هذا المثل الأعلى المشترك موجود بالفعل في كل أشكال البنائية. ولكنه في رأينا لا يوصل
إلى الكثير. وربما كان الطريق الآخر — أعني التعريف بالسلب — أمرًا لا مفر منه من أجل
تكوين فهم مبدئي سليم للبنائية؛ ذلك لأن هذا الاتجاه لم يظهر في فراغ، لكي يدعو إلى مثل
أعلى في المعقولية يكون فيه كل نسق يكونه العلم مكتفيًا بذاته وقادرًا على تنظيم ذاته
دون إقحام عناصر خارجية. بل إنه كان في الأصل دعوة إلى التخلي عن أساليب مضادة في البحث
العلمي. وكان يرتكز على فلسفة خاصة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النقد الذي وجهته إلى
الفلسفات المضادة لها، ولقد كان البنائيون — منذ البداية — يخوضون معارك حامية ضد خصوم
أقوياء، لهم مواقع ثابتة في أرض الفلسفة والتفكير العلمي؛ ومن هنا كان مما يفيد في
تقديم إيضاح أولي للبنائية أن نحددها من خلال المعارك التي خاضتها، ومن خلال الأفكار
المضادة التي سعت إلى محاربتها. ومما يؤيد صحة هذا الاتجاه أن بياجيه نفسه حين قدم
تعريفًا أوليًّا للبنائية مرتكزًا على مثلها الأعلى «الإيجابي»؛ اضطر عند شرحه لعناصر
هذا التعريف إلى إيضاحها من خلال أضدادها — أي إنه عاد مرة أخرى إلى تعريف البنائية من
خلال «ما تعارضه» — لا من خلال «ما تسعى إليه».
على أية حال فإننا لا نستطيع أن نغفل التحديد الإيجابي لمعنى البنائية، وكل ما في
الأمر أن هذا التحديد ينبغي أن يستخلص — في رأينا — في مرحلة تالية؛ فالطريقة المثلى
في
إيضاح معنى البنائية هي أن نبدأ بتحديد هذا المعنى من خلال الاتجاهات التي ظهرت
البنائية لكي تنقذها. أما الأهداف الإيجابية للبنائية فسوف تُعْرَض بالتفصيل عندما
نتحدث عن الأسس الفلسفية لهذا المذهب في الميادين المختلفة لمعرفة الإنسان، وسيكون من
السهل عندئذٍ استخلاص العناصر المشتركة بين أشكال البنائية في كل هذه الميادين:
(١) البنائية والنزعة التجريبية
في الفلسفة الفرنسية بأسرها — منذ عهد ديكارت — اتجاه إلى الإقلال من شأن النزعة
التجريبية وتأكيد دور العقل الذي يسبق التجربة — سواء أكانت هذه الأسبقية منطقية أم
زمنية — ويضفي عليها اتجاهًا وهدفًا ومعنًى، ومنذ أن أكد ديكارت أهمية النموذج
الرياضي في المعرفة البشرية، وأكد فرانسس بيكن، في نفس العصر تقريبًا، أهمية
الملاحظة والرصد الدقيق للواقع، تحددت معالم اتجاهين متضادين: أحدهما دور العقل في
المعرفة، والثاني يركز على أهمية التجربة. وصحيح أن العلم قد استطاع منذ وقت مبكر —
بل منذ عهد هذين الفيلسوفين ذاتهما — أن يتجاوز التضاد بين النزعة العقلية والنزعة
التجريبية، وذلك حين قدم جاليليو نماذج رائعة لكشوف علمية تعتمد على ملاحظات وتجارب
دقيقة من جهة، وعلى فروض عقلية وصياغات رياضية من جهة أخرى. ولكن هذا التضاد ظل
يقوم بدور أساسي في الفكر الفلسفي، وما زال له تأثيره عند المشتغلين بالعلوم
الإنسانية حتى اليوم.
ومن أهم السمات التي نستطيع أن نلمحها عند البنائيين: مواصلتهم السير في هذا
الاتجاه العقلي المعادي للنزعة التجريبية، وسعيهم إلى تفسير التجربة من خلال مبادئ
عقلية، بدلًا من إرجاع مبادئ العقل إلى مكتسبات تجريبية. ومما يدل على تأصل هذا
العداء للتجريبية في تفكيرهم، أننا نجده عند مفكرين بنائيين تفصل بين اتجاهاتهما
العقلية مسافات هائلة، وأعني بهما الأنثروبولوجي ليفي ستروس، والباحث لوي ألتوسير
Louis Althusser، فمن الأسس المنهجية التي
ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء
إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في
ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر
Frazer مثلًا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات
لا يهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي؛ فالبناء
هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد
على السطح الخارجي للظواهر أبدًا، وإنما يُكْشَف عقليًّا. وهكذا يستهدف التحليل
البنائي — في ميدان الأنثروبولوجيا — الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة
الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري؛
ومن ثَم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية»،
«وطوال كتابات ستروس يتكرر مرارًا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية.»
٢
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفًا
مثاليًّا، فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (L’esprit
Humain) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي
فرد أو جماعة إنسانية بعينها، وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا
ندَّعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر
الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم»، فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر
مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليًّا،
ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري لا تتأثر بتغير
الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية كالأساطير؛
فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة
ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها
العقل البشري أينما كان.
فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية — وأعني به الفيلسوف
الماركسي ألتوسير — وجدناه بدوره يشترك مع ستروس — برغم كل ما بينهم من اختلافات
أيديولوجية عميقة الجذور — في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها
معيار لذاتها، دون الحاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي؛ ففي نظر التجريبية تكون المعرفة
تجريدًا من الواقع؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى
متداخلة تحجبها عنا، وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبًا لنجلو وجه الحقيقة
الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح»
نستبعد فيها الزوائد لكي نكشف ماهية الحقيقة، ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها
أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة، وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة
المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي
نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون
مكتفية بذاتها، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة
بأكملها خارجه.
ولا يكتفي ألتوسير بهذا النقد للتجريبية. بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك، فيقول:
إن عملية المعرفة تحدث كلها في الفكرة، وإن الممارسة النظرية تتضمن في ذاتها معايير
علمية النتائج التي يتم الوصول إليها في العلوم المختلفة؛ أي إن العلوم عندما تبلغ
قدرًا معينًا من النمو، لا تكون أبدًا بحاجة إلى ذلك التحقيق التجريبي الذي يربط
بين قضاياها وبين واقع خارجي، والذي يقال: إنه معيار الصدق في القضايا،
٣ والمثل الذي يضربه ألتوسير للتدليل على ذلك هو الرياضيات، التي لا
تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها، ويعمم ألتوسير ما ينطبق في حالة
الرياضيات على بقية العلوم؛ بحيث يجعل معيار الصدق في المعرفة كلها معيارًا
داخليًّا هو التماسك والاتساق، ويكون مقر الحقيقة عنده داخل الذهن
intramental فحسب. أما الالتجاء إلى التجربة
فهو «برجماتية» يرفضها ازدراء وترفُّع.
وهكذا نرى إلى أي حد يظل ألتوسير — في هذه المسألة بالذات — ديكارتيًّا مخلصًا؛
وذلك أولًا بسبب نزعته القبلية a-priorisme
الواضحة، وجعله الحقيقة معيارًا لذاتها، وتأكيده أن التجربة هي التي تكتسب
مشروعيتها من حقيقة موجودة قبلها، بعكس ما يقول به التجريبيون من أن الحقيقة هي
التي تكتسب مشروعيتها من تجربة سابقة عليها، وهو فضلًا عن ذلك ديكارتي صميم حين
يدلل على هذا كله بما يحدث في الرياضيات، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل اتجاه ديكارت في
اتخاذه من الرياضيات نموذجًا لكل معرفة بشرية؛ على أن ألتوسير يُعرض نفسه هنا لنفس
النقد الذي طالما وجه إلى ديكارت، وأعني به أن ما يصدق على الرياضيات لا يتعين أن
يصدق على بقية العلوم، وأنه إذا كانت العلوم الرياضية تكتفي بمعيار الاتساق الشكلي
وتستمد حقيقتها كلها من داخل الذهن، فإن هناك علومًا أخرى كثيرة تحتم الخروج عن
الذهن، وتحيلنا إلى الواقع، ولا تجد غضاضة في الاستعانة بالتجربة من أجل تصحيح
النظرية، ومن أجل أن تتمكن من التمييز بوضوح بين ما هو واقع فعلي وما هو مجرد إمكان
ذهني.
