دموع إبليس
ولِمَ لا يبكي إبليس؟! فالكاتب الأديب لا يُعجزه أن يُضحك الشياطين وأن يُبكيَهم ويفعل بهم الأفاعيل، وهو قادر كذلك على أن يُضحك الملائكة وأن يُبكيَهم ويُجريَ عليهم ما يشاء من الأحداث، وما أكثرَ ما استباح الأدباء لأنفسهم العبث بالملائكة والشياطين جميعًا! وإن كان كُتَّابنا من العرب قد تحرَّجوا من أن يفعلوا بالملائكة مثل ما يفعلون بالشياطين؛ لأن للملائكة شيئًا من التقديس يعصمهم في بيئاتنا من عبث الخيال.
أما الشياطين فقد تقدم الله عز وجل إلينا في أن نبغضهم ونبرأ منهم ونستعيذ من شرهم، ونلعنهم إن جال خاطرهم برءوسنا أو جرى ذكرهم على ألسنتنا، وهم يعبثون بالناس فما يمنع الناس أن يعبثوا بهم! والأدباء من الشعراء والكُتَّاب أقدر الناس على هذا العبث بهم، يعينهم على ذلك خيالهم القوي النفاذ وما أتيح لهم من قدرة على تصريف الكلام ومن قوة على أن يذهبوا به كل مذهب؛ فهم يصوِّرون الشياطين جادِّين حينًا وعابثين أحيانًا، يتخذون تصويرهم سبيلًا إلى الموعظة والعبرة، ويتخذون تصويرهم سبيلًا إلى التلهية والفكاهة، والأدب الشعبي بارع في العبث بالشياطين وفي العبث بالجن على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم. وأيسر القراءة في هذه القصص يبيِّن لك عن سبق هذا الأدب الشعبي إلى تسخير الجن لحاجة الإنسان، يأخذ ذلك مأخذ الجد حينًا ومأخذ اللهو أحيانًا، وقلما تخلو قصة من قصصنا الشعبية من أخبار الشياطين والجن على وجه عام.
ومن المعروف أن الأدب الشعبي قد جعل للعشق بين الجن والإنس سبيلًا، فما أكثرَ ما يحب رجال الجن ونساؤهم رجال الإنس ونساءهم، وربما أحب الإنسان جنية وتجشم في سبيلها الأهوال كما نرى في قصة حسن البصري من قصص ألف ليلة وليلة، وقد استقر في نفوس العامة أن الحجاب قد يُرفع بين الإنس والجن أو بين أفرادٍ من أولئك الجن وهؤلاء، وما أكثرَ ما كان العرب القدماء يتحدثون عن أولئك الجن الذين كانوا يتصلون بالكهان من رجال الإنس ونسائهم فيتحدثون إليهم بأنباء الغيب. وقد عُنيت الآداب الأوروبية بالجن أكثر مما عُني بهم أدبنا العربي؛ فكثر إنتاج الأدب الرفيع في اللغات الأوروبية المختلفة عما يكون بين الجن وبعض الناس من صلات، ولست في حاجة إلى أن أتحدث عن أسطورة فوست التي ألهمت نفرًا من أدباء الإنجليز والألمانيين أدبًا ممتازًا، والتي انتهت إلى هذه الآية العالمية المعروفة من آيات الشاعر العظيم جوته، والتي لم تقف عند الإنتاج الأدبي وحده ولكنها تجاوزته إلى الموسيقى فأحدثت فيه آيات رائعة. ومنذ عرف الناس من الديانات السماوية أمر الشيطان وما كان من معصيته لله وطرده من جنته تأثروا بهذا الشيطان في آدابهم وفنونهم على اختلافهم. وأثرُ الشياطين في إنتاج المصورين والمثَّالين خاصةً أظهر وأشهر من أن نحتاج إلى ذكره أو الخوض فيه.
وآخر ما قرأته من الأدب الرفيع المتصل بالشيطان في الإنتاج الأوروبي كتاب غريب ألفه الكاتب الإيطالي المعروف الذي تُوُفِّيَ منذ وقت قريب وهو ياييني، وهو كتاب أشبه بالدراسة الدينية منه بالأدب الخالص. درس فيه الكاتب رأي الأمم المختلفة في الشيطان وتصوير الديانات كلها له وحكمها عليه، ثم انتهت به دراسته الطويلة الممتعة إلى أن الشيطان سيظفر بمعزة الله له ورضاه عنه. وقد حظرت الكنيسة بالطبع على المؤمنين من الكاثوليك قراءة هذا الكتاب، ولكن الناس على ذلك قرءوه وأكثروا القول فيه. وقد عُني أدباؤنا المحدثون بالشيطان فصوَّروه صورًا مختلفة فيها الجد وفيها العبث.
