بين القصرين
فقد أتيحَ له في هذه القصة الرائعة البارعة نجاحٌ ما أرى أنه أتيحَ له مثله منذ أخذ المصريون ينشئون القصص في أول هذا القرن.
ولكن الأدب المعاصر كغيره من الآداب على اختلاف عصورها وكغيره من الإنتاج العقلي؛ شيء نفهمه نحن ولا يفهمنا، ونقدره نحن ولا يقدرنا، ونشعر نحن بما يتاح له من نجح وما يُفرض عليه من إخفاق ولا يشعر هو برضانا عنه أو سخطنا عليه.
فلْأقدِّمْ تهنئتي إذنْ كأصدق وأعمق ما تكون التهنئة إلى كاتبنا الأديب البارع نجيب محفوظ، ولْأقدِّمْها إليه بلا تحفُّظ ولا تحرُّج؛ فهو جدير بها حقًّا لأنه أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة، ومن العمق والدقة، ومن التأثير الذي يشبه السحر؛ ما لم يتحه لها كاتب مصري قبله.
وما أشك في أن قصته هذه «بين القصرين» تثبت للموازنة مع ما شئت من كُتَّاب القصص العالميين في أي لغة من اللغات التي يقرؤها الناس.
وما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الأربع وتقرؤها منذ تبدأ إلى أن تنتهيَ فلا تُحس بها ضعفًا، ولا تشعر فيها بفتور في أي موقف من مواقفها، ولا تثير فيك إحساسًا بأن الكاتب على إطالته قد أدركه شيء من الإعياء أو أصابه شيء من التراخي أو ناله ما ينال الكُتَّاب المطولين من هذا الجهد الذي يدعو إلى شيء من الراحة والتنفس في ذلك.
بل ما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الأربع، وتقرؤها أنت فلا تشعر في أي وقت من أوقات القراءة بالحاجة إلى أن تستريح منها إلى غيرها من الكتب، أو تستريح من القراءة إلى غيرها من ألوان العمل، وإنما يتجدد نشاطك إلى المضي في قراءتها دون أن يجد الملل أو السأم أو الضعف أو الفتور إلى نفسك سبيلًا، وأنت جدير أن تأخذ في قراءتها فلا تدعها حتى تُتمها لولا أن ظروف الحياة تَحُول بينك وبين ما يجب من ذلك، وتَضطرك إلى الوقوف لتأتيَ عملًا لا تستطيع تأجيله أو تقرأ شيئًا لا سبيل إلى إرجاء قراءته.
ثم أنت لا تكاد تفرغ من هذا العمل الذي صرفك عنها حتى تعود إليها مدفوعًا إلى هذه العودة دفعًا لا تستطيع مقاومته ولا الامتناع عليه.
بل أنت لا تفرغ من هذه القصة لتنصرف عنها إلى غيرها من فنون القراءة وألوان العمل، وإنما أنت مضطر إلى أن تفكر فيها تفكيرًا طويلًا متصلًا، وربما أخذت فيما يجب أن تأخذ فيه من أعمالك وقراءاتك واضطربْت فيما يجب أن تضطرب فيه من شئون الحياة، ولكنك ترى نفسك بين حين وحين مضطرًّا إلى أن تعود إلى التفكير فيها والإعجاب بها والثناء عليها بينك وبين نفسك، والتحدث عنها إلى الناس حين تلقى الناس.
تقف بعقلك وقلبك عند هذا الموطن من مواطنها أو هذه الصورة من صورها فلا تكاد تتحول عنه إلا لتقف عند موطن آخر أو صورة أخرى.
وقد يمضي الوقت الطويل بعد فراغك من قراءتها، وإذا أنت على ذلك تعود إليها فترى أنك لم تنسَ منها شيئًا؛ لأن قراءتك الأولى لها قد ثبَّتت أحداثها وصورها وأحاديثها في نفسك تثبيتًا.
بهذا كله شعرتُ أنا، وبهذا كله شعر غيري من القلة الذين لقيتهم وتحدثت إليهم عنها فإذا هم قد قرءوها وتأثروا بها كما تأثرت، وقدَّروها كما قدَّرتها، وأحسوا من روعتها مثل ما أحسست، وألحت على عقولهم وقلوبهم كما ألحت على عقلي وقلبي.
