العالم إرادة وتمثلًا لشوبنهور
(١) حياة شوبنهور
إذا كان تفسير آراء كثر من الفلاسفة من خلال وقائع حياتهم يخفق في أحيان غير قليلة، فإنه ينجح قطعًا في حالة شوبنهور؛ لأن وقائع حياته تكشف نقاطًا كثيرة في مذهبه الفكري، أو على الأقل ترتبط بهذه النقاط ارتباطًا واضحًا، وهو في ذلك على النقيض من أستاذه «إيمانويل كانْت»، الذي لم يكن النمط الرتيب الجاف الذي سارت عليه حياته يكشف عن أي شيءٍ من آرائه، ولا يمكن أن يرتبط بأية طريقة خاصة في التفكير، وستتضح هذه الحقيقة عن شوبنهور بجلاء خلال العرض الذي سنقدمه لحياته.
(٢) مؤلفات شوبنهور
على أن شوبنهور لم يكن قد اكتفى بالجزء الذي تحدثنا عنه من كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلًا»؛ ففي عام ١٨٤٤م؛ أي بعد خمسة وعشرين عامًا من ظهور الطبعة الأولى، أخرجه في طبعة ثانية تتألف من مجلدين؛ كان المجلد الأول منهما مماثلًا تقريبًا للطبعة الأولى. أما المجلد الثاني فكان يتألف من خمسين فصلًا تتضمن مناقشات تدور حول الأفكار الرئيسية التي تضمنها المجلد الأول. ولقد كان لهذا المجلد الثاني طابع موسوعي جامع، يشهد بمدى نضوج تفكير شوبنهور وتعمقه؛ بحيث أصبح المجلدان معًا يكونان عملًا من أعظم الأعمال الفلسفية على الإطلاق.
(٣) الأفكار الرئيسية في كتاب «العالم إرادة وتمثلًا»
ويلخص شوبنهور تلك الصفة التي تكون الأشياء بموجبها معتمدة على الذهن، ومرتبطة بعضها ببعض في الإطار الذهني، بقوله: إن الأشياء تخضع لمبدأ السبب الكافي، ولهذا المبدأ أربعة مظاهر (هي التي تكوِّن «أصله الرباعي»)، أولها مظهر التغير؛ فهو يتخذ أولًا مظهر قانون العلية الذي يتحكم في تغير الظواهر ويربطها بعلاقة المعلول، هو يتخذ ثانيًا مظهرًا منطقيًّا مجردًا، تكون فيه المقدمة المنطقية علة أو أساسًا للنتيجة، وله مظهر ثالث هو الوجود في المكان والزمان، كما هي الحال في قضايا الهندسة التي تؤدي فيها إحدى العلاقات إلى علاقة أخرى بالضرورة. وأخيرًا يتخذ مظهرًا نفسيًّا أو أخلاقيًّا في الإنسان، حيث يؤدي الباعث المعين إلى ظهور فعل معين. وهكذا فإن مبدأ السبب الكافي يتناول الصورة التي «نتمثل» العالم عليها، وهو يتعلق «بشكل» العالم كما يتبدَّى لنا؛ أي بالطابع الذي يضفيه ذهننا عليه. ولكن لا بد من أن يكون هناك — من وراء هذا الشكل أو الطابع الذي يظهر عليه العالم لذهننا — كيان باطن هو الذي أطلق عليه «كانت» اسم «الشيء في ذاته»، وهو الذي يمكننا أن نعدَّه قلب الوجود الحقيقي، تمييزًا له من المظهر الذي يتبدى عليه هذا الوجود لإدراكنا.
وإذا كنا قد توسعنا قليلًا في شرح آراء شوبنهور في هذا الكتاب؛ فذلك لأن هذه الآراء ترتبط مباشرةً بأفكاره الرئيسية في كتاب «العالم إرادة وتمثلًا»، وتمهد الطريق لمذهبه الكامل الذي يفترضها مقدمًا.
