العلم والحريات العملية
(١) الحقيقة والحرية
من الشائع أن ينظر المفكرون إلى الحريات العملية — كحرية التعبير والتفكير وحرية الانتخاب، إلخ — على أنها غاية في ذاتها، فهم يتصورون أن هذه الحريات هدف ينبغي أن يسعى إليه الإنسان مهما تكن الظروف، ويعتقدون أن اكتساب الإنسان لها هو في ذاته ضمان لتحرره من حيث هو موجود متكامل.
على أنه يكفينا لكي نبين افتقار هذا الرأي إلى الصواب أن نشير إلى حقيقة واضحة، هي أن الحرية يمكن أن تكون أداة للظلم في حالة الضعفاء؛ فالحرية المطلقة حين تكون أساسًا للعلاقة بين عمال ضعفاء محتاجين إلى العمل من أجل قوت يومهم، وبين أصحاب أعمال يمكنهم في أية لحظة أن يستبدلوا بهؤلاء العمال غيرهم، لا بُدَّ أن تؤدي في نهاية الأمر إلى زيادة مركز هؤلاء العمال ضعفًا، وتنقلب إلى أداة لتأكيد عبوديتهم. وفي هذه الحالة تصبح القيود والضوابط التي تُفْرَض على الحرية، أداة لتحقيق المزيد من الحرية لا لتقييدها.
ولا جدال في أن العلم من أهم الضوابط التي تساعد على وضع الحريات العملية في نصابها، فعن طريق نشر المعرفة وتوفيرها لأكبر عدد ممكن من الناس، يستطيع العلم أن يضع الأسس الحقيقية التي لا يكون للحريات العملية بدونها قيمة، فجميع الحريات الديمقراطية — مثلًا — تكتسب قيمتها الكاملة حينما تعرف الجماهير الحقائق الأساسية عن الأمور التي يراد منها أن تصدر حكمها عليها، أو تشترك في اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، وبدون العلم لا يكون لحرية التفكير معنى؛ إذ إن المرء إذا لم يكن قد تعلم كيف يفكر فمن العبث أن يتوقع المجتمع منه أن يفيد من حرية التفكير، مهما يكن نطاق هذه الحرية. أما حرية التعبير، فماذا تعني بالنسبة إليَّ إذا لم أكن أعرف كيف أعبر عن نفسي، وإذا لم تكن لديَّ معلومات عن العالم أو عن المجتمع أو التاريخ؟ إن العلم — دون شك — هو الأساس الذي بدونه تكون الحريات المعروفة كلها نفاقًا أو كلامًا أجوف، والمعرفة في ذاتها سبيل إلى الحرية، سواء أكانت مقترنة باعتراف شكلي بالحريات أم لم تكن، إن «الحقيقة تحرر الإنسان»؛ لأن معرفة حقائق الأمور هي في ذاتها سبيل إلى تحرير الناس من ربقة الجهل ومن عبودية الخداع.
ولو تعمقنا هذه الفكرة الأخيرة؛ لاتضح لنا أن قدرًا كبيرًا من الجدل الذي يدور حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بالحريات العملية لا يمس — في واقع الأمر — صميم المشكلة الحقيقية؛ ذلك لأن لُبَّ الموضوع ليس الاعتراف الشكلي بهذه الحريات، وإنما هو ضمان الأسس التي يمكن بناءً عليها ممارسة هذه الحريات — عندما تتوافر — ممارسة سليمة، مثال ذلك: إن الصحافة التي توجد في بلد يعترف اعترافًا شكليًّا كاملًا بحرية الإعلام، ويحيط هذه الحرية بجميع الحصانات القانونية الممكنة، لا يمكن أن تسمي نفسها صحافة حرة إذا كانت مليئة بالأكاذيب، أو كانت تبدد وقت القُرَّاء سدًى في مهاترات أو تفاهات، ولو قارنت هذه الصحافة بأخرى في مجتمع لا يتشدق إلى هذا الحد بحرية الإعلام. ولكنه ينشر في صحافته قدرًا أكبر من الحقائق؛ لكان المجتمع الأخير — في واقع الأمر — أعظم حرية من الأول؛ إذ إن الحقيقة — كما قلنا — هي التي تحرر الإنسان.
ومع ذلك فإن العلم ذاته يُسْتَخْدَم في وقتنا الراهن على نطاق واسع ليكون أداة لتكبيل الإنسان بقيود خفية لا يكاد يشعر بها إلا صانعوها. ومن الغريب حقًّا أن نفس هذه الأداة — التي رأينا منذ قليل أنها الضامن الحقيقي لكل حرية يصبو إليها الإنسان — تتحول على أيدي كثير من الأخصائيين البارعين إلى وسيلة فعَّالة لصب عقول الناس في قوالب جامدة لا أثر فيها لأي نوع من الحرية، وإذا كان التسلط على العقول والسيطرة عليها بوسائل ذكية ظاهرة قديمة عرفتها البشرية منذ عهود بعيدة، فإن الجديد في عصرنا هذا هو أن هذه السيطرة تتم — بأكمل صورة ممكنة — على عقول تتوهم نفسها حرة، بل توقن يقينًا بأن كل ما تمليه عليها تلك القوى المسيطرة إنما صدر عن إرادتها الحرة ورغبتها الواعية.
والواقع أن أدوات السيطرة على العقول قد وصلت — في عصرنا الحاضر — إلى درجة عالية من الإتقان، ويكفي دليلًا على ذلك أن أشد الدول تعارضًا تستطيع أن تقنع شعوبها بعدالة قضيتها، وتجد كلٌّ منها بين شعوبها من يتحمس لهذه القضية تحمسًا كاملًا، مع أن من المستحيل أن تكون الدولتان اللتان تدافع كلٌّ منهما عن قضية مضادة لقضية الأخرى على حق في آنٍ معًا، وبعبارة أخرى: فإن معيار الحقيقة المطلقة — التي لا يختلف عليها اثنان — لم يعد ساريًا على الصراعات السياسية والأيديولوجية في عالمنا المعاصر، وأصبح من المألوف أن نجد خصمين يؤمن كلٌّ منهما عن اقتناع كامل بحقيقة مناقضة لحقيقة الآخر، دون أن يكون ثمة أمل في وصولهما إلى حل لهذا التناقض؛ ففي عالمنا أصبحت الحقيقة المزدوجة — وربما الثلاثية أو الرباعية الأطراف — أمرًا مألوفًا غير مستغرب. وليس لهذه الظاهرة من تعليل سوى القدرة الفائقة التي اكتسبتها أساليب التحكم في العقول في عصرنا الحاضر؛ إذ إن الحقيقة في أي موضوع واحد ستظل حقيقة واحدة مهما تغيرت الأزمان، والاقتناع الراسخ بحقائق متناقضة يعني أن هناك أساليب غير منطقية قد استُخْدِمَت من أجل بث يقين كاذب في ذهن أحد الطرفين على الأقل، إن لم يكن كليهما معًا.
