أركان العلم لكارل بيرسن

تقديم

في كل عصر يحرز فيه العلم تقدمًا كبيرًا في الميدان النظري والميادين التطبيقية، نجد مجموعة من العلماء الذين لا يكتفون بالإسهام في دفع عجلة الكشف العلمي إلى الأمام، وإنما يقومون أيضًا بعملية نقد ذاتي يتأملون فيها حدود العلم ويراجعون مناهجه ويعددون موقعه بين سائر أوجه النشاط الفكري والروحي والمادي للإنسان. ولقد كان القرن التاسع عشر فترة تقدم علمي لا شك فيه؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن يظهر فيه بين الحين والحين عالم لا يكتفي بممارسة الكشف العلمي، بل يحاول أن يتلمس الموقع الحقيقي للعلم وبين الفلسفة، ويغدو عالمًا متفلسفًا أو فيلسوفًا علميًّا.

والكتاب الذي نعرضه ها هنا مثل بارز من أمثلة النقد الذاتي التي قام بها العلماء في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، فهو يهدف إلى أن يشرح للعلماء ولغير المتخصصين في العلم وللمشتغلين بالفلسفة وبشئون الفكر عامة، المعاني المحددة لعدد كبير من المفاهيم الرئيسية في العلم الطبيعي، ويرمي إلى مناقشة المشكلات الهامة لمنطق البحث العلمي، وبيان موقع العلم الحديث في الحضارة التي يعيشها الإنسان اليوم.

ولقد كان الجو الفكري الذي ظهر فيه الكتاب هو ذلك الجو المميز لإنجلترا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت نزعة مثالية قوية سيطرت على الجامعات الإنجليزية الكبرى، وقادتها فئة من الهيجليين الإنجليز المتأخرين، ولا يمكن أن يُفْهَم هذا الكتاب على حقيقته إلا إذا نُظِرَ إليه بوصفه رد فعل على هذه النزعة المثالية التي اعتقد مؤلف الكتاب أنها من أكبر العقبات التي تحول دون تقدم العلم، وسنجد فيما بعد أن آراء المؤلف نفسه لم تبتعد كثيرًا عن المثالية الفلسفية، بل اتخذت في كثيرٍ من الأحيان صبغة ذاتية متطرفة، وإن لم يتنبه هو ذاته إلى هذه النتيجة، وعلى أية حال فقد كان هذا الكتاب من العوامل الهامة التي ساعدت على تغيير المناخ الفكري في إنجلترا، وعلى إرساء دعائم فهم معين للعلم ما زال يجد له أنصارًا كثيرين في البلاد الأنجلوسكسونية، وأعني به النظرة التجريبية التي تمتد جذورها إلى القرن السابع عشر، والتي تمثل صفة من الصفات الملازمة لتفكير البلاد الناطقة بالإنجليزية، وإذا كانت بعض المناقشات التي تضمنها هذا الكتاب قد فقدت قيمتها لأن تقدم العلم تجاوزها بمراحل، فلا شك في أن موقفه الفكري العام له في تراث الإنسانية أهمية فائقة لارتباطه باتجاه من الاتجاهات الدائمة للفكر الفلسفي.

(١) حياة بيرسن ومؤلفاته

وُلِدَ كارل بيرسن في لندن عام ١٨٥٧م، لأب كان محاميًا إنجليزيًّا مشهورًا، وتلقى العلم في «الكلية الجامعية» University College في لندن، ثم في جامعة كيمبردج، حيث أظهر مقدرة كبيرة في فروع متعددة، منها التاريخ والأنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة والعلوم الرياضية، وقد عُيِّن في عام ١٨٨٤م أستاذًا لكرسي الرياضة التطبيقية والميكانيكا بنفس الكلية. وفي الفترة من عام ١٩١١م إلى عام ١٩١٣م كان يشغل كرسي «جولتن» Galton لعلم تحسين السلالات Eugenics بالكلية ذاتها، وخلال الفترة الطويلة لاشتغاله بالتدريس الجامعي، كان يلقي محاضرات على الطلبة وجماهير المفاهيم المستخدمة في العلوم الطبيعية، وعلى أساس هذه المحاضرات تبلور في ذهنه كتاب «أركان العلم» الذي نقدمه في هذا البحث.
وإذا كان هذا الكتاب هو مصدر شهرة بيرسن في ميدان الفلسفة والبحث في المناهج العلمية، فقد اشتهر بين العلماء أنفسهم لأسباب مختلفة تمامًا، أولها أنه كان من الرواد الأوائل لعلم تحسين السلالات، الذي كان مؤسسه أستاذه «جولتن»، ثانيها — وأهمها — أنه قام بأبحاث لها أهميتها الكبيرة في علم الإحصاء النظري والتطبيقي، ولا سيما في ميدان تطبيق المناهج الرياضية الإحصائية على العلوم البيولوجية، ويُعَد بيرسن أحد رواد علم الرياضة البيولوجية  Biometrcs، وقد أنشأ مجلة بهذا الاسم Biometrika ظل رئيسًا لتحريرها من عام ١٩٠٢م حتى وفاته في عام ١٩٣٦م، كما كان في الفترة من ١٩٢٥م إلى ١٩٣٠م رئيسًا لتحرير مجلة «حوليات علم تحسين السلالات» Annals of Eugenics، فضلًا عن إشرافه على معمل تحسين السلالات بعد وفاة جولتن، وقيامه فيه ببحوث كثيرة منها تطبيقه لمبادئ هذا العلم على أستاذة جولتن في الكتاب الذي ألَّفه عن حياته، والذي سيرد في ثبت مؤلفاته.
وأهم مؤلفات كارل بيرسن — بالإضافة إلى مقالاته العلمية العديدة — الكتب الآتية:
  • (١)
    أبحاث في الملكة البشرية وتطورها١ (١٩١٣م): Essaies into the Human Faculty and its opment.
  • (٢)
    الأساس الأخلاقي للاشتراكية (١٨٨٥م): Moral Basis of Sociaism.
  • (٣)
    الاشتراكية نظريًّا وعمليًّا (١٨٨٧م): Socialism in Theory and practice.
  • (٤)
    Chances of Death and other Studies in creation.
  • (٥)
    الحياة القومية من وجهة نظر العلم (١٩٠١م): National Life from the Standpoint of Science.
  • (٦)
    حياة فرانسس جولتن ومراسلاته (في مجلدات ١٩١٥م–١٩٢٥م): Life and Letters of Francis Galton.
أما الكتاب الذي نقدمه في هذا البحث — وهو «أركان العلم» The Grammar of Science — فقد ظهرت طبعته الأولى عام ١٨٩٢م، ثم ظهرت له طبعة ثانية في عام ١٩٠٠م، أضاف فيها فصلين عن التطور. وفي هذين الفصلين عالج العلوم البيولوجية بنفس المنهج الذي عالج به العلوم الطبيعية في بقية فصول الكتاب. ولكن النتائج التي توصل إليها في مجال البيولوجيا لم تكن مرتكزة على أساس متين؛ لذلك أصدر بيرسن طبعة ثالثة للكتاب في عام ١٩١١م حذف فيها هذين الفصلين، وأضاف فصلًا آخر عن الأفكار الثورية الجديدة في علمَي: الفيزياء والفلك، هي الأفكار التي بدأت في الظهور بعد مرحلة التحول الكبرى التي شهدها مطلع القرن العشرين. ولقد كان بيرسن يعتزم إصدار جزء آخر لهذا الكتاب يعالج فيه علوم الحياة في ضوء آخر ما وصلت إليه من تطورات. ولكنه لم ينفذ خطته هذه لأسباب غير معلومة؛ لذلك ظلت هذه الطبعة الثالثة هي الطبعة المعتمدة لهذا الكتاب، وقد اعتمدنا في هذا البحث على طبعة مُعادة (reissue) لها، نشرتها مكتبة Meridian Books (بنيويورك) في عام ١٩٥٧م.

(٢) الأفكار الرئيسية في كتاب «أركان العلم»

منذ الصفحات الأولى لكتاب «أركان العلم»، لا يترك بيرسن أي مجال للشك في إيمانه المطلق بالعلم من حيث هو وسيلة الإنسان الوحيدة لحل كل مشكلاته؛ فالعلم أفضل سبيل إلى تعويد المرء الموضوعية والنزاهة في أحكامه، وتخليصه من التحيز والنظرة الشخصية إلى الأمور، وإذن فمن الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر في المواطن الصالح، أن تكون نظرته إلى الأمور علمية، ولا يتعين — من أجل تحقيق هذا الهدف — أن يكون المرء عالمًا محترفًا أو متخصصًا، وإنما يكفيه أن يعالج ما يحيط به من مشكلات اجتماعية وفردية بنفس الأسلوب الذي يعالج به العالم الطبيعي ما يعرض له من المشاكل.

ولا غناء لمجتمع يهدف إلى النهوض بنفسه عن اتباع الأسلوب العلمي في كل الأمور. صحيح أننا نسمع أصواتًا كثيرة تردد — بأساليب مختلفة — الفكرة القائلة: إن للعلم مجالًا محدودًا لا يتعداه، وإن هناك وسائل أخرى تعيننا على شق طريقنا في ذلك الميدان الواسع الذي لا يسعفنا فيه العلم. غير أن بيرسن — وإن اعترف بقصور العلم وعجزه في ميادين متعددة — يؤكد تأكيدًا قاطعًا أن جهل العلم بمجال ما يعني أن أي منهج آخر يجهل هذا المجال بدوره، ويعجز عن إرشادنا فيه، وعلى أية حال فمن الخطأ الاعتقاد بأن جهل العلم حاليًّا يعني أنه سيظل إلى الأبد جاهلًا في المستقبل، فليس لنا أن نقطع بأن هناك ميادين معينة ستظل مستعصية على العلم إلى الأبد، وبأن هناك أنواعًا أخرى من المعارف غير العلمية هي التي تهدينا في هذه الميادين؛ ذلك لأن قدرات العلم لا حدود لها، ولكل ما في الأمر أن هذه القدرات تتكشف بالتدريج، وتقتضي وقتًا وجهدًا طويلًا. أما إذا ظلت هناك أمور يقف أمامها العلم عاجزًا مهما بلغت درجة تطوره، فإن هذه الأمور تكون من ذلك النوع الذي يستعصي على المعرفة البشرية ولن يعيننا في فهمها أي منهج آخر غير العلم.

