مذهب الذرات الروحية «المونادولوجيا» عند ليبنتس
(١) حياة ليبنتس وشخصيته
ومع ذلك فعندما عرض عليه يوهان فردريك — دوق هانوفر — وظيفة رئيس المكتبة في بلاطه (وهي وظيفة كانت لها في ذلك الحين أهمية غير قليلة) قَبِلَها، وغادر باريس. وفي رحلة العودة إلى ألمانيا عام ١٦٧٦م زار إنجلترا وهولندا، حيث قابل اسبينوزا واطلع على آخر كتاباته وأبحاثه، وأبدى في ذلك الحين إعجابًا شديدًا واهتمامًا كبيرًا بها، وإن كان قد حرص فيما بعد على إظهار عدم اهتمامه بآراء اسبينوزا نظرًا إلى شهرة هذا الأخير بالإلحاد في كثير من الأوساط الأوروبية.
وفي هذا العام نفسه أصبح جورج لودفج ملكًا على إنجلترا، ولم يستطع ليبنتس أن ينال حظوة لديه، فأبعد في هانوفر حيث دأب على كتابة تاريخ الأسرة الحاكمة، ولم يكن قد أتم إلا جزءًا بسيطًا من هذا التاريخ عندما توفِّي في ١٤ نوفمبر عام ١٧١٦م.
ومن العجيب أن أوروبا التي كان ليبنتس ملء سمعها وبصرها في حياته، والتي لعب دورًا عظيم الأهمية في ثقافتها وتفكيرها وسياستها، لم تهتم به قط في وفاته، ولم يرثه أحد سوى الفرنسيين. أما الباقون فلم يكادوا يشعرون بموته.
ومن المؤكد أن هناك جوانب عديدة غامضة في حياة ليبنتس، فبالإضافة إلى غموض كثير من المهام السياسية التي كان يضطلع بها — وهو الغموض الذي جعل كثيرًا من الناس ولا سيما اسبينوزا يرتابون في نواياه ومقاصده الحقيقية — كانت حياته الخاصة بدورها مهمة إلى حد بعيد، ورغم كل ما كتبه من رسائل، فإن هذه الرسائل لم تكن شخصية، ولم تكشف شيئًا عن الجوانب الخاصة لحياته، وهكذا فإن علاقاته العائلية ظلت مجهولة، وكل ما عُرِفَ عنها هو أن ليبنتس لم يتزوج أبدًا، وأن أسرته كانت ميسورة الحال، مما أتاح له التنقل بحرية، والتفرغ للأمور السياسية والعلمية دون اهتمام بمشكلات الحياة اليومية.
على أن في وسع المرء أن يلمح خلال هذا الغموض المحيط بحياة ليبنتس عنصرين أساسيين يبرزان بكل وضوح طوال مجرى حياته، هما اتساع نطاق معارفه من جهة، واتجاهه إلى السياسة من جهة أخرى.
