نشأة الكوميديا في مصر
من المعروف أن مصر عرفت المسرح في شكله الحديث — المتعارف عليه — من خلال الحملة
الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، حيث أقام دارجيافل
DARGEAVEL ناديًا اجتماعيًّا لجنودها في أحد المنازل بالأزبكية
بالقاهرة، من أجل الترفيه عنهم.
١ وبعد فترة وجيزة، تكونت جمعية للتمثيل من أعضاء هذا النادي، ومثلت — على
مسرح النادي
٢ — مسرحيتين كوميديتين لفولتير وموليير في ديسمبر ١٨٠٠.
٣
وفي يناير ١٨٠١ مثلت الجمعية أوبريت المحامي
باتلان والطحانين
L’AVOCAT PATELIN ET LES DEUX
MEUNIERS تأليف بالزاك
BALZAC وتلحين ريجيل
RIGEL. ويدور
هذا الأوبريت حول حوادث كوميدية — ممزوجة بالألحان الموسيقية — يفتعلها منافس في الحب
للإيقاع بين حبيبين. وكان كل مشهد كوميدي ينتهي بأغنية مرحة. وقد شاهد هذا الأوبريت عدد
كبير من الوجهاء والأتراك في القاهرة.
٤
ولعل الجبرتي كان أحد الوجهاء المشاهدين لهذا العرض، فكتب إشارته الشهيرة، عندما
تحدث
في تاريخه — عن حوادث شهر شعبان، وتحديدًا يوم ١١ منه عام ١٢١٥ﻫ، الموافق
٢٩ / ١٢ / ١٨٠٠ — قائلًا: «وفيه كمل المكان الذي أنشآه بالأزبكية عند المكان المعروف
بباب الهواء، وهو المُسمى في لغتهم بالكمدي. وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليالٍ
ليلة واحدة، يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم، بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع
ساعات من الليل، وذلك بلغتهم. ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.»
٥
وهذه الأخبار تشير إلى أن عروض المسرح في تلك الفترة، لم تكن قاصرة على جنود الحملة
فقط، بل كان يشاهدها نخبة من المصريين. هذا بالإضافة إلى أن هذه العروض كانت في معظمها
عروضًا كوميدية موسيقية. ولعل الترفيه المضحك كان سمة في احتفالات القصور الحاكمة في
مصر بعد ذلك. حيث تمدنا بعض الوثائق في عهد سعيد باشا، وتحديدًا في يناير وفبراير ١٨٥٨،
بأنه أراد أن يقيم حفلة بالقلعة، فطلب من كنيك بك أن يحضر له جماعة تقوم بألعاب
بهلوانية من أجل الترفيه والإضحاك.
٦
وفي عهد الخديوي إسماعيل باشا، تمت إجراءات كثيرة لتحسين وتطوير منطقة الأزبكية،
حيث
تم إنشاء كُشك للموسيقى بمعرفة موسيو باكش، وكذلك إنشاء مقاهٍ عديدة لسماع الأغاني، مع
بعض التياترات الصغيرة لتقديم بعض العروض الترفيهية، وكل ذلك تم تحت إدارة المهندس
الفرنسي قورديه بك.
٧ وكان من أهم هذه المنشآت مسرح الكوميدي الفرنسي بالأزبكية بإدارة مسيو منسى
عام ١٨٦٨، وكان مخصصًا للعروض الكوميدية الفرنسية. كذلك كان السيرك الذي افتُتح عام
١٨٦٩ بإدارة الخواجة تيودور رانسي، وكان مخصصًا للألعاب البهلوانية وتمثيل البانتومايم
من أجل الإضحاك والترفيه.
٨ وهذا يعني أن العروض الكوميدية هي أول عروض مسرحية يشاهدها الجمهور المصري
في ذلك الوقت.
ومع افتتاح دار الأوبرا الخديوية في نوفمبر ١٨٦٩، تغير الحال وأصبحت العروض الكوميدية
في المرتبة الثانية، بعد أن احتلت عروض الأوبرا المرتبة الأولى. تلك العروض التي اعتمدت
على الموضوعات العالمية الكلاسيكية، مثل: ريجوليتو، سميراميس، عائدة، فاوست.