ولعل أشهر أنواع المعرفة غير العلمية هي الميتافيزيقا التي اتخذ منها الفلاسفة أداة لمنافسة العلم، ومرشدًا للسير في المجالات التي يعجز عن إرشادنا فيها المنهج العلمي. ولكن بيرسن يؤكد أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تُسمى معرفة بأي معنى من المعاني، وإنما الميتافيزيقا نوع من الشعر غير الواعي بذاته، والفارق بين المفكر الميتافيزيقي والشاعر هو أن الثاني ينفع المجتمع لأنه شاعر لا يعترف بوظيفته الحقيقية، بل يصوغ الشعر في لغة العقل، ويذهب بيرسن في تأكيده لأهمية العلم إلى حد القول: إن الشعر نفسه ينبغي أن يُبْنَى على حقائق العلم. بل إن العلم أكثر إرضاءً لحاستنا الجمالية ولشعورنا بالتوافق والانسجام من الشعر ذاته؛ لأنه هو وحده الذي لا يتناقض مع الملاحظة والتجربة، وهو وحده الذي يستطيع ضم كل عناصر تجربتنا في نسق منسجم متآلف.

(٣) وقائع العلم

يرتبط تفكير بيرسن ارتباطًا وثيقًا بالمذهب التجريبي الإنجليزي في صورته التقليدية الموروثة عن هيوم في القرن الثامن عشر وجون استورت مِل في القرن التاسع عشر، وأوضح مظاهر تأثيره بهذا التراث التجريبي الإنجليزي اعتقاده بأن العناصر الوحيدة التي يمكن أن تسمى «حقيقية» real بالمعنى الصحيح في هذا العالم هي لانطباعات الحسية Sense-impressions، فالسبورة ليست جسمًا أو جوهرًا واحدًا له صفات معينة، وإنما هي قبل كل شيء لون وملمس ووزن وصلابة وحرارة، وإذا كنا عادةً ننسب هذه الصفات إلى جوهر معين يحملها كلها، فإن التفكير الصحيح يثبت لنا أنه لا يوجد من وراء هذه الانطباعات شيء؛ فهي آخر حد تصل إليه معرفة الإنسان، وإذن فالشرط الأساسي لإدراكي حقيقة هذه السبورة هو وجود انطباعات حسية مباشرة تتخذ نقطة بداية للإدراك، ثم «استنتاج» إمكان تلقي انطباعات أخرى لو توافرت الظروف الملائمة له: مثل استنتاج أن من الممكن كسر خشب السبورة أو حرقه إذا تهيأت الظروف الملائمة لذلك.
ولكل انطباع حسي مباشر تأثير مختزن في الذاكرة؛ بحيث تبعث هذه التأثيرات المختزنة من جديد لتكون جزءًا كبيرًا مما نطلق عليه اسم «الموضوع الخارجي»؛ ومن هنا كان بيرسن يتفق مع «لويد مورجان» على تسمية الموضوع الخارجي باسم «المركب» construct؛ أعني ما يجمع في تكوينه بين انطباعات مباشرة وانطباعات قديمة مختزنة، ولا ينكر بيرسن أهمية دور الاستدلالات العقلية في تكوين ما نسميه بالموضوعات الخارجية: «فنحن عندما نذكر أن كل محتويات ذهننا مبنية آخر الأمر على انطباعات حسية، فإننا نحرص في الوقت نفسه على تأكيد أن الذهن قد انتقل — عن طريق التصنيف والعزل — إلى إدراكات عقلية بعيدة كل البعد عن الانطباعات الحسية التي يمكن تحقيقها مباشرةً، فمحتويات الذهن في أية لحظة أبعد تمامًا عن أن تكون مطابقة لنطاق الانطباعات الحسية الواقعية أو الممكنة في تلك اللحظة، ونحن نستخلص على الدوام من انطباعاتنا المباشرة والمختزنة استدلالات بشأن الأشياء التي تتجاوز نطاق التحقيق المباشر بالحس؛ أي إننا نستدل على وجود أشياء لا تنتمي إلى العالم الموضوعي، أو لا يمكن على أية حال التحقق بانطباع حسي مباشر من أنها منتمية إليه في اللحظة الراهنة»،٢ ويرى بيرسن أن مهمة العلم الحقيقية هي تصنيف محتويات الذهن هذه وتحليلها، والقيام بمقارنات واستدلالات دقيقة من الانطباعات الحسية المختزنة. ومن الإدراكات العقلية المبنية عليها؛ أي إنه — مع اعترافه بأن الانطباع الحسي هو الحقيقة الأولى لكل إدراك — يؤكد أن هذا الانطباع لا يصبح موضوعًا للعلم إلا بعد أن يصل إلى مرحلة الإدراك العقلي  conception، أو الإدراك الحسي Preception على الأقل.
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الموقف الذي اتخذه بيرسن منذ البداية إلى نتائج ذاتية مثالية واضحة: فليس في وسعي أن أدرك إلا وعيي الخاص. أما وعي الآخرين فيدرك نتيجة استدلال فحسب،٣ وأما العالم الخارجي فهو في نظره «فكرة مزعومة»؛ ذلك لأن أقصى ما يمكننا أن نقترب به من ذلك العالم المسمى بالخارجي هو أطراف أعصابنا الحسية، وهو يشبه موقفنا بموقف عامل «التليفون» الذي لا يتصل بالمتحدثين إلا من خلال الطرف المجاور له من أسلاك «التليفون». بل إننا في موقف أسوأ من موقف صاحبنا هذا؛ إذ إننا لم نخرج أبدًا من مركز «التليفون» ولم نشاهد أبدًا واحدًا مَنْ أولئك المتحدثين الذين تصلنا أصواتهم من خلال الأسلاك؛ فالعالم الخارجي بالنسبة إلينا — كما هو بالنسبة إلى هذا العامل — هو مجموع الرسائل أو المكالمات التي تنقلها الأسلاك (أو الأعصاب) إلينا حيث نكون، «فالرسائل تتوالى علينا من ذلك العالم الخارجي المزعوم في صورة انطباعات حسية، ونقوم نحن بتحليل هذه الرسائل وتصنيفها واختزانها وإجراء الاستدلال عليها. غير أننا لا نعرف شيئًا على الإطلاق عن طبيعة «الأشياء في ذاتها»، وما يمكن أن يوجد عند الطرف الآخر من نظام الأسلاك التليفونية الخاص بنا.»٤
وإذن فمعرفتنا تقتصر على ما تنقله إلينا الأعصاب من أطرافها القريبة منا. أما ما يقع في الطرف الآخر منها، فيظل غير معروف وغير قابل لأن يُعرف، وعالم الانطباعات الحسية هذا مغلق علينا تمامًا، ولا أمل لنا في أن نبعد عنه خطوة واحدة، وإذن ففكرتنا عن العالم الخارجي ليست إلا «إسقاطًا» منا لانطباعاتنا الحسية خارجنا، ولا يوجد أساس للتمييز بين ما يوجد داخلي وما يوجد خارجي سوى «كمية الانطباع المباشر»،٥ أما ما يسميه الميتافيزيقيون بالأشياء في ذاتها، فلا نعرف نحن عنه إلا صفة واحدة، هي «القدرة على تكوين انطباعات حسية، وبعث رسائل تمر بأعصاب الحس حتى المخ، فهذا هو القول العلمي الوحيد الذي يمكن الإدلاء به بشأن ما يوجد وراء الانطباعات الحسية.»٦
هذه إذن صورة العالم عند كارل بيرسن: انطباعات حسية مباشرة هي الأساس الوحيد لمعرفتنا، واختزان لهذه الانطباعات في الذهن البشري، ثم إجراء تركيبات ومقارنات ذهنية بين الانطباعات المختزنة تتكون منها العناصر الأولية لكل بحث علمي؛ فالعلم إذن يتعلق بتحليل وتصنيف تلك المركبات الذهنية التي ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، وإن كانت صورتها الراهنة تختلف عنها كل الاختلاف، ولعلنا قد أدركنا بوضوح مدى اقتراب هذه الصورة للعالم من تلك الصورة المناظرة لها عند التجريبيين الإنجليز — ولا سيما هيوم — ومدى وثوق الصلة بين مهمة العلم — كما يحددها بيرسن — ومثيلتها عند الوضعيين في أواخر القرن التاسع عشر (ولا سيما العالم الألماني إرنست ماخ Mach) وفي أواسط القرن العشرين (ولا سيما الفيلسوف الإنجليزي آير  Ayer)، ولن نتعرض ها هنا لنقد هذه الصورة للعالم وهذا التحديد لمهمة العلم. وحسبنا أن نوضح ذلك الأساس النظري الذي تقوم عليه فلسفة بيرسن العلمية، وهو أساس سنقوم فيما بعد بتحليل مفصل له.