ومصدر هذا كله — فيما أرى — أن الكاتب يحقق في هذه القصة تحقيقًا رائعًا خصلتين يبلغ بهما الأثر الأدبي أقصى ما يُقدَّر له من النجح؛ وهما الوحدة التي لا تغيب عنك لحظة، والتنوع الذي يذود عنك السأم ويُخيِّل إليك أنك تحيا حياة خصبة حافلة مختلفة المظاهر والمناظر والأحداث.
فأنت تتنقل في كل هذه المظاهر والمناظر والأحداث لا كما يتنقل المتنزِّه في بستانٍ يختلف فيه الزهر والثمر والشجر، بل كما يتنقل الإنسان في حياة مضطربة لا يمر يوم من أيامها أو ساعة من ساعاتها إلا لقيه فيها حدث من الأحداث يُرضيه أحيانًا ويُسخطه أحيانًا، يثيره مرةً ويرده إلى الهدوء مرةً أخرى.
والقصة اجتماعية بأدق معاني هذه الكلمة لأنها تصور بيئةً مصرية معينة في عصر بعينه من عصور هذا القرن، تصور بيئةً رجالها من التجار المترفين في الأحياء القديمة من القاهرة وفي أثناء الحرب العالمية الأولى وأعقابها، ونساؤها من المحصنات الغافلات المحجبات اللاتي لم يبلغن التطور الحديث بعدُ فلبثن محتفظات بعادات القرن الماضي في البيئات المصرية الخالصة، وشبابها مختلفون يمتازون بما يمتاز به الشباب في عصر من عصور الانتقال، منهم الجاد الذي لم يدركه خمود ولا خمول فهو طامع إلى أن يتعلم ويبلغ من التعليم أرقامًا كانت تتاح للشباب في ذلك العصر، ومنهم الكسل الذي لا يتجاوز الشهادة الابتدائية ويقنع بعمل كتابي في مدرسة النحاسين، وصبيتها من هؤلاء الذين عرفناهم أول القرن في تلك الأحياء القديمة في القاهرة يختلفون إلى المدارس كارهين لها حُرَّاصًا — مع ذلك — عليها، ويعبثون في الطريق بينها وبين الدار، ويتفكهون حين يتاح لهم ذلك بالوقوف عند بائع البسبوسة، وتأتلف عقولهم الناشئة من هذه الأحاديث المختلطة المتناقضة التي يسمعون بعضها من معلميهم في المدرسة ويسمعون بعضها الآخر من أمهاتهم إذا راحوا إلى الدور، ويؤلفون بين هذه المتناقضات مزاجًا لا هو بالجديد الخالص ولا هو بالقديم الخالص، وإنما هو شيء بين ذلك يُعجب ويروق. وبناتها معجبات غافلات أيضًا يتحرصن — مع ذلك — من اختلاس النظر بين حين وحين من ثقوب المشربيات إلى ما يجري في الشارع ومَن يمر فيه من الشباب. والأسرة التي اتُّخذت محورًا لهذه القصة تُقيم في ذلك الشارع القديم بين القصرين، رئيسها تاجر من تجار الحي قد جاوز الشباب ولم يبلغ الشيخوخة بعد، وهو أنيق مترف رائق المنظر والمظهر لا يكاد يخرج من داره حتى يكون صورة رائعة للترف والوقار أثناء النهار وصورة رائعة للعبث والمجون شطرًا من الليل، ولا يكاد يعود إلى داره حتى يكون صورة مروعة للجد والصرامة والحزم والتحكم ما أقام فيها.
وهو قد ملأ الدار وأهلها إعجابًا به وحبًّا له وخوفًا منه يبلغ الذعر والهلع … تحبه زوجه كل الحب وتَفْرَقُ منه كل الفَرَق؛ فهي خادم له تدعوه سيدها، وتسهر منتظرة عودته، وتضيء له طريقه إلى حجرته متى عاد؛ هي خادم ولكنها خادم عاشقة، وبناته وأبناؤه يسلكون طريق أمهم في الخوف والفَرَق والإعجاب والحب.
وله ابن من غير زوجته هذه خامد خامل وتعس بائس قنع يعمل في مدرسة النحاسين، وقد طُلقت أمه لسوء سيرتها، وهو يعلم ذلك حق العلم ويشقى به أشد الشقاء.
وهو يسلك طريق أبيه لا في الجد والنشاط ولا في الوقار والاحتشام، بل في العبث والمجون. وعلى هذه الأسرة تختلف أحداث الحياة هادئة مطردة أثناء الحرب، ثم عنيفة مضطربة حين تضع الحرب أوزارها وتشب الثورة ويُنفى سعد زغلول.