وحسبنا أن نجول بأنظارنا في عالمنا المعاصر لنرى أمثلة لا حصر لها لظاهرة التحكم في العقول من أجل إقناعها بقضية كاذبة؛ ففي ألمانيا النازية سيق شعب كامل — له في العلم وفي الفن وفي الفكر تاريخ مجيد — إلى مجازر استنزفت منه ومن البشرية كلها أرواحًا وأموالًا لا حصر لها، واقتنع هذا الشعب —بالرغم من ماضيه المجيد هذا — بأشد الأساطير بطلانًا عن تفوق العنصر الآري وامتياز الأمة الجرمانية وسيطرة الرايخ الثالث على العالم لمدة ألف سنة، إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأكاذيب التي عانت الإنسانية كلها من أجلها ويلات وكوارث لا تُحْصَى، ولم يمض وقت طويل على انتهاء الحرب وزوال الغشاوة عن أعين الألمان؛ حتى أدركوا مدى الزيف الذي عاشوا فيه، وقبلوه عن طيب خاطر، وحاربوا وماتوا من أجله طوال اثنى عشر عامًا، بل إن بعضًا من مجرمي الحرب النازيين كانوا — خلال محاكمتهم — يعربون عن مشاعر ندم حقيقية، وحسبنا أن نذكر منهم «فرانك» وزير داخلية هتلر، وأحد كبار المسئولين عن المذابح النازية، فقد وصل ندمه إلى حد انتابته معه نوبة من الكآبة كان يستعجل معها إعدامه، وتضمنت أقواله شواهد سيكولوجية رائعة عن حالة التخدير العقلي التي كان الملايين واقعين فيها خلال الحكم النازي، والتي كانت تؤدي بهم إلى ارتكاب أفعال يستحيل أن يقرَّها المرء لو كانت لديه أدنى قدرة على التفكير الموضوعي.
وفي عصرنا الراهن نجد مثالًا صارخًا على عجز العقل البشري أمام سيل الدعاية الجارف في حرب فيتنام، حيث يُطْلَب إلى مئات الألوف من زهرة شباب الأمريكيين أن يموتوا في سبيل الدفاع عن نظام فاسد يحكم بلدًا تبعد عن بلادهم ألوفًا عديدة من الأميال، ومجرد استمرار الحرب حتى يومنا هذا دليل على أن نسبة غير ضئيلة من هؤلاء الشبان مقتنعون بهذه الحرب إلى الحد الذي يبرر — على الأقل — استمرارهم في القتال. ومع ذلك فإن معظم من يقعون منهم في الأسر، يدركون — بعد أن يزول عنهم أثر الدعاية المخدِّرة وتُعْرَض عليهم وجهة النظر المضادة — أنهم كانوا يحاربون من أجل قضية زائفة وخاسرة، ويُبْدُون ندمًا شديدًا على أفعالهم.
أما في عالمنا العربي، فإن الدعاية الصهيونية تقدم إلينا مثلًا صارخًا لما يستطيع التخدير المنظم للعقول أن يصل إليه من تزييف كامل لأهداف الناس وغاياتهم، فأشد الصهيونيين فهمًا لموقف بلاده لا يستطيع أن يأتي، دفاعًا عن هذا الموقف، إلا بحجج لا عقلية تنتمي في نهاية الأمر إلى مجال الانفعالات الساذجة، أو الأساطير التي عفا عليها الزمان، وبهذه الأساطير يخدع نفسه ويدَّعي لليهود حقًّا في بلد أقام فيه غيرهم طوال ما يزيد على ألفي عام. ومع ذلك فعن طريق الدعاية المنظمة والتربية المنحرفة للصغار؛ استطاع الصهيونيون أن يكوِّنوا لأنفسهم أنصارًا متحمسين بل متعصبين بين يهود العالم، وحاولوا — وما زالوا يحاولون — أن يزيفوا عقول أبناء طائفتهم من أجل دعم قضية لا شك في بطلانها.
في كل هذه الحالات، يقف العقل البشري عاجزًا أمام سيل الدعاية الجارف، الذي يستخدم أحدث الأساليب العلمية في تربية الصغار وتوجيه الكبار. وربما استطاع عقل ناقد لماح أن يقاوم تأثير هذه الدعاية حينًا من الدهر. ولكنه في نهاية الأمر يستسلم لها، وتنهار مقاومته — إلا في القليل النادر — أمام الإلحاح والتكرار المستمر، وأساليب الحض الظاهر والخفي، والإقناع المباشر وغير المباشر، والترويج للفكرة الكاذبة يوميًّا في الصحف والتلفزيون والإذاعة، وهكذا فإن الإنسان المعاصر — على الرغم من كل ما اكتسبه عقله من تعمق ناجم عن التقدم الهائل في العلم الحديث — لم يَعُد قادرًا على مقاومة التزييف الذي يُفْرَض عليه بطريقة علمية منظمة، فتكون النتيجة هي تلك الانحرافات الشنيعة في سلوك أمم بأكملها.
وإذا كان تأثير الدعاية ينصبُّ أساسًا على المواقف السياسية والأيديولوجية، ويزداد تركيزًا في أوقات الحرب والأزمات بالذات، فإن الإنسان الحديث يتعرض — بتأثير الإعلان — لنوع آخر من الخداع العقلي يمارس تأثيره في الحياة اليومية، ويؤدي بدوره إلى إضعاف مقاومة العقول وشل قدرتها النقدية؛ ومن ثَم إلى القضاء على جانب هام من جوانب حريتها؛ ففي كل يوم تنهال على الإنسان العصري — الذي هو ميال بطبيعته إلى الاستهلاك — مئات الإعلانات التي تهيب كلها بالعناصر اللاعقلية في طبيعته وتتوسل — من أجل بلوغ أغراضه — بسلطة شخص مشهور، أو بجاذبية فتاة جميلة، أو بإرضاء غرور قارئ الإعلان والمبالغة في تفخيمه وتعظيمه، وكلها وسائل تستهدف في نهاية الأمر تحطيم مقاومة العقل وإضعاف قدرته على النقد والتمييز بالإلحاح والتكرار الذي لا ينقطع.
