«تاريخ المادية» لألبرت لانجه

(١) حياة لانجه ومؤلفاته

ولد «فريدرش ألبرت لانجه Friedrich Albert Lange»١في بلدة تقع في إقليم دوسلدورف، اسمها «فالد بجوار زولنجن Wald bei Solingen» في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام ١٨٢٨م. وكان أبوه رجلًا عصاميًّا استطاع أن يشق طريقه بكفاحه من عامل بسيط إلى أستاذ جامعي اشتهر في وقته بأنه من أعظم شُرَّاح الإنجيل في أوروبا، وقد قضى لانجه سنوات حياته الأولى في مدينة «دويسبرج  Duisburg». ولكنه انتقل في الثانية عشرة من عمره إلى زيورخ في سويسرا التي أصبحت وطنًا ثانيًا له، ولم يغادرها إلا في سن متأخرة نسبيًّا عندما دفعه تعلقه بالسياسة إلى العودة إلى ألمانيا وخوض غمار المعارك السياسية فيها. وكان ذلك في عام ١٨٤٨م الذي هزت فيه القلاقل السياسية كيان معظم دول أوروبا، وقامت فيه ثورات عنيفة أسهم فيها المثقفون الأوروبيون بدور فعَّال، في ذلك العام انتقل إلى جامعة بون ليدرس فقه اللغة، وتابع الأحداث السياسية الدائرة بحماسة بالغة، وكان من أنصار تحقيق الوحدة الأوروبية، وتحقيق وحدة الدولة الألمانية.
وبعد حصول لانجه على درجة الدكتوراه، انتقل للتدريس فترة قصيرة في «كولونيا»، ثم عاد إلى بون ليُحاضر في التربية وعلم النفس والأخلاق وفي تاريخ المذهب المادي، ومن بون انتقل إلى دويسبرج. ولكنه اضطر إلى الاستقالة من عمله في التدريس نتيجة لنشاطه السياسي في عام ١٨٦١م، وكان من المناصب التي تولاها بعد ذلك منصب سكرتير الغرفة التجارية في دويسبرج، حيث أظهر مقدرة غير عادية في إدارة الأعمال الصناعية، وقد ظل طوال هذه المدة عاكفًا على تأليف كتابه في «تاريخ المادية»، فضلًا عن اشتراكه في تحرير صحيفة «الرين والرور» اليومية، التي كان يهاجم فيها الحكومة الرجعية القائمة بشدة. وقد تعرض نتيجة لذلك إلى اضطهادات سياسية مستمرة، فانتقل إلى «فنترتور Winterhur» ثم إلى زيورخ حيث عمل أستاذًا للفلسفة، ثم إلى جامعة ماربوج بألمانيا مرة أخرى. وكان برنامج محاضراته في هذه الجامعة الأخيرة يشتمل على المنطق وعلم النفس وتاريخ التربية والعلوم السياسية والشعر.

وفي هذه الأثناء كانت صحته قد اعتلَّت، وظهرت عليه بوادر المرض الذي أودى به في النهاية، ولكن نشاطه لم يفتر، وإنما ظل يؤلف ويعيد طبع كتبه السابقة بعد مراجعات دقيقة، حتى الأسابيع الأخيرة من حياته، وعندما قهره المرض وتوفِّي في ٢١ نوفمبر سنة ١٨٧٥م، كان في أوج نشاطه العلمي والتأليفي.

(١-١) وأهم المؤلفات الفلسفية والسياسية التي اشتهر بها لانجه هي

  • (١)
    المشكلة العمالية Die Arbeiterfrage، وقد ظهرت طبعته الأولى في عام ١٨٦٥م، وأشرف هو ذاته على طبعتين أخريين كانت آخرهما عام ١٨٧٤م.
  • (٢)
    آراء جون استورت مِل في المسائل الاجتماعية J. S. Mill’s Ansichten über die sociale Frage (١٨٦٦م).
  • (٣)
    تاريخ المادية ونقد دلالتها في العصر الحاضر Geschichte des Materialismus und Kritik seiner Bedeutung in der Gegenwart، وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عام ١٨٦٥م، والطبعة الثانية في عامي ١٨٧٣ و١٨٧٥م.
  • (٤)
    «أسس علم النفس الرياضي Die Grundlegung der mathematischen psycologie» (١٨٦٥م).
  • (٥)
    «دراسات منطقية Logische Studien»، وقد نُشِرَ بعد وفاة لانجه بعامين (١٨٧٧م)، وأشرف على نشره الفيلسوف الألماني «هرمان كوهين».
ويتألف كتاب «تاريخ المادية» من بابين رئيسيين:
  • (أ)

    «تاريخ المادية حتى كانْت».

  • (ب)

    «تاريخ المادية منذ كانْت».

ولكل باب من هذين البابين أقسام تندرج تحتها فصول، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الأقسام التي يشملها كلٌّ من هذين البابين:

(أ) تاريخ المادية حتى كانْت

  • القسم الأول: المادية في العصور القديمة (ويعالج هذا القسم الفلسفات اليونانية والرومانية في خمسة فصول).
  • القسم الثاني: فترة الانتقال (وهي تشمل العقائد التوحيدية وموقفها من المادية، وكذلك الفلسفات المدرسية ثم عصر إحياء العلوم في أوروبا، ويشمل هذا العصر بيكن وديكارت).
  • القسم الثالث: مادية القرن السابع عشر (وهو يشمل جاسندي وهبز والفلاسفة الإنجليز).
  • القسم الرابع: القرن الثامن عشر (ويعالج تأثير الفلاسفة الإنجليز في فرنسا وألمانيا، ثم مادية لامتري، ودولباك، ورد الفعل على المادية عند ليبنتس وفلف).

(ب) تاريخ المادية منذ كانْت

  • القسم الأول: الفلسفة الحديثة (ويشمل فصلًا عن كانْت والمادية، وآخر عن المادية الفلسفية منذ كانْت).
  • القسم الثاني: العلوم الطبيعية (ويعالج موضوعات: المادية والبحث العلمي والدقيق، والقوة والمادة، والنظريات العلمية في الكون، والداروينية والغائية).
  • القسم الثالث: تكملة العلوم الطبيعية: الإنسان والنفس (ويبحث في العلاقة بين الإنسان والعالم الحيواني، والمخ والنفس، وعلم النفس العلمي، ووظائف الأعضاء الحسية).
  • القسم الرابع: المادية الأخلاقية والدين (ويتحدث عن الاقتصاد السياسي والأنانية القطعية، وعن المسيحية والتنوير، والعلاقة بين المادية النظرية وبين المادية الأخلاقية، الدين، ووجهة نظر المثل الأعلى).
وقد اعتمدنا في هذا البحث على الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب، التي قام بها «إرنست تشستر توماس Ernest Chester Thomas»، ونُشِرَت لأول مرة في ثلاثة أجزاء، في الأعوام: ١٨٧٧م و١٨٩٠م و١٨٩٢م، وقد أُعِيد طبع هذه الترجمة عدة مرات، والطبعة التي اعتمدنا عليها هي طبعة سنة ١٩٥٠م في مكتبة Routledge & Kegan paul (في سلسلة المكتبة الدولية لعلم النفس والفلسفة والمنهج العلمي)، وقد جُمِعَت هذه الطبعة بين الأجزاء الثلاثة في مجلد واحد. ولكنها احتفظت بالترقيم الأصلي للصفحات في كلٍّ من هذه الأجزاء الثلاثة، وهو الترقيم الذي لا يطابق التقسيم الذي عرضناه للكتاب تمامًا؛ ولذلك نود أن نورد هنا حدود كل جزء في هذا الترقيم حتى لا يلتبس الأمر على القارئ:
  • الجزء الأول: من البداية حتى نهاية القسم الثالث من الباب الأول (مادية القرن السابع عشر).
  • الجزء الثاني: من بداية القسم الرابع (القرن الثامن عشر) حتى نهاية الفصل الثاني من ثاني أقسام الباب الثاني (العلوم الطبيعية: القوة والمادة).
  • الجزء الثالث: من الفصل الثالث (النظريات العلمية في الكون) حتى نهاية الكتاب، وقد صدرت هذه الترجمة الإنجليزية بمقدمة قيِّمة للفيلسوف الإنجليزي الكبير «برتراند رسل» بعنوان «المادية ماضيها وحاضرها».

