يراه قبل أن يموت، ولكن الكابتان ميشيل يكلف رسول أبيه أن يعتذر إليه بأنه محارب وأن يطلب إليه الدعاء له، ويسمع الشيخ رسالة ابنه فيبتهج بها ويبارك عليه، ويُقبل عليه ابن أخ له قضى حياته في أوروبا مبغضًا للحرب مُؤْثرًا للسلم، يُقبل عليه وقد كُلِّف من أثينا ومن الأسقف أن يلح عليه في وضع السلاح فيقنعه بإيثار السلم، فإذا رآه لم يحفل به دائمًا نصح له بأن يعود من حيث أتى لأنه ليس صاحب حرب، ولكن الفتى يرى عمه في هذه القلة القليلة من الناس الذين يساقطون من حوله، وأمام هذه الكثرة الكثيرة من الترك الظمأى إلى دمه فيأبى العودة ويأخذ السلاح ويقبله عمه مباركًا عليه، وقد شد الترك على الكابتان ومن معه فأحاطوا بهم وجعلوا يصرعونهم وكلهم يسقط صائحًا: الحرية أو الموت.
والكابتان يفتك بهم فتكًا ذريعًا ولكنه يفتح فمه صائحًا بهذا الشعار فلا ينطق منه إلا بكلمة الحرية، ولا يحتاج إلى أن ينطق بكلمة الموت؛ لأن رصاصة نفذت بين شفتيه فملأت فمه وقلبه وجسمه موتًا.
ولم أعرض عليك من هذه القصة إلا أيسر اليسير منها، ولو قد أردت تلخيصها كما ينبغي أن تُلخَّص لضاق بها هذا العدد كله من الجمهورية. والذي تركته منها أبلغ وأروع من الذي لخصته، فيه علم غزير بالحياة الاجتماعية والدينية لليونان والترك في تلك الجزيرة، وفيه وصف دقيق متقن للأفراد والجماعات والبحر والجبل والحقول والسماء وشمسها الساطعة في النهار ونجومها المتلألئة في الليل، وفيه ألوان رائعة من الأساطير وأحاديث الناس. ومهما أنسَ فلن أنسى موت ذلك الشيخ أبي الكابتان ميخالي بعد أن بلغ المائة وأبلى في الجهاد واستكثر من المال والولد وعلَّم أبناءه وأحفاده الجهاد والموت، ثم أخذ يتعلم في آخر أيامه من حفيد له صبي كتابة الأحرف اليونانية، حتى إذا أتقنها وعرف كيف يكتب هذا الشعار جعل يطوف في القرية ويكتب على كل دار من دورها وعلى المسجد والكنيسة هذه الكلمات: الحرية أو الموت. ثم يرسل إلى أترابه الشيوخ الذين أبلوا مثله في حرب الترك حتى اجتمعوا حوله، أمر فمُدت لهم الموائد وطعموا حتى أسرفوا في الطعام وشربوا حتى أسرفوا في الشراب، ثم دعاهم إليه فأحاطوا بفراشه في صحن الدار وفي ظل شجرة من شجرات الليمون، فلما أطافوا به أنبأهم بأن الموت مسرع إليه، وبأنه يريد أن يعلم حقيقة يلقى بها الموت، فلما سألوه عن هذه الحقيقة قال لهم: أريد أن أعلم من أين جئنا وإلى أين نمضي! وحار الشيوخ في هذا السؤال وتكلموا فأكثروا، ولكنهم لم يبلغوا مما أراد شيئًا، ولكن أحدهم — وهو المعلم الشيخ — أخذ قيثارته وجعل يعزف عليها، وإذا الموسيقى تملك على الشيخ المحتضر أمره وتلهيه عن الحياة والموت جميعًا، وإذا نفسه تفيض في دعة وأمن وسلام.
قلت في أول هذا الحديث: إن القصة أروع ما قرأت في العام كله. وأقول في آخر هذا الحديث: إني أتمنى أن أرى هذه القصة مترجمة إلى العربية ليقرأها كل الذين يستطيعون أن يقرءوها، وليست ترجمتها عسيرة؛ ففي مصر قلة يحسنون اليونانية الحديثة ويستطيعون أن يترجموا عنها في دقة وصدق وإتقان، فليتهم يفعلون.