مجمل القول إذن: إن العلم الذي لا تقوم للحريات العلمية بدونه قائمة، يمكن أن يكون هو ذاته أداة تؤدي إلى ضياع أعظم الحريات الإنسانية قيمة، ألا وهي حرية التفكير النقدي، والقدرة على الحكم المستقل على الأمور، ومن ذلك ننتهي إلى أن العلم وحده ليس ضمانًا كافيًا لتحقيق الحرية عمليًّا، وإنما ينبغي إلى أن العلم وحده ليس ضمانًا كافيًا لتحقيق الحرية عمليًّا، أنما ينبغي أن يقترن العلم بقيم إنسانية توجه ما ينطوي عليه من قدرات وإمكانات هائلة في الاتجاه الذي يضمن تحقيق أعظم قدر من التحرر للإنسان.
(٢) الحرية الشخصية والبحث العلمي
من الحقائق المعروفة أن البحث العلمي يحتاج لازدهاره إلى جو من الحرية يستطيع العالم فيه أن يجري أبحاثه وهو آمن على نفسه، واثق من أن النتائج التي سيصل إليها سوف تُقَدَّر تقديرًا موضوعيًّا لا أثر فيه للتعصب أو التحيز. وربما بدا من الغريب — لأول وهلة — أن بداية العلم الأوروبي الحديث كانت مقترنة بحوادث اضطهاد وقمع لحرية العلماء والمفكرين على نحو يخيل إلينا معه أن هذا العلم قد استطاع أن يشقَّ طريقه بفضل قدرته على مقاومة الكبت والقمع، لا بفضل ما كان يتاح له من الحرية، ومن ذلك فإن حوادث اضطهاد العلماء — التي أصبحت مشهورة في تاريخ العلم — لم تكن إلا بقايا عهود غابرة كانت تتشبث عن يأس بمواقع لم تعد مأمونة ولا مضمونة.
فصحيح أن جاليليو قد لقي اضطهادًا قاسيًا من محاكم التفتيش. وكان يراد منه أن يتراجع عن آرائه الفلكية التي أرست الأسس الأولى للعلم الحديث. وصحيح أن برونو قد أُحْرِقَ حيًّا بسبب معتقداته العلمية والفكرية. وصحيح أن ديكارت واسبينوزا كانا يعيشان في خوف دائم من الاضطهاد. وكان لخوفهما هذا أثره البالغ في نشاطهما التأليفي. وفي تحديدهما لما ينبغي وما لا ينبغي أن يُنْشَرَ من كتاباتهما. هذا كله صحيح. ولكن لا يقل عن ذلك صحة أن الجو العام الذي كان يعيش فيه هؤلاء العلماء والمفكرون كان — بالقياس إلى الجو السائد في العصور الوسطى الأوروبية — جوًّا من التحرر، وأن القوى الجديدة التي كانت قد بدأت تمارس تأثيرها في المجتمع الأوروبي كانت أكثر تشجيعًا للعلم من القوى اللاهوتية والإقطاعية السابقة، وما كان الاضطهاد الذي عاناه هؤلاء العلماء والمفكرون سوى صرخة الاحتضار التي كانت تطلقها — في شراسة ولكن بيأس — عقليات ومصالح تعلم جيدًا أن الزمن لم يعد في صفِّها وأن العصر لم يعد عصرها.
وإذن فبداية العلم الأوروبي الحديث تثبت — ولا تنفي — القاعدة المعروفة والقائلة: إن البحث العلمي يحتاج — من أجل ازدهاره — إلى جو من الحرية.
ومع ذلك فإن التعمق في بحث هذا الموضوع — ولا سيما في ضوء الأحوال السائدة في عصرنا الحاضر — يكشف لنا عن وجود تحفظات كثيرة ينبغي أن يُعْمَلَ حسابها عند تأكيد القاعدة العامة السابقة، وبعض هذه التحفظات ناشئ عن طبيعة البحث العلمي بوجه عام، وبعضها الآخر ناشئ عن الظروف التي يمر بها هذا البحث في عصرنا الحاضر.
-
(١)
لا جدال في أن طبيعة البحث العلمي ذاتها — بما تقتضيه من صرامة وجدية، ومن تفكير منهجي دقيق — تستلزم قدرًا من تضييق نطاق حرية العالم، وعلى سبيل المثال، فإن الحقائق الرياضية هي المثل الأعلى للدقة العلمية، وهي النموذج الذي يسعى إلى تحقيقه كل علم يود أن يكون منضبطًا، والحقيقة الرياضية — بطبيعتها — تتسم بالضرورة، ولا مجال فيها لحرية التصرف أو للتغيير والتبديل، إنها حقيقة صارمة يتعين على العالم قبولها على ما هي عليه، ولو حاول أن يمارس إزاءها حريته لضاعت منه على الفور، ومثل هذا يقال عن سعي العلم إلى بلوغ الحقيقة بوجه عام، فطريق العلم صارم، يقتضي من العالم التزامًا دقيقًا لمناهج محدودة، ولا يسمح له بالتصرف الحر إزاء موضوعه إلا في حدود معلومة. وفي هذا يختلف العلم عن الفن اختلافًا بيِّنًا، فعلى حين أن الحرية والانطلاق هما القاعدة في الفن، فإنهما بالنسبة إلى العلم قيدان ينبغي أن يتعلم الباحث كيف يتخلص منهما بأسرع وقت ممكن، وإلا فقدت أبحاثه كل قيمة لها، وبما لم تكن عملية التكوين العلمية — التي تستغرق من الباحث وقتًا طويلًا من حياته إلى أن يصبح عالمًا متمرسًا — سوى تهيئة له كيما يعتاد أن يلتزم مسار العلم المقيد، ولا ينقاد للميل الطبيعي إلى الانطلاق أو التحرر من القيود، وكيما يألف إطاعة الواقع وقبول حقيقته وهو يعلم أنه ليس حرًّا في قبولها أو رفضها.