(٢) الأفكار الرئيسية في كتاب «تاريخ المادية»

يمكن القول — دون أية مبالغة: إن هذا الكتاب موسوعة فلسفية ضخمة تجمع كل ما عُرِفَ عن علاقة المادية بالفلسفة والعلم حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولقد أظهر لانجه — صفحات هذا الكتاب التي تزيد على ألف ومائة صفحة — علمًا غزيرًا بتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم حتى عصره، وتمتلئ صفحات الكتاب بهوامش طويلة قيمة تدل على سعة اطلاع هائلة، وقدرة فذة على النقد والتحليل.

ومن الممكن أن يُنظر إلى هذا الكتاب من وجهين، فهو من ناحية تاريخ للفلسفة، ومن جهة أخرى مناقشة مذهبية لفكرة المادية، وكلٌّ من الوجهين متداخل تمامًا في الآخر. صحيح أن الباب الثاني كله، باستثناء الفصلين الأولين، ليس تاريخيًّا وإنما هو استعراض لعلوم العصر في علاقتها بالمادية. ومع ذلك فإن الفصول التاريخية الخالصة كانت تحفل بالمناقشة المذهبية، ولم تكن تقتصر على السرد التاريخي على الإطلاق. وفي هذه الفصول التاريخية عالج لانجه تاريخ الفلسفة كله تقريبًا من وجهة نظر مادية، ولم يقتصر على الكلام على الفلاسفة الماديين وحدهم، وإنما بحث في أنصار المادية وخصومها على السواء؛ بحيث يمكن أن يقال: إن الكتاب تاريخ شامل للفلسفة حتى الفترة التي عاشها المؤلف.

وعلى ذلك فإن للكتاب مزايا ضخمة تجعله من أهم الكتب التاريخية في الفلسفة؛ وذلك لأسباب منها:
  • (١)

    إن نظرته إلى التاريخ الفلسفي جديدة إلى حد بعيد؛ لأنه يخرج بالفلسفة عن نطاق المألوف، يرفع من شأن فلسفات مادية لها في الأحوال العادية قيمة ضئيلة لدى مؤرخي الفلسفة؛ ففي كتابه هذا يجد دارس الفلسفة آفاقًا جديدة مخالفة لما اعتاد قراءته في معظم الكتب الفلسفية، حيث تسود النزعات المثالية والروحية، ويكون تمجيد الفلاسفة على قدر ابتعادهم عن العالم الواقعي وتوغلهم في عالم الأفكار الخالصة، وما أحق كتاب كهذا بعناية المشتغلين بالفلسفة، إن لم يكن لما فيه من أفكار إيجابية، فعلى الأقل لكي يجدوا فيه تغييرًا لما ألفوه، ولكي يفيدوا من الاطلاع على وجهات نظر مخالفة قد تصدمهم في بداية الأمر. ولكنها كفيلة بأن توسع أفقهم العقلي وتزيد من رحابة نظرتهم إلى الأمور.

  • (٢)

    إنه، على الرغم من عنايته الكبيرة بالتاريخ، كتاب حي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، فهو في مناقشته لأقدم المذاهب والشخصيات الفلسفية، يربط آراءها بالواقع المعاصر له على الدوام، ويستخلص من كل فكرة قديمة دلالتها بالنسبة إلى الحاضر الذي يعيش فيه. وهكذا تراه يتحدث عن القرن التاسع عشر بإسهاب في الوقت الذي يعالج فيه فلاسفة أقدمين مثل ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو، ولا يكف عن إجراء المقارنات بين القدماء والمحدثين، سواء في متن الكتاب وفي الهوامش الغنية الزاخرة التي تمتلئ بها صفحاته.

  • (٣)

    إنه يقدم إلى القارئ في نصفه الثاني صورة شاملة لحالة العلم في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي صورة تكاد تكون موسوعية في نطاقها؛ إذ تشمل العلوم الجيولوجية والفلكية والبيولوجية والفيزيائية والنفسية والأنثروبولوجية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والدينية. ومن المؤكد أن الدراسة الفاحصة لكتاب كهذا كفيلة بأن تلقي ضوءًا ساطعًا على هذه الفترة الهامة من تاريخ العلم، سواء من حيث تفاصيل الكشوف العلمية التي تمَّت فيها، أو من حيث الدلالة الفلسفية العامة لهذه الكشوف.

على أن الكتاب — على الرغم من مزاياه هذه — ينبغي أن تؤخذ المعلومات الواردة فيه بشيء من الحذر؛ وذلك للأسباب الآتية:
  • (١)

    إن الكتاب ذو نزعة «خلافية» واضحة؛ أي إنه يتخذ موقفًا محددًا من الخلافات الناشبة بين المفكرين في عصره، ويدافع عن هذا الموقف بعنف، بينما يهاجم آراء الخصوم كلما أتيحت له الفرصة، وبهذا المعنى يمكن القول: إن الكتاب كان مرتبطًا بالمناقشات والمجادلات الدائرة في ألمانيا في الفترة التي عاش فيها المؤلف.

  • (٢)

    إن هذه النزعة الخلافية كانت تتمثل، عند المؤلف، في انحيازه بقوة إلى فلسفة «كانْت»، ويتمثل ذلك بوضوح في التقسيم الذي وضعه للبابين الرئيسين للكتاب؛ إذ يجعل فيهما من فلسفة كانت محورًا يدور حوله التفكير الكامل للفلاسفة جميعهم؛ بحيث ينقسم تاريخ الفلسفة كله إلى ما قبل كانت وما بعده، كما يتمثل إيمانه بكانْت في جميع مناقشاته، التي ينحاز فيها إلى الموقف الكانتي دون أي تحفُّظ، ويحاول إثبات صحته في كل الأحوال. بل إن المذهب المادي ذاته — الذي كان محورًا للكتابة — كان هدفًا لهجومه الشديد في كل مرة كان ذلك المذهب يبدو فيها متعارضًا مع التعاليم الكانتية؛ أي في كل مرة يزعم فيها أنه يقدم نظرية ميتافيزيقية عن التركيب النهائي للعالم، ولا يقتصر على معالجة قوانين المادة بوصفها قوانين عالم «الظواهر» فحسب.

  • (٣)

    أما بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، فيبدو أن الكتاب قد توقف قبل أن تظهر آثار مرحلة حاسمة من مراحل تطور المذهب المادية، هي الماركسية أو المادية الديالكتيكية؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت قد ظهرت مجموعة هامة من كتب ماركس وإنجلز. ولكن الحركة التي أثارها لم تكن قد بدأت في التأثير على الأذهان، ولم تكن دلالتها الهامة قد تكشف بعدُ بوضوح إلا لفئة قليلة نسبيًّا، ويبدو أن لانجه لم يكن من هؤلاء؛ إذ إن كتابه الضخم لم يتضمن إلا إشارات هامشية بسيطة إلى كارل ماركس، وهو وإن كان قد وصفه في أحد هذه الهوامش بأنه «يشتهر بأنه أعلم مؤرخي الاقتصاد السياسي الأحياء» (هامش ص٣٠٩، الجزء الأول)، إلا أنه لم يجعل للمذهب الماركسي أي مكان في كتابه. ولا جدال في أن كتابًا يعالج المذاهب المادية دون أن يتضمن إشارة إلى أهم مراحلها وأقواها تأثيرًا في تاريخ الإنسان، يُعَدُّ من وجهة النظر المعاصرة منطويًا على نقص خطير؛ لأن أي كتاب معاصر لا يستطيع أن يتجاهل مذهب ماركس في المادية إن كان بصدد التأريخ لحركة المادية بوجه عام، وإنما ينبغي أن يفرد لها من حيث قبولها أو رفضها، وسوف تظهر آثار هذا النقص بوضوح خلال صفحات هذا البحث، ولا سيما في أجزائه المتعلقة بالموضوعات السياسية والأخلاقية.