٩ ولعل التشوق إلى الكوميديا كان من نصيب طلاب المدارس، حيث قام طلاب مدرسة
العمليات المصرية — أي مدرسة الهندسة — بتمثيل مسرحية أدونيس أو الشاب العاقل المجتهد
في تحصيل العلم الكامل عام ١٨٧٠. وهي مسرحية كوميدية الغرض منها إظهار قيمة العلم، وقد
ألفها باللغة الفرنسية الأستاذ لويس فاروجيه مدرس اللغة الفرنسية بالمدرسة، وقام
بتمثيلها الطلاب: محمد فهيم، محمد رشاد، أحمد شوقي، أحمد عبد الوهاب أنسي، نيازي أفندي،
نديم أفندي، محمد وهبى، محمد فاضل، شاكر أفندي.
١٠ وهؤلاء الطلاب هم أول هواة مارسوا التمثيل الكوميدي في مصر.
وفي عام ١٨٧١ كتب محمد عثمان جلال
١١ أول كتاب يحمل مجموعة من المسرحيات الكوميدية باللغة العامية في تاريخ
المسرح المصري، وهو كتاب «النكات وباب التياترات». ولكن لسوء الحظ لم تصلنا من هذا
الكتاب إلا بعض صفحات من مسرحيته الأولى، وكانت بعنوان «الفخ المنصوب للحكيم المغصوب»،
وهي تعريب لمسرحية موليير الشهيرة «طبيب رغم أنفه».
١٢
وفي عام ١٨٧٦ جاءت من لبنان أول فرقة مسرحية عربية محترفة إلى مصر بقيادة سليم خليل
النقاش — رائد المسرح العربي في مصر
١٣ — ومثلت بالإسكندرية مجموعة من
المسرحيات الكلاسيكية المترجمة والمعربة والمؤلفة، مثل: «مي وهوراس»، «عائدة»، «هارون
الرشيد»، «السليط الحسود»، «الكذوب». ولكن بعد أشهر قليلة ترك سليم الفرقة واتجه إلى
الصحافة؛ ليتولى قيادتها من بعده يوسف الخياط، الذي أدخل المسرحيات الكوميدية إلى
برنامج فرقته، مثل مسرحية «الجبان» التي مثلها في مارس ١٨٧٨ بتياترو زيزينيا بالإسكندرية.
١٤ وعندما مثلت الفرقة — في أكتوبر من العام نفسه — المسرحية الكلاسيكية
«الأخوين المتحاربين» — وهي معربة عن مسرحية لراسين — اختتمتها بتمثيل رواية مضحكة ذات
فصل واحد.
١٥
ولعل عنصر الكوميديا كان مطلوبًا في ذلك الوقت، بل يُعتبر ورقة رابحة في يد مَن
يمتلكها، وربما فطن إلى أهمية هذا العنصر المسيو لاروز — أمين مخازن التياترات — عندما
تقدم بطلب إلى مجلس النظار — مجلس الوزراء — لأخذ امتياز الأوبرا لموسم ١٨٨١ / ١٨٨٢،
وتعهد في طلبه هذا — في حالة موافقة المجلس — أن يقدم في هذا الموسم مسرحيات كوميدية
فرنسية وفودفيل وأوبريت.
١٦ وبسبب هذا التعهد حصل لاروز على امتياز الأوبرا، وفاز على منافسه موسى بك —
المدير السابق لمصلحة البريد — الذي تعهد بتقديم روايات إيطالية، وبعض حفلات الباللو،
وعشر أوبرات جديدة. ولكن مجلس النظار فضَّل الكوميديا على الموضوعات الكلاسيكية، ليتبين
لنا أن الكوميديا كانت مطلوبة في ذلك الوقت، وكانت ورقة رابحة بالفعل. وحدث الأمر نفسه
في الموسم التالي ١٨٨٢ / ١٨٨٣ عندما وافق مجلس النظار على اقتراح المسيو بارفه الفرنسي،
الذي تعهد بتقديم مجموعة عروض من الأوبراكوميك والأوبريت، في مقابل رفض طلب أرنست
ويلكنسون الذي تعهد بتقديم الروايات التاريخية. لتنتصر الكوميديا مرة أخرى على
الموضوعات الكلاسيكية.