(٤) القانون العلمي

هل يوجد القانون العلمي في الطبيعة ذاتها، أو في الذهن البشري الذي يهتدي إليه؟ وهل هناك فارق أساسي — في هذا الصدد — بين القانون العلمي وبين القانون التشريعي؟ يؤكد بيرسن أن هذين النوعين من القانون متشابهان في صفة أساسية، هي أن كلًّا منهما لا وجود له قبل تعبير الإنسان عنه، ولا معنى له إلا لأنه مرتبط بذهن الإنسان، «فالقانون العلمي، هو تلخيص أو تعبير موجز عن العلاقات والتعاقبات بين مجموعة معينة من الإدراكات الحسية والعقلية، ولا وجود له إلا عندما يصوغه الإنسان»،٧ ولما كان بيرسن يلغي فكرة الأشياء في ذاتها، ويرى الطبيعة متوقفة على ملكات الإنسان في الإدراك والاستعادة، فإن القانون الطبيعي في نظره متوقف بدوره على هذه الملكات، ولا صلة له بأي شيء يخرج عن نطاق الذهن البشري؛ وعلى ذلك فإن القانون الطبيعي لا تكون له صحة مطلقة إلا بالنسبة إلى نوع معين من الملكة الإدراكية، هو ذلك النوع الذي يتوافر للإنسان السوي.
ولا يعني بيرسن بهذا التعبير الأخير أن عملية الوصول إلى القانون العلمي ذهنية فحسب، بل يعني أيضًا أن القانون ذاته، بعد التوصل إليه، ينطوي على ربط بين وقائع طبيعية وبين إدراكات عقلية تبعد تمامًا عن المجال الخاص بهذه الوقائع؛ فالقانون العلمي ليس كشفًا لعلاقات موجودة في طبيعة الأشياء، وإنما هو «اختراع» لهذه العلاقات، هو وصف مختصر لطريقة تعاقب الانطباعات الحسية في مجال معين، أو اختزال ذهني يحل لدينا محل الوصف المطول لتعاقبات الانطباع الحسي،٨ وإذن فما يقوم به العالم عند وضعه قانونًا طبيعيًّا هو أن يدرس مجموعة من الظواهر، ويصنفها ويحللها ويكشف العلاقات والتعاقبات بينها، ثم يصف أكبر عدد منها بأبسط طريقة ممكنة؛ ومن هنا كان من الخطأ الفادح أن نتحدث عن القانون العلمي وكأنه «يحكم» الطبيعة؛ إذ هو لا يعدو أن يكون «وصفًا» للمجرى العادي لإدراكاتنا لا «تفسيرًا» لها.

(٥) فكرة العلية

تقتصر مهمة القانون في معناه العلمي — عند بيرسن — على وصف تعاقبات الإدراكات الحسية عن طريق اختزال ذهني، ولما كان العلم يقتصر على الوصف، ولا يفسر شيئًا، فمن الطبيعي ألا ننتظر منه تعليلًا للترتيب الذي تحدث به هذه الإدراكات، أو إيضاحًا لعلة تكرار هذا الترتيب، وبعبارة أخرى: فليس من مهمة العلم أن يضفي الضرورة على تعاقب انطباعاتنا الحسية؛ وعلى ذلك فإن ما يُسمَّى بالعلية ليس إلا ملاحظة حدوث تعاقب معين وتكرار حدوثه في الماضي. أما أن هذا التعاقب سيستمر في المستقبل، فهذا ما يستحيل أن نجزم به، وإنما موضوع للاعتقاد أو الإيمان نعبر عنه بمفهوم «الاحتمال». وليس في وسع العلم مطلقًا أن يبرهن على وجود أية ضرورة كامنة في التعاقب، أو أن يثبت بأي يقين مطلق أن من الضروري تكرار هذا التعاقب فيما بعد؛ فالعلم بالنسبة إلى الماضي وصف، وبالنسبة إلى المستقبل اعتقاد.٩
ومع ذلك فإن للعلية مفهومًا شعبيًّا يشيع بين الناس، ويرتكز على ملاحظة قدرتنا على إحداث أمور معينة بإرادتنا، مثل رفع الحجر باليد عندما نريد ذلك؛ فالحوادث التي تتعاقب في هذه الحالة تبدو راجعة إلى فعل خاص أقوم به وأُحدثه وأسببه؛ أي إن قوتي هي التي أدت إلى حدوث هذا التعاقب، وحتى لو سقط الحجر من يدي وكسر النافذة، فإن الفهم الشعبي لفكرة العلية يحكم في هذه الحالة بأن سبب هذا الكسر هو الحجر المتحرك؛ بحيث يظل لفكرة الإرغام أو الإجبار دور في هذه الحالة أيضًا، مع أن كل ما يمكن قوله من وجهة النظر العلمية هو أن جزئيات الحجر كانت تتحرك بطريقة معينة نحو جزئيات الزجاج، وبعد اصطدامها بها أصبحت نفس الجزئيات تتحرك بطريقة مختلفة كل الاختلاف، وإذا كان في وسعنا أن نصف طريقة حدوث هذا التغير، فليس في استطاعتنا أن نقرر «لماذا» حدث، وأي إقحام لفكرة الضرورة أو القوة يقضي تمامًا على الطابع العلمي لأحكامنا. ومع ذلك فإن تاريخ الفلسفة حافل بأمثلة هذا الفهم الباطل الذي يخلط بين المفهومين الشعبي والعلمي للعلية، فأرسطو حين يعجز عن تعليل حدوث الحركة في البداية، يُدْخِل فكرة المحرك الأول، ويستمر هذا الخلط حتى القرن التاسع عشر، حين نجد فيلسوفًا مثل شوبنهور يجعل من الإرادة مبدأً كونيًّا، «ويضع الإرادة من وراء جميع مظاهر الكون، تمامًا كما يفعل البدائي الذي يفترض وجود إرادة إله العواصف من وراء كل عاصفة.»١٠
على أنه ليس يكفي أن نقرر أن الخلط ظل سائدًا في فهم الأذهان لفكرة العلية منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحالي، وإنما الواجب أن نبحث عن تعليل لهذا الخلط المتأصل في النفوس، والتعليل الذي يأخذ به بيرسن هو التعليل العملي: ففكرة العلية — في معناها الشعبي الشائع بين الناس — راجعة أساسًا إلى اعتبارات عملية تجعل من المحتم على الكائن المفكر أن يفضي اطرادًا ضروريًّا على تعاقب إدراكاته؛ فالأصل في فكرة العلية كما تشيع في الأذهان، هو إذن ضرورة عملية نعمل على تجسيمها في صورة ضرورة موجودة في الأشياء ذاتها، وتبلغ هذه الضرورة العلمية حدًّا يستحيل معه أن نفهم بعقولنا عالمًا يفتقر إلى مفهومَي العلة والمعلول،١١ ومع ذلك فإن هذا النظام المطرد بأسره ليس إلا مسألة تجربة، واعتقادنا به ليس في حقيقته إلا اقتناعًا مبنيًّا على الاحتمال.
أما الفهم العلمي لفكرة العلية عند بيرسن فإنه يتفق إلى حد بعيد مع تصور جون استورت مل القائل: إن العلة هي السابق المطرد uniform antecedent، وهو يصوغ هذا الفهم على النحو الآتي: «حيثما يكون تعاقب الإدراكات د، ﻫ، و، ز مسبوقًا بلا تخلف بالإدراك ج، أو تكون الإدراكات ج، د، ﻫ، و، ز حادثة دائمًا بهذا الترتيب؛ أي تكون نظامًا مطردًا (routine) للتجربة، يقال: إن ج هي سبب د، ﻫ، و، ز، بينما توصف الأخيرة بأنها نتائجها.»١٢

هذا المعنى الذي ينبغي — في نظر بيرس — أن تُفْهَمَ به العلية، يؤدي إلى اتساع نطاق العلية وانتشارها على نحو يتجاوز كثيرًا نطاق «السبب المباشر» الذي تتصوره الأذهان العادية لكل ظاهرة، وما دامت المسألة مسألة تعاقب، فمن الطبيعي ألا نقتصر، في تحديدنا للعلة، على الظاهرة السابقة مباشرةً فحسب. بل إن كل الظواهر السابقة يمكن أن تكون أسبابًا متعاقبة، وبهذا تتسلسل العلل حتى آخر حدٍّ يمكن أن تصل إليه المعرفة الراهنة، ولنضرب لذلك مثلًا: فلو تعقبت علة نمو شجرة في حديقتي؛ لوجدت هذه الشجرة راجعة إلى وجود الحديقة ذاتها، والحديقة ترجع إلى وجود المدينة. وهكذا تظل سلسلة العلل تمتد مكانيًّا إلى ما لا نهاية. كذلك فإن نمو الشجرة يرجع إلى اتصاف التربة بخصائص معينة تتصل بالتكوين الجيولوجي في العصور المختلفة، وبذلك ترجع سلسلة العلل إلى الوراء في الزمان إلى ما لا نهاية. وهكذا فإن تعقب علة ظاهرة واحدة يجرنا إلى البحث في الكون بأسره، ومع اعترافنا بأن العلم لا يحاول التوسع في بحث العلل إلى هذا الحد، فمن الواجب أن نتذكر هذه الحقيقة حتى ندرك مدى ارتباط ظواهر الكون بعضها ببعض، ومدى تماسك الفروع المختلفة للمعرفة البشرية.

ومن جهة أخرى فمن الواجب ألا نتصور هذا التعاقب الذي تتولد عنه في أذهاننا فكرة العلة والمعلول؛ على أنه تعاقب مطرد بين عناصر متماثلة تمامًا؛ فالواقع أن التماثل المطلق بين عناصر التجربة مستحيل، وإنما هناك تشابه تتفاوت درجته، ولا يصل أبدًا إلى حد التكرار الكامل للعناصر الماضية. ومن المحال أن تتضمن التجارب العلمية المتكررة عوامل متماثلة في كل شيء، بل هي تنطوي دائمًا على قدر من التنوع مهما كان طفيفًا،١٣ فأساس الموجودات إذن هو الفردية، والتشابه بينهما أمر نسبي على مدى دقة وسائل التصنيف والقياس؛ بحيث أن هذه الوسائل لو ازدادت في المستقبل دقة لبدا لنا أن ما نسميه اليوم متماثلًا هو في حقيقة الأمر مختلف، وبالاختصار فما نسميه بالطبيعة يتألف من عناصر وظواهر لكلٍّ منها فرديته الخاصة، ولا يمكن أن يتكرر واحد منها أكثر من مرة واحدة، وإن كنا نكتفي من أجل تحقيق أغراضنا العلمية بقدر من التشابه بين هذه الظواهر، ونتجاهل ما بينها من فروق فردية أو نعجز عن إدراك هذه الفروق نتيجة لقصور ما في متناول أيدينا من أدوات.