-
(٢)
يقتضي العلم في عصرنا الحاضر تنظيمًا واسع النطاق، يخرج عن نطاق الجهد الفردي لأي عالم بعينه؛ ففي الماضي كان العلم، إلى حد بعيد، سلسلة من الغزوات أو الانتصارات أو الكشوف الفردية. أما الآن فإن هذا الطابع الفردي يختفي باطراد، ليحل محله العمل الجماعي team work الذي يكون العالم الواحد فيه فردًا في مجموعة، لا يملك حرية التصرف الكاملة؛ لأنه مقيد بعمل الآخرين، وملزم بتنسيق جهوده معهم.
-
(٣)
ومن وجهة أخرى فإن الأبحاث العلمية أصبحت تقتضي تمويلًا ضخمًا يستحيل أن توفره موارد العالم ذاته مهما يكن ثراؤه، ومعنى ذلك أن العالم لا بُدَّ أن يستعين بالتمويل المقدم من مصادر خارجية، وقليلًا ما تقف هذه المصادر موقف الحياد من أبحاث العالم. بل إنها تفرض عليه اتجاهات تتمشى مع مصالحها الخاصة؛ فالشركات الصناعية الكبرى تمول الأبحاث العلمية من أجل ترويج بضائعها، وحتى لو كانت تقدم أموالها في صورة تبرعات لمراكز أبحاث «مستقلة»، فإن هذه التبرعات يمكن أن تكون في ذاتها من عوامل فقدان استقلال مراكز الأبحاث بصورة جزئية أو كلية، وبعبارة أخرى: فإن العالم لم يعد اليوم قادرًا على أن يتحرر في أبحاثه العلمية من مطالب اقتصاد السوق، أو هدف زيادة الإنتاج، وغيرها من الأهداف والنتائج العاجلة التي تسلبه — ولا شك — قدرًا من حريته، وإذا كان السؤال: هل يكون العلم للعلم أم للمجتمع؟ سؤالًا ينطوي في نظر الكثيرين على مغالطة، فإن السؤال: هل يكون العلم للعلم أم للسوق؟ قد أصبح في عصرنا الحاضر سؤالًا حقيقيًّا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار كلما بُحِثَت مشكلة العلم والحرية.
-
(٤)
كثيرًا ما يؤدي الولاء للوطن أو لأيديولوجية معينة إلى فرض قيود على الحرية الشخصية للعلماء؛ ففي ألمانيا النازية كان العلماء يُجْرُون أبحاثهم من أجل خدمة أهداف تتنافى مع شرف العلم ذاته. وكان بعضهم واعيًا بما يفعل، وبعضهم الآخر يسير في عمله العلمي على نحو آلي يفتقر إلى التفكير النقدي الواعي. ولكن العلماء كانوا في كلتا الحالتين مفتقرين إلى الحرية، ولم يكن هذا حائلًا بينهم وبين مواصلة عملهم، والاهتداء إلى مجموعة هامة من الكشوف.
وفي العهد الستاليني كان العلماء السوفييت يتعرضون للاضطهاد في مجالات معينة، وذلك حين يفسر البعض أعمالهم بأنها متعارضة مع النظرية الفلسفية التي يقوم عليها نظام الحكم. وكان أشهر هذه المجالات: مجال البيولوجيا، الذي يسيطر عليه عالم ضيق الأفق، يتسم بقدر غير قليل من النفاق هو «ليسنكو»، وعلى يد «ليسنكو» هذا لقي عدد كبير من العلماء مصيرًا أليمًا، وأوقف العمل في أبحاث كثيرة؛ لأن أحكامه المبتسرة كانت تعد الكلمة الأخيرة في ذلك الميدان. وكان الخلط المؤسف بين العقيدة السياسية وبين البحث العلمي سببًا في الحَجْر على حرية علماء لم يخطر ببالهم أن يخونوا تلك العقيدة، ولم يقبلوا أن يخدعوا أنفسهم في أبحاثهم.
وأخيرًا، فإن ظاهرة الاضطهاد السياسي لحرية العلماء ظهرت واضحة في الولايات المتحدة في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية بوجه خاص، حين واجه العلماء الأمريكيون أزمة ضمير عنيفة بعد أن أُلْقِيَت على هيروشيما ونجازاكي أول قنبلتين ذريتين، فقد كان هؤلاء العلماء يظنون — خلال فترة الإعداد لهذا الاختراع القاتل — أنهم يخدمون قضية الحرية ببحوثهم. ولكنهم أفاقوا على ذلك الصدى المفجع الذي أحدثه انفجار القنبلتين في ضمير كل إنسان شريف، وتبين لهم أن اختراعًا كهذا يمكن أن يكون وسيلة لاستعباد البشرية كلها، فضلًا عما أحدثه بالفعل من كوارث لم يشهد العالم لها مثيلًا في المدينتَين المنكوبتين، وأدرك بعيدو النظر منهم أن هذه ليست إلا المقدمة، وأن السلاح الجديد يمكن تطويره بحيث تصل قوته التدميرية إلى أضعاف ما كانت عليه في البداية، وأن المدينتين اليابانيتين ليستا إلا حقل تجارب، وأن الهدف الحقيقي من التفجير المروع كان إرهاب العالم، ولا سيما البلاد ذات الأيديولوجيات المخالفة، وعندما دارت هذه المعاني كلها في أذهان العلماء أدت بهم إلى مراجعة شاملة لموقفهم: فمنهم من آثر أن يقف موقفًا سلبيًّا، وانسحب من أيِّ عمل علمي مرتبط بإنتاج أسلحة الدمار الشامل، ومنهم من وقف يحارب إنتاج هذه الأسلحة إيجابيًّا، وينبه العالم إلى الأخطار المروعة المترتبة على إشعاعات التجارب النووية، والأخطار المحتملة المترتبة على تخزين الأسلحة النووية وتطويرها، ومنهم من أدت به أزمة الضمير الحاد إلى الاتصال بالطرف الآخر في الصراع العالمي، وإفشاء أسرار القنابل النووية له.