وعلى أية حال، فها نحن أولاء نرى ليفي ستروس وألتوسير يتفقان معًا على توجيه نقد
شديد إلى النزعة التجريبية، ويضعان معيارًا لصدق تحتل فيه التجربة — على أحسن
الفروض — المرتبة بعد الجهد العقلي، وقد يبدو هذا متعارضًا مع ما اعترف به ليفي
ستروس ذاته من أن الوصول إلى البناء أمر يحتاج إلى مقارنة وتحليل دقيق لعدد من
الأمثلة المدروسة، وما أكده من أن الباحث يلقى مشقة كبيرة حتى يتوصل إلى النسق أو
التركيب الباطن للظاهرة التي يدرسها. ولكن حقيقة الأمر أنه ليس ثمة تعارض بين
الموقفين؛ فالجهد الذي كان يبذله ستروس لا ينصبُّ على دراسة الوقائع الخارجية بقدر
ما ينصبُّ على التفكير العقلي فيها. ومن المعترف به — كما سنرى فيما بعد — أن ستروس
لم يكن من أولئك العلماء الأنثروبولوجيين الذين يقضون حياتهم في ملاحظة الجماعات
البدائية وتسجيل عاداتها وطرائق حياتها إلخ، بل كان الجهد «الميداني» الذي بذله
ضئيلًا بالقياس إلى غيره من العلماء في هذا الميدان نفسه. أما الجهد الأكبر فكان في
عملية التحليل الفكري الداخلي لتلك المادة غير المتسعة التي جمعها «من الميدان»
ذاته. ومع ذلك بالرغم من المشقة العقلية الكبرى التي كان يعانيها في مقارنة الأمثلة
المختلفة والجمع بين ظواهر شديدة التباعد من أجل التوصل إلى «البناء» الكامن فيها،
فقد كان يؤكد دائمًا أن البناء موجود في الواقع بمعنى ما. وليس مجرد تركيب عقلي
نقوم به للتسهيل أو التوضيح أو تقريب الظاهر إلى الأذهان. وهكذا يجمع البناء قدرًا
غير قليل من صفات القانون العلمي؛ فكل منهما يكشف عن ثبات من وراء التغير، وكلٌّ
منهما يرد الكثرة الظاهرة إلى وحدة، وكلٌّ منهما عقلي في طريقة اكتشافه، وواقعي في
وجوده خارج الذهن الخالص. ولكن البناء أهم من القانون العلمي؛ لأن هذا الأخير يلخص
فئة معينة من الظواهر، على حين أن الأول يجمع بين فئات متباينة ومتباعدة، يستطيع
العقل أن يكشف فيها كلها بناءً واحدًا.
وتبقى الكلمة الأخيرة — بعد هذا كله — للعقل، فبالرغم من تأكيد ستروس وجود البناء
في الظواهر ذاتها، وبالرغم من إصراره على أنه ليس مجرد تركيب أو نموذج ذهني نبسط به
الوقائع لكي يسهل علينا فهمها، فإن البناء ما كان يمكن أن يوجد في ظواهر على هذا
القدر من التباعد (كوجود بناء واحد لنظام القرابة في مجتمع بدائي، وللنسق اللغوي في
هذا المجتمع) لو لم يكن راجعًا إلى تركيب الذهن البشري ذاته، ولو لم تكن مبادئ
العقل واحدة في كل هذه المجالات، ولو لم تكن العملية التي يصوغ بها عقلنا نواتجه
المتباينة عملية واحدة في صميمها؛ فالبناء موجود في الواقع بالفعل. ولكنه موجود فيه
لأن هذا الواقع — في مجال الظواهر الإنسانية — إنتاج لذهن بشري يعمل دائمًا — وفي
كل الميادين — بطريقة واحدة؛ ولهذا كانت البنائية تحارب النزعة التجريبية وترفض كل
تفسيراتها لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالواقع.
ومن النتائج الهامة لموقف المعارضة الذي وقفته البنائية من النزعة التجريبية،
رفضها التام للنظرة التجريبية إلى علاقة الجزء بالكل؛ فالتجريبيون يرون أن الأطراف
في أية علاقة سابقون على العلاقة ذاتها؛ أي إن تجمع الأطراف هو الذي يضفي على
العلاقة طابعها الخاص، ويستحيل تصور هذه العلاقة مستقلة عن الأطراف الداخلين فيها،
على حين أن كلًّا من هذه الأطراف له استقلاله الخاص، ويمكن تصوره بمعزل عن العلاقة
التي يدخل فيها؛ أي إن العلاقات كلها، في رأي النزعة التجريبية، خارجية أما
البنائيون فيرون أن العلاقة ليست مجرد مجموع لعناصر مستقلة قائمة بذاتها. بل إن هذه
العناصر تخضع لقوانين تتحكم في بناء العلاقة التي تجمعها، وهذه القوانين تضفي على
البناء سمات كلية تتميز عن سمات عناصره مأخوذة على حدة، كما تتميز عن مجموع هذه
العناصر، ويضرب بياجيه مثلًا لهذه الصفة بالأعداد الصحيحة في الحساب، فهذه الأعداد
لا توجد بمعزل عن بعضها البعض، ولم يكتشَف كلٌّ منها مستقلًّا بتعاقب عشوائي. بل
إنها لا تظهر إلا في ترتيب معين. وهذا الترتيب يرتبط بسمات «بنائية» تختلف عن سمات
الأرقام المنفردة.
٤
وهكذا تنقد البنائية المبدأ الشائع بين التجريبيين، الذي يجعل أطراف العلاقة
مستقلين عن العلاقة ذاتها، ويؤكد أن هؤلاء الأطراف أشبه «بالذرات» القائمة بذاتها،
والتي لا تتغير طبيعتها بدخولها في أية علاقة (وهو المعروف بمبدأ الذرية
التجريبية). ولكن هل يعني هذا النقد أن البنائية تنحاز إلى الرأي المضاد، الذي
عرفناه في النظرية الجشطلتية في علم النفس، والذي يؤكد أولوية الكل على الأجزاء،
ويجعل منه أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة؟ الواقع أن هذا القول بأسبقية الكل
يقربنا إلى حد ما من فكرة البناء. غير أن مفهوم البناء ينطوي على ما هو أكثر من
تغليب الكل على الأجزاء، واتخاذ الموقف المضاد — بطريقة آلية — للموقف التجريبي؛
فالبنائية لا تكتفي بأن تضع الكل في البداية، دون أن تحدد خصائصه وسماته الداخلية.
بل إن أهم المشكلات في نظرها هي العلاقات الداخلية بين العناصر؛ فهي تركز بحثها على
العمليات الطبيعية أو المنطقية التي يتكون بها الكل، والقوانين المتحكمة في تركيبه،
٥ وتتجاوز بذلك الموقف الجشطلتي الذي يكتفي بافتراض أولوية الكل دون مزيد
من التحليل لتركيبه الباطن.
(٢) البنائية والنزعة التاريخية
ربما كان التضاد الأهم، الذي تتحد به طبيعة البنائية بمزيد من الوضوح، هو تضادها
مع النزعة التاريخية historicisme؛ إذ إن الجدل
الأكبر الذي أثاره البنائيون كان موجَّهًا ضد أنصار النزعة التاريخية، والقوة
الدافعة الأولى للتيار البنائي كانت الرغبة في مراجعة التفسير التاريخي مراجعة
جذرية؛ ومن هنا كان فهم موقف البنائية من النزعة التاريخية أساسيًّا في تحديث
سماتها.
فقد كان من الشائع — في القرن التاسع عشر بوجه خاص — تفسير كل الظواهر من خلال
التاريخ، فالسابق هو الذي يتحكم دائمًا في اللاحق، والمنشأ الأول لأي ظاهرة، ثم
مسارها التالي، أساسي في فهم طبيعتها الحالية. ولقد اتفق على هذه النقطة مفكرون
كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية؛ إذ قدم إلينا دارون تفسيرًا لتطوير
الأحياء من منظور تاريخي، وعمم «سبنسر» نظرية دارون من المجال البيولوجي إلى جميع
المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ «نيتشه» من فكرة التاريخ
أساسًا لفلسفة كاملة تؤمن بأن للأخلاق والمعرفة والقيم (حتى المنطقية منها)
تاريخًا، وبأن حاضر هذه المعاني لا يُفْهَم إلا من خلال ماضيها، وبأن الإنسان كائن
تاريخي في صميمه، وطبَّق ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في
مراحلها المختلفة، فقدَّم إلينا نظرية في «المادية التاريخية» تجمع بين تأكيد
الشروط المادية (والاقتصادية بوجه خاص) لتطور المجتمعات البشرية، وبين إعطاء أهمية
كبرى للعامل التاريخي في هذا التطور، بل يمكن القول، من وجهة نظر معينة. إن العلوم
الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها — وهي فكرة السببية — طابعًا
تاريخيًّا أو زمنيًّا؛ لأن السبب كان يُنْظَر إليه على أنه «السابق المتكرر أو
الدائم»، والتقطت علوم إنسانية كثيرة فكرة التفسير التاريخي، فأصبح من الضروري، من
أجل فهم أية ظاهرة تنتمي إلى مجال الحياة الإنسانية، الرجوع إلى سوابقها الماضية،
وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته، ويبنون
نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في
«التاريخ»؛ أي إن التاريخ أصبح متغلغلًا في كل شيء.
ولم يقف هذا التيار التاريخي الطاغي عند حدود القرن التاسع عشر، بل كانت له
إمدادات قوية في القرن العشرين، تمثل ذلك في عودة ظهور فكرة «التقدم» التي ترجع إلى
القرن الثامن عشر، وتأكيد وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في
الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر، وهناك خط متصل من التقدم، يمتد من أقدم العصور
حتى اليوم، وبفضله يتحقق انتصار الروح في هذا العصر؛ لأن كل عصر وإن كان موجودًا في
حالة «كُمُون» في العصر الذي سبقه، يضيف جديدًا إلى حصيلة التجارب البشرية، ويسهم
في دفعها إلى الأمام؛ ولذلك فإن أعلى المستويات التي تصل إليها الروح البشرية ستكون
في المستقبل.