(٦) الارتباط بدلًا من العلية

في وسعنا أن نستخلص من المناقشة السابقة لفكرة العلية نتيجتين أساسيتين تتعلقان برأي بيرسن الخاص في العلية:
  • الأولى: هي أن ما يسمى بالعلة لا يقتصر في حقيقة الأمر على العنصر السابق مباشرة للظاهرة المراد تعليلها فحسب. بل إن سلسلة العلل تمتد نظريًّا، في المكان والزمان إلى ما لا نهاية.
  • والثانية: أن الطبيعة لا تعرف اطرادًا أو تماثلًا أو هوية تامة بين الظواهر والتكرار المطلق فيها مستحيل. بل إن الصفة الأساسية لها هي الفردية، وأقصى ما يمكننا أن نجده بين ظواهرها هو درجات متفاوتة من التشابه likeness. أما التماثل sameness فلا وجود له.

هاتان النتيجتان الهامتان تستتبعان تعديلًا أساسيًّا في مفهوم العلية؛ فالعلة والمعلول في تجاربنا الإدراكية المألوفة لا يدلان إلا على تشابه متفاوت في الدرجة، لا على تكرار مطلق، وقانون العلية ليس إلا اقتطاعًا من التجربة، ولا يكون ماهية التجربة ذاتها، والمشكلة الحقيقية لا تنحصر في السؤال القائل: هل يؤدي السابق — المسمى بالعلة — إلى تكوين اللاحق — المسمى بالمعلول؟ وإنما الأهم من ذلك أن نتساءل: ما هي الدرجة أو ما هو الحد الذي يؤدي فيه تشابه السابق إلى تشابه اللاحق؟ وإلى أي مدى يؤدي تنويع أحدهما إلى تنويع الآخر؟ ففي الحالات التي لا يؤدي فيها تنويع السابق إلى أي تأثير في اللاحق يكون هناك استقلال تام. وفي الحالات التي يؤدي فيها تنويع السابق إلى التنويع مطابق تمامًا للاحق يكون هناك اعتماد تام، غير أن الاستقلال التام والاعتماد التام حالتان متطرفتان، تمثلان في واقع الأمر حدًّا عقليًّا للمعرفة. أما في الحالات الفعلية التي يصادفها العالم في أبحاثه الواقعية، فلا وجود لمثل هذه الحالات المتطرفة، وإنما توجد درجات لا نهاية لها من الارتباط بين الظواهر، هي درجات تتفاوت اقترابًا من أحد هذين الحدين العقليين وابتعادًا عن الآخر.

وهكذا يستعيض بيرسن عن مفهوم العلية، الذي يراه مفهومًا عتيقًا بمفهوم الارتباط  correlation، الذي يؤكد أنه أوسع نطاقًا بكثير من المفهوم القديم؛ لأنه يضم في داخله كل العلاقات التي تقع بين حدَّي: الاستقلال المطلق والاعتماد المطلق، وعلى حين أن الاكتفاء بفكرة العلية لم يكن يتيح تحديدًا كميًّا لدرجة الاعتماد أو الاستقلال بين الظواهر موضوع البحث بين هذين الحدين المتطرفين؛ ففي حالة العلية نجد أن الظواهر إما أن تكون خاضعة لهذه العلاقة أو لا تكون. أما إذا استعضنا عن العلية بالارتباط فإن المجال يتسع لعدد لا نهاية له من الحالات الوسطى التي تتراوح بين هذا الحد المتطرف وذاك، كذلك يمكننا — بفضل فكرة الارتباط — أن نربط الظاهرة الواحدة بعدد كبير من الظواهر الأخرى التي قد يكون لكلٍّ منها دور متفاوت الدرجة في إحداث الظاهرة الأولى، وهو ما يتفق مع الفهم الواسع لفكرة العلية، بما يؤدي إليه من تسلسل لا يقف عند حد، على حين أن المفهوم القديم للعلية يقتصر على الربط بين ظاهرتين أو مجموعتين من الظواهر فحسب، ومن جهة ثالثة فإن فكرة الارتباط تصلح للتعبير عن عالم لا يتضمن إلا عناصر فردية غير متكررة، لا يعترف فيه بالتماثل التام بين الظواهر، على حين أن مفهوم العلية يفترض وجود أنماط متكررة بينها تجانس كامل، بالاختصار؛ ففي فكرة الارتباط مرونة تفتقر إليها مقولة العلية الجامدة. وفيها إحلال للفوارق الكمية محل التفسيرات الكيفية، يتمشى مع الاتجاه العام للعلم الحديث.

ونستطيع أن نقول: إن إصرار الباحثين عندما تصادفهم ظاهرة معينة على أن يتساءلوا: ما سببها؟ يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى أخطاء أو مواقف متحيزة كان يمكنهم التخلص منها بسهولة لو استعاضوا عن السؤال السابق بالسؤال: ما درجة ارتباطها بالظواهر الأخرى؟ فالسؤال الأول يقتضي إجابة واحدة نهائية هي في معظم الأحيان مستحيلة بالنسبة إلى هذا الكون العظيم التعقيد. أما السؤال الثاني فمن الممكن الإتيان بجواب معقول عنه، واكتساب معرفة عظيمة القيمة بشأنه، ولو تناولنا ظاهرة طبيعية معقدة مثل حالة الطقس؛ لوجدنا أن العوامل التي تتدخل فيها تبلغ من التشابك حَدًّا يستحيل معه الكلام عن «سبب» في هذا الصدد، على حين أن فهم حالة الطقس عن طريق تحديد مدى ارتباطها بمختلف العوامل المؤثرة فيها — كالحرارة والرطوبة والضغط … إلخ — يؤدي إلى إلقاء ضوء واضح على المشكلة موضوع البحث. أما في حالة العلوم الإنسانية فإن فكرة الارتباط بالقياس إلى فكرة العلية أوضح بكثير، خذ مثلًا محاولات العلماء تعليل ظاهرة الأجرام: فكثير من هؤلاء العلماء يأتون بنظريات يتضمن كلٌّ منها سببًا واحدًا يعللون به هذه الظاهرة، كعوامل البيئة الاجتماعية أو الأسرة أو العامل الاقتصادي أو الوراثي أو التكوين الجسمي العصبي. ولكن الواقع يثبت دائمًا أن ظاهرة الجريمة أعقد من أن ترجع إلى واحد فقط من هذه العوامل، وإن كانت الحالات التي تدرس قد تبدو مرجحة لأحد من هذه العوامل على الباقين، وعلى العكس من ذلك فإننا لو بحثنا هذه الظاهرة من خلال فكرة الارتباط، أي إذا حددنا مقدار ارتباطها بالعامل الاقتصادي وبعامل تفكك الأسرة وغيرها من العوامل التي ينبه إليها الجريمة؛ لوصلنا إلى نتائج عظيمة الفائدة، دون أن نقيد أنفسنا بنظرية واحدة ذات طابع مطلق، فهناك إذن مجالات تشوه طبيعتها إذا عولجت عن طريق مقولة السببية، بينما يُلْقَى عليها ضوء ساطع لو بُحِثَت من خلال فكرة الارتباط.

(٧) المكان والزمان

المكان أساسًا تعبير ذهني عن قيام ملكة الإدراك بفصل الانطباعات الحسية الموجودة معًا في مجموعات من الانطباعات المترابطة، ففكرة المكان في رأي بيرسن تتوقف أساسًا على قدرة الملكة الإدراكية التمييز والفصل بين المجموعات المختلفة للانطباعات الحسية، وأساس عملية الفصل والتمييز هذه هو التعود والتجارب السابقة، وهي بطبيعتها عملية ذهنية لا تنطبق على الواقع نفسه، وإنما تحدث لاعتبارات عملية، فذهننا يقوم بوضع حدود حول مجموعات معينة من الانطباعات، وهي حدود «اعتباطية» لا تطابق أي شيء حقيقي في عالم الانطباع الحسي أو الظواهر.

ويوافق بيرسن على رأي ليبنتس القائل: إن المكان هو «ترتيب» الظواهر الممكنة الموجودة معًا. ومن الواضح أن فكرة الترتيب لا علاقة لها بوجود الظواهر ذاتها؛ إذ إن من الممكن تصور هذه الظواهر بترتيب مخالف؛ وعلى ذلك فالترتيب إنما ينتمي إلى طريقة الذهن في إدراك الظواهر، فمن الواجب إذن أن نتخلى عن النظر إلى المكان على أنه فراغ هائل وُضِعَت فيه الأشياء بطريقة لا صلة لها بملكة الإنسان الإدراكية؛ إذ إن المكان ليس شيئًا يُضاف إلى الموضوعات الموجودة فيه، وإنما هو لا ينفصل عن هذه الموضوعات من حيث هي مرتَّبة على النحو الذي تقتضيه قوانا الإدراكية؛ وعلى ذلك فالقول: إن الشيء «يوجد في المكان» يعني أن المَلَكة الإدراكية قد ميزته من مجموعة أخرى من الانطباعات الحسية، التي توجد معًا وجودًا واقيًا أو ممكنًا، وقد يجوز لنا أن نتصور أن للإحساسات وجودًا بدون أية ملكة إدراكية. ولكن لن يكون هناك عندئذٍ ذلك النوع من الإدراك الذي نسميه بالمكان،١٤ والنتيجة التي تترتب على ذلك هي القول: إن المكان ينتمي إلى الملكة الإدراكية «الفردية»، فكيف حدث أن تشابهت طرق الإدراك الفردية هذه بين الناس؟ أو بعبارة أخرى: لماذا كان المكان عندي وعندك متشابهًا؟ يعلل بيرسن ذلك بقوله: «في الصراع بين جماعة وجماعة — وكذلك بين الجماعة وبيئتها — يكون من الواضح أن أية جماعة تجني فائدة كبرى من الاتفاق الوثيق بين المَلَكات الإدراكية لأفرادها، بينما تلحق أضرار كبيرة بالجماعة التي لا يتوافر لأفرادها مثل هذا الاتفاق، فتكون النتيجة الطبيعية استمرار بقاء الجماعة الأولى»،١٥ وهكذا يتصور بيرسن أن تشابه المكان بين الأفراد المختلفين راجع إلى عوامل اكتسبت في مرحلة معينة من مراحل الصراع من أجل البقاء، ويربط على نحو غريب بين الرأي المثالي عند «كانتْ» وبين نظرية التطور، وذلك في تعليله الهزيل لاتفاق الأذهان على مكان واحد رغم أن كلًّا منها يدرك المكان الخاص به فحسب.