فبفضل العنصر الأول — وهو اتساع نطاق معارفه إلى حد مذهل — أحيطت شخصيته خلال حياته وبعدها بهالة أسطورية يتمثل فيها مفكرًا وعالمًا تتحدى عبقريته كل التصنيفات والتقسيمات الشائعة، ولم يكن من المستغرب أن تصوَّر شخصية بهذه الصورة الأسطورية؛ ذلك لأن الرجل كان بالفعل نوعًا من الأسطورة. وربما كان ليبنتس آخر ممثل لتلك الفئة «الموسوعية» من المفكرين؛ ففي عصره وربما قبل عصره بقليل، كان عهد التخصص قد بدأ، واتسعت المعارف البشرية إلى حد أنه أصبح من المحتم على المرء أن يختار بين الفلسفة أو الأدب أو العلم أو القانون أو السياسة، وأصبح من الصعب أن يجمع المرء بين أكثر من فرع واحد من هذه الفروع. ولكن الدهشة تمتلك المرء حتمًا حين يجد ليبنتس قد اشتغل بهذه الفروع كلها معًا. وكانت له فيها كلها تقريبًا مساهماته المبتكرة وكشوفه البارعة؛ ذلك لأن ظهور مثل هذه العقلية الموسوعية أيام اليونان في شخص أرسطو، أو حتى خلال عصر النهضة في شخص ليوناردو دفينشي، كان أمرًا مفهومًا ومعقولًا، أما ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر فهو بالفعل أمر يقارب حد الإعجاز، لا سيما إذا كان الشخص الذي تمثلت فيه هذه الظاهرة الفريدة ينافس في مجال الفلسفة أقطاب المدرسة الديكارتية الكبار، وينافس في مجال الرياضة نيوتن ويتفوق عليه في صياغته لحساب التفاضل والتكامل، ويضع من النظريات القانون ومن الآراء السياسية والدبلوماسية ما يجعل له دورًا إيجابيًّا في سياسة عصره، ويشتغل بالعلم الطبيعي فيتفوق فيه، ويكتب شعرًا لاتينيًّا يحوز إعجاب معاصريه، ويؤلف في التاريخ مرجعًا عظيم القيمة، وينشئ، يسعى إلى إنشاء جمعيات وأكاديميات علمية في مختلف المدن الأوروبية، فثقافة ليبنتس عالمية بالمعنى الصحيح، ومعارفه تكاد تكون شاملة بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، ولهذه الحقيقة — كما سنرى — فيما بعدُ أهمية عظيمة في إيضاح معالم مذهب ليبنتس وطريقة تفكيره.
على أن الجانب السياسي من نشاط ليبنتس الشامل يستحق اهتمامًا خاصًّا؛ لأنه يمثل ظاهرة فريدة فيمن عرفناهم من الفلاسفة؛ ومن هنا فإنه يؤلف وحده عنصرًا قائمًا بذاته نود أن نشير إليه إشارة خاصة، فمنذ اللحظة التي تعرَّف فيها ليبنتس إلى الكونت «بوينبرج» وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ أصبح يقضي حياته كلها في صحبة الأمراء والحكام ورجال البلاط، واعتاد صحبة الشخصيات الأرستقراطية الكبرى، ورغم كل ما طرأ على حياته من التقلبات، فإن الاهتمام بالسياسة ظل هو القاسم المشترك بين أهم فترات هذه الحياة، وحتى في تلك الفترة التي تعد أخصب فترات حياته، الوجهة العلمية والفكرية، وأعني بها فترة إقامته في باريس، نراه لا يكف عن القيام بدور الدبلوماسي ورجل البلاط وكاتم أسرار الأمراء، ويقوم بأسفار وبعثات ومهمات غامضة لحساب إمارة «مينتس» الألمانية في نفس الوقت الذي كان فيه يكوِّن صلات مثمرة إلى أبعد حد مع مشاهير رجال العلم والفكر والفلسفة الذين كانت تزدان بهم فرنسا في عهد لويس الرابع عشر.
ولقد كانت السمة البارزة في نشاط ليبنتس السياسي، وهي نمو وعيه الأوروبي إلى أبعد حد؛ ذلك لأنه على الرغم من اشتغاله في معظم أوقات حياته لحساب حكام ولايات ألمانية معينة، كان في تفكيره السياسي يتجاوز حدود الولايات والدول. وكان «مواطنًا أوروبيًّا» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. وكانت الفكرة الرئيسية التي تستحوذ على تصرفاته السياسية هي أن أوروبا كلها تكوِّن وحدة حضارية وثقافية وسياسية واحدة. ومن المؤكد أن في تفكير ليبنتس في هذه الناحية أوجه شبه عديدة مع تفكير دعاة الوحدة الأوروبية المعاصرين، من أمثال الجنرال دي جول والسياسي البلجيكي «سباك» وغيرهما، رغم اختلاف ظروف الدعوة في كلتا الحالتين، ولا يقف وجه الشبه عند هذا الحد. بل إن تفكير ليبنتس السياسي كان يتضمن عناصر رجعية واستعمارية لا تقل وضوحًا عن تلك التي نجدها عند أقطاب ساسة أوروبا الغربية المعاصرين، ويتمثل ذلك العنصر من تفكير ليبنتس في «خطته المصرية» المشهورة، ونظرًا لأهمية هذه الخطة للقارئ المصري على التخصيص، فسوف نتحدث عنها ها هنا بشيء من التفصيل.