ولقد ظهرت محاولات متعددة للحيلولة دون انتشار هذه النزعة التاريخية الطاغية، كان
من أشهرها محاولة «باشلار G. Bachelard» الذي أنكر
وجود خط متصل من التقدم في المعرفة العلمية، وذهب إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ
أخطاء وعقبات تقف في وجه المعرفة بقدر ما هو تاريخ إنجازات ناجحة. بل إن الماركسية
ذاتها — برغم ارتباطها القوى بالنزعة التاريخية — تنطوي على الفكرة القائلة بوجود
نقاط انقطاع وانفصام في التاريخ البشري. وفضلًا عن ذلك فليس من الضروري أن يكون
الأساس الذي يُبْنَى عليه التفسير سابقًا من الوجهة الزمنية، فهناك غايات معينة
تستهدف المستقبل، وتكون — في المجال الإنساني — نوعًا خاصًّا من العلية تتطلع إلى
الأمام لا إلى الخلف، وهذه مسألة ظهرت في الماركسية، التي يرتكز جانب كبير من
دعوتها الأيديولوجية على نوع من العلية المتطلعة إلى المستقبل، هي تحقيق مجتمع بلا
طبقات.
ولكن البنائية كانت هي التي أوقفت — بطريقة حاسمة — هذا التيار الطاغي للنزعة
التاريخية، أو على الأقل قضت على ادعائها احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية،
فقد استعاضت البنائية عن النظرة الشائعة إلى تقدم الروح الإنسانية، وهي النظرة التي
تمثل هذا التقدم على أنه تراكم تدريجي لمكتسبات يضاف الجديد منها إلى القيم إضافة
خارجية، بتصور آخر تكون فيه الأفكار الجديدة مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل،
وإن كانت قد اتسمت في البدء بالبساطة والبدائية؛ فالعقل الإنساني لا يسير في طريقه
بطريقة جيولوجية إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ أي إنه لا يضيف طبقة من
المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تمثل القديم بطريقة
أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوره أن هذا البناء —
الذي كان يعد صحيحًا صحة مطلقة في وقت مضى — لا يمثل إلا جانبًا من الحقيقة، هو ذلك
الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
وفي وسعنا أن نربط بين معارضة البنائية للنزعة التجريبية ومعارضتها النزعة
التاريخية في هذه النقطة بالذات، فنقول: إن تصور التقدم البشري بأنه تراكم تدريجي
لمكتسبات تتجدد على الدوام — وهو التصور المميز للنزعة التاريخية — ينطوي على وجه
من أوجه النزعة التجريبية، إذ يصبح التقدم عندئذٍ حصيلة وقائع تجريبية تضاف كلٌّ
منها إلى الأخرى مكونة طبقات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مقابل ذلك ترفض البنائية
كلًّا من النزعتين التاريخية والتجريبية؛ إذ تستعيض عن التصور السابق بتصور آخر يظل
فيه العقل البشري متضمنًا صورًا أو قوالب أو عمليات ثابتة، وإن كنا لا نكف عن إعادة
النظر فيها، وعن توسيعها وتعقيدها؛ أي إن كل تقدم يظل محتفظًا بالنواة المركزية.
وهكذا يمكن القول: إن نوع التقدم الذي تعترف به البنائية هو ذلك الذي يرى أن طريق
المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس،
فالبذور القديمة موجودة دائمًا، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة.
والواقع أن كثيرًا من الباحثين في تطور الحضارات قد اعترفوا بهذا المبدأ الذي
تنادي به البنائية حتى قبل أن تعبِّر البنائية عن نفسها بوصفها مذهبًا فكريًّا
متميزًا، فمنذ وقت بعيد لاحظ مؤرخو الحضارة أن كثيرًا من ضروب التفكير العلمي
والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث، ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن
موجودًا من قبل، بل هي تنمية لبذرة سبق ظهورها في عصور ماضية. وهكذا عرفنا — من
تاريخ العلم والفلسفة — أن نظرية التطور كما ظهرت في القرن التاسع إنما هي صياغة
جديدة لفكرة نستطيع أن نعدَّها من البذور الثابتة في العقل البشري، نبتت عند
أناكسيمندر في القرن السادس ق.م وربما قبل ذلك أيضًا، واتخذت أشكالًا متعددة، إلى
أن صيغت بالطريقة الحاسمة على يد دارون، ومثل هذا يقال عن فكرة الذرة التي بدأت من
عهد ديمقريطس، واكتسبت أشكالًا متباينة عند فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب في العصور
القديمة والوسطى والحديثة، إلى أن اتخذت شكلها العلمي في العهد القريب. وحين اخترعت
أوروبا البارود كان الجميع يعلمون أن الصين قد استخدمته من قبل. وحين توصل «جيمس
واط» إلى الطاقة البخارية، تنبه الكثيرون إلى أن المخترع الروماني «هيرو Hero» قد عرف هذه الطاقة من قبل، وإلى أن ليوناردو
دافنشي وضع تصميمًا لآلة تحركها طاقة البخار، وهكذا عرف الباحثون تاريخ الأفكار،
وفي تاريخ الحضارات مئات الأمثلة التي تثبت أن مسار التقدم البشري يتخذ شكل تنمية
وتطوير لمبدأ قديم يكاد يكون ثابتًا، لا شكل إضافات خارجية جديدة كل الجِدَّة،
وأدركوا أن التصورات الأساسية التي نفهم بها عالمنا الحالي كانت موجودة من قبل، وإن
كنا قد نميناها وعقَّدناها، وعرفوا أن طريق العقل البشري لا يمثل انتقالًا من
الظلام إلى النور. ومن الجهل إلى المعرفة، ولا يسير في خط مستقيم، كذلك الذي يقول
به دعاة التقدم المستمر.
ومن السهل أن ندرك وجود فارق واضح بين هذا الموقف الذي اتخذته البنائية من فكرة
التاريخ والتطور، وبين الموقف الذي ساد بوجه خاص في الأوساط الفلسفية الفرنسية في
أوائل القرن العشرين، الذي يؤكد أن العصور اللاحقة تتجاوز تصورات العصور السابقة،
بل تتخلى عنها نهائيًّا. وقد تمثل هذا الموقف الأخير في الفكرة التي اتخذ منها عالم
الاجتماع الفرنسي «ليفي بريل
Lévi-Bruhl» محورًا
لأبحاثه؛ أعني فكرة وجود عقلية «قبل المنطقية
Mentalité
pre-logique» لدى
البدائيين، كما تمثلت في فكرة «مراحل العقل» عند ليون برنشفيج
Léon
Brunschvicg، التي
ينتقل فيها العقل العلمي الإنساني من مرحلة «الطفولة» إلى مرحلة النضج، هذه الأفكار
تفترض انتقالًا من الجهل التام إلى المعرفة الكاملة، وتصور تاريخ العقل البشري بأنه
صعود مستمر إلى أعلى دون وجود أي عنصر مشترك بين القديم والجديد. وهذا ما تفرضه
البنائية؛ لأنها تؤكد مفهوم «التوازي»
٦ بين التصورات القديمة والجديدة؛ فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن
طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر
الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة. ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدًا،
والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا
مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج
Sebag»
٧ مثلًا للفرق بين المنهج التاريخي والمنهج البنائي، مُسْتَمَدًّا من
دراسة لجورج دوميزيل
G. Dumezil في مجال الأديان
المقارن، فقد انتهى «دوميزيل» إلى أن كل دين من أديان الشعوب الهند أوروبية يتضمن
تقسيمًا ثلاثيًّا لموضوع العقيدة، وأن هذا التقسيم تمثل لدى الجميع وإن تفاوتت صوره
واختلف في مدى وضوحه ونقائه. وهكذا نكتشف، من وراء تباين الآلهة والشعائر ووظائف
العقيدة في كل حالة تقسيمًا ثلاثيًّا واحدًا يظل على ما هو عليه مهما تنوعت
الحضارات، وعلى العكس من ذلك فإن النظرة التاريخية إلى هذا الموضوع ذاته تستخلص كل
شيء من أشكال الألوهية من الواقع الديني الخاص بكل شعب على حدة؛ ولذلك لا تتوصل إلا
إلى دلالات جزئية، وتضيع منها التشابهات البنائية الموجودة وراء السطح الظاهري
لتعدد العقائد، والواقع أن النظرة التاريخية إذا توصلت إلى أي نوع من البناء؛ فهي
إنما تتوصل إليه بعد دراسة مضنية للجزئيات وللأمثلة الفردية، ولن تستطيع رغم ذلك أن
تتوصل إلى بناء أساسي؛ ولذلك تعكس البنائية الآية، فتضع التغيرات التاريخية الجزئية
«في إطار» البناء الثابت، وتفسرها من خلاله؛ فالتاريخ يدور في إطار البناء ويفسَّر
بواسطته لا العكس، والعملية التاريخية الخلاقة لا تُفْهَم إلا من خلال البناء الذي
ظل موجودًا طوال ألوف السنين؛ ولذلك يمكن تشبيه العلاقات بين البناء والعمليات
التاريخية العينية التي تدور في إطاره، والتي تضفي الحياة على البناء اللاواعي
وتنقله إلى مجال الوجود الفعلي، يمكن تشبيهها بالعلاقة بين «الشفرة
Code» والرسائل المختلفة التي نحصل عليها بعد
معرفة الشفرة.