ولكي نعرض لتفاصيل الأفكار الفلسفية التي وردت في هذا الكتاب، نرى أن من الأفضل تقسيمها إلى قسمين رئيسيين: أحدهما يتناول آراءه في تاريخ الفلسفة، الثاني يعرض موقفه من مشكلة المادية بوجه عام؛ أي إن القسم الأول تاريخي، والثاني مذهبي، وهما يناظران إلى حدٍّ ما البابين الرئيسيين في الكتاب، وإن كان الباب الثاني قد تضمن — كما قلنا من قبل — فصلين تاريخيين في البداية، قبل أن ينتقل إلى البحث المذهبي لمشكلة المادية في علاقتها بالعلوم المختلفة.

(٣) آراء لانجه في تاريخ الفلسفة

سبق أن أشرت إلى القيمة الكبرى لهذا الكتاب من حيث هو عرض لتاريخ الفلسفة من زاوية غير مألوفة، هي زاوية المذهب المادي. والواقع أن مشكلة المادية — التي تبدو ثانوية أو ضئيلة الشأن في كثير من كتب تاريخ الفلسفة — تظهر في هذا الكتاب على أعظم جانب من الأهمية، وتعد محورًا رئيسيًّا دارت حوله خلافات الفلاسفة منذ أقدم العصور. وكان من نتيجة هذا التغيير الأساسي في المنظور أن أصبح الكتاب جديدًا في نظرته إلى تاريخ الفلسفة؛ لأنه قد أبرز — من جهة — عنصرًا طالما تجاهله المؤرخون، وأعاد — من جهة أخرى — تقويم الشخصيات المعروفة في تاريخ الفلسفة؛ بحيث أعلى مكانة البعض، وعالجهم معالجة مفصلة، مع أن أسماءهم لا ترد في الكتب الشائعة إلا لمامًا، بينما وجَّه نقده المرير إلى كثير من الشخصيات التي تحتل قمة التفكير الفلسفي في نظر معظم المؤرخين.

وليس في وسعنا بطبيعة الحال أن نعيد عرض تاريخ الفلسفة بأسره وفقًا لنظرة المؤلف إليه، ولكنا سنكتفي بوقفات سريعة في مراحل مختلفة من هذا التاريخ، نوضح فيها مدى الجِدَّة في نظرة المؤلف إلى تاريخ الفلسفة، ونتخذها نماذج لطريقته الخاصة في مراجعة الآراء الشائعة عن فلاسفة العصور القديمة والحديثة.

(٣-١) المادية وبداية الفلسفة

منذ الجملة الأولى في كتاب «تاريخ المادية»، يعبر لانجه عن الارتباط الوثيق بين المادية وبين الفلسفة، فيقول: «إن المادية قديمة قِدم الفلسفة. ولكنها ليست أقدم منها»، وهو يشرح هذه الجملة في هامش الصفحة فيقول: إنها «موجهة — من جهة — ضد محتقري المادية الذين يجدون في نظرتها إلى الكون نقيضًا مطلقًا لكل تفكير فلسفي، وينكرون عليها أية قيمة علمية، كما أنها موجهة من جهة أخرى ضد أولئك الماديين الذين يحتقرون من جانبهم كل فلسفة، ويتصورون أن آراءهم ليست بأية حال وليدة نظر فلسفي، وإنما هي نتيجة خالصة للتجربة وللحكم الطبيعي السليم وللعلوم الفيزيائية». وهكذا فإن المادية عنده مقترنة في بداية ظهورها بنشأة الفلسفة ذاتها، فهي ليست مذهبًا ضئيل الشأن من الوجهة الفلسفية. ولكنها في الوقت ذاته ينبغي ألا تدعي الترفع عن الفلسفة والارتباط بالعلم وحده.

ومنذ بداية الكتاب أيضًا يوضح لانجه أن المادية قد اشتبكت في صراع حاد مع العقائد القديمة منذ ظهور أول المذاهب الفلسفية التي تدعو إليها؛ ذلك لأن الأفكار الدينية الوثنية التي كانت سائدة في الشرق القديم وفي العقائد اليونانية المختلفة كانت خليطًا مضطربًا غامضًا، يغذيه الجهل ويبعث فيه قوى متجددة، وهو يصف هذه العقائد بأنها كانت «مفتقرة إلى الروحانية بقدر ما كانت مفتقرة إلى المادية». ولا شك أن مثل هذه العقائد التي لم تكن تستمد قيمتها إلا من شعور الناس بالجهل والعجز عن التحكم في القوى الطبيعية. وكانت خليقة بأن تصطدم بمذهب يحاول الإتيان بمبدأ واحد لتفسير الكون، ويسعى إلى بعث النظام والوحدة في جمع الظواهر المادية، والفكرة التي يود لانجه أن يدافع عنها — وإن لم يكن قد صرح بها — هي أن الصراع بين المادية وبين العقائد الغابرة كان منذ البداية صراعًا بين العلم والجهل؛ أي بين الرغبة في إيجاد تفسير منظم للظواهر وبين الاكتفاء بالأفكار المضطربة والآراء الغامضة؛ فالمسألة إذن لم تكن هجومًا من هذه العقائد على المادية رغبةً منها في الدفاع عن الروحانية، وإنما كان الدافع الوحيد إلى هذا الهجوم هو — في واقع الأمر — الرغبة في الدفاع عن الجهالة والتفسير الغيبي للأشياء، ومن جهة أخرى فلم تكن المعركة التي خاضها الفلاسفة الماديون القدماء ضد رجال الأديان الوثنية راجعة إلى كراهيتهم للروحانية أو للمُثُل العليا، بل كان مبعثها الوحيد هو تأكيد حكم العقل وسيادة القانونية في فهم العالم، والرغبة في المضيِّ في التفسير إلى أقصى مدى ممكن، ومعاداة الجهل في كل صورة، ومنها تلك الصورة التي تؤكد عدم قابلية ظواهر كثيرة في الكون للتفسير العلمي، وبهذا المعنى تكون المادية مرادفة للنزعة إلى التفسير العقلي للأشياء، وأقوى دليل على ذلك ارتباطها الدائم بالتقدم العلمي، وازدهارها في العصور الذهبية للعلوم. وقد تجلى ذلك منذ أول عهود التفكير الفلسفي عند اليونانيين؛ إذ إن مادية الطبيعيين الأولين كانت مقترنة بفترة ازدهار هائل للعلوم الفلكية والرياضية والطبيعية، وهو الازدهار الذي تجلَّت أوضح مظاهره في مدينة أيونيا، مهبط الفلسفة اليونانية، وموضع التقاء خلاصة الثقافات القديمة.

(٣-٢) سقراط والمادية

حين يتحدث لانجه عن سقراط، فإنه في واقع الأمر يُصْدِر حكمًا على الفلسفة العقلية اليونانية بأسرها، فسقراط هو الذي بدأ رد الفعل الضخم على المذهب المادي في الفلسفة اليونانية، واستهلَّ تلك الحركة العقلية الهائلة التي بلغت قمتها العليا في فلسفة أرسطو، والتي دخلت فيها بعد تحالف مع الفلسفات اللاهوتية في العصور الوسطى، وظلت مسيطرة على الأذهان في العالم الغربي على نحو لا يمكن القول عن آثاره كلها قد اختفت حتى اليوم، ومن جهة أخرى فإن من المستحيل علميًّا وضع حد فاصل دقيق بين تفكير سقراط وتفكير أفلاطون؛ ومن هنا فإن إعادة تقويم فلسفة سقراط — على النحو الذي يقوم به لانجه في هذا الكتاب — هي في واقع الأمر إعادة لتقويم التيار العقلي في الفلسفة الغربية كلها، ولا سيما في قطبيه الكبيرين: أفلاطون وأرسطو.