ويترتب على ذلك أن السؤال عن مدى ضخامة المكان سؤال لا معنى له؛ فالمكان ضخم بالنسبة إليَّ فقط وأبعد النجوم، وصفحة الكتاب الذي أمسك به هما بالنسبة إليَّ مجرد مجموعتين من الانطباعات الحسية، والمكان الذي يفصل بينهما ليس فيهما، وإنما في طريقة إدراكنا، ومن المحال أن يكون المكان — كما يصوره بعض الكُتَّاب — ممتدًّا إلى حد يتجاوز خيالنا؛ إذ إنه في واقع الأمر لا يمتد إلا بقدر ما تمتد ملكتنا الإدراكية؛ وعلى ذلك فإن سر المكان إنما يوجد فينا. وفي وعينا لا خارجنا.

وليس معنى ذلك أن بيرسن ينكر المكان اللامتناهي وإنما هو يعترف به، وإن كان يؤكد أن هذا اللامتناهي هو المكان الذهني أو الهندسي؛ ففي وسعنا أن نتصور مكانًا لا متناهيًا في الكبر، أو انقسامًا للمكان لا متناهيًا في الصغر. ولكننا حين نفعل ذلك نكون قد انتقلنا من المكان الواقعي إلى المكان العقلي أو التصوري، وإن كان هذا الانتقال يحدث في كثير من الأحيان بطريقة لا شعورية، فتكون النتيجة أخطاء لا حصر لها في موضوع المكان اللامتناهي في الكبر أو الصغر. وفي هذا المكان العقلي نتصور الانطباعات الحسية على أنها محددة بمسطحات ومحاطة بخطوط مستقيمة أو منحنية. وهكذا يرتبط المكان التصوري ارتباطًا أساسيًّا بعلم الهندسة، وهنا قد يتساءل سائل: ولِمَ كان علم الهندسة بالضرورة علمًا ذهنيًّا موضوعاته من صنع العقل وحده؟ يجيب بيرسن على هذا السؤال بقوله: إن الهندسة تقوم أساسًا على فكرتين لا وجود لهما في التجربة، هما فكرتا المماثلة ameness والاتصال continuity، فمفهوم الخط — مثلًا — يفترض مماثلة تامة واتصالًا كاملًا بين كل أجزائه. ولكن هذا الاتصال وهذه المماثلة لا جود لها إلا بالفكرة. أما التجربة فلا تعرف عناصر تقوم بينها مماثلة كاملة أو اتصال تام، «وهكذا لا نجد مفرًّا من الاعتراف بالنتيجة القائلة: إن التعريفات الهندسية نتائج لعمليات يمكن أن تبدأ في الإدراك الحسي. ولكن حدودها لا يمكن أن تبلغ فيه؛ فالمفاهيم الأساسية للهندسة ليست إلا رموزًا تتيح لنا الوصول إلى تحليل تقريبي لانطباعاتنا الحسية. ولكنه لا يمكن أن يكون تحليلًا مطلقًا لها؛ فهي اللغة الاختزالية العلمية التي نصف بها ونصنف ونصوغ خصائص تلك الطريقة في الإدراك، التي نسميها بالمكان المدرك حسيًّا، وصحتها — شأنها شأن كل المفاهيم الأخرى — إنما تكمن فيما تتيحه لنا من قدرة على تقنين التجربة الماضية والتنبؤ بالتجربة المقبلة، ولعلنا لن نجد مثلًا أفضل من الهندسة لإثبات أن العلم يصف عالم الظواهر بمساعدة مفاهيم لا تطابق أية حقيقة واقعة في الظواهر ذاتها.»١٦
وما يقال على المكان يقال كثير منه على الزمان، فهما معًا طريقتان تميز بهما الملكية الإدراكية موضوعات إدراكها، وكل ما في الأمر أن المكان يدل على وجود إدراكاتنا معًا في زمان واحد، والزمان يدل على تلاحق إدراكاتنا في موقع واحد من المكان؛ أي إن كلًّا من الفكرتين تعتمد في تصورها اعتمادًا أساسيًّا على الأخرى، والتصور الجامع بين الزمان والمكان هو الحركة؛ أي تغير المكان مع تغير الزمان؛ ومن هنا كانت الحركة في رأي بيرسن هي الطريقة الأساسية التي تتمثل لنا بها الظواهر ذهنيًّا. وكانت الأفكار التي نصف بواسطتها تغير المكان والزمان في ظاهرة الحركة أفكارًا هندسية، أو قوالب نميز بها ونصف محتويات تجربتنا الإدراكية الحسية التي تندرج كلها تحت ظاهرة «الحركة» المعقدة، فعلم هندسة الحركة هو بدوره وصف ذهني أو تصوري لما يحدث في عالم المدركات الحسية من تغيرات، نستخدم فيه مفاهيم فكرية كمفهوم السرعة  Velocity والعجلة acceleration والدوران rotation … إلخ، وإذن فما يُطْلَق عليه اسم «حركة الأجسام» ليس حقيقة من حقائق الإدراك الحسي، وإنما هو طريقة ذهنية أو تصورية نصف بها التغيرات التي تطرأ على مجموعات الانطباعات الحسية.

(٨) المادة

ينظر بيرسن إلى المادة matter على أنها بدورها مفهوم تصوري أو ذهني، يستخدم في وصف انطباعاتنا الحسية، ولا يطابقه وجود فعلي في الخارج. أما المادة التي يشيع وصفها بأنها علة الانطباعات الحسية فهي — في رأيه — كيان ميتافيزيقي لا معنى له من وجهة نظر العلم، وفكرة لا تقل عمقًا عن أي «شيء في ذاته» وعن أي إسقاط آخر للمعاني البشرية في مجال ما بعد المحسوس، سواء أكان هو «القوة» أم «العقل اللامتناهي» أم «الإرادة» … إلخ.

ومن الشائع أن توصف المادة بأنها صلبة وغير قابلة للاختراق، وهاتان بالفعل صفتان تتميز بهما مجموعة كبيرة من أفراد فئة الانطباعات الحسية المسماة بالمادية. غير أنهما لا تنتميان بالضرورة إلى كل أفراد هذه الفئة؛ فالصلابة وعدم القابلية للاختراع أمران نسبيان، ولا يدلان على صفة مطلقة تنتمي إلى عالم الواقع. أما القول بأن المادة تتميز بالدوام والبقاء، فهو — في رأي بيرسن — قد يكون راجعًا إلى استمرار الانطباعات الحسية لا إلى استمرار شيء غير مدرك من وراء هذه الانطباعات، وهو يضرب في هذا الصدد مثلًا بالموجة؛ فعندما نرى الموجة تتحرك في البحر، تتكون لدينا عنها انطباعات حسية متماثلة ومستمرة؛ بحيث يبدو لنا أن «نفس» الموجة هي التي تتحرك، وهي التي تقترب منا. ومع ذلك فلو ألقينا فيها قطعة من الفلين لارتفعت وانخفضت في نفس الموقع عندما تمر الموجة بها، ولما انتقلت معها، مما يثبت أن الموجة ليست هي نفسها التي تتحرك. وهكذا قد تظل الموجة محتفظة بشكلها، وتتكون لدينا عنها نفس المجموعة من الانطباعات الحسية. ومع ذلك يكون أساسها أو مادتها متغيرًا على الدوام. وبعبارة أخرى: فإن تماثل الانطباعات الحسية لا يعني في كل الأحوال تماثل المادة الأساسية المكونة لها.

ولعل مما يلفت النظر حقًّا أن بيرسن يهاجم فكرة المادة — بمفهومها الشائع — على أساس أنها تفتح الباب لكل الخرافات الميتافيزيقية التي يبذل العلم جهدًا كبيرًا لكي يتخلص منها،١٧ وهو بطبيعة الحال لا يقصد أن المادية مذهب لاهوتي. ولكنه يربط بين الاعتقاد بالمادية وبين الاعتقاد بما وراء الحس؛ إذ إن المادة هي العنصر الدائم من وراء تغيرات الانطباعات الحسية؛ فحينما نقول بمادة خارجية «تسبب» الانطباعات المحسوسة، نتجاوز نطاق الحقيقة الوحيدة التي يجوز لنا الاعتراف بها، وهي هذه الانطباعات، فنكون في ذلك أشبه بالميتافيزيقيين أو اللاهوتيين في شطحاتهم التي يتجاوزون بها عالم الواقع، ويفترضون بها كيانات ليس لوجودها أي مبرر؛ فالمادية إذن — في رأي بيرسن — تسير في نفس الطريق الذي تسير فيه المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية، وهي مضادة أساسًا للروح العلمية السليمة، وقد وصفت هذا الرأي بأنه ملفت للنظر؛ لأن فيلسوفًا آخر ينتمي إلى نفس التراث الإنجليزي الذي ينحدر منه بيرسن — وهو الفيلسوف باركي — قد هاجم المادية لأسباب مضادة تمامًا، هي أنها تفتح الطريق للإلحاد، وتسد الطريق أمام الإيمان الديني. ومن المؤكد أن الذهن الفاحص يستطيع أن يستخلص دلالات كثيرة عميقة من هذه المقارنة بين فيلسوفين ينتميان إلى تراث فكري واحد، يحارب أحدهما المادية دفاعًا عن الدين، ويحاربها الآخر دفاعًا عن العلم!