وضع ليبنتس هذه «الخطة» وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يهدف منها إلى إيجاد وسيلة لصرف أنظار لويس الرابع عشر — ملك فرنسا وأكبر شخصية سياسية في أوروبا في ذلك الحين — عن أوروبا ذاتها، وتحويل طاقته الحربية إلى مكان بعيد عن أوروبا، بذلك يعود توازن القوى إلى القارة الأوروبية، ويتسنى في الوقت ذاته الدفاع عن أوروبا ضد «البرابرة والزنادقة».
ولقد كانت الظروف السياسية في ولاية مينتس هي التي أوحت إلى ليبنتس بهذه الخطة؛ ففي نهاية عام ١٦٧١م، كان من الواضح أن فرنسا تعد العدة لغزو هولندا. وكان أمير الولاية الألمانية يدرك أن تغير ميزان القوى في أوروبا قد يؤدي إلى تغيير كبير في الخريطة السياسية لأوروبا، وبالتالي إلى فقدان الولايات الصغيرة حريتها. وهكذا أراد — ومعه ليبنتس — أن يحول دون اقتراب الحرب من الولايات الألمانية، وسنحت الفرصة لليبنتس حين وقعت حوادث وتحرشات على حدود الإمبراطورية العثمانية، أذكت الحروب الصليبية من جديد في نفوس الأوروبيين. وهكذا وضع ليبنتس خطته على أساس أن توجَّه أسلحة لويس الرابع عشر — التي كان يعلم أنها ستنطلق عاجلًا أو آجلًا — ضد عدو المسيحية كلها في الشرق، وهم الأتراك العثمانيون، عن طريق غزو بلد عظيم الأهمية مثل مصر، فكتب مذكرة سياسية مفصلة موجهة إلى الملك، قدم فيها عرضًا تاريخيًّا لجميع الحملات التي شُنَّت على مصر من قبل، وتحدث عن مركز مصر الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وأوضح مدى سهولة غزوها، والفائدة العظيمة التي ستجنيها فرنسا من هذا الغزو، وهي السيادة البحرية والاقتصادية على البحر المتوسط، والسيطرة على الغرب والشرق معًا، وازدياد ألقاب الملك لقبًا جديدًا مشرفًا! ولم تصل الخطة في بادئ الأمر إلى مسامع الملك. ولكن ليبنتس بذل مساعي عديدة، حتى أتاه رد يقول: إن الملك على استعداد لسماع الخطة منه. ولكنه عندما سافر إلى باريس في مارس سنة ١٦٧٢م كانت الحرب ضد هولندا قد بدأت بالفعل، ووقع ما أراد ليبنتس أن يتجنبه بغزو مصر، ونحن نعلم بطبيعة الحال تكملة القصة؛ وهي أن نابليون بونابرت قد حقق الخطة التي اقترحها ليبنتس. وربما كان قد اطلع على هذه الخطة ذاتها وأخذ بها، فحقق بذلك حلمًا احتل أهمية كبيرة في تفكير فيلسوفنا هذا، وبدأ عهدًا جديدًا من تاريخ الاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط.