ويؤكد لانجه أن المحاورات الأفلاطونية، التي تحدثت في معظم الأحيان بلسان سقراط وعبرت في أحيان غير قليلة عن آرائه، كانت تحفل بالخدع المنطقية والألاعيب وجميع أنواع المغالطات التي يرتكبها سقراط الظافر دائمًا، فهو يتلاعب بخصومه «كما يتلاعب القط بالفأر»، ويدفعهم إلى الوقوع في التناقض، وإلى الاعتراف بأن استدلالاتهم باطلة. ولكنهم لا يتخلصون من هذا الخطأ إلا ليقعوا على يديه في خطأ آخر. وفي رأي لانجه أن هذه الطريقة في الجدال تفيد في الحديث. وفي الصراع المباشر بين الحجج، حيث يجرب الشخص قواه العقلية ضد شخص آخر. ولكنها لا تفيد في البحث العلمي والسعي الجاد إلى المعرفة؛ ذلك لأن العلم لا يهدف إلى إفحام الخصوم، وإنما يرمي أساسًا إلى كشف الحقيقة دون مغالطة أو مجادلة عقيمة، على قدر ما كان سقراط بارعًا في الاهتداء إلى أخطاء خصومه، كان هو ذاته يقع في أخطاء لا تقل عنها خطورة. ولكنه كان دائمًا يعجز عن كشف الخطأ في استدلالاته الخاصة، وإذا لم يكن في وسعنا أن نتهم سقراط بالغش والخداع في المناقشة، فإنه كان على الأقل مسئولًا عن ذلك الاتجاه اليوناني إلى جعل الفلسفة نوعًا من الجدال اللفظي الذي هو أشبه ما يكون بمباريات مصارعة عقلية، تضيع فيها الحقيقة الهادئة في غمار المعارك الكلامية والرغبة المتحمسة في قهر الخصوم.

ولقد كان سقراط يدَّعي أنه لا يعلم شيئًا، ويتخذ موقف البراءة والسذاجة من خصومه، ويطلب إليهم أن يزيدوه علمًا. ولكن هذه البراءة الفكرية كانت تختفي وراءها — في واقع الأمر — نزعة قطعية جازمة، سرعان ما تظهر عندما يحتار الخصم ويعجز عن المضي في المناقشة، وقوام هذه النزعة القطعية مجموعة بسيطة من المبادئ الثابتة: «كالقول أن الفضيلة هي المعرفة، وأن العادل وحده هو السعيد، وأن أول واجبات الإنسان معرفته لنفسه، وأن علو المرء بنفسه أجدى من أية عناية يوجهها إلى الأشياء الخارجية»،٢ فإذا ما أحرجه الخصم في مسألة معينة، عاد إلى التذرع بجهله الدائم، وذكَّرنا بالنبوءة التي أعلنت أنه أحكم الإغريق؛ لأنه كان يعلم أنه جاهل، على حين أن غيره لا يعلمون مثله أنهم لا يعلمون. ومع ذلك فقد كان سقراط أبعد الناس عن روح الشك؛ لأن افتراض وجود معرفة يقينية وإمكان وصول العقل البشري إليها كامن في كل عبارة نطق بها.

ومع ذلك فإن لانجه لا ينكر أن سقراط أسدى إلى الفلسفة خدمة كبرى، فمن الممكن أن يُعَدَّ رائدًا للنزعة النقدية في الفلسفة؛ لأن هدفه كان تمهيد الطريق للمعرفة الحقة بالقضاء على كل معرفة باطلة، ووضع منهج يتيح التمييز بين الحقيقة والبطلان، فمنهج سقراط إذن نقدي في أساسه، وفكرته القائلة إن النقد أساس المعرفة، كانت ولا تزال فكرة لها قيمتها الكبرى في الفلسفة، والأهم من ذلك أنه أسهم في تأكيد التمييز بين المظهر والحقيقة، وأكد أن العلم إنما يكون بالماهيات الكلية للأشياء، على حين أن الظواهر البادية لا تصلح أساسًا لأية معرفة حقة.

ويشترك سقراط مع أفلاطون وأرسطو في أنهم جميعًا قد أحدثوا رد فعل عنيف على النزعة المادية السائدة لدى الفلاسفة اليونانيين السابقين عليهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما قلبوا موازين الأمور بحيث أصبحت وجهة النظر الدنيا هي العليا، وأحيوا من جديد تلك الأخطاء والأوهام القديمة التي كان الماديون الأولون قد قضوا عليها. ولكنهم أحيوها من جديد في صورة أبهى وأروع، وأضفوا عليها سلطة ونفوذًا، وبينما كانت الخرافة القديمة صريحة واضحة، أصبحت على أيديهم تكتسي بثوب وقور، هو ثوب العقل المصوغ في قالب بشري بحت، والغائية التي تصور الطبيعة على مثال الإنسان.

ولقد ركز الماديون القدماء أبحاثهم في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية؛ أي في ذلك الميدان الذي يستطيع العقل إحراز تقدم حقيقي فيه. أما رد الفعل الذي بدأه سقراط فقد نقل مركز الاهتمام إلى علوم الأخلاق والنفس البشرية؛ أي إلى ميدان يستحيل فيه تحقيق تقدم تتفق عليه كل الأذهان. بل إن أرسطو عندما أراد أن يعود فيما بعد إلى بحث تلك الفروع القديمة التي تجاهلها أفلاطون وسقراط، خلط بين البحث الطبيعي والبحث الأخلاقي، وذلك بإدخاله فكرة الغائية، وهي فكرة ذات أصل أخلاقي واضح؛ فالغاية عند أرسطو تتفق مع الماهية الفكرية للأشياء. ولكن هذا يعني أننا نسبنا إلى هذه الغايات القدرة على تحقيق ذاتها في الأشياء الطبيعية، وهي فكرة لا يمكن تصورها في العلم، ولا ترجع إلا إلى التشبيه بطريقة الإنسان العملية في تشكيل الأشياء حسب غاية معينة.٣

(٣-٣) هل كان ديكارت ماديًّا؟

يتحدد موقف ديكارت من المادية من خلال حقيقتين متعارضتين: فمن الشائع أن يقال: إن ديكارت كان عدوًّا للفلسفة المادية، وأنه فتح الطريق أمام المثالية بقضيته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود». ولكن من الواجب أن نلاحظ — من جهة أخرى — أن واحدًا من أشد الماديين الفرنسيين تطرفًا — وهو «لامتري» — يؤكد انتسابه إلى ديكارت، فكيف إذن نحل الإشكال الذي تنطوي عليه هاتان الحقيقتان المتعارضتان؟