على أن هناك عنصرًا أساسيًّا في العالم لا يخضع لصفة «المظهرية» هذه، أي لا يتبدَّى من خلال أشكال تخلعها عليه ذاتنا، وإنما يتبدى في أصالته وعلى نحو مباشر، فإذا كان جسم الإنسان يخضع لشروط الزمان والمكان والعلية، فإننا نشعر أيضًا بأن لنا كيانًا آخر لا يخضع لهذه الشروط، ولا يتغير بتغير الزمان أو المكان، ويستطيع التغلب على قيود العلية، أو البدء في أفعال جديدة دون الخضوع لهذه القيود، ذلك الكيان هو «الإرادة»؛ فالجسم ذاته يُعَدُّ — بالنسبة إلى هذه الإرادة — «مظهرًا» لها، تدفعه حيث شاءت، وتتحكم فيه بشروطها الخاصة، ويمد شوبنهور نظرته هذه إلى الطبيعة بأسرها، فمن الممكن أن نتصور الكون كله على مثال الإنسان، بحيث يكون المجرى المادي للظواهر الطبيعية مماثلًا لجسم الإنسان، بينما يوجد من وراء هذا المجرى المادي كيان آخر للطبيعة تتمثل فيه ماهيتها الحقيقية، ويكون هو «الإرادة» المنبثة في كل أرجاء الكون، والقوة المتحكمة فيه؛ فكل ما نعرفه في الطبيعة من قوى وطاقات تنتج أفعالًا وتأثيرات، إنما هي أشكال تتجلى فيها الإرادة الشاملة في العالم. وهكذا يستمد شوبنهور من فكرة «القوة» أو «الطاقة» — التي تلعب دورًا هامًّا في العلوم الفيزيائية — تأييدًا لرأيه القائل: إن الماهية الأصلية للكون إرادة تتحكم في ظواهره المادة مثلما تتحكم الإرادة البشرية في ظواهر الجسم الإنساني، ولا يقتصر الأمر على الظواهر الفيزيائية وحدها. بل إن هناك إرادة واحدة من وراء كثرة الظواهر الفسيولوجية والنفسية. وهكذا فبينما تقوم علوم الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس بملاحظة الظواهر الكثيرة موضوعيًّا، وتحديد قوانينها في المكان والزمان، وتعيين ما هو علة وما هو معلول منها، فإن هناك مبحثًا آخر — هو «الميتافيزيقا» — مهمته أن ينفذ من وراء هذه الكثرة الموضوعية إلى الكيان الأصلي الذي يتحكم فيها، وهو «إرادة» العالم.
فإذا كانت ماهية الإنسان وماهية الكون الأصلية هي الإرادة، فلا جدال في أن الصورة التي ستُرْسَم لحياة الإنسان ولمجرى الكون ستكون قاتمة إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الإرادة ليست مبدأً عاقلًا منظمًا، يستهدف غايات محددة ويسير نحو تحقيقها تبعًا لخطة مرسومة، وإنما هي أساسًا اندفاع أعمى، وقوة طاغية لا ضابط لها ولا نظام. أما ذلك الذي نطلق عليه اسم العقل أو الروح أو الذكاء، فما هو إلا أداة في يد هذه القوة الغاشمة تتحكم فيها تتحكم فيها كما تشاء، وطالما أنها هي المبدأ الأساسي في الكون، فلا بد أن يكون تاريخ البشرية كله سجلًا للأعمال المتخبطة لهذه الإرادة، مثلما أن التاريخ الفردي حافل بالخداع، خلو من المعنى، ليس له من نهاية سوى الموت المحتوم؛ فالعالم في أساسه لا معقول، ومضاد لكلِّ منطق.