ففي حياة ليبنتس إذن عنصران يستحقان اهتمامًا خاصًّا، هما شمول معرفته ونشاطه السياسي، ومن المؤكد أن العنصران متعارضان؛ إذ إن التفرغ للأعمال السياسية، والتنقل المستمر في أسفار وبعثات ومهام علنية وسرية، لا يترك للمرء فرصة الانصراف إلى الفلسفة والعلم، ولا بد أن ليبنتس كان يتمتع بقدرات معجزة، أتاحت له أن يركز ذهنه في أعمق المسائل العلمية، ويتفوق في عدد هائل من الفروع المتباينة للمعرفة، في نفس الوقت الذي كان يحيا فيه حياة صاخبة حافلة بالنشاط وسط عدد كبير من الأباطرة والملوك والأمراء والوزراء والسفراء ورجال البلاط، يقوم فيه بواجباته السياسية والدبلوماسية والقانونية على أكمل وجه، وهنا لا يجد المرء مفرًّا من أن يفترض لدى ليبنتس نوعًا من العزلة الروحية وسط هذا الصخب الذي أحاط نفسه به، ولولا أنه كان يعزل نفسه من آن لآخر بالفكر على الأقل، وعن العالم المزدحم من حوله، لما تسنى له ممارسة نشاطه العلمي الهائل على الإطلاق، فهو إذن كان يشعر بنفسه ذرة واحدة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ، تنطوي في ذاتها على صورة مصغرة للعالم كله، وتلك بعينها هي الفكرة الرئيسية في الكتاب الذي نعرضه ها هنا، وأعني به كتاب «مذهب الذرات الروحية».
(٢) مؤلفات ليبنتس وكتاب «المونادولوجيا»
(٣) الاتجاه العام لفلسفة ليبنتس
ينطوي تفكير ليبنتس على بعض المبادئ العامة التي لا يُفْهَم هذا التفكير بدونها؛ ومن هنا كان لزامًا علينا — قبل أن ننتقل إلى العرض التفصيلي لآراء ليبنتس في كتاب «المونادولوجيا» — أن نوضح أهم هذه المبادئ، ونحدد الاتجاه العام الذي سار فيه تفكير ليبنتس، حتى يتسنى وضع أفكاره المفصلة في إطارها الصحيح، والربط بين هذه الأفكار وبين حياة ليبنتس وشخصيته وعصره.
لقد اشتهر ليبنتس بأنه فيلسوف تلفيقي؛ أعني فيلسوفًا يحرص على التوفيق بين المذاهب الأخرى وجمعها كلها في مذهبه الخاص. ولقد كان بالفعل يود أن يستوعب في مذهبه كل ما أتى به الأقدمون والمحدثون من «أفكار رائعة»، وأراد أن يأتي بمذهب يجمع بين «أفلاطون وديمقريطس وأرسطو وديكارت والمدرسيين والمحدثين، وبين اللاهوت والأخلاق والعقل؛ بحيث يأخذ أفضل ما في كل منها، ثم يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها»؛ على أن هذه النزعة إلى الجمع بين المذاهب المختلفة ليس لها في كل الأحوال دلالة واحدة؛ فهي تكون مظهرًا من مظاهر الهزل الفكري، حين يعجز المفكر عن الإتيان من عنده بشيء فيملأ الفراغ بآراء الآخرين. ولكنها قد تكون أيضًا منبعثة عن ذهن ممتلئ بمعارف موسوعية شاملة، متفوق في مجالات متعددة للعلم البشري، ومن فيض هذه المعارف يتألف مذهبه العام، فهناك إذن توفيق ناشئ عن الهزال الفكري، وتوفيق ناشئ عن الامتلاء الفكري. ولقد كانت نزعة ليبنتس إلى الجمع بين المذاهب من النوع الثاني دون شك، فقد كان من الأذهان القليلة التي استطاعت أن تجمع أطرافًا متناثرة من المعرفة البشرية في مركب واحد متناسق تصطبغ فيه العناصر المتفرقة بصبغة العقلية الخاصة؛ بحيث يعد مذهبه «مرآة» تنعكس عليها كل جوانب الحياة العقلية في عصره وفي العصور السابقة، وتتلون — فضلًا عن ذلك — بلون مستمد من طبيعته الذهنية الخاصة.