ولقد تأثر علم التاريخ بهذه الحركة الجديدة التي بدأت بها البنائية عهدًا جديدًا،
فظهرت مدرسة تاريخية تركز جهدها على كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتص في
داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة، بدلًا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في
تيارها. ولكن ظهر أيضًا رد فعل مضاد بين مؤرخين رأوا في هذه النظرة البنائية هدمًا
لكل ما هو أساسي في التاريخ؛ ذلك لأن البنائيين يركزون على فكرة انعدام التغير
invariance. أما بالنسبة إلى المؤرخ فهناك
على الدوام مؤثرات وتناقضات داخلية، تتجه دائمًا إلى إحداث توازن جديد؛ فالتحليل
التاريخي يؤكد فكرة الحركة، وهو نقيض السكون الذي يؤكد التحليل البنائي؛ ولذلك يرى
أنصار هذا الاتجاه المعارض للبنائية
٨ أن التاريخ يرفض الأبنية الثابتة. بل إن الزمان يحمل في طياته كل بناء
ويغيره، وقد يكون هذا التغيير بطيئًا كما في حالة البناءات العقلية والمنطقية التي
لا تتغير خلال التاريخ إلا ببطء شديد. وقد يكون سريعًا كما في حالة الأوضاع
الاقتصادية أو البناء القانوني لمجتمع ما. ولكن كل بناء يظهر ثم يذبل ويختفي، وعلى
المؤرخ أن يدرس كيف يتم الانتقال من بناء إلى آخر، في ضوء اختلاف الإيقاع الذي
تتطور به البناءات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية.
على أننا لا نود أن نختم هذا الجزء — الذي نعرض فيه لموقف البنائية من النزعة
التاريخية — دون أن ننبه إلى ثلاث مسائل هامة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في صدد
النزاع المشهور بين البنائية والتاريخية:
- (١)
إن البنائية تستطيع أن تجد وسيلة للتوفيق بين نزوعها إلى الثبات
ونزوع المؤرخ إلى الحركة والتغيير، وذلك عن طريق التفرقة بين الإطار
العام والمضمون الداخلي في كل حدث تاريخي، فمضمون الأحداث التاريخية
والمادة المحتواة فيها هو الذي يختلف تبعًا للعصور والمجتمعات. ولكن
هذا المضمون المتغير يكشف عن تنظيم يظل على ما هو عليه مهما اختلفت
السياقات الاجتماعية والتاريخية؛ أي إن ما يسري عليه وما يخضع للتفسير
التاريخي، هو المضمون والمادة الداخلية. أما التنظيم والبناء فهو فوق
التاريخ، وعلى هذا النحو تستطيع البنائية أن تقدم إرضاءً جزئيًّا على
الأقل للمؤرخ الذي لا يمكنه أن يتصور علمه بدون فكرة التغير والحركة
المستمرة؛ فهي لا تنكر التاريخ، وإنما تحصر تأثيره في مسافات وتنوعات
تطرأ على إطار ثابت، على حين أن المؤرخ يؤكد أن كل شيء متحول، وأن أي
بناء لا بد أن يسير في تيار التاريخ المتدفق.
- (٢)
على أن البنائية لم تكن تهدف أساسًا إلى معارضة المؤرخين حين أعلنت
معارضتها للنزعة التاريخية؛ ذلك لأنها كانت تحارب هذه النزعة في مجالات
العلوم الإنسانية الأخرى قبل أن تحاربها في مجال التاريخ ذاته، وهدفها
الأساسي كان رفض التفسير الذي انتشر زمنًا طويلًا، والذي يرجع الظواهر
الإنسانية إلى منشئها وتطورها فحسب، ويعجز عن كشف عناصر الثبات فيها،
ومن هنا كان ميدانها المفضل — وهو الميدان الذي تستمد منه الحركة
البنائية وحيها الأول — هو ميدان اللغويات، الذي حرص رائده «دي سوسير»
على أن يكشف فيه بُعدًا لا يمت إلى التاريخ بصلة، فقد ميز «دي سوسير»
٩ بين محورين أساسيين في اللغة: محور التزامن
Simultanéité الذي يختص
بالعلاقات بين التراكيب اللغوية دون أية إشارة إلى الزمان، ومحور
التعاقب
Successivité الذي تبحث
فيه ظواهر المحور الأول، لا من حيث هي موجودة معًا في وقت واحد، بل من
حيث هي متطورة متغيرة، ومن هنا قسم الدراسات اللغوية إلى سكونية
Statique أو تزامنية
Synchronique وهي المتعلقة بالتركيب
الثابت للمعاني والرموز، وتطورية
évolutive أو تعاقبية
diachronique وتتعلق بما يطرأ على التراكيب والعلاقات
اللغوية من تطورات، وعلى الرغم من أن «دي سوسير» لم يتجاهل المحور
الثاني الذي يتضمن فكرة الزمان والتاريخ، فإنه أدخله في سياق أوسع.
وكان أكثر اهتمامًا بالمحور الأول؛ أي بالبحث في الثوابت اللغوية التي
تعبر عن بناءات لا يؤثر عليها التطور؛ لأنها جزء من التركيب الأصلي
لمفهوم «اللغة» بوصفها وسيلة للتعبير الرمزي عن المعاني، وبالمثل كان
ميدان «الأنثولوجيا
Ethnologie»
١٠ ميدانًا آخر مفضلًا لدى البنائيين؛ لأنه يتعلق بشعوب
بدائية؛ أعني بما يمكن أن يوصف بأنه شعوب بلا تاريخ، مادام التطور يكاد
يكون غير ملحوظ بين هذه الجماعات؛ ومن هنا كان نجاح البنائية في كشف
الأنساق الثابتة في هذا الميدان، وعجزها عن تطبيق منهجها هذا على
الجماعات البشرية الحديثة التي هي مجتمعات موجودة «في التاريخ»؛ ففي
الشعوب البدائية تحل الأسطورة محل التاريخ، ومن سمات الأسطورة أن
التعاقب الزمني لا يؤدي فيها وظيفة ذات بال، بل إن الأسطورة ذاتها إذا
طرأ عليها تطور خلال الزمان فإن القديم فيها يتعايش مع الحديث كما
تتعايش حفريتان تنتميان إلى عصور مختلفة؛ ولذلك كان الميدان المفضل
للبحث في المبادئ الأساسية للعقل الإنساني — عند البنائية — هو
الأساطير البدائية الساكنة، المعبرة عن العقل في ثباته وفي سماته
الجذرية.
- (٣)
والواقع أن البنائية — في معارضتها للنزعة التاريخية — قد استهدفت
إحداث تغيير منهجي حاسم في العلوم الإنسانية. ويمكن القول: إن هذا
التغيير يماثل — من وجهة نظرها الخاصة — ذلك الانقلاب الأساسي الذي طرأ
على العلوم الطبيعية حين تخلَّت — في أوائل العصر الحديث — عن الطريقة
الكيفية في فهم ظواهر العالم الطبيعي، واستعاضت عنها بالطريقة الكمية،
فهناك أوجه شبه متعددة بين الهدف الذي تسعى البنائية إلى تحقيقه في
ميدان دراسة الإنسان، وذلك الذي حققته العلوم الطبيعية في تلك المرحلة
الانتقالية الحاسمة من تاريخها:
- (أ)
ففي كلتا الحالتين كان الانتقال ثوريًّا، يمثل التحول من
مرحلة «ما قبل العلمية» في دراسة الظواهر إلى المرحلة
العلمية الدقيقة. ولقد كان من أهم أوجه النقد التي وجَّهها
البنائيون إلى المنهج التاريخي في دراسة الإنسان: التجاؤه
إلى تعبيرات غامضة وعبارات إنشائية مطاطة، وعجزه عن
التعبير عن الظواهر التي يتركها كلها تنساب في مجرى
التاريخ دون أن نتمكن من إيقاف هذا السيل المتدفق من أجل
دراسته بطريقة علمية منضبطة.
- (ب)
وفي كلتا الحالتين كان العلم يسعى إلى تجاوز المظهر
الخارجي للظواهر، والنفاذ إلى حقيقة أو ماهية أعمق منها،
تظل ثابتة مهما طرأ على الظواهر من تغيرات. ولا شك أن هناك
شبهًا قويًّا بين المعادلات الرياضية التي أصبحت قوانين
الطبيعة تصاغ فيها بعد انتقال العلوم الطبيعية إلى مرحلة
التعبير الكمي عن الظواهر، وبين البناءات التي تظل ثابتة
من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق من خلالها في
المجتمعات المختلفة. وفي كلتا الحالتين يحتاج إلى الثوابت
— من وراء المتغيرات الظاهرية — إلى نفس القدر من الجهد
العقلي والقدرة على التجريد.
- (جـ)
بل إننا نستطيع أن نهتدي إلى وجه شبه مباشر بين
الحالتين، يتمثل في التجاء البنائية إلى نماذج رياضية — قد
تكون جبرية وقد تكون هندسية — من أجل التعبير عن الأنساق
الثابتة التي يتم التوصل إليها، ومعنى أن البنائية تحقق —
بطريق مباشر — الانتقال إلى أسلوب التعبير الكمي في ميدان
الدراسات الإنسانية، وهو الانتقال الذي حدث بالفعل في
العلوم الطبيعية منذ أربعة قرون.
- (د)
وأخيرًا، ففي كلتا الحالتين تتخذ الحقيقة طابعًا لا
زمانيًّا، فللقانون العلمي الرياضي أزليته الخاصة، بمعنى
أنه يعبر عن حقيقة ضرورية وبالمثل يتسم البناء في ميدان
العلوم الإنسانية بالأزلية، لا لأنه يعبر عن حقيقة مجهولة
المصدر تظل ثابتة على مر الزمان، بل لأنه فيه ضرورة تماثل
ضرورة القانون الرياضي؛ ومن هنا كان في وسعنا أن نقول: إن
التساؤل عن المصدر الذي يأتي منه البناء هو — بمعنًى معين
— تساؤل ساذج؛ إذ إننا في حالة القانون العلمي الرياضي لا
نتساءل عن مصدر المعادلة الرياضية، أو عن المصدر الذي فرض
على الطبيعة تنظيمًا رياضيًّا ثابتًا، وجعل لها قوانين
ثابتة من وراء مظاهرها المتغيرة؛ ففي كلتا الحالتين ترجع
الأزلية إلى الضرورة المنطقية قبل كل شيء.