وليس من الصعب أن يدرك المرء في هذه الصورة المعتمة التي رسمها شوبنهور للعالم. وفي التشاؤم الذي أصبح طابعًا مميزًا لفلسفته، صدًى للإخفاق الذي لقيه في حياته، ولعجزه عن تحقيق رغباته واضطراه إلى اعتزال عالم الناس. ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يعدَّ مظهرًا من مظاهر أمانته العقلية نزاهته الأخلاقية؛ إذ لم يستطع أن يعيش طويلًا مع الأكاذيب، أو أن يوفق بين ضميره وبين الخداع الذي واجهه في الحياة، فآثر أن يبتعد عن المجتمع ويعلن عداءه للحياة بدلًا من أن ينافقها ويتعايش معها من وراء ضميره. ولقد تمكَّن خلال هذه النظرة التشاؤمية، المترفعة عن واقع الناس، من أن يتعمق في طبائع البشر وهو ينظر إليها عن بُعْد، وأن يكتسب دقة نادرة في ملاحظة النفس البشرية ونواحي الضعف فيها، فأثبت في كتاباته أنه عالم نفسي من الطراز الأول، وذلك في مجال الفهم العلمي لطبيعة الإنسان، لا في المجال النظري بطبيعة الحال، ونجم عن ذلك أن اكتسب فلسفته طابعًا شخصيًّا إلى حد بعيد؛ بحيث يشعر قارئه على التو بالصلة الوثيقة بين الفكر والمفكر، على عكس الحال في مذهب خصمه «هيجل»، الذي حرص على أن يكون مذهبه لا شخصيًّا، وعلى أن ينسب إليه حقيقة موضوعية تعلو على تغيرات الزمان والمكان، وإذا كان مذهب شوبنهور قد افتقر إلى مثل هذه الحقيقة الموضوعية، فلا جدال في أنه قد عوضها بحقيقة أخرى ذاتية نحس فيها بحرارة الشخصية الإنسانية التي خُلِقَت هذه الحقيقة، وبصدقها وإخلاصها الكامل.
ولكن هناك، مع كل هذا الطابع التشاؤمي وكل هذه اللامعقولية التي يتسم بها العالم، طريقًا إلى الخلاص. وهذا الطريق له مرحلتان: مرحلة مؤقتة، ومرحلة نهائية كاملة، والمرحلتان معًا تتميزان بمحاولة قمع أصل الشر في العالم وهو الإرادة.
أما المرحلة المؤقتة؛ فهي مرحلة الفن؛ ففي الفن يمارس الإنسان نشاطًا خاصًّا، لا يؤثِّر فيه نزوع الإرادة أو طموحها، ويتحرر من كل الأغراض والأهداف المميزة للإرادة، فأنت حين تمارس نشاطًا فنيًّا، لا تفعل ذلك لأن لإرادتك هدفًا محددًا تريد بلوغه. بل إن هذا النشاط خالص من كل غرض، وما هو إلا تأمل لأنماط وصور خالصة، وهو يعلو على الصفات الجزئية في الأشياء، ويتأملها في صورتها الكلية الخالصة؛ ففي العمارة نرى فاعلية القوة خالصة. وفي الفنون التشكيلية نتمثل الشكل الإنساني والحيواني في صفاته الحيوية الخالصة. كما أن الشعر يكشف لنا عن طباع الإنسان ومشاعره بوجه عام. أما الموسيقى فهي أعلى الفنون جميعًا؛ إذ إنها تكشف عن إرادة العالم ذاتها في عالم الإيقاع والأنغام الذي تفتح آفاقه لنا؛ فهي فن الصورة الخالصة، لا الصورة المكانية أو العينية الجزئية، وهي لا تكشف لنا عن هذه العاطفة أو تلك، وإنما عن العاطفة بما هي كذلك؛ فالعالم — كما يقول «شوبنهور» — موسيقى متجسدة، مثلما أنه إرادة متجسدة.
وأما المرحلة النهائية للخلاص من قبضة الإرادة؛ فهي مرحلة الأخلاق، ويتم الخلاص الكامل — في مجال الأخلاق — بإدراك الإنسان أن الموجودات كلها تكوِّن وجودًا واحدًا؛ أي بالقضاء على فكرة الكثرة أو الفردية؛ ذلك لأن شعور كل شخص بفرديته هو مبعث الأنانية، وبالتالي مصدر الشرور جميعًا؛ إذ يتصادم الأفراد بعضهم مع البعض، فتنجم الرذائل الأخلاقية كلها — من كراهية وحسد ورغبة في القضاء على الخصم — عن هذا التصادم. غير أن هذه الكثرة ليست إلا خداعًا. وحين ينكشف للإنسان هذا الخداع ويُرفع عنه وهْم الكثرة، يصل إلى الخلاص الحقيقي، إذ يدرك الوحدة الكامنة من وراء الكثرة الظاهرة، ويسود العطف أو الشفقة، وهو الشعور الذي يربط بين الأفراد بعد أن كانت الأنانية تفرق بينهم. وأفضل عقيدة دينية تمثلت فيها فكرة الوحدة هذه هي عقيدة الزهد عند الهنود؛ ففيها إماتة تامة للإرادة، التي هي أساس الشر كله. وفيها الخلاص الكامل من إرادة الحياة، وذلك في حالة «النرفانا»؛ أي محو الفردية تمامًا في حالة من الوحدة الكاملة مع الوجود في مجموعة.