والغريب أن توبة الشيطان وطموحه إلى مغفرة الله ألحَّت على بعض كُتَّابنا في نفس الوقت الذي ألحَّت فيه على الكاتب الإيطالي الذي أشرت إليه آنفًا.
فالأستاذ سعيد العريان يصوِّر طموحه إلى التوبة وعجزه عنها بأن امرأة غلبته على أمره، والأستاذ توفيق الحكيم يصور الشيطان طامعًا في التوبة مُلحًّا فيها مبتغيًا إليها الوسائل، ولكن أئمة الديانات السماوية يأبونها عليه لأنهم لا يملكون قبولها منه وهو يرقى إلى السماء فيرد عنها لأن القضاء قد سبق بأن مكانه ليس فيها، وذلك في قصة الشهيد. والأستاذ تيمور يصوِّر مكره ودهاءه وعجزه مع ذلك عن أن يتفوق على الإنسان في بعض الأحوال، وذلك في قصة أشطر من إبليس. أما الأستاذ فتحي رضوان فإنه لا يُفكر في شيء من هذا ولا يسلك سبيله إلى شيء يشبهه، وإنما يُجري على الشيطان ما يُجري على الإنسان من أحداث الحياة، ويجعله بطلًا للصراع بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة، وأنت تقرأ القصة فلا تجد فيها رمزًا ولا إيماءً، وإنما تجد فيها تصريحًا واضحًا كل الوضوح منذ تبدأ القصة إلى أن تفرغ منها؛ فالأشياء مُسمَّاة بأسمائها، والأشخاص مُسمَّون بأسمائهم، والأحداث تقع في أرض يسكنها الناس ويشقَوْن فيها ويسعدون ويُحسنون فيها ويُسيئون، وأنت تستطيع أن تضع هذه الأرض حيث شئت من بلاد الله، تستطيع أن تتخيلها في مصر لأن الأسماء أمامك كلها عربية ولأن البيئة تشبه بيئاتنا المصرية في القرى، وتستطيع أن تتخيلها في بلد آخر لأن الشقاء والسعادة والغنى والفقر والنعيم والبؤس؛ كل ذلك يعرض للناس حيث يكونون، ومع ذلك فأنت تشعر أثناء القراءة بأن أحداث القصة تقع في عالم آخر قريب من الأرض ولكنه بعيد عنها يوشك أن يكون فيها، لولا أن هؤلاء الأشخاص الذين يذهبون ويجيئون ويختصمون ويتفقون يحيط بهم شيء من الغرابة يدنيهم منك وينئيهم عنك فهم بين بين؛ وهذا أول ما يرضيك عن هذه القصة لأنه يخرجك من الأطوار المألوفة للناس دون أن يبعدك عنهم، فأنت حين تقرؤها تُوشك أن تكون في شيء يشبه الحلم وإن كان أدنى إلى الحق منه إلى الحلم، ولست أدري كيف يكون موقع هذه القصة من النظارة المصرية لو عُرضت عليهم ممثَّلة تمثيلًا متقنًا كل الإتقان، أيصبرون عليها أم يقصرون عن المضي معها إلى آخرها.