وفي ضوء هذه الملاحظة نستطيع أن نفهم على نحوٍ أفضل طبيعة الصراع
المشهور الذي قام بين البنائية والنزعة التاريخية، وندرك الهدف الفلسفي
والمنهجي الذي دفع البنائية إلى رفض المنهج التاريخي بصورته
التقليدية.
وبعد هذا العرض العام لسمات البنائية — من خلال الاتجاهات الرئيسية التي تعارضها
— نستطيع أن ننتقل إلى معالجة الأسس الفلسفية لهذا الاتجاه الفكري الهام عند ممثليه
الرئيسيين.
ولا جدال في أن هذه المعالجة التفصيلية ستزيد من وضوح السمات العامة التي اهتدينا
إليها من قبل، وتضفي عليها مزيدًا من التحدد والدقة المكتسب من تطبيقها على مذاهب
فكرية محددة المعالم.
(٣) الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
قد يبدو لأول وهلة أن الميدان الذي اختاره ليفي ستروس — وهو ميدان الأنثولوجيا
والأنثروبولوجيا؛ أي دراسة الشعوب والحضارات القديمة — ينتمي إلى العلوم الاجتماعية
الخالصة؛ ومن ثَم فهو خارج عن نطاق بحثنا هذا الذي ينصبُّ على الأسس «الفلسفية»
للبنائية، ومن المؤكد أن المصادر التي أثرت على اتجاه ليفي ستروس الفكري كانت
متعددة، وبعضها بعيد عن ميدان الفلسفة. ومع ذلك فسوف نحاول أن نثبت في هذا القسم من
بحثنا أن ستروس كان فيلسوفًا بقدر ما كان عالمًا أنثروبولوجيًّا، وأنه صبغ دراسته
الاجتماعية بصبغة فلسفية لا تخطئها العين، وحوَّل المؤثرات غير الفلسفية إلى
الاتجاه الفلسفي. وكان هذا الطابع الذي يميزه عن سائر علماء الأنثروبولوجيا هو مصدر
قوته وعمقه وطرافته. ولكنه كان في الوقت ذاته هو العامل الذي أدى إلى توجيه
الانتقادات إليه من كلا الطرفين؛ لأن الفلاسفة لم يقنعوا بأسسه الفلسفية، على حين
أن الأنثروبولوجيين لم يجدوه عالمًا أنثروبولوجيًّا بما فيه الكفاية.
لقد كان ليفي ستروس متفقًا مع علم النفس عند فرويد في مواضع كثيرة، أدت إلى القول
بأن آراء فرويد كانت مصدرًا من المصادر التي استقى منها ستروس تفكيره؛ ففي كتاباته
يظهر بوضوح إيمانه بفكرة وجود أساس لا شعوري عميق في الإنسان إلى جانب شعوره
الواعي. ولقد كان مثل فرويد يؤمن بوجود جانبين: أحدهما طبيعي، والآخر نتاج للثقافة،
في الإنسان، والجانب الأول هو الذي أطلق عليه فرويد اسم اﻟ
fd (وتترجم عادةً بكلمة: «هي») بينما الأنا، أي
الجانب الثاني، يمثل تأثير الثقافة (بالمعنى الشامل) في الإنسان. وكان ستروس يعتقد
— كما اعتقد فرويد — أن الأسطورة نوع من الحلم الجماعي في المجتمعات البدائية، وهو
حلم له لغته الرمزية الخاصة القابلة للتفسير. وهذا التفسير كفيل بالكشف عن المعاني
الخفية للأسطورة، واستخلاص المبادئ الأساسية لتفكير الإنسان البدائي من خلالها.
ولكن هذه المبادئ التي توجد بطريقة لا واعية في ظاهرة جماعية — هي الأسطورة
البدائية — ليست مقتصرة على البدائيين وحدهم. بل إنها في واقع الأمر تصدق على كل
العقول البشرية على نحو شامل؛ فالمبادئ الأساسية التي نتوصل إليها عندئذٍ تؤثِّر في
عقولنا مثلما تؤثِّر في عقول سكان جزر المحيط الهادئ من البدائيين، وهي تُشكِّل
نوعًا من المنطق الكلي الشامل، الذي يتمثل لدى هؤلاء البدائيين بصورة نقية خالصة،
قبل أن نضيف إليه نحن منطقنا الخاص، الذي تقتضيه الظروف المعقدة لحياة الإنسان
الحديث.
على أن البنائية قد تجاوزت مدرسة التحليل النفسي في نقطتين:
- الأولى: هي أن مدرسة التحليل النفسي أرجعت الأساطير والهفوات والأحلام
إلى مجال اللامعقول والعشوائي، ورأت أنها تعبر عن الذهن الإنساني
في عفويته وتلقائيته غير الموجهة. أما البنائية فرأت أن هذه
النواتج الذهنية هي نشاط موجه نحو تحقيق أهداف معينة، وأن لها
منطقها الخاص الذي يسري على مجال محدد، ويختلف عن المنطق الشامل
الذي تحاول الحضارة الحديثة أن تتوصل إليه. ولكنه يظل مع ذلك
منطقًا له دقته وانضباطه في مجاله الخاص.
- أما النقطة الثانية: فهي أن البنائية تلغي المركز المميز للحالة الحاضرة أو للباحث
نفسه، بالقياس إلى الحالة الماضية التي كان يعيشها البدائيون؛ ففي
التحليل النفسي نجد المحلل يحتل مركزًا مميزًا بالنسبة إلى الشخص
الذي يحلله، ويعد نفسه مختلفًا عنه، ما دام قادرًا على كشف أبعاد
أعمق من تلك التي يرويها المريض عن تجاربه العفوية. أما في
البنائية وفي اتجاهها التحليلي عند لاكان Lacan فإن المحلل نفسه لا يعتبر نفسه سليمًا
وسويًّا بالقياس إلى من يحلله، ولا يتخذ منه أي موقف متميز.
ولكن إذا استثنينا هذه الفوارق البسيطة، فمن المؤكد أن حركة التحليل النفسي كان
لها تأثيرها المباشر في البنائية؛ وذلك لأنها قدَّمت إليها مبدأً أساسيًّا في فهم
الإنسان، وهو أننا إذا أردنا أن نعرف العقل الإنساني في جذوره وأصوله الأولى — التي
لا تزال تمارس تأثيرها فينا حتى اليوم (وإن كنا قد أضفنا إليها تعقيدات لا حصر لها)
— فلنحلل ذلك «اللاشعور الجماعي» للإنسانية كما يتمثل في أساطير البدائيين.
هكذا قدَّم علم النفس الفرويدي لستروس الهدف العام لأبحاثه. ولكن أداة البحث قد
أتت إليه من مصدر مختلف، هو علم اللغويات؛ ففي الأربعينيات من هذا القرن حين كان
ليفي ستروس في أميركا التقى بباحث مشهور في علم اللغويات هو «جاكوبسون Jakobson»، وتأثر إلى حد بعيد بطريقته في البحث
عن بناءات لغوية تظل ثابتة مهما اختلفت اللغات المنفردة. وكانت اللغة تعبيرًا عن
النشاط الرمزي للإنسان، فلا بد أن هذه البناءات الثابتة تعبر عن مبادئ أساسية للعقل
البشري، تنعكس على مجالات نشاطه الأخرى؛ ومن هنا جاءت فكرة المزج بين البحث في
اللغويات والبحث الأنثروبولوجي، وتفسير الظواهر الاجتماعية عند البدائيين على أساس
النموذج اللغوي الثابت، وهذا معناه تجاهل العامل التاريخي، وتأكيد فكرة القبلية a-prioisme، أي وجود صور وقوالب لا تخضع لتأثير
الزمان، ولا شأن لها بعوامل التطور، نفس الاتجاه الذي أكده جاكسوبون في مجال
اللغويات.
إن اللغة — كما هو معروف — هي العنصر الأساسي في «التفكير»؛ لأننا لا نستطيع
التفكير في أي شيء ما لم نقسم العالم المحيط بنا إلى فئات أو أصناف أو مقولات
catégories ونعبر عن هذه الفئات برموز أو
ألفاظ، ولو بحثنا في نظم القرابة العائلية مثلًا
Le
parenté؛ لوجدنا أن سلوك الإنسان في مجال القرابة يتوقف إلى حد
بعيد على تعبيراته في الحديث عن علاقات القرابة، فالمرء يدرك علاقة «أبناء العم أو
الخال» عن وعي إذا وجد في اللغة لفظًا يعبر عن ابن العم أو الخال، وعند مستوًى معين
تتيح اللغة للإنسان أن يتصل بغيره ويكوِّن علاقات اجتماعية؛ بحيث يصبح من الممكن
المقارنة بين نظم القرابة عند البدائيين — التي يتم فيها تبادل النساء — ونظم اللغة
التي يتم فيها تبادل الألفاظ، ونستطيع عندئذٍ أن ننظر إلى قواعد الزواج ونظم
القرابة على أنها نوع من اللغة، أي مجموعة من العمليات التي تستهدف تحقيق نوع معين
من الاتصال
Communication بين الأفراد والجماعات،
١١ ففي كلتا الحالتين يتم تبادل «رسالة» معينة وتوصيلها من طرف إلى آخر:
إما النساء اللائي يتبادلن بين العشائر أو الأسر، وإما الألفاظ التي تتداول بين
الأفراد، ومن هنا كان من الممكن بحث الحالتين على أنهما تعبيران عن ظاهرة واحدة،
لها نفس الهيكل أو البناء الأساسي.