تلك باختصار شديد هي الأقسام الأربعة الرئيسية التي ينقسم إليها كتاب شوبنهور «العالم إرادة وتمثلًا»؛ ففي القسم الأول يتناول العالم من حيث هو تمثُّل أي ظاهرة في نظر الذات. وفي القسم الثاني يتحدث عن العالم بوصفه إرادة، ويناقش موضوع الإرادة من حيث هي مبدأ كلي، أو «شيء في ذاته»، من وراء كل مظهر. ولقد كان «شوبنهور» في هذين القسمين فيلسوفًا محترفًا إلى حدٍّ ما، من هنا يمكن القول — بوجه عام: إن تأثيره الأكبر في الفكر والأدب العالميين لن ينتج عنهما، وإنما نتج عن القسمين الثالث والرابع، اللذين عالج فيهما العالم من حيث هو إرادة وتمثُّل أيضًا. ولكن من زاوية جديدة، هي زاوية الذاتية، فهنا كان «شوبنهور» ينطق لغة جديدة تتغلغل جذورها في أعماق النفس البشرية، وتفيض بالتقدير الكامل لموقف الإنسان في العالم، وهنا، لأول مرة، نجد كتابًا ضخمًا يعرض مذهبًا فلسفيًّا كاملًا، يحدثنا فصولًا طويلة عميقة عن العمارة والتصوير والشعر والموسيقى، ويجعل لهذه الفنون دورًا أساسيًّا في فلسفته. وهكذا نجد آراءه في الإرادة من حيث هي مبدأ للعالم تعود إلى الظهور في فلسفة نيتشه وبرجسون ووليام جيمس. ولكن بصورة مختلفة في كل حالة. أما في ميدان الأدب والفن فقد كان تأثيره أعمق؛ إذ إن عددًا كبيرًا من الأدباء — على رأسهم هاردي وتوماس مان — قد اعترفوا صراحةً بفضل فلسفة شوبنهور عليهم. كما أن شوبنهور كان هو الفيلسوف الأول والأهم الذي تأثر فاجنر بأفكاره. وكان اكتشاف فلسفته بمثابة فاتحة عهد جديد في تفكير فاجنر النظري الذي تكوَّن منه أساس بنائه الفني. ويمكن القول بوجه عام: إن ازدياد قوة الاتجاه الشخصي في الفلسفة والفكر عامة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو ظاهرة ترجع، بطريق مباشر أو غير مباشر، إلى تأثير شوبنهور.
(٤) نصوص من كتاب «العالم إرادة وتمثلًا» لشوبنهور
(٤-١) العالم تمثلًا
العالم تمثُّلي؛ تلك حقيقة تصح على كل كائن حي عارف، وإن يكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون لديه وعي فكري مجرد بها، ولو فعل ذلك حقًّا، لأشرق عليه نور الفلسفة، وعندئذٍ يصبح من الواضح المؤكد له أنه لا يعرف شمسًا ولا أرضًا، وإنما عينًا ترى شمسًا ويدًا تلمس أرضًا، وأن العالم المحيط به ليس هناك إلا بوصفه تمثلًا؛ أي بوصفه منسوبًا إلى شيء آخر، وهو ذلك الذي يتمثل وهو أنا، ولو كان ثمت حقيقة يمكن التعبير عنها أوليًّا فهذه هي؛ إذ إن هذه الحقيقة تعبير عن صورة كل تجربة ممكنة يتسنى تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى، أي من الزمان والمكان والعلية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها مقدمًا، وعلى حين أن كلًّا من هذه الصور، التي ذكرنا أنها أحوال خاصة لمبدأ السبب الكافي، لا يصح إلا على فئة معينة من التمثلات، فإن التقسيم إلى موضوع وذات هو الصورة المشتركة بين هذه الفئات جميعًا، وهذه الصورة وحدها هي التي تتيح كل تمثُّل، وتجعله ممكنًا، وإذن فليس ثمت حقيقة أكثر يقينًا، من هذه الحقيقة؛ وأعني بها أن كل شيء يوجد للمعرفة؛ أي كل هذا العالم، لا يكون موضوعًا إلا بالنسبة إلى ذات ولا إدراكًا إلا بالنسبة إلى مدرك؛ أي بالاختصار، لا بُدَّ أن يكون تمثلًا، فكل شيء ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم يرتبط حتمًا بهذا الشرط: شرط التوقف على الذات، ولا يوجد إلا من أجل الذات؛ فالعالم تمثُّل.