على أن فلسفة ليبنتس لم تكن محاولة للتوفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة فحسب، بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، فحاولت التوفيق بين وجهة النظر الفلسفية والعلمية كلها، وبين وجهة النظر الدينية؛ ذلك لأن ليبنتس كان على وعي تام بالخطر الذي يهدد الدين من جراء الكشوف العلمية الحديثة. وهكذا حرص في فلسفته على أن يحدَّ من تطرف الكشوف العلمية وطموحها، ويحاول تحقيق نوع من «الانسجام» بين مجالي الدين والعلم، مثلما حقق هذا الانسجام بين مملكتي الله والطبيعة، ولم يكن اهتمامه بالتوفيق بين النظرتين الآلية والغائية إلى الكون سوى تعبير عن اتجاهه إلى تخفيف التعارض بين الدين والعلم، فهو من جهة يمضي حتى النهاية في التفسير الآلي للطبيعة، ويسهم بنصيب كبير في وضع الصيغ العلمية لهذا التفسير. ولكنه من جهة أخرى يحرص على إيضاح الأفكار التي يمكن بواسطتها فهم الطابع الغرضي الحي للكون. ومن المؤكد أن ليبنتس كان من أقدر الناس على القيام بهذه المهمة؛ إذ إنه قد استوعب بعمق الثقافة التقليدية المدرسية والفلسفات القديمة. ولكنه في الوقت ذاته لم يكن منعزلًا عن تيار العلم الحديث، بل كان له فيه دور كبير.
(٤) الأفكار الرئيسية في كتاب: «مذهب الذرات الروحية» مع نصوص مختارة من الكتاب٢
وأهم ما يميز فكرة «ألموناد» عند ليبنتس من فكرة الذرة كما عرفها الفلاسفة اليونانيون القدماء مثلًا، هو أن الأولى دينامية في أساسها؛ فالذرة الروحية عند ليبنتس هي قبل كل شيء وحدة للقوة أو للنشاط والفاعلية. وبعبارة أخرى: فإن ليبنتس يريد أن يقول: إنه لا شيء حقيقي حتى في المادة نفسها، إلا ما هو نشيط فعَّال، وما هو في أساسه طاقة دينامية.
ويربط «ماير» بين فكرة الذرة الروحية وبين شخصية ليبنتس على نحو طريف يستحق أن نشير إليه هنا بشيء من التفصيل، فصورة الجوهر الفرد قد تكوَّنت عن طريق تأكيد ليبنتس لذاته في مقابل العالم.
وعبقرية ليبنتس الشاملة كانت تضفي على العالم صورتها. وهكذا تصور الذات على أنها داخلة في تركيب العالم، أو تصور العالم على أن فيه شيئًا من طبيعة الذات، فماهية العالم لا تُفْهَم من خلال الموضوعات الممتدة كما تقول الميكانيكا الديكارتية، وإنما تُفْهَم عن طريق تجربة ذاتية، هي بذل الطاقة والإرادة.
وإذًا فجوهر الأشياء جميعًا — في رأي ليبنتس — هو القوة عنده تصور أسبق من تصور الحركة نفسه؛ إذ إن الحركة — رغم ما لها من أهمية في تفسير الظواهر — ينبغي أن تُرَدَّ آخر الأمر إلى نوع من القوة أو النزوع. ومن المؤكد أن ليبنتس قد أدخل تغييرًا أساسيًّا على مفهوم الجوهر حين عرفه على هذا النحو؛ إذ إن الجوهر في الفلسفات التقليدية كان هو العنصر أو الأساس الذي يظل ثابتًا من وراء تغييرات الظواهر، على حين أنه يغدو — في معناه الجديد عند ليبنتس — متغيرًا فعالًا، خاليًا تمامًا من أي عنصر سكوني.