ذلك أن القصة صارمة صرامة متصلة لا يكاد الضحك أو الفكاهة يلمان بها إلا قليلًا، وصرامتها تأتيها من أن كاتبها يفلسف كل شيء ويفلسف كل كلمة من كلماتها؛ فموضوعها نفسه فلسفي وهو الصراع بين الخير والشر في حياة الإنسان والشيطان جميعًا، وحوارها فلسفي منذ يبدأ إلى أن ينتهيَ لا يعرض لما يعرض للطبيعة ولا لفلسفة العلم، ولا يبعد عن الناس ولكنه قريب منهم عسير عليهم؛ فهو تحليل دقيق صادق فيه كثير من الروعة، ولكن من هذه الروعة الصارمة التي لا تحب لعبًا ولا تندُّرًا في تحليل دقيق صادق رائع لأعمال الناس وأخلاقهم، وما يجول في نفوسهم من خواطر وما يضطرب في قلوبهم من عواطف، وفي هؤلاء الأشخاص سادة وخدم وفيهم أغنياء وفقراء وفيهم مثقفون وجاهلون، ولكنهم على ذلك يفهم بعضهم عن بعض وكلهم يتكلم بالحكمة حتى حين يعبث، وهم متساوون فيما بينهم لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بهذه الأعراض التي تفرق بين السعيد والشقي؛ والحب هو الموضوع الذي يقف عنده الكاتب فيحلله أدق تحليل وأعمقه ويخلع عليه أخص صفاته وأقواها، وهي أنه يتسلط على القلوب جميعًا؛ قلوب الأغنياء والفقراء والقادرين والعاجزين والآملين واليائسين، بل يتسلط على الإنسان والشيطان يُشقي كليهما غالبًا ويُسعد كليهما أحيانًا ويورِّط كليهما في الإثم حين يريد ويرفع كليهما إلى الإيثار حين يريد أيضًا، والبر يأتي بعد الحب في المنزلة فهو ماثل أمامك في القصة منذ تبدأ إلى أن تنتهي.
هذه الفتاة حسناء بارعة الجمال؛ جمال الجسم وجمال النفس أيضًا، لا يراها أحد إلا فُتن بجمالها الرائع للنظرة الأولى، وهي خيِّرة أو قُل إنها الخير الخالص لا يصدر عنها إلا الإحسان في كل ما تعمل وكل ما تقول، هي مَلَك من السماء أُهبط إلى الأرض ليملأها برًّا وعطفًا وإحسانًا، وهي تحب الناس جميعًا وتريد أن تبرهم جميعًا وتبلغ من ذلك شيئًا كثيرًا، وقد أحبها شخص في دارها يشبه الخادم ولكنه لا يكاد يتحدث إلى سادته حديث الخدم إلى السادة، بل هو يتحدث إليهم كأنه أحدهم وربما خافوا منه وأشفقوا من جده المر وفكاهته اللاذعة، وهو ترب هذه الفتاة قد وُلد في نفس اليوم الذي وُلدت فيه ودرج معها وشاركها في اللعب أثناء الصِّبا، وقد أحبها حين تقدمت بهما السن ولكنه كتم حبه كما يفعل اليائس، وأين هو منها وأين هي منه! وقد أقبل إلى هذه القرية ذات يوم شاب كريم وسيم لم يكد يلم بها حتى أحبه الناس ومالت قلوبهم إليه، وهو ظاهر التقوى عرف الناس منه ذلك فسمَّوْه ولي الله.
وهذا الشاب قد رأى الفتاة فأحبها، ولكنها ممتنعة عليه تنازعها نفسها إلى أن تستجيب له لولا أنها تُؤْثر الخير والطهر والنقاء؛ فهي أشبه بالقديسات منها بأمثالها من الفتيات، ولكن الشاب يلم بالدار ذات صباح ويخلو إلى الفتاة فيفتنها عن نفسها وعن البر بالناس والإحسان إليهم وعن الطهر والنقاء جميعًا، وإذا هي تستسلم له ساعةً من نهار أو ساعةً من ليل، ولا تكاد تثوب إلى نفسها بعد ذلك حتى يأخذها ندم عنيف يصرفها عن هذا الشاب صرفًا، ويشغلها مع ذلك عما ألفت وألف الناس من برها بهم ورعايتها لهم؛ فهي تنفق حياتها في ذهول متصل حتى أنكرها أبوها وأنكرها أهل الدار، وفطن الخادم الذي أشرت إليه آنفًا لأمرها فأزمع قتل هذا الشاب.
وليس هذا الشاب إلا إبليس نفسه قد أقبل على هذه القرية ضيقًا بإحسان هذه الفتاة في أكبر الظن مزمعًا أن يصرفها عنه، فلم يكد يراها من قريب حتى ملكت عليه أمره فأحبها وكان بينهما ما كان.
وهو الآن يرى ندم هذه الفتاة بعد كبوتها فيألم له، ثم يشاركها في الندم، ثم يسيطر الندم عليه فيأتي إليها تائبًا مستغفرًا ملتمسًا منها العفو والرِّضَى، ولكنها تزجره وترده أعنف الرد وتنبئه بأنها حامل وبأنها لن تعيش بعد هذه الخطيئة فيجثو أمامها متوسلًا، فإذا أبت عليه وأيأسته من العفو ذرف دموعه ندمًا وحسرة؛ فبكى الشيطان لأول مرة!