(٤-٢) العالم إرادة
سيظل هناك دائمًا (من وراء البحث في العلل) باقٍ لا يُرَد، ومحتوًى للظواهر لا يمكن إرجاعه إلى صورته، ولا يمكن تفسيره من خلال شيء آخر وفقًا لمبدأ السبب الكافي؛ إذ إن في كل ما في الطبيعة شيئًا لا يمكن وضع أساس له، ولا تقديم تفسير له، ولا البحث عن سبب آخر له، ذلك هو الطريقة الخاصة لفعل الشيء؛ أي بعبارة أخرى: طريقة وجوده ذاتها وجوهره أو ماهيته الحقيقة، فما يكوِّن في الإنسان شخصيته غير القابلة للتفسير، وما يفترض مقدمًا في كل تفسير لأفعاله من خلال الدوافع، إنما هو بالنسبة إلى كل جسم غير عضوي طبيعته الأساسية، وطريقته في الفعل، على حين أنه هو ذاته، من جهة أخرى، لا يتحدد بأي شيء خارجه، وبالتالي لا يمكن تفسيره.
إن الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، تلقننا القواعد والقوانين التي تسلك وفقًا لها قوى الصلابة والجاذبية والجمود والسيولة والتماسك والمرونة والحرارة والضوء والتجاذب الانتقائي والمغناطيسية والكهرباء وما إلى ذلك؛ أي بعبارة أخرى: القانون والقاعدة التي تلاحظ على هذه القوى فيما يتعلق بدخولها المكان والزمان في كل حالة. ولكن مهما فعلنا فستظل القوى ذاتها كيفيات غامضة؛ إذ إن الشيء في ذاته هو الذي يكشف بظهوره عن هذه الظواهر …
هي القوة التي تُنبت النبات، وتوجِّه المغناطيس إلى القطب الشمالي، بل هي القوة التي توجد في الجاذبية ذاتها، والتي يظهر أثرها في كل مادة بوضوح، فتجذب الأحجار إلى الأرض والأرض إلى الشمس، كل هذه، لا تختلف إلا في ظاهرها. أما طبيعتها الباطنة فواحدة، فهي الماهية الباطنة والقلب بالنسبة إلى كل شيء جزئي إلى الكل أيضًا، وهي تظهر في كل قوة عمياء للطبيعة، وكذلك في سلوك الإنسان الإرادي، والفرق الهائل بين الاثنتين لا يتعلق إلا بدرجة ظهورها لا بطبيعتها الباطنة.