وهكذا كان للبحوث اللغوية دور عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه
بنائية ليفي ستروس وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها المميز. ولكن هل يعني هذا
أن العوامل الفلسفية لم يكن لها تأثير في تفكيره؟ الواقع أن هذه العوامل كانت بالغة
الأهمية في حالة ستروس على وجه التحديد، وهي التي تميزه عن سائر الأنثروبولوجيين،
وكل ما في الأمر أن الاهتداء إليها يحتاج إلى جهد خاص — سنحاول القيام به — تاركين
جانبًا تأثير العامل اللغوي (على أهميته)؛ لأنه خارج عن النطاق الأساسي لهذا
البحث.
ولنبدأ بأن نلاحظ أن تكوين ليفي ستروس وتعليمه كان فلسفيًّا وقانونيًّا، وأنه لم
يتجه إلى البحث الأنثروبولوجي إلا في مرحلة متأخرة نسبيًّا؛ ومن هنا كان من الطبيعي
أن ينعكس هذا التكوين الفلسفي على منهجه في البحث الأنثروبولوجي، حتى أن أحد
الباحثين قال عنه: إنه «كان يتصرف دائمًا كما لو كان داعية يدافع عن قضية، لا
عالمًا يبحث عن الحقيقة الفعلية.»
١٢
على أن اهتمام ستروس المتأخر بالبحث الأنثروبولوجي لا ينبغي أن يُعَدَّ تحولًا عن
الأصل الفلسفي الذي بدأ منه؛ ذلك لأن هذا الميدان بالذات يمكن أن يقدم مادة خصبة
للتفكير الفلسفي، إذا كان الباحث قد تدرب على هذا التفكير بما فيه الكفاية، فمن
الممكن أن نقول — ومن وجهة نظر معينة، إن دراسة الثقافات القديمة لها أهمية فلسفية
كبرى؛ إذ تُخْرِجنا من الحيز الضيق للثقافة التي نعيش فيها، وتقدم إلينا أنماطًا
فكرية مغايرة لتلك التي اعتقدناها. وصحيح أن هذه الأنماط البدائية — في رأي ستروس —
لا تختلف «في جوهرها» عن تلك التي نستخدمها اليوم، ولكن المهم أنها تُدْرَس هنا في
إطار مغاير لذلك الذي أَلِفْنَاه في حضارتنا الحديثة. وهكذا يجد الأنثروبولوجي
مجالًا خصبًا لتطبيق واختبار فكرة النسبية التي طالما سعى الفلاسفة إلى فهمها،
ويتيح له ميدان دراسته فرصة عظيمة لإلقاء نظرة «موضوعية» على الفكر الإنساني الذي
نسينا أصوله وعجزنا عن اختبار جذوره العميقة المتأصلة فينا دون وعي منا، وعلى حين
أن الفيلسوف يعجز — في الأحوال العادية — عن الخروج عن الإطار الفكري لحضارته؛ لأن
هذا الإطار الفكري هو الذي يتكلم فيه ومن خلاله، فإن الدراسة الأنثروبولوجية تتيح
له مجالًا فريدًا لتأمل مبادئه الفكرية «من الخارج» في بساطتها ونقائها
الأول.
وفضلًا عن ذلك، فإن ستروس لم يكن من أولئك الأنثروبولوجيين الذين يتوقف اهتمامهم
عند حدود ثقافة بدائية معينة يعايشها بعمق، ويحلل ما لاحظه عنها في مؤلفات تفصيلية
فيها كثير من الوصف وبعض التفسير، كما هي الحال عند مالينوفسكي Malinowski مثلًا، فقد كانت دراسة الثقافات القديمة عنده وسيلة
لغاية أوسع، هي الوصول إلى المبادئ الأساسية «للذهن البشري»، ولم تكن التفاصيل
الأنثروبولوجية في نظره سوى أداة تساعده على الوصول إلى حقائق تصدق على هذا الذهن
في عمومه، لا في شكل خاص من أشكاله؛ ولذلك لم يحاول ستروس أن يعايش ثقافة بعينها،
ويقضي بين أهلها سنوات طويلة، ويندمج في حياتها اليومية فترة طويلة كما فعل غيره من
الأنثروبولوجيين المحترفين. بل إنه كان يقوم بدراسات ميدانية سريعة إلى حد ما إذا
قيست بما قام به غيره، ولم يكن يستقر في مكان واحد طويلًا، وإنما كان يدرس ثقافة
هذا المكان بالقدر الذي يساعده على تحقيق هدفه الأصلي، الذي هو في صميمه هدف فلسفي.
وهكذا يمكن القول — من وجهة نظر معينة: إن بحثه في الأنثروبولوجيا لم يكن غاية في
ذاته، بل كان وسيلة لغاية معينة هي في صميمها غاية فلسفية، وبقدر ما كان هذا
الأسلوب في البحث مميزًا له عن غيره من علماء الأنثروبولوجيا، من ثم سببًا من أسباب
شهرته بينهم، فقد كان في الوقت ذاته هو المحور الذي دارت حوله الانتقادات التي
وُجِّهَت إليه، سواء من جانب علماء الأنثروبولوجيا ومن جانب الفلاسفة، وتلك — على
أية حال — مسألة سنعرض لها فيما بعد بالتفصيل.
لقد كانت الفلسفة — مند بداية عهدها — ترفض المظهر الخارجي للعالم. وحين انبثق
منها العلم الطبيعي أخذ بدوره يبحث عن حقيقة لا تقدمها إلينا المظاهر المباشرة،
وأخذ بالتدريج يكوِّن لنفسه عالمًا خاصًّا به، مؤلَّفًا من كيانات عقلية ورياضية،
لا نستطيع أن نجد لها وجودًا في عالم المظاهر، وإن كانت مع ذلك قادرة على أن تجعل
هذا العالم مفهومًا ومعقولًا. وكانت مهمة ليفي ستروس هي أن يطبق هذا الشرط الذي
أتاح للعلم الطبيعي إحراز أكبر قدر من التقدم على العلوم الإنسانية؛ لكي يجعلها
بدورها علومًا تتجاوز نطاق المظهر الخارجي للأشياء، ولا تندمج في ظواهر العالم أو
في الظواهر الإنسانية، وإنما تبحث عن حقيقة عميقة وراء مظاهرها البادية.
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف الفهم
النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو العلوم المنضبطة، وبين
العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء
لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدًا عن الميدان
العملي وعن محاولات التغيير، فهو يسعى إلى الفهم فحسب، وقد عبر عن هذه التفرقة
بقوله: «لقد استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسًا هو ضرورة
التخلي عن المظاهر apparences إذا أراد المرء فهم
العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسًا موازيًا، هو ضرورة قبول
المرء للعالم إذا أراد تغييره». وربما بدا المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد
غريبًا إلى حد ما؛ إذ إن من الشائع أن يُسْتَخْدَم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة
العلوم التي تقبل مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه، على حين
أن لفظ «العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقًا على تلك العلوم الهادفة إلى الانضباط
والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية؛ ومن ثَم ترفض الشكل
الظاهري للموضوعات التي تبحثها وتسعى إلى حقيقة خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها —
في الغالب — بقوانين رياضية. ولكن ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب
العلوم الإنسانية، وعلى أية حال فالمسألة مسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيري
«العلوم الاجتماعية» و«العلوم الإنسانية» ما زال موضوع خلاف بين المشتغلين في هذا
الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيًّا على مسميات ثابتة تحدد نطاق كلٍّ منهما حتى
اليوم.
والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيد هدف «الانضباط» في العلوم
الإنسانية، كان فيلسوفًا في رفضه للطابع الذي تتبدَّى عليه الأشياء، وسعيه إلى
حقيقة أعمق من هذا المظهر، ولنذكر في هذا الصدد أن «كانْت» بدوره كان يضع نُصْبَ
عينيه هدف العلم «المنضبط»، ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها
أن تبحث عن عوامل الانضباط في علمَي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص.
وهكذا يمكن القول: إن «كانْت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علمًا إنسانيًّا» بالمعنى
الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة فيما بين
«كانْت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن العالم الخارجي ندركه من
خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة
التي تعمل بها حواسنا وإلى الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية
ويفسرها، ومن أهم سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا
إلى قطاعات منفصلة؛ بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان مؤلفًا
من حوادث منفصلة متعاقبة، وما يحدث في حياتنا الاجتماعية. وفي ثقافتنا، هو انعكاس
لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس
الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة ونرتبها، ونكوِّن منها «بناءً» مماثلًا للبناء
الذي ننظم به إدراكنا للعالم، وكما تحدَّث كانْت عن مقولات ذهنية تكوِّن قوالب لا
بد أن يصاغ فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات (في الجزء الخاص «بجدل
العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص») على نواتج الفكر الميتافيزيقي
والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي تُنْقَل من مجالها الأصلي إلى
مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد أننا عندما نضع نظمًا اجتماعية أو نقوم
بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى
المجال الثقافي؛ بحيث يكون بناؤهما مشتركًا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو
الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابه أساسية في طريقة ممارسته نشاطه في
كل مجال من المجالات.