ويمضى بعد ذلك عشرون عامًا يتغير أثناءها كل شيء، ونحن على شاطئ النهر حيث طائفة من الرعاة يسمعون لعازفٍ منهم على الأرغول، وإذا شيخ ضرير مقبل يقوده شيخ مثله تقدمت به السن ولكنه مبصر، فأما الشيخ الضرير الهرم فهو أبو تلك الفتاة، وقد كنا نراه في أول القصة رجلًا قويًّا جلدًا شديد النشاط فيه كثير من مرح ودعابة، وإن كان قد مر بمحنة أذاقته مرارة الحزن اللاذع المضني حين فَقَدَ زوجه، وهو الآن محطم منهار تعاونت عليه الأحداث والسنون وألح عليه الضر والأسى، وأما الشيخ المبصر الذي يقوده فهو أحد خادمَيه اللذين كنا نراهما أول القصة مرحَين فرحَين يملآن الدار من حولهما مرحًا وفرحًا وفكاهة، والشيخ الضرير يقول لخادمه أظننا قد بلغنا الموضع، يريد الموضع الذي ألقت منه ابنته نفسها في النهر، قد دلَّه قلبه الممزق على هذا المكان من الشاطئ، وما أسرعَ ما نعلم أن ابنته تلك قد منحت الحياة منذ عشرين سنة طفلًا تركته لخادمتها أم السعد، ثم ألقت نفسها في النهر متعجلة لقاء الموت حزنًا وندمًا وبغضًا لهذه الحياة التي امتُحنت فيها بلقاء الشيطان! ونحن لا نعرف لابنها اسمًا، ولكن الكاتب يسميه ابن الشيطان. وقد شب ابن الشيطان هذا حتى بلغ العشرين، والغريب أنه لم يَرِثْ عن أبيه شيئًا وإنما ورث عن أمه كل شيء؛ فهو مثلها نقي أشد النقاء مُؤْثر للخير ناشر للإحسان من حوله قد مُنح من رقة القلب ودقة الشعور وصفاء العقل وكمال الخُلق ما لا عهد للشيطان بمثله، كأنما هو مَلَك كأمه قد هبط إلى هذه القرية ليملأها برًّا وحبًّا وإحسانًا.
والناس يألفونه كما كانوا يألفون أمه من قبل، ولكنهم لا يعرفون له أبًا ولا أمًّا؛ لأن مولده قد ظل سرًّا مكتومًا لم يتجاوز جده وأمه. وهو إذا أصبح غدا على القرية فواسى المحزون وأنجد المكروب وأعان الناس على نوائب الدهر، وجده حريص على أن يراه وعلى أن يتحدث إليه ويكاشفه بسره ويظهره من أمره ومن أمر أمه على كل شيء، ولكن الشياطين من ناحية أخرى ضائقون بهذا الفتى الذي سيطر بحبه على هذه القرية، فكف عنها شرهم وملأها برًّا وحنانًا ومعروفًا وهم يأتمرون به ويكيدون له ويريدون أن يخلصوا منه كما يريد الشياطين أن يخلصوا دائمًا من الأخيار الأبرار، ولكنهم لا يقدرون عليه؛ لأن كبيرهم يردهم عنه ويصد عنه بأسهم، وهم على ذلك يجدُّون في المكر والحيلة ولا يتحرَّجون من أن يخالفوا عن أمر كبيرهم في شيء من الاستخفاء عنه إن أمكن الاستخفاء عن كبير الشياطين، وهم يغرون به امرأة فاتنة لعوبًا ممعنة في الفتنة واللعب قد جرَّبت إغراء الشباب والكهول وإغواءهم، وقد أقبلت هذه المرأة على الفتى من المدينة تريد أن تصيده وتُغويَه كما أغوت أمثاله، ولكنها لا تكاد تراه وتعرف طرفًا من أمره حتى يمسها طائف من النزوع إلى التوبة والتكفير عن سيئاتها التي لا تُحصى، وهي مستيئسة من الرحمة، ولكن الفتى يرد إليها الأمل وإذا هي تخرج من الدنيا التي عرفتها وتريد أن تبرأ من آثامها، فتلقي عنها كل وسائل الإغراء لا تبتغي إلا أن تتبع