١٧
ومع توافد الفرق الشامية، أمثال فرقة سليمان الحداد وفرقة سليمان القرداحي وفرقة
أبي
خليل القباني وفرقة إسكندر فرح، بالإضافة إلى وجود فرقة — المصري — ميخائيل جرجس، ظهر
التنافس الفني بين هذه الفرق، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن
العشرين. وبدأت كل فرقة تبتكر أسلوبًا فنيًّا لجذب الجمهور إليها، فتنوعت أساليب الجذب
التي كانت تُقدم بين فصول المسرحية، أو في ختامها، ومنها: إلقاء الخطب والقصائد — من
قبل أشهر الكُتاب والأدباء أمثال المؤلف المسرحي والمحامي إسماعيل عاصم بك
١٨ — أو عزف القطع الموسيقية، أو إلقاء الأغاني المطربة، أو عرض فقرات سحرية،
أو ألعاب بهلوانية، أو فقرات للأراجوز أو لخيال الظل أو للأشرطة السينمائية.
١٩
وأهم أسلوب ثبت نجاحه في جذب الجمهور، كان أسلوب عرض الفصول المضحكة
٢٠ بين فصول عرض المسرحية الأساسية، أو في ختامها. وفي اعتقادي أن الفصل
المضحك يُمثل نشأة الكوميديا في المسرح المصري. حيث كانت كل فرقة تعرض الفصل المضحك بعد
نهاية المسرحية التاريخية أو المأسوية مثلًا، بوصفه نوعًا من الترفيه؛ لإضافة البسمة
على المشاهد، بعد تأثره من مشاهدة المآسي والحروب … إلخ الموضوعات المسرحية. وكفى بنا
أن نذكر رأي جريدة المقطم عندما قالت في عددها المؤرخ ١٣ / ٩ / ١٨٩٢:
مثَّل جوق إسكندر أفندي فرح مساء أول أمس رواية أوتلو الشهيرة، فأحسن
الممثلون التمثيل والإلقاء وخصوصًا ممثلَي يعقوب وروديرك. فإن الأول أدهش
العقول بما أبداه من التحايل والمكر، والثاني خلب القلوب بما أظهره من الصبابة
وإلهيام بصوته الشجي وإنشاده الرخيم. وقد خُتم التمثيل بفصل مضحك أذهب ما تركته
الرواية من أثر الحزن والكآبة؛ إذ هي من الروايات المشهورة بتأثيرها المحزن في
النفوس بين تآليف شكسبير الشاعر الإنكليزي الشهير.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلًا نجد الفصل المضحك «لا تنسى أن تقفل الباب» يُعرض
بعد
مسرحية «على الباغي تدور الدوائر»، وفصل «الصيدلي» يُعرض بعد مسرحية «محاسن الصدف»،
وفصل «السكران» يُعرض بعد مسرحية «حفظ الوداد»، وفصل «القرعة العسكرية» يُعرض بعد
مسرحية «عطيل»، وفصل «البخيل والسكران» يُعرض بعد مسرحية «أنس الجليس»، وفصل «نسيم»
يُعرض بعد مسرحية «فيدورا»، وفصل «اللصوص» يُعرض بعد مسرحية «الظلوم»، وفصل «أرسلته
خاطبًا لي فتزوج» يُعرض بعد مسرحية «السر المكنون»، وفصل «لا أتزوج ولو شنقوني» يُعرض
بعد مسرحية «الغيرة الوطنية» … وهكذا. ومن أشهر ممثلي هذه الفصول محيي الدين الدمشقي،
وجورج دخول الملقب بكامل الأوصاف أو كامل الأصلي، ونمر شيما، وعلي عبد الله، وحسين الإنبابي.
٢١
ووصل الاهتمام بالفصول المضحكة إلى حد تكوين فرق مسرحية تخصصت فقط في تقديم هذه
الفصول. ومن أشهر هذه الفرق الجوق الشامي لنقولا مصابني، الذي جاء إلى القاهرة عام
١٨٩٦، واستمر في التمثيل حتى عام ١٨٩٩. وكانت عروض هذا الجوق تُعرض على مسارح عديدة،
منها: إسكندر فرح بشارع عبد العزيز — وهو حاليًّا سينما أولمبيا بالعتبة — ومسرح
القباني بالعتبة، وتياترو ألف ليلة وليلة، وتياترو السكاتنج رنج. ومن الفصول المضحكة
التي مثلها هذا الجوق: «الأخ الخائن»، «الدب»، «القهوجي»، «الوزير الخائن»، «الجزائر»،
«أصلان بك»، «اللوكاندة»، «الطبيب واللوكاندة»، «الخاطبين»، «الوابور»، «الطبيب
والممرضة». وكان هذا الجوق يضم نخبة من ممثلي الكوميديا، أمثال: كامل الأوصاف، نمر
شيما، جرجي مصابني، جرجس مصابني، السيدة نظيرة.