(٩) الأفكار الفيزيائية الحديثة

فيما بين الطبعة الأولى (١٨٩٢م) والطبعة الثالثة (١٩١١م) لكتاب «أركان العلم»، حدثت ثورة كبرى في علم الفيزياء قلبت مفاهيمه الأساسية رأسًا على عقب، ولم يكن من السهل على من يكتب في العقد الأول من القرن العشرين أن يدرك الأهمية الهائلة لنظرية النسبية وللكشوف الضخمة في ميدان الذرة والكهرباء والمغناطيسية؛ ومن هنا فلم يكن في استطاعة بيرسن، بل لم يكن من المنتظر منه، أن يتمكن في الفصل الذي أضافه في الطبعة الثالثة عن المفاهيم الفيزيائية الحديثة، من استيعاب هذه المفاهيم وإدراك دلالاتها في نفس الوقت الذي كان يجري فيه تعديلها بسرعة لاهثة، ومبعث الطرافة في هذا الفصل هو أنه يمثل رأي عالم تكونت معظم أفكاره في ظل المفاهيم القديمة لعلم الفيزياء، ويكشف عن وقع هذا الانقلاب الضخم في أذهان علماء ذلك العصر.

ويلخص بيرسن رأيه في التغيير الشامل الذي طرأ على علم الفيزياء بقوله: «على حين أنه خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر مفهوم «المادة» هو الذي يعد أساسيًّا في علم الفيزياء، وكانت لهذه المادة خاصة غير مألوفة تسمى بالكهرباء، فإنه يبدو اليوم أن الكهرباء ينبغي أن تُعَدَّ أهم من المادة، بمعنى أن ما كنا نعده مادة أساسية ينبغي أن يتصور الآن على أنه شكل من أشكال ظواهر كهربائية عظيمة التعقيد»،١٨ ولا جدوى هنا من تتبع آرائه التفصيلية التي يطبق بها الحكم العام على المفاهيم الفيزيائية المختلفة؛ إذ إن هذه الحركة كانت — كما قلنا من قبل — ما زالت في بدايتها، وإنما الذي يعنينا في هذا الفصل كله هو أن بيرسن وجد في هذه التطورات الفيزيائية الحديثة تأييدًا لرأيه القائل: إن العلم لا يهتم إلا باختراع أنموذج تصوري يصف به مجرى انطباعاتنا الحسية، ولا شأن له بتقديم تفسير للعالم المدرك حسيًّا بالفعل، ففكرة الإلكترون — التي أصبحت هي الفكرة الأساسية في الفيزياء في ذلك العهد — ما هي إلا تركيب ذهني يستحيل أن يكون موضوعًا مباشرًا للإدراك الحسي، شأنها شأن سائر المفاهيم التي أدخلتها الكشوف الحديثة على علم الفيزياء.

(١٠) تحليل نقدي للمذهب الوصفي عند بيرسن

ينتمي بيرسن إلى تلك الفئة من فلاسفة العلم، التي يؤكد أفرادها أن مهمة العلم تقتصر على الوصف لا التفسير، وأن لغة العلم ليست إلا رموزًا مختزلة تنتمي إلى مجال الذهن وحده، وتتيح لنا أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية، فهو إذن ينتمي إلى تلك المدرسة الفكرية التي ترى أن العلوم — ولا سيما الفيزيائية — لا تستطيع أبدًا الإجابة على أي سؤال تفسيري يبدأ بكلمة: «لماذا»؛ إذ إن مثل هذه الأسئلة لا يجاب عليها إلا إذا أمكننا أن نثبت أن الأشياء «يجب» أن تحدث أو أن العلاقات «يجب» أن تقوم بين الأشياء على نحو معين. غير أن المناهج التجريبية المستخدمة في العلم لا يمكنها أن تصل إلى إثبات أية ضرورة منطقية في الظواهر التي تتناولها هذه المناهج؛ ومن هنا فإن قوانين العلوم ونظرياتها، حتى لو كانت صحيحة؛ فهي لا تعدو أن تكون حقائق عارضة، من الوجهة المنطقية، تصف علاقات التزامن والتعاقب بين الظواهر. أما الأسئلة التي يستطيع العلم أن يجيب عليها بحق فهي تلك التي تبدأ بكلمة: «كيف»؛ أعني الأسئلة الوصفية التي تبحث في طريقة حدوث الظواهر وتعاقبها؛ فكل علم إذن يهدف — تبعًا لوجهة النظر هذه — إلى تكوين نسق شامل متأمل من «الأوصاف» لا من التفسيرات.

هذه النظرية ترتكز على أساس فلسفي معروف، هو المذهب المسمى بالمذهب الظاهري  phenomenalism والقائل: إن الموضوعات الأولية المؤكدة للمعرفة هي «الانطباعات» المباشرة في التجربة الحسية الخارجية أو في التجربة الاستنباطية الداخلية. أما ما نسميه بالأشياء أو الجواهر، فما هي إلا إضافات ميتافيزيقية لا تبررها تجاربنا المعرفية المباشرة، ولا سبيل لأصحاب هذا المذهب — مهما بذلوا من محاولات — إلى أن يتخلصوا من شبح مذهب الذات الوحيدة  Solipsism الذي يهددهم على الدوام، والحق أن بيرسن — على خلاف كثير من القائلين بهذا النوع من المذهب الظاهري — لم يحاول كثيرًا أن ينفي عن نفسه شبهة الذاتية المطلقة؛ إذ إن تشبيهه للذات بعامل «التليفون» الذي أقفل على نفسه أبواب «كابينة» ولم يعرف عن العالم الخارجي إلا ما يأتيه خلال الأسلاك القريبة منه من أصوات. هذا التشبيه يكاد يكون اعترافًا صريحًا بالمثالية الذاتية التي يتردَّى فيها كثير من المفكرين، الذين يتصورون في بداية الأمر أنهم هم وحدهم القادرون على محاربة المثالية والدفاع عن العلم ضد هجماتها عليه. ولا جدال في أن هذه الحجة يمكن أن تستخدم سلاحًا ذا حدين؛ إذ إننا نصف بالحمق والجنون عامل «التليفون» الذي يتوهم أنه هو وحده الموجود، ومعه الأسلاك القريبة منه، وأن العالم الخارجي والناس ليسوا إلا انطباعات حسية تأتي من الأسلاك فحسب، فوجود انطباعات من هذا النوع لا يفسر إلا بعالم خارجي يبعثها، وكذلك الحل في انطباعاتنا التي نعجز قطعًا عن تفسير مصدرها في ظل أي مذهب يجعل من هذه الانطباعات حقيقة نهائية لا يقوم وراءها شيء. وهكذا يقع أصحاب هذه الآراء في سلسلة من الأخطاء التي يعجزون تمامًا عن التخلص منها كالقول إن مصدر الانطباعات المباشرة مجهول أو يستحيل أن يكون موضوعًا للمعرفة، والعجز عن تعليل السبب الذي جعل بعض الانطباعات مباشرة، وبعضها الآخر غير مباشرة، والقول: إننا نقوم «بإسقاط» انطباعاتنا خارجنا، وكأن هذه العملية الأولية البسيطة — عملية إدراك الموضوعات الخارجية — هي في حقيقتها عملية إرادية كان يمكن أن تتم على نحو مخالف! ومن المؤكد أن الصورة النهائية التي يُكوِّنها أصحاب هذا المذهب للعالم أَعْقَد ألف مرة من الصورة التي يكونها عنه الإنسان في موقفه الطبيعي، وأكثر تناقضًا منها إلى حد بعيد.
ولقد دأب بيرسن طوال الكتاب على تأكيد أن «الميتافيزيقيين» هم مصدر الاعتقاد بوجود أشياء خارجية، مع أن هذا الاعتقاد ملازم للإنسان في حياته العادية دون أي تفكير ميتافيزيقي، فهو جزء لا يتجزأ من موقف الإنسان الطبيعي في هذا العالم، وترتب على هذا الخطأ الأساسي خطأ آخر، هو الاعتقاد بأن التجربة الأصلية هي تجربة إدراك الانطباعات الحسية المباشرة، كالألوان والأصوات والطعوم … إلخ، على حين أن إدراك «الأشياء» هو استنتاج لاحق لا مبرر له، ومن المؤكد أن أبسط قدر من التفكير كفيل بأن يقنعنا بأن تجربة إدراك الانطباعات هي التي ينبغي أن توصف بالتعقيد، على حين أن تجربة إدراك الأشياء المتكاملة هي الأكثر أولوية وأصالة، «فتجربة الإنسان الفعلية ليست ألوان وطعم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة. وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه، لا أخطاء الإنسان البدائي، أو التفكير قبل العلمي. أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة، التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور.»١٩
وفضلًا عن ذلك، فقد تصور بيرسن أن صورة العالم قد اختلفت نتيجة للفكرة السابقة القائلة: إن انطباعاتنا المباشرة هي المصدر الوحيد لمعرفتنا. وهكذا تحدث مرارًا عن معرفتنا التي «تقتصر» على الانطباع ولا تتجاوزه. ومع ذلك فإن كل ما أتى به في هذا الصدد إنما هو لغة أخرى تصف نفس العالم الذي يقول به الماديون والمثاليون معًا؛ فالجديد الذي أتى به — هو وغيره من أصحاب هذا المذهب — إنما هو إحلال لغة الانطباعات الحسية محل لغة الأشياء، على حين يظل العالم نفسه كما هو، ويظل محتوى المعرفة دون أي تغير،٢٠ أما أننا سنفلح يومًا ما في وضع لغة علمية يستعاض فيها عن «الأشياء» بانطباعاتنا الحسية المباشرة، فهذا ما أشك في إمكان تحقيقه، فضلًا عن أنه لو تحقق لكانت اللغة الناتجة أَعْقَد كثيرًا من اللغة المألوفة، ولما أحرزنا بذلك التغيير أي تقدم في فهم العالم.