هذا الفتى الخيِّر وتعاونه على بعض ما يبذل من الجهد، ويشتد بذلك ضيق الشياطين فيخلصون إلى كبيرهم نجيًّا، ويجرؤ بعضهم — بعد تردد شديد — على أن يباديَه بالشكوى من إحسان هذا الفتى وصدهم عن هؤلاء الناس من أهل القرية، وعجزهم عن أن يبلغوا منه بعض ما يريدون؛ لأنه يشمله بحمايته ويخالف عن طبيعة الشياطين وقوانينهم، فيحمي الخير ويخلي بينه وبين نفوس الناس، وكبيرهم يفاوضهم ويستجيب لهم آخر الأمر لأنه حاول من قبل أن يعرف هذا الفتى ويتقرب إليه، فلم يجد منه إلا الإعراض الذي لقيه من أمه لا لأن الفتى أظهر له هذا الإعراض، بل لأن قوة خفية ردته عن هذا الفتى ردًّا، وقد صرف إبليس شياطينه واستبقى منهم واحدًا فوَّض إليه التخلص من هذا الفتى بعد جهد أي جهد. وما أسرعَ ما يمضي هذا الشيطان إلى غايته يتخذ الحقد وسيلة إليها يلم برجل بائس حاقد على الناس جميعًا وعلى هذا الفتى الذي يحسن إليه كلما رآه فيغريه بالذهب يدفع إليه طائفة حسنة منه ويُمنِّيه بمثلها إن قتل هذا الفتى، والرجل خائف متردد ولكن الشيطان يلح في الإغراء ويهوِّن عليه الأمر ويؤمِّنه من عواقبه، وهذا هو البائس يمضي أمامه والشيطان يتبعه حتى إذا بلغ ذلك المكان الذي يخلو فيه الفتى على شاطئ النهر وجده جالسًا في ظل شجرة كبيرة ينتظر بعض القادمين عليه، أو قُل ينتظر أن يُقدِم عليه القضاء فيُلحقه بأمه، وهذا البائس يستدبر الفتى ويطعنه في ظهره فيصرعه ويمضي لوجهه، ويُقدِم جده الشيخ فلا يرى حفيده حيًّا، وإنما يراه قد فارق الحياة دون أن يعرف من سرِّ أمه شيئًا.
ولا يكاد الشيخ وقائده يفرغان لحزنهما حتى تُقدِم تلك الحسناء التي تابت وآثرت سر الفتى على نعيم الدنيا ولهوها وهم يتناجون، ولكن أهل القرية قد تسامعوا بالنبأ فأخذوا يهرعون من كل مكان ليشهدوا مصرع ابنهم وأخيهم، ويأمر الشيخ بأن يُحمل القتيل ليُعاد به إلى الدار، ثم يظهر كبير الشياطين باكيًا ممعنًا في البكاء، ويظهر الشيطان الذي أغرى بقتل الفتى، فإذا رأى كبير الشياطين منتحبًا أخذه عجب أي عجب وهو يسأل رئيسه: أتبكي؟! أهذه حقًّا دموع؟! أتلك دموع إبليس؟!
فيجيبه إبليس: هذه أول دموع لإبليس … عرفها حينما عرف الحب، ولكنه لن يعرف الحب بعد الآن، ولن يرى الناس لإبليس دموعًا بعد اليوم.
وكذلك تنتهي هذه القصة الممتعة التي لم ألخص لك منها إلا أيسرها، ولم أحاول أن أعرض عليك بعض ما فيها من هذا الحوار الفلسفي القيِّم؛ لأني آثرت أن تخلوَ إليه ساعة من نهار أو ساعة من ليل كما خلوتُ أنا إلى القصة فلم أنصرف عنها حتى أتممتها.
والقصة رائعة اللفظ قد كُتبت في لغة عربية رائقة لولا هنَّات تعترضك هنا وهناك، ولكنها قليلة الخطر وإن كنت أحب للكاتب أن يبرأ من أمثالها. وأنا بعد ذلك أهنئ الكاتب بإتقانه وإمتاعه، وما أشك في أن قُرَّاءه سيشاركونني في هذه التهنئة، وفي تهنئته بشيء آخر وهو أن أعباء الوزارة لم تَحُلْ بينه وبين هذه اللحظات الخصبة التي يسعد فيها الإنسان بالخلوة بين حين وحين إلى القلم والقرطاس.