يرى لانجه أن ديكارت قد دفع المذهب المادي إلى الأمام دفعة قوية عندما أبدى اهتمامه المشهور بالرياضيات واتخذ منها أنموذجًا لكل العلوم. صحيح أن الرياضة علم عقلي، ذو منهج استنباطي، وأن الطريقة الاستنباطية تتنافى مع روح المذهب المادي، التي هي تجريبية في أساسها، «ومع ذلك فقد كان ديكارت هو العامل الأكبر على سيطرة ذلك الجانب الرياضي من الفلسفة الطبيعية، الذي طبق على جميع ظواهر الطبيعة معيار العدد والشكل الهندسي»،٤ وكان معنى ذلك تغليب النزعة الآلية في بحث الطبيعة، وهي نزعة مادية في أساسها، وإذن فقد كان ديكارت هو الذي أذاع فكرة الآلية في هذه الفترة من تاريخ الفلسفة الحديثة، وهي الفكرة التي ظهرت بأوضح صورها في كتاب لامتري «للإنسان الآلة L’homme machine»، وإلى ديكارت ترتد الفكرة القائلة: إن جميع وظائف الحياة العقلية، فضلًا عن المادية، تعد آخر الأمر نواتج لتغيرات آلية.
ومن المؤكد أن المادية قد وجدت سندًا كبيرًا في آراء ديكارت التي تُرْجِع كل التغيرات في العالم الطبيعي — بل وفي الإنسان ذاته — إلى ظاهرة الحركة، إلى تأثير الأجسام بعضها في بعض، مما يؤدي تلقائيًّا إلى استبعاد التفسيرات الصوفية للطبيعة، ويقتبس لانجه في هذا الصدد عبارة ديكارت المشهورة في كتاب «انفعالات النفس»: «إن الجسم الميت لا يكون ميتًا لأن النفس تغيب عنه، بل لأن الآلة الجسمية ذاتها تفسد في جزء أساسي منها»، ثم يعلق على هذه العبارة قائلًا: «إذا تذكرنا أن كل الأفكار المتعلقة بالنفس لدى الشعوب البدائية إنما ترجع إلى مقارنة بين الجسم الحي والجسم الميت، لرأينا على الفور في هذه النقطة الواحدة إسهامًا له أهمية في دعم المذهب المادي في المجال البشري»،٥ ومن هنا فإن لانجه يذهب إلى أن «لامتري» كان على حق عندما أرجع ماديته إلى ديكارت. وحين أكد أن ديكارت كان فيلسوفًا حذرًا، حاول تجنب رجال الدين فأضاف إلى نظريته نفسًا في حقيقة الأمر خارجة تمامًا عن مضمون النظرية ذاتها.
ومع ذلك فإن الجانب المثالي موجود بدوره في تفكير ديكارت. ومن الجائز أن ديكارت قد احتفظ بالمادية المثالية معًا دون أن يحاول التوفيق بينهما على نحو ما فعل كانت. ولكن الجانب المثالي هو الذي أثار اهتمام الناس، وطغى بذلك على الجانب المادي في فلسفته. أما ديكارت نفسه فكان الأمر لديه على عكس ذلك؛ إذ إنه لم يُبد اهتمامًا كبيرًا بالنظرية الميتافيزيقية التي ترتبط الآن باسمه، على حين أنه أبدى أشد الاهتمام بأبحاثه العلمية والرياضية، ونظريته الآلية في الطبيعة، وكل ما في الأمر أنه عندما وجد الناس يستحسنون آراءه الميتافيزيقية وبراهينه على وجود الله ولا مادية النفس، أطربه أن يشتهر بين الناس بأنه ميتافيزيقي كبير، وبدأ يبدي اهتمامًا متزايدًا بهذا الجانب من مذهبه. وكان هذا التحول إلى الميتافيزيقا أدعى إلى اطمئنانه على نفسه من هجوم رجال الدين، «إذ إن من المعروف أن خوفه من رجال الدين قد دفعه إلى إعادة النظر في مؤلفاته التي كانت قد تمت بالفعل، ومراجعتها مراجعة دقيقة، ومن المؤكد أنه سحب منها — رغمًا عما كان يؤمن به فعلًا — نظريته في دوران الأرض.»٦

(٣-٤) كانْت والمذهب المادي

سبق أن أشرنا إلى أن لانجه كان من أنصار كانْت المتحمسين، وقد يبدو غريبًا أن يظهر مؤلف ضخم عن المذهب المادي على يد واحد من أقطاب النزعة الكانتية الجديدة في ألمانيا. ولكن الواقع أن لانجه قد وفَّق بين آراء كانت وبين المذهب المادي على طريقته الخاصة، فهو من ناحية ليس نصيرًا متحمسًا للمذهب المادي في كل الأحوال؛ ذلك لأن المادية في نظره لها قيمتها بوصفها طريقة في تفسير الظواهر تخلصنا من المبالغات والأوهام الميتافيزيقية، وتزيد الفلسفة اقترابًا من روح العلم. ولكنها لا تعدو أن تكون «طريقة في تفسير الظواهر» فحسب؛ أعني أنها لا تقدم تفسيرًا نهائيًّا للأشياء في ذاتها، وهي تقضي على ذاتها إذا حاولت أن تقيم بدورها نظرتها الميتافيزيقية الخاصة إلى الكون، وتدَّعي أنها التعبير الكامل عن الطبيعة النهائية للأشياء، وإذن فالمادية عنده مقبولة من حيث إنها منهج في النظر إلى الأمور، قريب من الروح العلمية الحقيقية. ولكنها مرفوضة من حيث إنها نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الأشياء في ذاتها تظل مجهولة لدينا تمامًا.

ومن جهة أخرى فإن لانجه يذهب إلى أن كانْت لم يكن معاديًا للمادية إلى الحد الذي يتصوره معظم مؤرخي الفلسفة؛ ذلك لأن كانْت قد تأثر أشد التأثير بفلسفة هيوم، وهيوم فيلسوف تجريبي لا يؤمن بوحدة الذات أو بوجود جوهر للنفس أو بأن النفس بسيطة متوحدة، ومثل هذه الآراء عند هيوم لا تتمشى مع الإيمان بخلود النفس؛ ومن هنا فإنها تضر بقضية اللاهوت على قدر إضرارها بقضية الميتافيزيقا، فإن كان صاحب هذه الآراء هو أقوى الناس تأثيرًا في تفكير كانت، فمن الواجب أن ننظر إلى علاقة كانت بالمادية في ضوء مخالف لما هو مألوف؛ إذ إن كانْت — مع معارضته للمادية — لم يكن ممن يزدرونها أو يستبعدونها تلقائيًّا. وهكذا يعرض لانجه فلسفة كانْت عرضًا مفصلًا، ويهتم بوجه خاص بفكرة مثالية المكان والزمان من حيث تأثيرها في موقفه من الفلسفة المادية، كما يهتم أيضًا بمقولة العلية التي كانت آراء «كانت» فيها بمثابة رد فعل على نزعة الشك عند هيوم؛ بحيث انتهى إلى أن العصور الذهنية تنتسب بالضرورة إلى تركيبنا الخاص، لا إلى التجربة ذاتها، وعلى أية حال فإن لانجه يثبت أن كثيرًا من عناصر الفلسفة الكانتية لا تتعارض مع المذهب المادي، ويكفي أن كانْت يؤكد أن العالم الظاهري — وهو العالم الذي تبحث المادية في قوانينه — هو العالم الوحيد المعروف لنا، فلا تعارض على الإطلاق بين فلسفة كانت وبين أية نزعة مادية طالما أننا ننظر إلى هذا العالم على أنه عالم ظواهر فحسب، ومن المؤكد أن كانْت لا يرفض على الإطلاق أي بحث علمي يهدف إلى استخلاص قوانين عالم الطبيعة، منظورًا إليه على أنه عالم الظواهر. أما إذا ادَّعت المادية أن القوانين التي يصل إليها العلم متعلقة بالأشياء في ذاتها، فإنها في هذه الحالة تتعارض مع أصول الفلسفة الكانتية، وتتعرض في الوقت ذاته لنقد شديد من جانب المؤلف.

وسوف نرى في الجزء التالي من هذا البحث كيف أن لانجه يوجه انتقادات شديدة إلى المذاهب المادية التي تزعم أنها تتوصل إلى الطبيعة النهائية للأشياء، على الرغم من إيمانه بقيمة المادية من حيث هي منهج علمي في البحث.