لهذا سأطلق على الجنس اسم أهم أنواعه، وهو النوع الذي تكون لدينا أوثق معرفة به، ويؤدي إلى معرفة غير مباشرة بكل شيء آخر. أما من لم يستطع فهم اللفظ بالمعنى الواسع المطلوب، فسيظل دائمًا على خطأ؛ إذ لن يُفهم من كلمة «الإرادة» إلا ذلك النوع الذي اقتصر اللفظ حتى الآن على الدلالة عليه؛ أي الإرادة التي توجهها المعرفة بدقة حسب دوافع، بل حسب دوافع مجردة، وتسير بإرشاد ملكة العقل. هذا — كما قلنا — هو أوضح مظاهر الإرادة وأكثرها تميزًا، ولكن علينا الآن أن نفصل في أذهاننا الطبيعة الباطنة لهذه الظاهرة، والمعروفة لنا مباشرةً، وننقلها إلى كل الظواهر الأضعف والأقل تميزًا للماهية ذاتها، وبهذا نحقق الامتداد المطلوب لتصور الإرادة، ولقد كان تصور الإرادة حتى الآن يدرج تحت تصور القوة. أما أنا فأفعل العكس، وأرى أن كل قوة في الطبيعة ينبغي أن تُتَصَوَّر على أنها إرادة. ومن الواجب ألا نرى في هذا مجرد اختلاف في الألفاظ، أو مسألة لا أهمية لها؛ إذ إن لهذا الأمر — على عكس ذلك — أهمية قصوى، فمن وراء الصور القوة — كما هي الحال في كل تصور آخر — تكمن معرفة العالم الموضوعي من خلال الإدراك الحسي؛ أي بعبارة أخرى: الظاهرة، والتمثل الذي يُسْتَمَد منه التصور، فهذا اللفظ مستخلص بالتجريد من المجال الذي يسوده العلة والمعلول، أما تصور الإرادة فهو الوحيد — من بين سائر التصورات الممكنة — الذي لا يرجع أصله إلى الظاهرة، ولا إلى مجرد تمثل الإدراك، بل يأتي من الباطن، ويُستمد من أقرب وعي مباشر لكل شخص، وإذن فنحن إذا أرجعنا تصوُّر القوة إلى تصور الإرادة، إنما نكون قد أرجعنا شيئًا مجهولًا تمامًا إلى شيء معروف لنا حق المعرفة، بل إلى الشيء الوحيد الذي نعرفه معرفة مباشرة كاملة.
(٤-٣) ماهية الفن
أي نوع من المعرفة ذلك الذي يتعلق بما هو مستمر في وجوده خارج جميع العلاقات ومستقلًّا عنها، وبما هو وحده الأساسي في العالم، والمحتوى الحقيقي لظواهره وما لا يسري عليه التغير، وبالتالي ما يعرف بحقيقة لا يؤثِّر فيها الزمان؛ أي الاختصار، ذلك الذي يتعلق «بالمُثُل» التي هي الموضوعية المباشرة المطابقة للشيء في ذاته وللإرادة، إنه الفن، نتاج العبقرية. وفي الفن تتكرر المثل الأزلية المدركة عن طريق التأمل الخالص؛ أي ذلك العنصر الأساسي الباقي في كل ظواهر العالم، وهو يكون نحتًا أو تصويرًا أو شعرًا أو موسيقى تبعًا للمادة التي تتكرر فيها هذه المُثل، ومصدره الوحيد هو معرفة المثل، وهدفه الوحيد هو نقل هذه المعرفة إلى الآخرين. وإنا لنجد أن العلم — الذي يساير على الدوام تيارًا قلقًا غير مستقل هو تيار الأشكال الرباعية للأسباب أو الأسس والنتائج — يكشف طريقًا جديدًا بعد كل غاية يبلغها، ولا يمكنه أن يهتدي أبدًا إلى هدف نهائي أو يصل إلى الرضاء التام، تمامًا كما لا يمكننا بالجري أن نصل إلى النقطة التي تتلامس فيها السحب مع الأفق. أما الفن فهو على الدوام بالغ هدفه؛ ذلك لأنه يلتقط موضوع تأمله من مجرى التيار الذي يسير فيه العالم، ويستبقيه أمامه منعزلًا؛ وبذلك يصبح هذا الشيء الخاص، الذي كان داخل ذلك التيار جزءًا متناهيًا في الصغر، ممثلًا للكل في نظر الفن، ومعادلًا للكثرة اللامتناهية في المكان والزمان. وهكذا يتوقف الفن أمام هذا الشيء الخاص، ويوقف عجلة الزمان، وتختفي العلاقات بالنسبة إليه، ولا يعود له من موضوع إلا ما هو أساسي؛ أي «المثال»؛ وبذلك يمكننا تعريف الفن على وجه الدقة بأنه طريقة النظر إلى الأمور على نحو مستقل عن مبدأ السبب الكافي، وذلك مقابل طريقة النظر إليها على نحوٍ يُراعى فيه هذا المبدأ بدقة، وهي طريقة العلم والتجربة.