•••

ولنتساءل بعد هذا البحث في الأسس الأولية لفلسفة بيرسن: لماذا يحمل هذا الكتاب على فكرة التفسير، ويدعو إلى اتخاذ الوصف هدفًا وحيدًا للبحث العلمي؟ وعلى أي أساس يدعو إلى الاستغناء عن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» والاستعاضة عنها بأسئلة وصفية تبدأ بكلمة «كيف»؟ في وسعنا أن نستخلص من كتاب «أركان العلم» عدة إجابات على هذا السؤال، فلنحلل كلًّا منها لنرى مدى صحتها أو بُعدها عن الصواب:
  • (١)

    من المعروف أن التفسيرات كثيرًا ما تكون غائية، بمعنى أن الظاهرة تُعَلَّل تبعًا للغاية المقصودة منها؛ إذ إن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» كثيرًا ما يجاب عليها بتحديد غاية معينة يعتقد أن فيها تعليلًا كافيًا للظاهرة موضوع البحث، ولما كانت النظرة الغائية إلى الأمور قد جلبت للعلم أضرارًا كبيرة لم يستطع التخلص منها كلها حتى اليوم، فقد كان من الطبيعي أن ينفر نصير متحمس للعلم مثل بيرسن من فكرة التفسير ومن كل سؤال يبدأ بكلمة «لماذا»، ونستطيع أن نقول: إن مخاوف بيرسن من النظرة الغائية مشروعة تمامًا، وكل ما في الأمر أننا قد نضطر أحيانًا — في مجالات معينة — إلى إدخال الاعتبارات الغائية دون أن نكون قد خالفنا الروح العلمية؛ ففي مجال التاريخ مثلًا تحتل النظرة الغائية أهمية غير قليلة؛ إذ إن كثيرًا من الحوادث التاريخية تُفَسَّر تفسيرًا كافيًا بالغايات المقصودة منها، كذلك يوجد للغائية مجال في العلوم البيولوجية، فإذا أجبنا عن السؤال: لماذا كانت رقبة الزرافة طويلة؟ بقولنا: لكي تستطيع أن تحصل على غذائها من الأشجار العالية، لم يكن في إجابتنا هذه خروج عن الروح العلمية كما يبدو لأول وهلة؛ إذ إن الإجابة ترتكز على حقيقة أساسية من حقائق التطور البيولوجي، وهي تكيف الكائنات الحية مع ظروف بيئتها، وبالاختصار فحملة بيرسن على النظرة التفسيرية يمكن أن تُعَدَّ مشروعة إذا كان المقصود منها استبعاد التفسيرات الغائية وتشبيه الطبيعة بالإنسان، وإن تكن هناك مجالات معينة لا تتعارض فيها فكرة الغائية مع وجهة النظر العلمية.

  • (٢)
    هناك فهم لغوي معين لفكرة التفسير، يعتقد فيه أنها تفترض وجود ارتباط ضروري بين الأشياء، ولما كان العلم التجريبي يخلو بطبيعته من عنصر الضرورة، فقد تصور بيرسن أن من الطبيعي استبعاد التفسيرات من مجال هذا العلم. ولكن هل صحيح أن كل إجابة على الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» تتوقف على إمكان إثبات ارتباط ضروري بين الظواهر؟ الواقع أن أساس المشكلة كلها إنما يرجع إلى معنى «الضرورة» المقصودة في كل حالة، فهناك نوعان من الضرورة:
    • (أ)

      ضرورة تحليلية، كالقول: إن الجزء يجب أن يكون أصغر من الكل.

    • (ب)

      ضرورة تركيبية، كالقول: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو.

    ولقد كانت حملة بيرسن على التفسير راجعة أساسًا إلى اعتقاد موروث عن هيوم — فيلسوف التجريبية الأكبر — مؤداه أن التجربة لا تضمن لنا أي نوع من اليقين الضروري. وهذا صحيح إذا كان المقصود هو النوع الأول من الضرورة، أي الضرورة المنطقية. غير أن هناك نوعًا آخر من الضرورة، لا يقل إحكامًا عن الأول، ويمكن أن يستمد من التجربة؛ فالمبدأ القائل: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو في الماء هو مبدأ ضروري. ومن المحال أن يوجد له استثناء واحد، ولكنه مع ذلك ضروري بالمعنى التركيبي لا التحليلي؛ إذ إن تأكيد عكسه لا يستتبع أي تناقض «منطقي». ولا جدال في أن هيوم كان يتصور الضرورة بمعناها المنطقي فحسب، وسايره في ذلك كل التجريبيين من بعده، مع أن النوع الآخر من الضرورة لا يقل عنه لزومًا، ويمكن في الوقت ذاته أن يرتكز على أساس من العلم التجريبي. وفي اعتقادي أن التجريبيين قد ارتكبوا خطأً كبيرًا حين تصوروا أن الضرورة الوحيدة التي ينبغي الاعتراف بها هي الضرورة المنطقية الشكلية، وأنها هي وحدها التي لا تتخلف، وظنوا أن في كلمة «ضرورة تركيبة» تناقضًا في الألفاظ، على أساس أن الضرورة لا تكون إلا تحليلية فحسب؛ ذلك لأن الضرورة التي تجعل الحجر يسقط إذا تُرِكَ في الهواء لا تقل لزومًا عن تلك التي تجعل الجزء أصغر من الكل، وإن تكن من نوع مختلف.

  • (٣)

    وعلى أية حال فالبحث عن التفسير في مجال العلم قد لا يعني أكثر من السعي إلى الاقتناع العقلي فحسب، وبهذا المعنى يكون تفسير الظاهرة مرادفًا لتقديم إيضاح يرضي العقل، وفهم الظاهرة فهمًا كاملًا يكفي لتحقيقه الاقتصار على وصفها، وعندئذٍ يكون التفسير مشروعًا، بل يكون هو العلامة المميزة للتفكير العلمي من الخبرة المكتسبة في الحياة العادية، فقد نعلم بفضل هذه الخبرة اليومية أن النباتات تنمو إذا رُوِيَت وتعرضت لضوء النهار، أو أن الندى يتكون على السطح البارد للأجسام في الصباح الباكر. ولكن العالم وحده هو الذي يستطيع تقديم «تفسير» لهاتين الظاهرتين، بمعنى أنه هو وحده الذي يستطيع تقديم بيان مقنع لعقولنا عن أسباب حدوثهما، ولا يكتفي بوصف التعاقبات المتضمنة فيهما. وبعبارة أخرى: فقد يكون الاكتفاء بالوصف من العلامات المميزة للأذهان غير العلمية، على حين أن القدرة على تقديم التفسير هي أمر ينفرد به العالم وحده.

  • (٤)
    وأخيرًا، فإن فكرة الوصف — كما يدعو إليها بيرسن — تنطوي على قدر غير قليل من الغموض؛ ذلك لأنه يؤكد أن القوانين العلمية تركيبات فكرية نستعيض بها عن المعطيات التجريبية للإدراك الحسي، وأن الحركة لا تنطبق مباشرة على ما يوجد في عالم الحس، وإنما تنطبق على تلك الفئة من المعقولات التي يستعيض بها العالم عن المعطيات الحسية، ولنسلم جدلًا بأن هذا كله صحيح، لكن كيف يكون العلم في هذه الحالة وصفيًّا؟ وهل نكون قد وصفنا محتويات الإدراك إذا استعضنا عنها بنسق من الأفكار الهندسية الغريبة عنها؟ إن ما يقوم به العالم — كما يحدد بيرسن مهمته — هو في واقع الأمر عكس الوصف تمامًا؛ ومن هنا كان «كاسيرر» على حق حين قال: إذا كانت مهمة الوصف الموضوعي — بمعناه الصحيح — هي تصور المُعطى على أدق نحو ممكن، دون أية إضافة أو أي حذف، فإن هذا التحوير للتجربة الأصلية — على عكس ذلك — هو بعينه الذي يميز العملية العقلية التي تقوم بها الفيزياء، وهو ما يضفي عليها قيمتها، فبدلًا من التكرار السلبي المحض، نرى أمامنا عملية إيجابية، تنقل ما هو معطى في البداية إلى مجال منطقي جديد، وإنها لطريقة غريبة حقًّا في وصف ما هو حاضر أمامنا، أن يَنْصَبَّ اهتمامنا — في سبيل تحقيق هذا الغرض — على تصورات بحتة، لا تستطيع هي ذاتها أن تكون «حاضرة» على أي نحو.٢١
وإذن فهناك خلط في فهم معنى «الوصف» لا يقل خطورة عن الخلط الذي لاحظناه من قبل في فهم معنى «التفسير»، وأساس هذا الخلط راجع إلى أن معنى الوصف بطبيعته سلبي، على حين أن بيرسن لا يكف عن تأكيد وجود عناصر إيجابية في عملية البحث العلمي؛ إذ يتدخل الذهن بمفاهيمه الخاصة التي لا تنتمي إلى مجال الإدراك المباشر على الإطلاق، وعلى حين أن الأفكار العقلية في رأيه ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، فإنه يؤكد في الوقت ذاته ثنائية الفكر والواقع تأكيدًا قاطعًا، وذلك حين يصر على أن يجعل مفاهيم الرياضة والفيزياء منتمية إلى المجال العقلي وحده، ويفصلها تمامًا عن مجال الإدراك المباشر، مؤكدًا أنها لغة عقلية اصطُنِعَت لأغراض معينة فحسب. ولقد كانت هذه الثنائية القاطعة بين التركيبات الذهنية وبين الظواهر، وما تستتبعه من استبعاد تام للأفكار التي يستخدمها العالم في وصف الطبيعة من مجال الطبيعة ذاتها، موضوعًا لانتقاد كثير من الباحثين في مناهج التفكير العلمي؛ إذ إنها تكرار لنفس الخطأ الذي وقع فيه ديكارت من قبل، حين ظن أن عالم الذهن بما فيه من كليات ومبادئ عقلية ينفصل تمامًا عن عالم الطبيعة المادية. صحيح أن الظواهر لا تطيع القانون العقلي حرفيًّا في كثير من الأحيان، وأن أي ظاهرتين لا يمكن أن تكونا في هوية تامة. ولكن هذا لا يعني أن القانون ذهني فقط، وأن عالم الفكر منفصل تمامًا عن عالم الطبيعة، فمن الممكن أن يكون هذا الانحراف الذي نلمسه في الطبيعة راجعًا إلى تعقد ظواهرها وتشابكها. ومع ذلك يكون القانون صحيحًا لو وُجِدَت هذه الظواهر في حالتها الخالصة،٢٢ فقانون القصور الذاتي — بما يتضمنه من حركة مستمرة وسكون مطلق — يتناول بالفعل حالة فرضية لا وجود لها في الطبيعة المدركة. ولكن هذا لا يعني أن هناك انفصالًا بين عالم العقل — الذي ينتمي إليه هذا القانون — وبين عالم الظواهر، وإنما يعني أن تعقد الظواهر وتداخلها يحول دون توافر الظروف التي تتيح انطباق هذا القانون في صورته الخالصة، وبالاختصار فإن عدم إطاعة الطبيعة للقانون العلمي، واستحالة تطبيق هذا القانون عليها في صورته المباشرة، ليس معناه أن هناك ثنائية قاطعة وانفصالًا تامًّا بين عالم الذهن وعالم الظواهر، بل إن تقدم العلم يقدم في كل يوم مزيدًا من الأدلة على تداخل هذين العالمين.