وربما رأى البعض — عن حق — أن فكرة بعث الحياة في الطبيعة، أو تصور كل ذرة في الكون على مثال النفس البشرية، تفتح الباب أمام التفسير الأسطوري للأشياء؛ إذ إن الأساطير ما هي إلا محاولة لبعث الحياة في الكون بأكمله، ولتشبيه طبائع الأشياء كلها بطبيعتنا الخاصة. غير أن من المؤكد — رغم ذلك — أن ليبنتس قد أضفى على رأيه هذا طابعًا علميًّا مستمدًّا من قانون الاتصال الذي أشرنا إليه من قبل؛ فالطبيعة في رأيه تسير على نحو مطرد. وهذا مبدأ أساسي لا غنى عنه للروح العلمية الصحيحة. ومن الخطأ أن نتصور أن ذلك الجزء من المادة — الذي تتألف منه الأجسام البشرية — هو وحده الذي يرتبط بمبدأ نفسي أو روحي، وهو وحده ملكة الإحساس والإرادة، فمعقولية الطبيعة واتساقها مع نفسها تتنافى مع هذا التصور؛ وعلى ذلك فإن الروح العلمية الصحيحة — في رأي ليبنتس — هي التي تحتم القول بانتشار نوع من الحياة النفسية في الطبيعة بأسرها.
«ومن هذا يتضح أن هناك عالمًا للمخلوقات وللأحياء وللحيوانات وللكمالات والنفوس في أصغر أجزاء المادة.»
أولى هذه النتائج هي القضاء على الحد الفاصل بين الكون والفساد والميلاد والممات بحيث لا تكون هذه الأضداد إلا حالات طارئة تتعاقب على الذرات الروحية فحسب، ويؤكد ليبنتس أنه لا يعترف بوجود نفس خاصة تظل مرتبطة بكتلة معينة من المادة وتقتصر على رعاية شأنها؛ «ذلك لأن الأجسام كلها في صيرورة دائمة كالأنهار، وهناك أجزاء تدخل فيها وتخرج منها بلا انقطاع … ويترتب على ذلك أنه لا يوجد كون تام، ولا فساد أو موت كامل بالمعنى الدقيق، يكون قوامه مفارقة النفس. وليس ما نسميه بالكون إلا نماء وزيادة، مثلما أن ما نسميه بالموت إنما هو ضمور ونقصان.»
وتؤدي فكرة الانسجام هذه إلى حل مشكلة العلاقة بين النفس والجسم على نحو يلائم اتجاه ليبنتس الفكري الخاص. ولعل أفضل وسيلة لعرض طريقة ليبنتس الخاصة في اتخاذ فكرة الانسجام سبيلًا إلى فهم العلاقة بين النفس والجسم، هي أن نقدم مقتطفات من نصوصه التي يظهر فيها رأيه في هذه المشكلة بوضوح كامل.
وهكذا ينتقد ليبنتس نظرية ديكارت، التي تقول بتأثير الجسم والنفس كلٍّ منهما في الآخر، على أساس استحالة هذا التأثير بين جوهرين: أحدهما مادي والآخر لا مادي، وينتقد نظرية مالبرانش التي تجعل تأثير النفس في الجسم مجرد «فرص» أو «مناسبات» لتدخل القوة الإلهية. ومن المؤكد أن ليبنتس — رغم أنه قد اعتاد التخلص من كل مشكلة تعترضه بالالتجاء إلى فكرة العناية الإلهية — كان في هذه الحالة يخفف من غلواء النزعة الدينية المتطرفة عند مالبرانش، الذي جعل التدخل الإلهي مستمرًّا في كل لحظة يحدث فيها تأثير من النفس في الجسم أو العكس. وليس معنى ذلك أن ليبنتس قد أنكر تدخل المبدأ الإلهي. ولكنه جعل هذا التدخل يقتصر على فعل الخلق الأصلي، الذي أدى إلى وجود الذرات الروحية أو الجواهر البسيطة، ولما كان هذا الفعل كاملًا منذ البداية، فإن كل شيء يسير بعد ذلك في طريقه السليم، ويتحقق الانسجام التام بين الجسم والنفس، على الرغم من أن كلًّا منهما يسلك وفقًا لطبيعته الخاصة، ولا يخضع إلا للقوانين التي تقتضيها هذه الطبيعة.