(٤) المادية والعلم

أفادت المادية كثيرًا من تقدم العلوم الطبيعية، حتى إن الماديين الذين عرفهم «لانجه» حاولوا أن يربطوا مذهبهم بالعلم ربطًا نهائيًّا، مؤكدين أنه لا مجال في أي موضوع ما عدا العلم الطبيعي؛ إذ لا يوجد خارج الطبيعة شيء، ومعنى ذلك أن الفلسفة لم تعد لها مجال، بل لقد أصبحت — بعد تقدم العلوم الطبيعية — عائقًا حقيقيًّا في وجه الفهم العلمي للعالم، وإذن فالماديون يقولون بهوية تفكيرهم مع العلم، على حين أن التفكير الفلسفي المضاد لمذهبهم لا يساعد في رأيهم على توسيع نطاق المعرفة.

ويتفق «لانجه» مع هذا الحكم بقدر ما ينطبق على الفلسفات المثالية الألمانية في تطوراتها بعد كانتْ، وهي الفلسفات التي يتخذ منها موقفًا شديد العداء، فطريقة تفكير شلنج وهيجل وغيرهما من المثاليين تبرر بالفعل عدم ثقة العلماء بالفلسفة. غير أن الفلسفة في تطوراتها السابقة — أي منذ ديكارت حتى كانْت — لم تكن تتخذ من العلم هذا الموقف، وإنما كانت تساير العلم وتسانده، بل كانت في أساسها طريقة علمية في النظر إلى الأمور، فضلًا عن أنها كانت محاولة لكشف أوجه أخرى للعالم غير ذلك الوجه الذي تكشف لنا الحواس. وفي هذه الحالة يقف لانجه موقف المعارضة الشديدة من الادعاءات المادية، وينكر على هذا المذهب زعمه أنه هو الممثل الوحيد للعلم، وهو كفيل باستبعاد الفلسفة نهائيًّا من مجال المعرفة البشرية، فللفلسفة كل الحق في الوقوف إلى جانب العلم، وكل محاولة للاستغناء بالعلم عن الفلسفة مصيرها الإخفاق.

ويعتقد لانجه أن «كانْت» يقدم إلينا مثلًا رائعًا لمفكر جمع بين الاهتمام بالعلم والإسهام فيه وبين القدرة على تشييد مذهب فلسفي وطيد الأركان، فقد كان «كانْت» من أوائل من قالوا بالنظرية التي ترد أصل الأجرام السماوية إلى مجرد تماسك المادة المبعثرة في أرجاء الكون، وهو قد استبق المذهب التطوري في نواح غير قليلة؛ إذ تحدث في محاضراته العامة عن تطور الإنسان من حالة حيوانية سابقة. وفضلًا عن ذلك فقد رفض كانْت فكرة وجود «مقر» للنفس، وأكد أنها فكرة لا معقولة، وكثيرًا ما كان ينادي بأن الجسم والنفس شيء واحد يدرك على نحوين مختلفين، وهذه كلها عناصر مادية غاية في الوضوح، تضمنها تفكير كانْت واتسع لها. ومع ذلك فإن تفكيره الذي لم يكن يستطيع أن يتعلم المزيد من الماديين — لأن كل قضاياهم موجودة فيه ضمنًا — قد ظل محتفظًا بالطبع المثالي؛ أي إن كانْت قد استطاع أن يعترف للعلم بمجاله الخاص ويسهم في تقدمه بجهود غير قليلة. ولكنه مع ذلك لم ينكر على الفلسفة حقها في استطلاع مجالات أخرى، فالعالم المُعطَى لنا عن طريق حواسنا، ولتنظيمه وجعله معقولًا بالنسبة إلينا. ولكن نظرة العلم الآلية لا تسري إلا على عالم الظواهر هذا، ومن وراء هذا العالم يوجد عالم الأفكار الذي يتعين علينا ألا نتجاهله؛ فالعلم يقف عند حدود هذا العالم المثالي أو الفكري الذي لا تقدر على استطلاعه إلا الفلسفة.

أما الزعم بأن النظرة المادية هي وحدها الكفيلة بتحقيق تقدم المعرفة البشرية، فإن لانجه يرد عليه بقوله: إن هذه النظرة — على العكس من ذلك — محافظة بطبيعتها، فلا شيء يدفع المادي إلى تجاوز الظواهر الحسية المباشرة، إلى استخلاص أوجه جديدة غير مألوفة للأشياء، والقيام بتجارب ومحاولات جريئة تغير مجرى المعرفة السائد. بل إن هذه الجرأة وذلك التجديد يحتاجان إلى ذهن لا يتقيد بالمحسوسات المباشرة، ولا يحول شيء بينه وبين تجاوز ما هو معطى، والتحليق في آفاق أعلى من مستوى ما هو حاضر أمامه مباشرةً؛ ومن هنا يؤكد لانجه أن الكشوف والانقلابات الكبرى في العلم قد تمت على أيدي علماء لم يكونوا من ذوي النزعة المادية.٧

فهل يعني ذلك أن لانجه يحارب المادية المعاصرة له ولا يقبل أية قضية من قضاياها؟ الواقع أن موقف لانجه من المادية — كما قلنا من قبل — موقف مزدوج، فهو يحفظ من المادية بفكرة انتظام الطبيعة وقانونيتها، ويرى في هذه النزعة وسيلة لمحاربة كل أنواع التفكير الخرافي أو الميتافيزيقا المغرقة في الغرور. ولكنه يعترض على المادية بشدة في فكرتها القائلة: إن المادة هي جوهر الأشياء والموجودات جميعًا. ومع ذلك فمن الواجب أن ننبه إلى أن اعتقاده بانتظام الطبيعة لا يعني أن هذا الانتظام في رأيه «موضوعي»، ينتمي إلى طبيعة الأشياء ذاتها، بل إن تأثيره بتفكير كانْت جعله يؤمن بأن هذا الانتظام يرتد آخر الأمر إلى الذات التي تضفي قوانينها ومبادئها — أو صورها ومقولاتها — على كل ما تدركه في عالم الظواهر.

فلنتأمل إذن كيف يطبق لانجه آراءه في مجالات علمية محددة:

(٤-١) علم الفيزياء

كان هذا العلم — في عصر لانجه — قد بدأ يغلِّب فكرة الطاقة على فكرة المادة، ويرد الثانية إلى الأولى. ومع ذلك فإن قانون بقاء الطاقة قد لقي تجاهلًا من الماديين المعاصرين له، من أمثال فشنر Frchner وبوشنر Büchner؛ «ذلك لأن العنصر الصحيح في المادية — وهو استبعاد المعجزة والتخبط من مجال الطبيعة — يثبت بفضل هذا القانون على نحو أعلى وأعم مما يستطيع الماديون إثباته من وجهة نظرهم الخاصة. أما العنصر الباطل — وهو القول بأن المادة هي مبدأ كل ما هو موجود — فإنه يُطْرَح جانبًا — بفضل هذا القانون — على نحو يبدو نهائيًّا قاطعًا.»٨

والواقع أن عدم قدرتنا على طاقة خالصة، إنما يرجع إلى ضرورة نفسية تجعلنا ندرج ملاحظاتنا تحت مقولة الجوهر؛ فنحن لا ندرك إلا طاقات. ولكنا نطالب بعنصر تحل فيه هذه الظواهر المتغيرة؛ أي بجوهر. وهذا الجوهر هو في ذاته مجهول؛ ومن هنا فقد عرف لانجه المادة بأنها «ذلك العنصر في الشيء، الذي لا نستطيع أو لا نريد أن نمضي في تحليله إلى طاقات، والذي نجمده ونثبته فنجعل منه أصلًا للقوى التي نلاحظها وحاملًا لها.»