ولكن مثلما أن تأكيد «كانْت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤدِّ به إلى أن يكون
مثاليًّا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدًا كل البُعد عن هذا النوع من
المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودًا حقيقيًّا خارج الذهن البشري، ولا يجعل
وجودها متوقفًا على إدراكنا الذهني لها، «ولكن فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرًا
طبيعة ذلك الجهاز الذي نفهمها به. وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة
التي نفهم بها الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع
المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات
الناتجة عن هذه التصنيفات؛ أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية عن آلية التفكير»،
١٣ وإذا عرفنا آلية التفكير البشري؛ أمكننا أن ندرك نواحي التشابه
الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج لذهن يعمل بطريقة
واحدة.
وإذن فلم يكن ليفي ستروس مثاليًّا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي مثاليًّا.
ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخُّل الذهن في كل شيء، ويتمسك
بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر التي تجمع بينها آلية ذهنية واحدة، وتنفذ هذه
النظرة الكانتية إلى صميم عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين
مختلف مظاهر الحياة في المجتمع البدائي، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأدائهم لشعائرهم
وطقوسهم الروحية، وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد
العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري، لا يُدْرَك
عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر. ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا كان مسلحًا بالمنهج
السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على مظاهره الخارجية،
أو ما يمكن أن يسمى — بلغة كانت — بالقبلية a priorisme؛ ففي استطاعتنا أن نفهم النواتج الثقافية على أساس
البناء الواحد الذي ترتكز عليه. أما إذا بدأنا بهذه النواتج ذاتها، ولم نحاول أن
نردها إلى أساس سابق فلن نصل إلى أي فهم متعمق؛ ومن هنا كان انتقاد ستروس للنزعة
الوظيفية عند «مالينوفسكي».
هذه الوظيفة كانت تتجلى — على سبيل المثال — في تفسير مالينوفسكي لظاهرة قيام
قبائل معينة بتسمية نفسها بأسماء حيوانات؛ إذ كان يرى أن هذا راجع إلى الفائدة
المكتسبة من هذه الحيوانات في الحياة اليومية لتلك القبائل، أو إلى أنها كانت تعتمد
عليها في مأكلها، وغير ذلك من التفسيرات الوظيفية التي رفضها ليفي ستروس من أساسها؛
فالبناء سابق على مظاهره، وليست هذه الأفعال الجزئية هي التي تفسر البناء. بل إن
البناء هو الذي يفسرها، وقد عبر ستروس عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «في
الأنثروبولوجيا، لا تكون المقارنة هي التي يرتكز عليها الحكم العام. بل إن العكس هو
الصحيح، فإذا كان من الصحيح — وهو ما نؤمن به فعلًا — أن النشاط اللاواعي للذهن
قوامه فرض أشكال على مضمون، وإذا كانت هذه الأشكال في أساسها واحدة بالنسبة إلى
جميع الأذهان، تستوي في ذلك القديمة والحديثة البدائية والمتحضرة (وهو ما تدل عليه
دراسة الوظيفة الرمزية كما تعبر عنها اللغة)، فإنه يكفي المرء عندئذٍ أن يدرك
البناء اللاواعي الكامن من وراء كل نظام اجتماعي
institution وكل عُرف؛ لكي يتوصل إلى مبدأ
للتفسير يسري على كل النُّظم والأعراف الأخرى، شريطة أن نمضي في التحليل بما فيه
الكفاية بطبيعة الحال.»
١٤
هكذا تكتسب لغة ستروس صبغة «كانتية» واضحة، ويصبح تفسير هذه الظواهر من خلال
البناء «شرطًا لإمكان» هذه الظواهر؛ أي إن البناءات هي التي تفرض على الظواهر
المتباينة والكثيرة تنظيمها وترتيبها الخاص، بل هي التي تجعلها ممكنة. ولقد كان هذا
التشابه الواضح مع مذهب كانْت هو الذي دعا الفيلسوف «ريكير
Ricoeur» إلى أن يصف بنائية ستروس بأنها «مذهب كانتي بدون ذات ترنسندنتالية»،
١٥ صحيح أن زوال الذات الترنسندنتالية يعني فقدان عنصر أساسي في مذهب
كانْت؛ لأن هذه الذات — بما لديها من صور الحساسية ومقولات الفهم — هي التي تُعطي
العالم مظهره القابل للمعرفة. ولكن يظل من الصحيح أيضًا أن بناءات ليفي ستروس،
وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية التي تفترضها مقدمًا، مشابهة للصور الذهنية التي هي
بمثابة القوالب لكل موضوع نعرفه في العالم كما قال بها كانْت، وإن هذا التشابه يصل
إلى حد لا يمكن تجاهله.
على أن هذه النزعة الفلسفية الواضحة لدى ليفي ستروس، إذا كانت تضفي مزيدًا من
العمق على أعماله الأنثروبولوجية، وتصبغها بطابع فريد لا نجد له نظيرًا بين غيره من
المشتغلين في هذا الميدان، فقد كانت هي ذاتها السبب الأكبر في النقد الذي تعرَّض
له. ومما يلفت النظر أن النقد لم يأتِ من جانب المشتغلين بالأنثروبولوجيا وحدهم،
فعلى حين أن هؤلاء لم يقتنعوا بالاتجاه الفلسفي الواضح في كتابات ستروس العلمية،
نجد أن الفلاسفة بدورهم قد دخلوا معه في حوار حاد وجَّهوا فيه انتقاداتهم إلى
الركائز الأساسية لتفكيره، وإلى الأهداف التي يتجه إليها عمله العلمي بوجه عام،
وسوف نبحث كلًّا من اتجاهَي النقد هذين — العلمي والفلسفي — على حدة.
إن من الحقائق المعروفة في حالة فلسفة كانْت: أنه افترض للذهن البشري تركيبًا
معينًا دون أن يحدد مصدر هذا التركيب، فهو لا يقول لنا من الذي وضع في الذات
الإنسانية صور الحساسية ومقولات الفهم التي هي أساس معرفتنا لكل ظواهر العالم، ولا
يبين لنا كيف أصبح للذات هذا التركيب بعينه. ويمكن القول: إن ليفي ستروس قد سار في
أعقاب كانْت في هذه المسألة بدورها، فهو لا يبين لنا كيف تكوَّن البناء، ولا يحدد
له أصلًا، وأغلب الظن أنه ينظر إلى السؤال عن أصل البناء على أنه سؤال ميتافيزيقي
لا شأن له به.
ومع ذلك ففي مجال العلم ينبغي أن يُطْرَح هذا السؤال، ولا يمكن أن يقبل المشتغلون
بالعلم — سواء في ميدان الأنثروبولوجيا أو غيره — افتراضًا مسبقًا بوجود بناءات
ثابتة للعقل البشري تفرض نفسها على كل نواتجه الاجتماعية والثقافية، وتصبغها
بصبغتها الخاصة، ما لم يحدد الباحث أصلًا لهذه الأبنية يكفي لإقناعهم بأن لها هذا
القدر من العمومية والثبات، وهو ما لم يفعله ليفي ستروس.
ولقد كان الأصل الوحيد الذي ورد في كتاباته صراحةً هو الأصل اللغوي، وهذه نقطة
أساسية كان فيها ستروس مختلفًا عن كانْت الذي لم تكن للغويات أهمية في فلسفته. ومع
ذلك فمن الممكن القول بوجود قدر معين من التشابه حتى في هذه الحالة، فمن المعروف أن
«كانْت» قد استمد قائمة مقولاته من أنواع الأحكام المنطقية، مرتكزًا في ذلك على
الفكرة القائلة إن النشاط الرئيسي للذهن البشري يتمثل في عملية إصدار الأحكام ذات
الطابع المنطقي؛ ومن ثَم فإننا إذا حصرنا قائمة الأحكام التي يصدرها ذهننا، أمكننا
أن نستخلص منها المقولات والقوالب الرئيسية التي يشكل بها الذهن كل موضوع يدخل في
نطاق معرفته، ويجوز أن ليفي ستروس لم يبتعد كثيرًا عن هذه الفكرة حين قال: إن
النشاط الرئيسي للذهن هو العملية الرمزية التي تتمثل في اللغة،
١٦ وإننا نستطيع أن نُرْجِعَ الأنساق الرئيسية التي ينظم بها الإنسان
حياته الاجتماعية إلى تلك البناءات الأساسية المشتركة بين كل اللغات
البشرية.
وعلى أية حال فإن وجه الخطورة في هذا الرأي هو أنه يحكم على اللغات البشرية في
عمومها من خلال وجهة نظر معينة، هي السائدة في عصر معين أو في مدرسة فكرية معينة.
ومن المعروف في علم اللغويات أن النماذج اللغوية تتعدد بتعدد المدارس. وقد تأثر
ستروس بالنموذج الذي وضعه «جاكوبسن»، وهو نموذج تجاوزته الأبحاث التالية في علم
اللغويات بمراحل، «فالآليات التي تعتمد عليها قدرة الإنسان على إضفاء معنى مركب على
الكلمات البشرية وما يترتب على هذه القدرة من تكوين أنماط محددة، هي عمليات أَعْقَد
بكثير مما يوحي به النموذج المبسط من وراء نظريات جاكوبسن وستروس؛ ومن هنا فإن ما
يستخلصه من بناءات مستمدة من معطيات غير كافية، ليست على الإطلاق بناءات تعبر عن
صفات مشتركة بين الإنسانية كلها. بل إنها تعبر عن صفات جماعة ثقافية معينة فحسب.»