وفي هذه الفئة الأخيرة تتمثل مأساة العالم المعاصر بأجلى صورها، فهم في نظر الدولة التي ينتمون إليها خونة كشفوا للعدو عن سر أخطر سلاح كان يضمن لدولتهم التفوق على كلِّ مَن عداها من الدول؛ ولذلك حق عليهم أشد العقاب (ومنهم من أُعْدِمَ بالفعل كالزوجين روزنبرج). ولكنهم في نظر الإنسانية شهداء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ سامية؛ إذ إنهم قد افتدوا بتضحيتهم البشرية بأسرها، وهم قد أدركوا أن امتلاك طرف واحد لهذه الأسلحة الفتاكة قد يغريه باستعمالها للتخلص نهائيًّا من عدوه، وإرهاب البشرية كلها بالسلاح المدمر؛ لذلك كان إفشاؤهم لأسرار ذلك السلاح قضاءً منهم على فعاليته. ومن المؤكد أن عدم قيام حرب ثالثة حتى يومنا هذا راجع إلى توازن الرعب النووي بين القوتين الرئيستين في العالم، وهو التوازن الذي كان هو الهدف الوحيد لما قام به هؤلاء العلماء من «خيانة» مزعومة.
وهكذا اكتسبت مشكلة العلم والحرية الشخصية أبعادًا جديدة في عالمنا المعاصر؛ إذ أصبح العالم الواعي يدرك أن أبحاثه لها نتائج تؤثر — إيجابًا أو سلبًا — على مستقبل البشرية، ولم يَعُد العالم يكتفي بأن يطالب بالوسائل الكفيلة باستمرار أبحاثه فحسب، بل أصبح يتساءل: إلام تؤدي هذه الأبحاث؟ وهل ستكون قيدًا على حرية البشر، أم عاملًا من عوامل تحريرهم من الفقر أو المرض أو الخوف؟ وبالاختصار فإن العالم لم يَعُد يكتفي بالمطالبة بحريته الشخصية وحدها، أو بحرية ممارسة البحث العلمي فحسب، بل أصبح يصر على التأكد من أن نتائج أبحاثه لن تستغل في القضاء على حريات الآخرين، أو في فرض شكل جديد من أشكال العبودية على البشر.
(٣) العلم التطبيقي (التكنولوجيا) والحرية الشخصية
إذا كنا قد تحدثنا في الجزء السابق عن البحث العلمي في صورته العامة، فمن الواجب أن نتذكر أن هذا البحث قد أصبح له — في عصرنا الحاضر — جانب تطبيقي عظيم الأهمية. بل إن الحدود الفاصلة بين البحث النظري والتطبيق أصبحت في وقتنا الحالي أقل حدة بكثير مما كانت عليه من قبل، وظهرت كشوف عديدة تجمع بين الطرفين معًا، ويصعب على المرء أن يقرر إن كانت تمثل نتاجًا لبحث نظري أم تطبيقًا، وتداخل الميدانان حتى أصبح المشتغلون بأحدهما يقومون بدور إيجابي فعَّال في الآخر.
ومع ذلك فإن التكنولوجيا المعاصرة — وبوصفها علمًا تطبيقًا — تتسم بطابع خاص يبرر لنا معالجتها على حدة، وهي تعمل على تغيير حياة الإنسان المعاصر على نحو لا يملك معه المرء إلا أن يفرد لتأثيراتها في مشكلة الحرية الشخصية قسمًا خاصًّا في بحث كهذا الذي نقدمه؛ ذلك لأن الحرية الشخصية قد أصبحت مشكلة شديدة التعقيد في عصر التقدم التكنولوجي السريع، ولم يعد من الممكن إصدار حكم واحد بسيط على تأثير العلم التطبيقي في حرية الشخص الإنساني. بل إن الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لهذا التأثير قد تداخلت إلى حد تضاربت معه الآراء في هذا الميدان تضاربًا شديدًا.
إن كل كشف علمي كبير قد حرَّر الإنسان ماديًّا أو معنويًّا أو كليهما معًا من عبوديته للطبيعة أو لجانب من جوانب النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. وحسبنا أن نستعرض عددًا قليلًا من المجالات التطبيقية في العلم؛ لندرك العلاقة الوثيقة بين تطبيقات العلم وبين الحرية الإنسانية؛ ففي الكيمياء أمكن — بواسطة المركبات الصناعية التي تقدمت تقدمًا هائلًا في القرن العشرين — تحرير الإنسان من قيود البيئة الطبيعية وما تقدمه من مواد، وأدى التقدم في علم البيولوجيا، وكشف تركيب المورثات (الجينات) إلى بداية التحكم في الوراثة. وكانت تجارب التلقيح الصناعي وتحسين النسل إيذانًا ببداية عهد جديد لا تفرض فيه الطبيعة سلطتها المطلقة على الإنسان في هذا المجال. وفي الفيزياء كان كشف الطاقة الذرية والقدرة على استغلالها علميًّا إيذانًا ببداية عهد جديد من التطبيقات المثمرة في مجال الاستخدام السلمي لهذه الطاقة (وإن لم يكن النجاح في هذا الميدان ميدان الإيجابي قد بلغ نفس الأهمية التي بلغها النجاح في ميدان الاستخدام التدميري لهذه الطاقة). أما غزوات الفضاء الكبرى — التي هي فخر عصرنا الحاضر — فإنها تمثل نقطة البداية في تحرر الإنسان من الأرض التي ازدحمت بأهلها، وخروجه عن ذلك الاختناق السكاني الذي يوشك أن يطبق على الناس في كوكبنا المحدود.
على أن أهم تأثيرات التكنولوجيا المعاصرة قد لا تكمن في الكشوف والمخترعات الفعلية التي توصلت إليها، بقدر ما تكمن في أساليب العمل الجديدة التي ترتبت على التقدم التكنولوجي المتلاحق، فهذه الأساليب قد أكسبت الإنسان حريات جديدة لم يكن يحلم بها من قبل. ولكنها في الوقت ذاته واجهت حريته بأخطار لم تخطر له من قبل على بال.
وفضلًا عن ذلك فإن الإنسان في هذا النوع من الإنتاج يقف من الآلة موقف السيد لا العبد، فهو لا يكتفي بالتحرر من إيقاعها الرتيب. بل إنه يكتسب من الخبرات ما يتيح له أن يسيطر على الآلة سيطرة تامة، ويستخلص منها أكبر قدر ممكن من الفوائد، فضلًا عن ازدياد قدرته على تطويرها من أجل تلافي أوجه النقص فيها بسرعة، واستخلاص إمكانات جديدة منها.