(٤-٢) علم الحياة

يبدو لأول وهلة أن نظرية التطور عند داروين قد استبعدت فكرة الغائية نهائيًّا من مجال علم الحياة. ولكن هناك نوعًا من الغائية لا تستبعده هذه النظرية، هو ذلك النوع الذي اعترف به كانْت، الذي هو مجرد إقرار بمعقولية العالم؛ ذلك لأن الداروينية بدورها ليست إلا نظرية تُضفي طابعًا معقولًا على أصل الأنواع الحية، وإذن فغائية العالم ليست — من الوجهة الشكلية — إلا تكيف هذا العالم مع أذهاننا. وهذا التكيف يتطلب بالضرورة سيادة قانون العلية على نحو مطلق، دون تدخل من أية قوى خارقة للطبيعة، كما يتطلب أن تكون الأشياء قابلة للفهم عن طريق ترتيبها وتنظيمها في صور وأنواع محددة. وهذا بعينه ما فعلته نظرية التطور في مجال الأحياء، أما النوع الآخر من الغائية، القائل بتدخل قوى تخرج بالحوادث عن مجراها المنتظم، وهو الغائية التشبيهية بالإنسان، فإنه يتنافى مع أسس فلسفة كانْت، مثلما يتنافى مع العلم ومع الداروينية بوجه خاص.

(٤-٣) علم النفس

لا ينكر لانجه أهمية البحث العلمي التجريبي الحديث في علم النفس وعلم وظائف الأعضاء، فلهذه الأبحاث في نظره قيمة عظمى. ولكنها لا تؤدي بأية حال إلى دعم المادية، فلندرس تأثير العوامل الميكانيكية في الإدراك كما نشاء. ولكن كل ما سننتهي إليه في الواقع هو أننا كشفنا القوانين الآلية التي تنظم أفكارنا لا حواسنا، ولو استطعنا أن نرد شيء إلى الحواس؛ لوجدنا آخر الأمر أن الحواس ذاتها إنما هي أفكار في أذهاننا؛ «ذلك لأن كل تركيب مادي — حتى لو كنت أستطيع إثبات وجوده بالمجهر أو المشرط — يظل مع ذلك مجرد فكرة لي، ولا يمكن أن يختلف في طبيعته عما أسميه بالذهن»،٩ وهكذا فإن أي تفسير يمكن أن يأتي به علم النفس — بشأن مفاهيم مثل الإدراك أو الإحساس أو غيرها — لا بد أن يرد إلى طبيعة «تركيبنا»؛ لأن كل ما ندركه في صورة إحساس يرتد إلى فكرة في ذاتنا في آخر الأمر. ولا شك أن هذه الطريقة في تفسير كشوف علم النفس — أو أي علم آخر — كفيلة بأن تفسد أية نتيجة يتوصل إليها ذلك العلم؛ لأن كل شيء يرجع حسب هذا المقياس إلى «فكرة» ذاتية. وهذا النوع من «المثالية» يستحيل تفنيده بالمنطق المألوف، وكل ما يمكن أن يُقال عنه هو أنه عقيم لا يغير من الأمور شيئًا، وإنما يزيدها تعقيدًا.

(٤-٤) السياسة والأخلاق

يعني لانجه بالمادية في الأخلاق كل مذهب يحدد هدف السلوك الأخلاقي، لا على أساس فكرة تسري على نحو مطلق، وإنما على أساس السعي إلى تحقيق حالة مرغوب فيها، مثل هذا المذهب يبدأ — كالمادية النظرية — من المادة في مقابل الصورة، وكل ما في الأمر أن المقصود هنا ليس مادة الأجسام الخارجية، وإنما المادة الأولية للسلوك العلمي، أي الدوافع ومشاعر اللذة والألم.١٠

وعندما تُطَبَّق هذه المادية الأخلاقية في مجال السياسة، تتحول إلى شكلٍ من أشكال الأنانية: كالقول بالحرية الاقتصادية وبفكرة المنفعة، وتغليب القيم «العلمية» والرغبة في توسيع نطاق الأعمال الخاصة وتكديس الأرباح. وهكذا يربط لانجه بين الرأسمالية بجميع مظاهرها المعروفة، والتي كانت أشد تطرفًا في عصره بطبيعة الحال وبين المادية؛ إذ إن الجشع الرأسمالي والرغبة في الانتفاع على حساب الغير إنما ترتبط — في رأيه — بالتقدم المادي وبالاهتمام بالأوجه المادية للحياة بعد الثورة الصناعية.

ولا شك أن آراء لانجه هذه تُعد، من وجهة النظر المعاصرة، باطلة تمامًا؛ لأن المادية ترتبط في أذهاننا الآن بالعداء للرأسمالية، الذي يتمثل على أوضح صورة في المادية الديالكتيكية عند ماركس. ولعل الخلط الذي وقع فيه لانجه في هذا الصدد هو أوضح مظهر من مظاهر ذلك النقص الرئيسي في كتابه وهو تجاهله للمادية الماركسية وعدم إدخالها ضمن الأشكال المُعترف بها للمذهب المادي؛ على أن في وسعنا أن نستخلص من هذا الخلط أمرًا له دلالته البالغة؛ فها هو ذا مفكر استعرض تاريخ المادية، حتى عصره بدقة بالغة، وانتهى إلى الربط بينها وبين الرأسمالية في مجال الاقتصاد السياسي، أليس في هذا دليل بالغ على مدى الاضطراب في فهم كلمة «المادية». وفي استخلاص مضموناتها الأخلاقية والسياسية؟ الحق أن معظم الناس ما زالوا يربطون — عن وعي حينًا ودون وعي أحيانًا — بين المادية وبين معنى الجشع والسعي إلى الربح وتكديس الأموال وتحقيق المصالح الشخصية، فهل يكون من المستغرب — والحال هذه — أن نرى أشد دول العالم تمسكًا بدافع الكسب والربح، وأعظم شعوب العالم حبًّا للمال، تتخذ من نفسها حامية للروحية في العالم ضد «مادية» الاشتراكيين؟ وهل يكون من المستغرب أن يُتَّهم كل مذهب يرمي إلى تحقيق المزيد من عدالة التوزيع، إلى تأكيد قيم التعاون والتضامن فوق القيم الفردية الضيقة المحدودة، بأنه مذهب يتجاهل العناصر «الروحية» في الإنسان؟ الحق أن الأمور كلها مختلطة والمقاييس مقلوبة، وأن الصورة التي ما زالت عالقة بأذهان مجموعات كبيرة من البشر — في النصف الثاني من القرن العشرين — لا تقل اضطرابًا — في المجال السياسي — عن تلك التي نجدها عند «لانجه» منذ قرن من الزمان، والسبب الأكبر في ذلك الاضطراب هو الخلط الكبير في فهم ذلك المصطلح العظيم الخطورة: مصطلح «المادية»، وهو خلط يمكن أن يُعَدَّ دعامة كبرى ترتكز عليها دعايات القرن العشرين.

(٥) نصوص مختارة من كتاب «تاريخ المادية»

(٥-١) فضل التفكير العربي على العلم

في هذا النص يوضح لانجه موقف المفكرين والفلاسفة العرب من مشكلة المادية، التي يفهمها في هذا الجزء من الكتاب بمعنى يقرب من معنى «الروح العلمية»؛ ومن هنا فإن النص بأكمله يعد من خير الشواهد التي قدمها الكُتَّاب الغربيون على فضل الحضارة العربية في ميدان العلم:

… كان ثالث الأديان التوحيدية الكبرى — وهو الإسلام — أقربها إلى الروح المادية، فقد كانت هذه العقيدة — التي هي أحدث العقائد الثلاث عهدًا — أسرعها إلى رعاية الروح الفلسفية المتحررة، التي نمت مع الازدهار الرائع للحضارة العربية. وكان لها تأثير قوي في المحل الأول على يهود العصور الوسطى؛ ومن ثَم على مسيحيي الغرب بطريق غير مباشر.