٢٢
ومع بداية القرن العشرين، لوحظ أن عنصر الكوميديا بدأ في التراجع بسبب انتشار ونجاح
العروض التاريخية الكلاسيكية والمسرحيات المترجمة والمقتبسة والمعربة. أما الفصول
المضحكة فكادت الفرق المسرحية تتوقف عن تقديمها؛ لعدم وجود التنافس الفني بينها، حيث
لا
يوجد منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين — وتحديدًا حتى عام ١٩٠٥ — غير
فرقة واحدة احتكرت النجاح والشهرة لنفسها، وهي فرقة إسكندر فرح، بسبب وجود بطلها
ومطربها الشيخ سلامة حجازي. لذلك لم تلجأ هذه الفرقة إلى عرض الفصول المضحكة لجذب
الجمهور — بل استعاضت عنها في أحيان قليلة بعرض الأشرطة السينمائية التي انتشرت في ذلك
الوقت — حيث إنها في غير حاجة لذلك؛ لأن الجمهور يأتي إليها لسماع صوت الشيخ سلامة؛
ولأنها لم تجد منافسة تُذكر من قبل الفرق الأخرى، التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، مثل
فرقة القباني وفرقة سليمان الحداد وفرقة سليمان القرداحي، التي تركت العاصمة ولجأت إلى
الأقاليم تقدم فيها عروضها المسرحية.
٢٣
كما كانت هناك فرق وجمعيات تمثيلية أخرى، ولكنها كانت مغمورة، ولم تؤثر في نجاح فرقة
إسكندر فرح. ومن هذه الفرق والجمعيات: جوق إبراهيم حجازي، وجوق إبراهيم أحمد الإسكندري،
وجوق الاتفاق الوطني لمصطفى علي، وجمعية الاتحاد الأدبي، وجمعية المعارف، وجمعية
المساعي الخيرية، وجمعية الألفة الأدبية، وجمعية إحياء التمثيل بالإسكندرية، ومجتمع
التمثيل العصري.
٢٤ ولكن هذا الاحتكار لفرقة إسكندر فرح توقف عام ١٩٠٥، بسبب انفصال الشيخ
سلامة حجازي عن الفرقة، وقيامه بتكوين فرقة خاصة به، جمع معظم أعضائها من أعضاء فرقة
إسكندر، مما كان سببًا في ظهور التنافس الفني بين الفرقتين، خصوصًا أن إسكندر فرح ضمَّ
إلى فرقته المطرب الشيخ أحمد الشامي؛ ليكون بديلًا للشيخ سلامة.
٢٥
وهذا التنافس بين الفرقتين، أنعش فرقًا أخرى للدخول في مجال المنافسة — بعد أن يئست
من احتكار فرقة إسكندر في الماضي — مثل فرقة سليمان القرداحي، وفرقة إبراهيم حجازي،
وظهور سليمان الحداد مرة أخرى ضمن مجتمع التمثيل العصري، مع ظهور بعض الجمعيات
التمثيلية مثل المجتمع الأخوي، ومحفل الهلال الأدبي، وجمعية النهضة الأدبية، وجمعية
الناشئة العصرية. ومع ظهور كل هذه الأطياف المسرحية، عادت الفصول المضحكة مرة أخرى
لتمثل أسلوبًا مميزًا في جذب الجمهور، وكانت الفرقتان البارزتان في تنافسهما في عرض
الفصول المضحكة، هما فرقتا سلامة حجازي
٢٦ وإسكندر فرح.
٢٧ حيث مثلت الفرقتان فصولًا مضحكة، منها: «مَن جاءني في الليل»، و«البخيل»،
و«الشاعر والشيطان»، و«فتاة العصر»، و«المزين».