(١١) نصوص مختارة من كتاب «أركان العلم»

(١١-١) الكون كما تحكمه العلية وكما يحكمه الارتباط (القسم الخامس من الفصل الخامس)

«تكاد كل الأفكار الموروثة التي وقفت حجر عثرة في وجه الفكر البشري أن تكون ناتجة، لا عن التجربة مباشرةً، وإنما عن استنباط عقلي من تجربة محدودة النطاق إلى حد بعيد، وما علينا إلا أن نتأمل المذاهب الكونية السابقة على كبرنك، وننظر إلى تلك المفاهيم الضيقة من أمثال «المادة» و«القوة» أو «الذرة» و«الأثير»؛ لندرك مدى سيطرة المفهوم الذهني على التجربة، إلى الحد الذي يجعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه حقيقة من حقائق التجربة، وضمن هذه القيود الذهنية التصويرية ينبغي أن يندرج آخر الأمر قانون العلية في صورته الصريحة المطلقة.

إن الكون مؤلَّف من كيانات لا حصر لها، كلٌّ منها على الأرجح فردي، وكلٌّ منها على الأرجح غير دائم، وأقصى ما يستطيع المرء أن يحققه هو أن يصنف هذه الكيانات — عن طريق القياس  measurement أو ملاحظة الخصائص — إلى فئات من الأفراد «المشابهة». وفي داخل هذه الفئات يمكن ملاحظة تنوعات؛ ومن هنا كانت المشكلة الأساسية في نظر العلم هي كشف طريقة ارتباط تنوع فئة معينة بتنوع فئة أخرى، فرجل العلم يبحث دائمًا — عن وعي أو دون وعي في معظم الأحيان — عن جداول للارتباط، فإذا ما وجد كل فرد محدد في الفئة «أ» فردًا مرتبطًا به في الفئة «ب»، قال: إن «ب» مرتبطة ﺑ «أ». ولكن الواقع أنه يجد على الدوام لكل فرد مختار من «أ» مجموعة من أفراد «ب»، وذلك إذا بلغت قدرته على الملاحظة والقياس قدرًا كافيًا من الدقة، وهذه المجموعة الأخيرة قد تكون شديدة التركيز وقد لا تكون، ومن هذه المجموعة يصل بعمليات ذهنية خالصة إلى حد نهائي تصور فيه «ب» بطريقة ذهنية على أنها معتمدة على «أ»، وينظر فيه إلى «أ» على أنه يحدد «ب» على نحو مطلق، وهنا نكون قد انتقلنا من وقائع التجربة إلى الحد التصوري الذي يتمثل في الاعتماد التام؛ أي إلى ما يسمى بقانون العلية. غير أن النظرة الأحدث والأصح في نظري إلى الكون هي القائلة إن الموجودات كلها تترابط بدرجات متفاوتة؛ فالموجودات فردية وليست عملية تصنيفها إلى عملية بشرية عقلية تستهدف الاقتصاد في الفكر، وأي تنوع داخل موجودات فئة معينة يتبين أنه مرتبط بتنوع مناظر بين موجودات فئة أخرى، وعلى العلم أن يقيس درجة وثوق الارتباط أو تفككه في هذه التنوعات المتلازمة؛ فالاستقلال المطلق هو الحد الذهني — في أحد الطرفين — لتفكك الروابط، والاعتماد المطلق هو الحد الذهني — في الطرف الآخر — لوثوق هذه الروابط، ولقد حاولت النظرة القديمة — القائلة بالعلة والمعلول — أن تدرج الكون تحت هذين الحدين التصوريين للتجربة. وكان لا بد لها أن تخفق؛ إذ إن الأشياء في تجربتنا ليست إما مستقلة أو معتمدة. بل إن جميع فئات الظواهر ترتبط سويًّا، والمشكلة في كل حالة هي تحديد درجة وثوق الارتباط.

إن الموقف العقلي الذي يرى بين كل الموجودات درجات متباينة من الارتباط — لا اعتمادًا واستقلالًا فحسب — يتأمل الكون عقليًّا من خلال مقولة جديدة، وهو يتحرر بسهولة من التمييز القديم البالي بين الظواهر الحيوية والظواهر الفيزيائية، وهو التمييز الذي لا يرجع إلى هذه الظواهر ذاتها، وإنما يرجع إلى تلك الحدود التصورية التي استخلصها منها الإنسان بعقله، ثم نسي كعادته قدرته على الخلق اليسير، فحوَّلها إلى حقيقة قائمة من وراء إدراكاته الحسية وخارجة عنه، إن كل ما يمدنا به الكون هو التشابه في التنوعات. أما الإنسان فقد أضفى فكرة الاعتماد عليها رغبةً منه في اقتصاد طاقته العقلية المحدودة.»

(١١-٢) الإرادة بوصفها علة (القسم الثالث من الفصل الرابع)

«ليس من المستغرب أن يتأثر البشر في مرحلة مبكرة جدًّا من نموهم العقلي بالقوة الحقيقية — أو البادية على أية حال — التي تكمن في نزوع إرادتهم إلى إحداث «حركة»، وعلى هذا النحو نجد أن أكثر الشعوب بدائية تنسب كل الحركات إلى إرادة معينة من وراء الجسم المتحرك؛ إذ إن أول تصور يكونونه عن علة الحركة إنما يكمن في إرادتهم الخاصة. وهكذا ينظرون إلى الشمس على أنها محمولة أثناء دورانها على أيدي إله للشمس، وإلى القمر على أن لديه إلهًا للقمر، بينما تفيض الأنهار وتنمو الأشجار وتهب الرياح بفضل إرادة مختلف الأرواح التي تكمن فيها. وكان لا بُدَّ من مضي عصور طويلة حتى يدرك البشر — بقدر متفاوت من الوضوح — أن الإرادة ترتبط بالوعي، وبتركيب فسيولوجي محدد، وأن الوصف العلمي للحركة يحل تدريجيًّا محل التفسير الروحاني، وأننا نستغني في حالة بعد الأخرى عن الفعل المباشر للإرادة في حركة الأجسام الطبيعية. ومع ذلك فإن فكرة الإجبار، وفكرة وجود ضرورة ما في ترتيب التعاقب ما زالت متأصلة بعمق في أذهان الناس، وكأنها إحدى حفريات التفسير الروحاني الذي يرى في الإرادة علة للحركة، وما زالت هذه الفكرة للأسف مرتبطة بالوصف العلمي للحركة، وبالفكرة المادية للقوة بوصفها ما يجعل من الضروري حدوث تغيرات أو تعاقبات معينة للحركة، وهي الفكرة التي تُعَدُّ شبحًا متخلفًا عن المذهب الروحاني القديم؛ فالقوة التي يقول بها المادي هي الإرادة التي كان يقول بها الروحاني القديم، منفصلة عن الوعي، وكلتا الفكرتين تنقلنا إلى مجال يتجاوز انطباعاتنا الحسية؛ ومن ثَم فكلتاهما فكرة ميتافيزيقية، ومن ذلك فربما كان استدلال الروحاني القديم — مع فساده — أقل بطلانًا من استدلال المادي الحديث؛ إذ إن الروحاني لم يقل بوجود الإرادة وراء مجال الوعي الذي كان يجد الإرادة مرتبطة به على الدوام.

إن القوة بوصفها علة للحركة تقف على قدم المساواة تمامًا مع إله الشجر بوصفه علة للنمو، فكلاهما اسم يخفي جهلنا بالسبب الذي يرجع إليه النظام المطرد لإدراكاتنا الحسية، والضرورة في القانون الطبيعي لا تتسم بنفس الحتمية المطلقة التي تتسم بها النظرية الهندسية، ولا بالوجوب المطلق الذي يطلبه المشرع البشري، وإنما هي لا تعدو أن تكون تجربتنا التي نشعر فيها بوجود نظام مطرد لا تتسم مراحله بترتيب منطقي أو إرادي.»

١  يلاحظ أن الكتاب الرئيسي للسير فرانسس جولتن أستاذ بيرسن، كان يحمل نفس هذا العنوان، أي أن هذا العنوان تعليق على كتاب «الملكة البشرية وتطورها» لجولتن.
٢  أركان العلم، ص٥١-٥٢.
٣  المرجع نفسه، ص٥٠.
٤  المرجع نفسه، ص٦٣.
٥  ص٦٥.
٦  ص٦٧.
٧  ص٨٢.
٨  ص٨٧.
٩  ص١١٣.
١٠  ص١٢١.
١١  ص١٥٢.
١٢  ص١٣٠.
١٣  ص١٥٣.
١٤  ص١٨٣.
١٥  ص١٨٤.
١٦  ص١٩٨-١٩٩.
١٧  ص٢٩٧.
١٨  ص٣٥٦-٣٥٧.
١٩  انظر لكاتب المقال: «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان»، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٦٢م، ص٣١-٣٢.
٢٠  المرجع السابق، ص١٢٩ وما يليها.
٢١  Ernst Cassirer: Substance and Function. Dover Publications, N. Y. 1953. p. 122.
٢٢  M. R. Cohen: Reason and Nature. Free Press, (Revised Edition, 1959). p. 227.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