ولقد ظهرت في الإسلام — حتى قبل معرفة العرب للفلسفة اليونانية — شيع ومدارس متعددة في علم الكلام، تكونت لدى بعضها فكرة عن الله بلغت حدًّا من التجريد استحال معه على أي بحث فلسفي أن يمضي أبعد منها في هذا الاتجاه، على حين أن بعضها الآخر لم يكن يؤمن إلا بما يمكن تعقله وإثباته، وقد ظهرت في المدرسة الكبرى بالبصرة، طائفة من العقليين، تحت رعاية العباسيين، كانت تسعى إلى التوفيق بين العقل والإيمان.

ولو قارنَّا بين هذا التيار الزاخر من علم الكلام والفلسفة الإسلامية الخالصة، وبين المشائين الذين تطرأ أسماؤهم على أذهاننا عادةً عندما يرد ذكر الفلسفة العربية الوسيطة؛ لبدا هؤلاء الأخيرون مجرد فرع ضئيل الأهمية نسبيًّا، دون تنوع مذكور في داخله، ولم يكن ابن رشد — الذي كان اسمه أكثر الأسماء شيوعًا في الغرب بعد أرسطو — نجمًا يحتل المكانة الأولى في سماء الفلسفة الإسلامية، وإنما ترجع أهميته الحقيقية إلى أنه هو الذي تجمعت عنده نتائج الفلسفة العربية الأرسططالية التي كان هو ذاته آخر ممثل عظيم لها، وهو الذي نقلها إلى الغرب في مجموعة واسعة النطاق من المؤلفات، ولا سيما في شروحه على نصوص أرسطو. ولقد نمت هذه الفلسفة — شأنها شأن الفلسفة المدرسية المسيحية — من تفسير لأرسطو يتسم بطابع أفلاطوني محدث. ولكن على حين أن المدرسية الغربية — في مراحلها الأولى — لم تكن لها إلا معرفة ضئيلة باللاهوت المسيحي وخاضعة لسلطانه، فإن الينابيع التي تدفقت على العرب من خلال المدارس السريانية كانت أغزر بكثير، فمضى الفكر معها في طريق أكثر تحررًا من تأثير اللاهوت، الذي شق لنفسه طرقًا تأملية خاصة به. وكانت نتيجة ذلك أن الجانب الطبيعي من مذهب أرسطو قد نما بين العرب على نحو لم تعرفه المدرسية المسيحية الأولى على الإطلاق، مما أدى فيما بعد بالكنيسة المسيحية إلى أن تعد مذهب ابن رشد مصدرًا لأشد أنواع التجديف …

على أن من واجبنا أن نشكر الحضارة العربية في العصور الوسطى على عنصر آخر إلى جانب فلسفتها، ربما كان أوثق صلة بتاريخ المادية، هو أعمالها الهامة في ميدان البحث الوضعي. وفي الرياضيات والعلوم الطبيعية، بأوسع معاني هذه الكلمة، والحق أن الخدمات الرائعة التي أداها العرب في ميدان الفلك معروفة بما فيه الكفاية،١١ ولقد كانت هذه الدراسات بوجه خاص هي التي أدت — عندما ارتبطت بالتراث اليوناني — إلى إفساح المجال مرة أخرى لفكرة انتظام مجرى الطبيعة وخضوعه للقانون، وحدث ذلك في وقت أدى فيه تدهور الإيمان في العالم المسيحي إلى بعث اضطراب في النظام الأخلاقي والمنطقي للأشياء يفوق ما كان حاصلًا في أية فترة من فترات الوثنية اليونانية الرومانية. وفي وقت كان كل شيء فيه يعد ممكنًا ولا شيء يعد ضروريًّا. وكان يفسح فيه مجال لا حدود له لحرية الموجودات التي كان الخيال لا يكف عن إضفاء صفات جديدة عليها …

وينبغي علينا في هذا المجال أن نبدي اهتمامًا خاصًّا بعلم الطب، فقد عالج العرب هذا العلم بحماسة بالغة، وهنا أيضًا نجدهم، مع تعلقهم بالتراث اليوناني، يعملون بروح مستقلة ميَّالة إلى الملاحظة الدقيقة، ويضعون بوجه خاص مذهبًا في الحياة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلات المادية. وهكذا استطاع الحس المرهف لدى العرب أن يدرس الإنسان، فضلًا عن عالم الحيوان والنبات — والطبيعة العضوية بأسرها على نحو لا يقتصر على استقصاء خصائص الموضوع المُعطى، وإنما يتتبع تطوره وكونه وفساده؛ أعني نفس المجالات التي كانت النظرية الصوفية في الحياة تجد فيها دعامة لها.

ولقد سمعنا جميعًا عن ظهور مدارس طبية قديمة العهد في المناطق الجنوبية من إيطاليا، حيث كان الاختلاط قويًّا بين العرب وبين العناصر المسيحية المثقفة؛ ففي «مونتي كاسينو» — ومن بعدها في ساليرنو ونابولي — ظهرت تلك المدارس الطبية الشهيرة، التي كان طلاب العلم يتقاطرون عليها من جميع أرجاء العالم الغربي.

ولنلاحظ أن هذا الإقليم ذاته هو الذي شهد أول ظهور لروح الحرية في أوروبا، وهي الروح التي يتعين علينا ألا نخلط بينها وبين المادية الكاملة، وإن تكن وثيقة الصلة بها على أية حال؛ ذلك لأن هذه المنطقة من أرض جنوب إيطاليا — ولا سيما صقلية — التي يبلغ فيها التعصب المجنون والخرافة العمياء أقصى مداهما في أيامنا هذه. وكانت في ذلك الوقت كعبة العقول المستنيرة ومهدًا لفكرة التسامح.

فإذا عدنا إلى العلوم الطبيعية عند العرب، لكان لزامًا علينا — في الختام — أن نقتبس عبارة همبولت Humboldt الجريئة، التي يقول فيها: إن العرب ينبغي أن يُعَدُّوا المؤسسين الحقيقيين للعلوم الفيزيائية «بالمعنى الذي نعتاد اليوم استخدام هذا اللفظ به»؛ فالتجربة والقياس measurement هما الأداتان الهائلتان اللتان شق بهما العرب طريق التقدم، وارتفعوا إلى مكانة تقع بين ما أنجزه اليونانيون في فترتهم الاستقرائية القصيرة، وما أنجزته العلوم الطبيعية في العصر الحديث.
(من الجزء الأول، ص١٧٧–١٨٤)
١  وهو غير عالم النفس الدنمركي كارل لانجه الذي اشترك مع جيمس في الوصول إلى نظرية الانفعالات المعروفة باسم نظرية «جيمس-لانجه».
٢  تاريخ المادية، الجزء الأول، ص٧٠.
٣  المرجع نفسه، ص٥٢-٥٣.
٤  المرجع نفسه، ص٢٤٢.
٥  المرجع نفسه، ص٢٤٥-٢٤٦.
٦  المرجع نفسه، ص٢٤٨.
٧  المرجع نفسه، الجزء الثاني، ص٣٣٩.
٨  الجزء الثاني، ص٣٩١.
٩  الجزء الثالث، ص٢٠٥.
١٠  الجزء الأول، ص٤٧.
١١  يورد لانجه في هذا الموضوع هامشًا يشير فيه إلى عدة مؤلفات اعترفت بهذه الحقيقة، وضمنها كتاب دريبر Draper بعنوان النمو العقلي لأوروبا Intellectual Development of Europe (١٨٧٥م)، وهو يقتبس من هذا المؤلف — الذي يعده أصلح الناس للكلام في موضوع العلم الطبيعي — نصًّا يشكو فيه ذلك المؤلف من «الطريقة المنظمة التي تآمرت بها المؤلفات الأوروبية على إخفاء الدَّيْن الذي تدين به للإسلاميين في مجال العلم» (الجزء الثاني، ص٤٢، من الكتاب المذكور).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