لا نعود (فيها) ننظر في الأشياء إلى الأين والمتى و«لم» و«إلى أين»، وإنما ننظر إلى «ما هي عليه» فقط، ولا ندع التفكير المجرد وتصورات العقل تستحوذ على ذهننا، بل نكرس كل قوة العقل للإدراك، نستغرق فيه تمامًا، وندع وعينا بأسره يمتلئ بالتأمل الهادئ للشيء الطبيعي الماثل بالفعل أمامه، سواء أكان ذلك الشيء منظرًا طبيعيًّا أم شجرة أم صخرة أم جلمودًا أم بناء أم أي شيء آخر، فهنا «نفقد» أنفسنا تمامًا في هذا الموضوع. إذا شئنا أن نستخدم هذا التعبير المثقل بالمعاني؛ أي إننا بعبارة أخرى: ننسى فرديتنا وإرادتنا، ولا نظل نوجد إلا بوصفنا ذاتًا خالصة، ومرآة صافية للشيء؛ بحيث يبدو كأن الشيء يوجد وحده دون أن يدركه أحد، فلا يعود في وسعنا التمييز بين المدرِك والمدرَك، وإنما يصبح الاثنان واحدًا، ما دام الوعي بأكمله يمتلئ ويشغل بصورة إدراكية واحدة، فإذا أصبح الموضوع مستقلًّا إلى هذا الحد عن كل علاقة له بشيء خارج عنه، وإذا أصبحت الذات مستقلة إلى هذا الحد عن كل علاقة لها بالإرادة، فإن ما يُعْرَف عندئذٍ لا يعود هو الشيء الفردي بما هو كذلك، وإنما هو «المثال» — الصورة الأزلية — والموضوعية المباشرة للإرادة في هذه المرحلة، وبالمثل فإن الشخص الذي يكون لديه إدراك كهذا، لا يعود في الوقت ذاته فردًا؛ إذ إن الفرد قد فقد ذاته في الإدراك، وإنما يصبح «ذاتًا عارفة» خالصة بلا إرادة وبلا ألم وبلا زمان.
… إن في إمكاننا أن ننظر إلى عالم الظواهر أو الطبيعة وإلى الموسيقى على أنهما تعبيران مختلفان عن شيءٍ واحدٍ؛ فالموسيقى — إذا ما نُظِرَ إليها على أنها تعبير عن العالم — تغدو، بأكمل معاني الكلمة، لغة عالمية ترتبط بالتصورات الشاملة، مثلما ترتبط هذه الأشياء الجزئية، ومع ذلك فإن طابع الشمول فيها ليس ذلك الشمول الفارغ الناتج عن التجريد، وإنما هو من نوع مختلف تمامًا؛ فهو يقترن بتميز دقيق لا لبس فيه ولا غموض. والموسيقى في هذا أشبه بالأشكال الهندسية والأعداد، التي هي صور كلية لجميع الموضوعات الممكنة للتجربة، تنطبق على هذه الموضوعات جميعًا بطريقة أولية. ولكنها مع ذلك ليست مجردة، بل هي قابلة للإدراك الحسي، وهي محددة بكل دقة. وهكذا فإن كل جهد تبذله الإرادة، وكل سوراتها وتجلياتها، وكل الحوادث التي تقع داخل الإنسان ذاته، والتي تدرجها ملكته العاقلة ضمن تلك الفئة الواسعة السلبية، فئة المشاعر، ويمكن أن يعبر عنها ذلك العدد اللامتناهي من الألحان الممكنة. ولكن ذلك التعبير يكون له دائمًا شمول الصورة الخالصة، دون أية مادة، ويكون دائمًا متعلقًا بما يوجد في ذاته لا بالمظهر؛ أي بأعمق أغوار النفس من غير الجسم. هذه العلاقة الوثيقة للموسيقى بالطبيعة الحقة للأشياء جميعًا تفسر لنا أيضًا حقيقة هامة، هي أنه عندما تُعْزَف موسيقى ملائمة لأي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإنها تبدو وكأنها تكشف لنا عن أدق معانيه خفاء، وتظهر وكأنها أفضل شرح وأدق تمييز له. وفضلًا عن ذلك، فإنه يبدو للإنسان الذي ترك سيمفونية تتغلغل في نفسه بلا قيود، أنه قد رأى كل الحوادث الممكنة في الحياة وفي العالم تمر أمامه داخل ذاته. ومع ذلك فلو أمعن التفكير في الأمر لما وجد أي تشابه بين قطعة الموسيقى وبين الأشياء التي مرت بذهنه؛ ذلك لأن الموسيقى — كما قلنا — تختلف عن كل الفنون الأخرى في أنها لا تصوِّر الظاهرة، أو بتعبير أدق، لا تصور موضوعية الإرادة المطابقة، إنما هي تصوير مباشر للإرادة ذاتها، وبالتالي فهي تعبر عن الماهية الميتافيزيقية لكل ما يوجد في عالم الأشياء، وعن الشيء في ذاته بالنسبة إلى كل ظاهرة. وهكذا يمكننا أن نسمي العالم موسيقى متجسدة مثلما يمكننا أن نسميه إرادة متجسدة.