ويختتم ليبنتس كتاب «المونادولوجيا» بفقرات شعرية الأسلوب، تتضمن إطراءً «لمدينة الله» هذه وتمجيدًا لما يسودها من خير ونظام. وفي هذا النص يقول:
«هذه المدينة الإلهية وهذه المملكة الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي في العالم الطبيعي، وهي أرفع أعمال الله وأكثرها ألوهية. وفيها يكون المجد الإلهي بحق؛ إذ إن هذا المجد ما كان ليوجد لو لم تكن الأرواح تدرك عظمته وخيرته وتعجب بها. وفي هذه المدينة الإلهية تتبدَّى خيرية الله حقًّا، على حين أن حكمة الله وقدرته تتبدى في كلِّ شيء.»
هذا الانسجام يجعل الأشياء تؤدي إلى اللطف الإلهي بنفس مسالكها الطبيعية؛ بحيث ينبغي مثلًا أن يدمر العالم ويقوم بالطرق الطبيعية في اللحظات التي تقتضيها حكم الأرواح، من أجل عقاب بعضها ومثوبة البعض الآخر.»
في هذه العبارات الصوفية التي يختتم بها كتاب «المونادولوجيا» يعبر ليبنتس بدقة عن نظرته العامة إلى الكون، وهي النظرة التي حاول فيها — كما قلنا في حديثنا عن الاتجاه العام لفلسفته — أن يوفق بين العلم والدين على قدر استطاعته. ولقد اتُّهِمَ ليبنتس بأنه يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليتخلص بها من كل صعوبة فلسفية تواجهه، ولو تأملنا النص السابق جيدًا، لوجدنا لهذا الاتهام ما يبرره؛ إذ يصل به الأمر إلى حد الدعوة فلسفيًّا إلى قبول كل ما يحدث في الكون، حتى ما لا يكون في ذاته مفهومًا أو معقولًا؛ على أنه مظهر لحكمة إلهية غامضة لا نستطيع أن نحيط بجميع أطرافها، ولا يمكننا أن ندرك مقاصدها الحقيقة بعقولنا القاصرة. ولقد كان من الطبيعي أن يلجأ هذا المفكر — الذي قضى حياته وسط الملوك والأمراء والحكام — إلى تشبيه الكون بمملكة إلهية، وتشبيه الله بالحاكم أو «أكمل الملوك»، وشتان ما بين طريقة التفكير هذه وطريقة تفكير اسبينوزا (معاصره الأكبر سنًّا) الذي طالما نبه إلى خطأ تصور الناس لآلهتهم من خلال تصورهم لحكامهم.
ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن ننكر لليبينتس فضلًا كبيرًا، هو أن تأكيده لفكرة الغائية والحكم الكونية لم يتم على حساب القوانين الطبيعية، فهو لم يكن — مثل مالبرانش — على استعداد للتضحية بانتظام الطبيعة واطراد قوانينها في سبيل تأكيد القدرة الإلهية، وإنما حرص على تأكيد الاتفاق أو الانسجام بين انتظام الطبيعة وغائيتها، أو — حسب تعبيره في النص السابق — بين الله بوصفه صانعًا والله بوصفه مشرعًا. وربما كان ذلك أقصى ما يستطيع أن يفعله شخص مثل ليبنتس، كان ذا عقلية علمية نفاذة من جهة. ولكنه كان من جهة أخرى صفيًّا ومستشارًا لحكام رجعيين، وسواء آمن المرء أم لم يؤمن بالفرض الذي يقول به رسل، من أن ليبنتس كان ذا فلسفتين؛ إحداهما لاهوتية هي تلك التي أذاعها في كتاب «الحكمة الإلهية»، والأخرى علمية هي تلك التي تضمنتها أبحاثه وكتاباته المختلفة، فمن المؤكد، على أية حال، أن ليبنتس قد صان حقوق العلم، في نفس الوقت الذي حاول فيه — عن طريق فكرة الانسجام — أن يجعل للاهوت دورًا في تفسيره للعالم.