ولكن النوع الآخر من الحرية — الذي يكتسبه الإنسان بفضل الأساليب التكنولوجية الحديثة وأعني به الحرية في أوقات الفراغ — هو الذي يثير في واقع الأمر أَعْقَد المشكلات؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تقدم للإنسان إنتاجًا أكبر بجهد ووقت أقل، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى ساعات العمل الطويلة المرهقة التي كانت تقتضيها أساليب الإنتاج القديمة، بل أصبح الاتجاه العام هو الاتجاه إلى تقصير يوم العمل على نحو مطرد؛ ومن ثَم زادت أوقات فراغ الإنسان العامل زيادة كبيرة، ولا بد أن يؤدي التطوير في المستقبل إلى زيادة ساعات الفراغ على ساعات العمل.
على أن زيادة أوقات الفراغ ليست غاية في ذاتها؛ لأن الفراغ يمكن أن يتحول إلى خمول يلحق بالإنسان ضررًا بالغًا، أو يدفعه إلى التفكير في وسائل تعمل على إثارة حواسه المتبلدة بأي ثمن، ولذلك فإن توفير الوقت الحر ينبغي أن يكون مقترنًا بالتفكير في أفضل وسائل الانتفاع من هذا الوقت؛ ذلك لأن الغاية الحقيقية — كما قلنا — ليست هي أن تزيد أوقات فراغ الإنسان العامل، بل هي أن يصبح هذا الإنسان سيدًا مسيطرًا على وقته بحق، وإلا وقع فريسة عبودية من نوع جديد؛ بحيث يسيطر عليه الخمول أو الإثارة الزائفة أو الثقافة الضارة، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح عبدًا لوقته الحر لا سيدًا له.
والحق أن الطرق المألوفة حاليًّا في قضاء أوقات الفراغ تهدد حرية العقل الإنساني بأخطار حقيقية، ولن نتحدث هنا عما يحدث على أرصفة المدينة الحديثة — وبخاصة في البلاد المتخلفة في التصنيع — من تبديد لساعات طويلة على المقاهي في أحاديث وألعاب مملَّة، أو في أحلام يقظة مريضة. بل إن ما يحدث داخل البيوت ذاتها أهم من ذلك وأخطر بكثير؛ ففي أمسية هذه المدينة الحديثة، تجد العدد الأكبر من سكانها يضحكون معًا في لحظة واحدة؛ وذلك لأن اختراعًا هائل التأثير مثل التليفزيون يعرض عليهم نفس البرنامج، ويشكل عقولهم بنفس القوالب، ويتحكم في انفعالاتهم على نفس النحو، وما أسهل أن تُغْرَسَ في نفوس الناس سموم كثيرة، وتُنَمَّى عادات ومطالب زائفة، عن طريق هذا الجهاز الصغير الذي يشد إليه — خلال ساعات طويلة — انتباه ملايين الناس الذين حققت لهم التكنولوجيا فراغًا في الوقت وفائضًا من المال، ومثل هذا يقال — مع تعديلات طفيفة — على التأثير الذي تحدثه الصحافة اليومية والإذاعة والسينما؛ ففي كل هذه الحالات يؤدي تقدم العلم التطبيقي إلى صبغ الثقافة بصبغة نمطية موحدة قد لا تكون أضرارها وخيمة إذا كانت تستهدف النهوض الفعلي بعقول الجماهير ومشاعرها. ولكنها تصبح خطيرة التأثير حقًّا إذا وضعت لنفسها أهدافًا تحقق مصالح سياسية أو اقتصادية على حساب تضليل الجماهير وتشويه عقولها، والقضاء التدريجي على ما بقي لديها من قدرة على النقد والرفض والانتقاء.
وربما أدى انعدام التوازن بين وقت الفراغ ووقت العمل إلى أن تثار في الغد مشكلة التحرر المفرط من العمل. صحيح أن العمل الشاق فيه إذلال للإنسان وحط له إلى مرتبة الحيوان، وأن من أهداف الثورات الاجتماعية والتكنولوجية الحديثة تحرير الإنسان من هذا النوع من الإذلال، والسمو به من مرتبة الأداة المنتجة إلى مرتبة الكائن الواعي بنفس وبالعالم المحيط به، غير أن السير في هذا الاتجاه إلى نهايته قد يثير المشكلة العكسية، وأعني بها الحاجة إلى العمل، فقد يدرك الإنسان في المستقبل أن العمل ضروري حتى لو كان في استطاعته الاستغناء عنه والاكتفاء منه بحد أدنى، وقد يصبح السعي إلى العمل ضرورة مطلوبة لذاتها أو لتحقيق التوازن، في شخصية الإنسان، بين النشاط المتحرر المنطلق في أوقات الفراغ، وبين النشاط الملتزم المقيد في أوقات العمل المنتج. وربما حدث للإنسان نوع من رد الفعل المماثل لما حدث في علاقته بالطبيعة، حين سعى في البداية إلى التحرر منها بعد أن استعبدته طويلًا. ولكنه سئم هذا التحرر المفرط، وظهر رد الفعل على صورة «المحافظة على البيئة» و«استرجاع الطبيعة» وغير ذلك من النزعات التي لا تكف عن ممارسة تأثيرها على نمط حياة الإنسان الحديث وعلى فنه وأدبه.
على أن هذه — دون شك — تطورات لا تعرفها ولن تعرفها إلا المجتمعات الصناعية المتقدمة، أما المجتمعات المتخلفة فما زالت بعيدة كل البُعد عن ممارسة هذا النوع من الترف الفكري، فالمشكلة الأساسية التي تشغلها في الوقت الراهن، وستظل تشغلها طويلًا في المستقبل، هي بلوغ مستوى من التقدم التكنولوجي ومن التطور العلمي يتيح لها أن تتمتع بالحريات التي حققها العلم للمجتمعات المتطورة منذ عهد بعيد، وما زال الكفاح فيها يدور حول ضمان حد من العلم والتكنولوجيا يسمح للإنسان فيها بأن يشعر بآدميته. أما تلك المشكلات الناجمة عن تحول العلم والتكنولوجيا إلى كائن له كيانه الخاص المستقل عن الإنسان، وله قوانينه الخاصة التي تطغى على الإنسان ذاته، وله حياة ذاتية ونوع من التطور التلقائي الذي قد يتجاوز أو ينحرف عما رسمه له الإنسان من خطط. أما هذه المشكلات فما زال العالم المتخلف بعيدًا عن مواجهتها، ومن الجائز أنه لن يواجهها في المستقبل أبدًا، لا لأن تطوره لن يصل إلى الحد الذي يتيح ظهور مشكلات كهذه، بل لأن المجتمعات الأكثر تطورًا ستكون، على الأرجح، قد تمكَّنت من حل هذه المشكلات خلال الوقت غير القصير الذي سيستغرقه وصول المجتمعات المتخلفة إلى هذا المستوى.