(٤-٤) الطريق إلى الخلاص
لا يوجد إلا خطأ فطري واحد، وهو الفكرة القائلة: إننا نوجد لنكون سعداء؛ فما نحن إلا إرادة للحياة، ونحن لا نفهم من السعادة إلا أنها الإرضاء المتعاقب لإرادتنا.
وطالما ظللنا واقعين في هذا الخطأ الفطري، الذي يزداد رسوخًا فينا بفضل المعتقدات التفاؤلية، فإن العالم يبدو لنا حافلًا بالمتناقضات؛ ذلك لأننا نشعر حتمًا في كل خطوة. وفي كل الأشياء كبيرها وصغيرها، بأن العالم والحياة لن ينظما أبدًا بقصد ضمان حياة سعيدة لنا … وفضلًا عن ذلك، فإن كل يوم مر في حياتنا حتى الآن قد علمنا أنه حتى في الحالات التي تتحقق فيها أفراح ولذات، تكون هذه في ذاتها خداعة، ولا تؤدي إلى النتائج التي تعدنا بها، ولا ترضي قلوبنا، فضلًا عن أن الحصول عليها يقترن على الأقل بالمرارة التي يبعثها ما يرتبط بها أو ما ينبثق عنها من الآلام والمنغصات. أما الآلام والأحزان فتثبت أنها حقيقية إلى أبعد حد، وكثيرًا ما تتجاوز كل ما نتوقعه. وهكذا فإن كل ما في الحياة قد رُسِمَ بحيث يؤدي بنا إلى الرجوع عن هذا الخطأ الفطري، وإلى إقناعنا بأن القصد من وجودنا هو ألا نكون سعداء. أما من تخلص بطريقة ما من الخطأ الأولي الكامن فينا ومن ذل التزييف الأول في وجودنا، فسرعان ما يرى كل شيء في ضوء مخالف، ويجد أن هذا العالم متفق مع إدراكه، وإن لم يكن متفقًا مع رغباته؛ فلا تعود مظاهر البؤس — مهما كان نوعها أو مقدارها — تثير فيه دهشة، وإن كانت تبعث فيه الألم، إذ إنه أدرك أن الألم والشقاء هما ذاتهما اللذان يحققان الغاية الصحيحة للحياة، ألا وهي انصراف الإرادة عنها …
والذي يحدث عادةً هو أن القدر يمر على نحو حاسم بذهن الإنسان وهو في عنفوان رغباته وأمانيه، وعندئذٍ تتحول حياته تحولًا أساسيًّا في اتجاه الألم، وعن طريق هذا التحول يتحرر من الرغبة المنفعلة التي يكون كل وجود فردي مظهرًا لها، ويصل إلى النقطة التي يغادر فيها الحياة، ولم تبقَ لديه أية رغبة فيها وفي ملذاتها. بل إن الألم، في الواقع، هو عملية التطهير التي يصل الإنسان بها وحدها إلى القداسة؛ أي يرجع بها عن ذلك الطريق الضال، طريق إرادة الحياة.