وقد قلت إن القصة اجتماعية لأنها تُصوِّر هذه الأسرة والبيئة التي تضطرب فيها وما يختلف عليها من صغار الأحداث وكبارها ما يُحزن منها وما يَسُر. ولكنَّ للقصة وجهًا آخر؛ فهي تاريخية بأدق وأعمق وأوسع وأبرع معاني هذه الكلمة، فلست أعرف قاصًّا صوَّر الثورة المصرية قي أعقاب الحرب العالمية الأولى كما صورها الأستاذ نجيب محفوظ.
صوَّرها حية كأقوى ما تكون الحياة، وصوَّرها متغلغلة في أعماق الشعب على اختلاف طبقاته مستأثرة بالقلوب والألباب مؤثِّرة في حياة العابثين والجادين جميعًا، وفي حياة الشيوخ والشباب والصبية جميعًا، مغيِّرة وجه الحياة المصرية تغييرًا تامًّا.
وصوَّرها بما فيها من جود الشباب بنفوسهم ودمائهم، وجود الشيوخ بأموالهم، وجود الأمهات والأخوات بأمانيهن ودعائهن.
وصوَّرها بما فيها من قسوة الإنجليز وبطشهم وغدرهم واستخفافهم بكل شيء وبكل إنسان وبكل أمانة، وانتهاكهم للحرمات وخروجهم عن طور المتحضرين.
صوَّر هذا كله أروع تصوير وأبرعه وأقساه، لا بالألفاظ الرائعة المنمقة بل بالأحداث التي تفطر القلوب وتمزق النفوس.
ولست أقف في هذا الحديث عند ما في القصة من هذه الصور الأخاذة الخلابة التي لا تُحصى؛ لأن هذا يُطيل الحديث أكثر مما تتحمل الجمهورية، بل أكثر مما تتحمل صحفنا السيارة في هذه الأيام.
لا أقف عند صورها الهادئة التي تُعجب وتَروق، ولا عند صورها المثيرة التي تملأ النفوس حزنًا وجزعًا أحيانًا وتملؤها إيمانًا وأملًا أحيانًا أخرى وتملؤها ثقة بمصر دائمًا؛ لأني — إن حاولت ذلك — لن أفرغ منه، وإنما أعيد ما قلته في أول هذا الحديث من أن هذه القصة هي أروع ما قرأت من القصص المصري منذ أخذ المصريون يكتبون القصص، ومن أنها تَثبت للموازنة مع ما شئت من القصص في أي لغة من اللغات التي يقرؤها الناس، وأضيف إلى ذلك أن روعة القصة لا تأتي من هذه الخصال التي أشرت إليها آنفًا فحسب وإنما تأتي من لغتها أيضًا؛ فهي لم تُكتب في اللغة العامية المبتذلة ولم تُكتب في اللغة الفصحى القديمة التي يشق فهمها على أوساط الناس، وإنما كُتبت في لغة وسطى يفهمها كل قارئ لها مهما يكن حظه من الثقافة ويفهمها الأميون إن قُرئت عليهم.
وهي مع ذلك لغة فصيحة نقية لا عوج فيها ولا فساد.
وقد تجري فيها الجملة العامية أحيانًا حين لا يكون منها بد فيحسن موقعها وتبلغ منك موقع الرِّضَى.
وأكبر الظن أن الأستاذ نجيب محفوظ قد وفى للجامعة التي تخرج فيها أصدق الوفاء وأقومه.
وفى لها بالعمل الصادق المنتج فأثبت أنها لم توجد عبثًا، وأنها لم تُخرج العلماء فحسب، وإنما أخرجت معهم الأدباء البارعين أيضًا، وأخرجت معهم أبرع القُصَّاص المصريين كذلك.
وكل شخصية في هذه دليل واضح قاطع على أن الأستاذ نجيب محفوظ قد انتفع بما سمع في كلية الآداب من دروس الفلسفة، لم يصبح فيلسوفًا ولا مؤرخًا للمذاهب الفلسفية وإنما أصبح فقيهًا بالنفس الإنسانية، بارعًا في تعمقها وتحليلها، قادرًا على أن يضع يد قارئه على أسرارها ودقائقها.
وحسبك بهذا كله نجحًا للجامعة ونجحًا لخريجها نجيب محفوظ.