ولعل أولى المشكلات التي يراد لها حل عاجل — التي نأمل ألا يضطر العالم المتخلف إلى مواجهتها يومًا ما — هي مشكلة القضاء على الخصوصية في المجتمعات الصناعية الشديدة التقدم، في الولايات المتحدة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تنبه إلى الخطر الذي تتعرض له الحرية الشخصية للمواطنين من جراء انتشار «بنوك المعلومات» حيث تختزن العقول الإلكترونية معلومات عن أدق أسرار ملايين المواطنين، وتضيف إلى البيانات الموجودة استنتاجاتها الخاصة، المستمدة من تحليل المعلومات المعطاة، وحيث تُستغل هذه البيانات والاستنتاجات ضد كثير من الأشخاص أسوأ الاستغلال، فإذا أضفنا إلى ذلك التقدم المذهل في أدوات التجسس الحديثة، والقدرة على التصنت لما يدور وراء الجدران بآلات شديدة الدقة لا تكاد تُرَى أو بأجهزة متنقلة تسلط على بيوت المواطنين من خارجها، وبآلات التصوير التي تنفذ أشعتها من الحوائط، إلى آخر هذه القائمة التي يتسع نطاقها دوامًا؛ لأدركنا مدى الخطر الذي يتهدد حرية الإنسان الشخصية من جراء تقدم العلم التطبيقي، فحياة الإنسان الخاصة توشك أن تصبح حياة عامة معروفة للجميع، أو لمن يريد الاطلاع عليها، والحد الفاصل بين النشاط العام والنشاط الخاص يوشك على الاختفاء؛ بحيث يعجز المرء عن ممارسة أبسط حرياته؛ أعني حرية السلوك بوصفه فردًا له كيانه الخاص ومشاعره الشخصية التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها.
هذه الأخطار التي أصبحت حقيقة واقعة في أكثر البلاد الصناعية تقدمًا، تعد مثلًا واضحًا لرد الفعل العكسي الذي يمكن أن يُحْدِثَه التقدم المفرط في العلم التطبيقي؛ فالتكنولوجيا التي تستهدف أصلًا تحرير الإنسان من عبودية العمل الشاق، وتيسير جميع سبل الحياة أمامه؛ تنقلب في هذه الحالة إلى أداة للقضاء على أكثر الحريات الشخصية قداسة. ومن المؤكد أن كثيرًا من المتشائمين يعممون هذا الحكم بحيث يتصورونه جزءًا من طبيعة التقدم التكنولوجي ذاته، ومن هنا كانوا يحذرون البشرية من الأخطار التي يعرضها لها تقدم التكنولوجيا في العصر الحديث، ويحلمون بالعهود البائدة التي كان الإنسان فيها متصلًا بالطبيعة اتصالًا بريئًا مباشرًا، وكانت حياته خالية من تعقيدات العلم الحديث: النظري منه والتطبيقي.
ولكن هذه كلها أحلام واهمة؛ إذ لا سبيل إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولا جدال في أن حكمنا على هذه المسألة كلها سوف يختلف اختلافًا جذريًّا إذا نظرنا إلى عيوب التكنولوجيا الحديثة هذه، لا على أنها عيوب كامنة في التقدم العلمي التطبيقي ذاته، بل بوصفها ناتجة عن إساءة استغلال أنظمة اجتماعية وسياسية معينة لهذا التقدم، في هذه الحالة يمكننا أن نأمل في أن يتخلص التطور المقبل للتكنولوجيا من هذه العيوب، ويسير في طريقه محررًا شخص الإنسان من القيود، بدلًا من أن يفرض عليه ألوانًا من العبودية أقسى وأفظع من تلك التي كان يعانيها في أشد العصور تخلفًا.
خاتمة: الحرية الشخصية وكفاح العلم
العلم بطبيعته كفاح متدرج شاق في سبيل الوصول إلى حقيقة تختفي وراء ضباب الظواهر الجزئية المعقدة المتداخلة، وهو سعي مستمر في سبيل التغلب على عقبات لا نكاد نجتاز واحدة منها حتى تظهر أمامنا عشرات، والعلم أيضًا مجهود يتحقق فيه الاتصال بين العقول على أكمل صورة؛ فالعلم لا يمكن تصوره بوصفه مجهودًا فرديًّا. صحيح أن قدرًا كبيرًا من العمل العلمي يدور في ذهن العالِم المنفرد. ولكن قليلًا من التفكير يكشف لنا عن أن ما نُسميه «بذهن العالم المنفرد» هو في حقيقته ذهن تجمعت فيه حصيلة معارف إنسانية هائلة تمتد من أبعد عصور التاريخ إلى أقربها، وخلاصة تجارب استمدت من ماضي البشر ومن حاضرهم، وهو ذهن أسهمت في تكوينه التربية — أعني التراث الإنساني كله — والتوجيهات والانتقادات والقراءات التي تربط المرء بمعاصريه وبسابقيه أوثق الارتباط، وبعد هذا كله فإن هذا الذهن الفردي لا يستطيع أن يمضي في بحثه العلمي إلا بعد أن يضعه في الإطار الواسع للمعرفة السائدة في عصره، ولا يستطيع أن يدرك قيمة عمله إلا بعد أن يصدر عليه الآخرون حكمهم في ضوء تجاربهم ومعارفهم المتعددة الأبعاد.
وبفضل هاتين الصفتين: صفة السعي التدريجي البطيء من أجل بلوغ الحقيقة، وصفة الاتصال والارتباط الدائم بين الفرد وبين الآخرين (سواء أكان هؤلاء الآخرون معاصرين أو تاريخيين)، استطاع العلم أن يكون أداة فعالة في تحقيق حرية الإنسان، فحرية الشخص الإنساني بقدر ما تكون مرتبطة بالعلم ومعتمدة عليه، هي بدورها كفاح متدرج بطيء، وهي بدورها تضافر وتواصل مع الآخرين من أجل بلوغ هدف مشترك.
على أن هذه النظرة إلى الحرية — بصفتيها اللتين ذكرناهما الآن — قد وجدت في الآونة الأخيرة فلسفة تنكرها، وتجعل للحرية صفات أخرى تؤدي — في نهاية الأمر — إلى فصم تلك الرابطة الوثيقة التي رأينا — طوال هذا البحث — أنها تجمع بين الحرية الشخصية والعلم. هذه الفلسفة هي الوجودية التي تعد مشكلة الحرية من أهم الموضوعات التي دار حولها تفكير أقطابها.
ولسنا في هذا المقال — وفي جزئه الختامي بوجه خاص — في وضع يسمح لنا بالدخول في تفاصيل الرأي الوجودي في الحرية. بل إن كل ما يهمنا في هذا الرأي هو ما يتصل منه بموضوع بحثنا، فهذا الرأي — في عمومه — يتعارض تعارضًا أساسيًّا مع وجهة النظر التي كنا نحاول إثباتها في هذا البحث، والتي تجعل العلم شرطًا ضروريًّا للحرية الشخصية من جهة، وتجعل الحرية — من جهة أخرى — دعامة أساسية من دعامات التقدم العلمي.
فهل يمكن أن يكون للعلم مكان في مثل هذه الحرية؟ نستطيع أن نقول: إن القدرة على النفي وعلى الرفض، تتقارب حسب درجة العلم التي يصل إليها المرء، فهذا الرفض لا يتوقف على الإرادة وحدها، وإنما يتوقف أيضًا على العقل، وعلى تحليل الواقع المعطى وفهمه ونقده، ومن هذا كله تظهر الرغبة في تجاوزه؛ أي إن حدود الإرادة والنطاق الذي تمتد إليه تتحدد في هذه الحالة وفقًا للعقل وللعلم، ومن جهة أخرى فإن «المشروع» الذي يضعه إنسان واعٍ بنفسه وبحقائق عالمه يختلف عن ذلك الذي يضعه من يفتقر إلى الوعي. وفي هذه الحالة بدورها يدخل العلم عنصرًا ضروريًّا في الحرية الإنسانية. ومع ذلك فإن الفلسفة الوجودية ذاتها لم تقل بهذا الرأي، وهي لم تتعرض أصلًا للدور الذي يمكن أن يقوم به العلم في تحديد نطاق الحرية الإنسانية مفهومة بالمعنى الذي حددوه هم أنفسهم لها.
إن الحرية — كما قلنا — هدف بعيد ما زال يقتضي كفاحًا لا هوادة فيه، وسلاحنا الأكبر في هذا الكفاح هو العلم، هو فهم الواقع من أجل السيطرة عليه على نحو متزايد، والقول بأن الحرية هي سمة الموقف الإنساني يتجاهل تلك التجربة المؤكدة التي تميز فيها بين إنسان متحرر وإنسان مستعبد، وهنا تبدو الوجودية وكأنها هي الوجه السلبي لمذهب الجبرية المطلقة، الذي ينفي وجود أية حرية، ويتجاهل بدوره تجربة التمييز بين الحر والمستعبد، فسواء نظرنا إلى الإنسان على أنه حر على نحوٍ مطلق، أم مجبر على نحو مطلق؛ فنحن في الحالتين نصبغ الإنسان بصبغة واحدة، ومع ذلك فحتى لو كان الإنسان حرًّا أو مجبرًا بصورة مطلقة، فلا بد أن يكون في وسعنا أن نميز — على أساس معين — بين وضعين للإنسان؛ أحدهما يتسم بالحرية والآخر يفتقر إليها، داخل هذه الحرية المطلقة أو الجبرية المطلقة، وإلا كنا نغفل عنصرًا أساسيًّا من عناصر تجربتنا الفعلية.
•••
إن مجرد وجود «مشكلة للحرية» هو في ذاته دليل على وجود الحرية؛ لأن «وجود» هذه المشكلة معناه أن الجبرية ليست هي السائدة، ومعناه أن هناك قدرًا من الاعتراف بالحرية حتى في الأذهان التي تُنكرها على المستوى الفلسفي. ولكن وجود «المشكلة» يعني — من جهة أخرى — أن الحرية ليست مكتملة وليست مطلقة. وليست تعبيرًا عن «الوضع الإنساني» الذي نجد أنفسنا فيه، إن قيام «مشكلة» الحرية دليل على أن الحرية لم تُكْتَسَب بعد، وعلى أن الإنسان «لا يُحْكَم عليه» بالحرية، بل يُحْكَم عليه بالسعي طوال تاريخه من أجل التحرر، والانتقال «بوضعه الإنساني» من ألوان الاستعباد التي يحفل بها إلى السيطرة على واقعه وعلى الظروف المحيطة به.
وفي هذا السعي الدائم يقوم العلم — مفهومًا بأوسع معانيه — بالدور الرئيسي في تحقيق الحرية الإنسانية، وهو إذ يسير في طريقه بتدرج وبطء ويتغلب رويدًا رويدًا على ما يعترضه من عقبات، وإذ تتكامل فيه جهود العقول المنفردة بحيث تكون كلها «عقلًا» واحدًا يتسع نطاقه زمانيًّا ومكانيًّا بلا انقطاع، يقدم إلينا أنموذجًا رائعًا ينبغي أن نحتذيه في الجهود التي نبذلها من أجل تحرير أنفسنا.
وحين نتخذ من العلم نموذجًا نضعه نصب أعيننا في سعينا إلى تحقيق حرية الشخصية الإنسانية، سندرك أن الحرية جهد ومشقة، وأنها تقتضي مقاومة وتغلبًا على الصعوبات، وأننا لا نكون أحرارًا إلا بقدر ما نبدي إيجابيتنا في التعامل مع الطبيعة ومع المجتمع، وسنعلم عندئذٍ أن من يخاطبنا على أساس أننا «لا نملك إلا أن نكون أحرارًا»، وعلى أساس أننا «محكوم علينا بالحرية»، قد تجاهل واقعنا وتاريخنا، وأن العلم وحده هو الذي يستطيع — من خلال تأثيره المباشر بوصفه معارف نظرية وتطبيقات عملية، أو من خلال تأثيره غير المباشر بوصفه منهجًا في التعامل مع الموضوعات — أن يقدم إلينا أفضل مثل ينبغي أن نحتذيه في سعينا من أجل تحقيق الحرية الشخصية لأنفسنا وللإنسانية جمعاء.