١٧
ولقد كان هذا الاتجاه إلى تعميم نموذج لغوي معين على كل مجالات العلوم الإنسانية،
وإنكار تعدد النماذج تعدد ميادين البحث، هو الذي أدى بالنقاد إلى التحذير من خطورة
التعميمات الشاملة لدى البنائيين، ولدى ستروس بوجه خاص، وبالفعل نجد في البنائية
ميلًا إلى اتهام كل مَنْ لا يعترف بهذا الأنموذج الواحد ويطبقه على كل مجالات
العلوم الإنسانية بأنه جاهل أو مفتقر إلى الروح العلمية، مما دعا «لوفبفر
Henri Lefebvre» إلى أن يصف البنائية بأنها «مذهب
إرهابي»؛ لأن المرء في نظرها إما أن يكون بنائيًّا متسقًا يؤمن بأنموذج موحد ويطبقه
تطبيقًا شاملًا على كل شيء، وإما أن يكون شخصًا لا يفهم شيئًا،
١٨ والأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن ستروس قد بذر في البنائية بذرة
دجماطيقية أصبح من الصعب بعد ذلك التخلص منها؛ نتيجة لتسلط النموذج اللغوي عنده على
جميع الميادين.
وإذا كان البعض قد انتقدوا النموذج اللغوي الذي أراد ستروس تعميمه، فإن البعض
الآخر قد انتقدوا الاعتقاد الذي يكمن من وراء عملية التعميم هذه — سواء أكان أصلها
لغويًّا أم غير لغوي — وهو الاعتقاد الراسخ لدى ستروس بأن البناءات ثابتة، لا
يؤثِّر فيها الزمان. ولعل أحق النقاد بأن نستمع إلى وجهة نظره في هذا الصدد هو
«بياجيه»، ليس فقط لأنه كان عالمًا ومفكرًا من الطراز الأول، بل أيضًا لأنه كان من
أنصار البنائية، مع ذلك فقد هاجم فكرة ثبات البناءات، ورأى أنها ليست ضرورية على
الإطلاق لكي يكون المذهب البنائي متسقًا مع نفسه.
فمن الملاحظ أولًا أن ليفي ستروس ينسب إلى البناءات ضربًا من الوجود يصعب تحديد
طبيعته، فهي موجودة على نحو مستقل عن ذهن العالم الذي يتوصل إليها؛ أي إنها ليست
مركبًا من تلك المركبات الاصطلاحية التي يتواضع عليها العلماء من أجل تيسير عملهم،
دون أن يكون لها وجود حقيقي. ولكن وجودها في الوقت ذاته ليس وجودًا متعاليًا
transcendent ينتمي إلى عالم شبيه بعالم المُثُل
الأفلاطونية، بل هو كامن في قلب التجربة الواقعية. وليس مما يقرب طبيعة هذا الوجود
إلى أذهاننا أن يقول ستروس: إنها تنبثق عن الذهن البشري الذي لا يتغير، وإنها سابقة
على كل تنظيم اجتماعي؛ لأنها أصل كل تنظيم وسابقة على ما هو نفسي وما هو عضوي؛ ذلك
لأن حيرتنا تزداد حين نعلم أن لها وجودًا مستقلًّا يهتدي إليه الذهن ولكنه لا
يخلقه، وإن هذا الوجود ليس اجتماعيًّا ولا نفسيًّا ولا عضويًّا،
١٩ ويبدو أن ما يهم ليفي ستروس في هذا كله هو أن يدافع عن ثبات العقل
البشري عن طريق تأكيده أن لهذا العقل «وظيفة رمزية» لا يؤثِّر فيها تغير الزمان.
ولكن بياجيه يرد على ذلك بقوله: «ينبغي أن نعترف بأننا لا نفهم على وجه التحقيق
لماذا يكون العقل قد كُرِّم إذا ما حُوِّل إلى مجموعة من الأطر الثابتة، أكثر مما
يُكَرَّم إذا نُظِرَ إليه على أنه نتاج لم يكتمل بعدُ لعملية بناء ذاتي مستمرة، فهل
من الضروري النظر إلى الوظيفة الرمزية على أنها ثابتة؟»
٢٠
إن ما يدافع عنه بياجيه في هذا الصدد هو إمكان الجمع بين فكرة البناء وفكرة
التطور التي تسري حتى على الوظيفة الرمزية لدى الإنسان، وهو هنا يهاجم «وهم الثبات»
الذي كان يشكل صنمًا كبيرًا من أصنام الفلسفة منذ أيام أفلاطون، والذي يبدو أن ليفي
ستروس كان بدوره من الواقعين تحت تأثيره. ولكن هل يعني هذا أن كلَّ مَن رفض فكرة
الثبات وأكد التطور كان في موقف أفضل من موقف ستروس؟ الواقع أن بعض هؤلاء — مثل
«ليفي برول Lévi-Bruhl» — قد ارتكبوا أخطاءً
أشد بكثير مما وقع فيه ستروس، على الرغم من أنهم أكدوا أن عقل الإنسان ليس أزليًّا
وليس ثابتًا، فعند ليفي برول تُقَسَّم المجتمعات البشرية إلى مجتمعات خَلَتْ من
المنطق لها عقلية «قبل
المنطقية Mentalité pré-logioqe»، وهي المجتمعات البدائية، وأخرى محتضرة وحدها التي تعرف
الكثير. ولقد كان ستروس على حق تمامًا في رفضه القاطع تقسيم الإنسان إلى منطقي وغير
منطقي، نقد ليفي برول بشدة لأنه شبه العقلية البدائية بعقليات الأطفال أو المجانين؛
لأن هذا كله يرجع إلى اتخاذ ليفي برول نظرة متركزة حول الذات، تأثر فيها بحضارته
الخاصة والعصر الذي يعيش فيه، وتصور أن ما عداها خطأ وتخلف، وحقيقة الأمر في نظر
ستروس هي أن ما يبدو غير منطقي أو قبل المنطقي له منطقة خاصة، وإن كان مخالفًا
لمنطقنا؛ لأنه لا يخشى التناقض ولا ينفر منه، ومن ناحية أخرى فقد علل ليفي برول
التجاء البدائي إلى مبدأ «المشاركة Participation»
(أي أن يكون الشخص من قبيلة معينة مثلًا، ويتصور أنه من قبيلة أخرى في الوقت نفسه)
بأنه يرجع إلى غلبة العنصر الانفعالي الوجداني
affectif على العنصر العقلي. ولكن الخطأ الذي
وقع فيه هو أنه ضيَّق نطاق العنصر العقلي بحيث جعله مقتصرًا على النشاط العلمي، مع
أن النشاط العلمي ليس إلا وجهًا واحدًا لنشاط عقلي أعم، تتولد عنه أنساق كثيرة
يختلف بناؤها تبعًا للغاية التي تستهدفها (كاللغة والأسطورة والفن والمنطق
والرياضة). وهكذا يرى ستروس أن الاختلاف بين مجتمع وآخر لا يرجع إلى استخدام كلٍّ
منهما لشكل خاص من أشكال النشاط العقلي، ما دام من الضروري أن يتوافر فيها كلها حد
أدنى مشترك هو وجود لغة، وهو الشرط الضروري لقيام أية ثقافة، وما دامت اللغة ترتكز
على النشاط العقلي (الرمزي) ولا قيام لها بدونه.
وإذن فليس كلُّ مَن قال بأن العقل البشري يتطور ويتخذ أشكالًا متباينة «من حيث
الكيف» وفقًا لمستوى الحضارة التي ينتمي إليها، ليس كلُّ مَن قال بذلك يعد في موقف
أفضل من موقف ستروس، ومن المؤكد أن ستروس كان محقًّا في نقد بعض الاتجاهات التي
ارتكزت على فكرة حدوث تحوُّل أساسي في نوع العقلية البشرية عبر العصور. وكان على حق
في دعوتنا إلى ألا نتعالى، وألا نتصور أنفسنا على أننا أسياد للآخرين، ونقيسهم
بمقاييسنا الخاصة، بل ينبغي أن نترك المجتمعات البدائية توجه رسالتها بلغتها
العقلية الخاصة دون حط من شأنها. ولكن المشكلة هي أن ستروس قد تطرَّف في تأكيد
معقولية البدائيين إلى حد القول بأن للعقل الإنساني هوية أساسية تظل ملازمة له في
كل زمان ومكان، وأننا نستطيع كشف هذه الهوية بتحليل نواتج هذا العقل — من أساطير
ونظم اجتماعية وطقوس … إلخ — في المجتمعات البدائية، وهنا يتعرض هذا التطرف المضاد
للنقد الذي وجَّهه إليه بياجيه، والذي ركزه على قول ستروس «بمنطق طبيعي» يكون
الأساس الثابت لكل تفسير وتنظيم إنساني أيًّا كان مكانه أو زمانه، فليس هناك ما
يمنع على الإطلاق من تأكيد حدوث تطور حتى تلك البناءات التي تمسك بها ستروس — مثل
أنساق القرابة — والتي ينبغي أن تكون ناجمة عن «مؤسسات» معينة، ولا بد أن يكون
الجهد الجماعي الطويل الأمد هو الذي جعلها ممكنة.
وعلى عكس اعتقاد ستروس بأن العقل يكرم بتأكيد ثباته، يرى بياجيه أن التطور ميزة
في البناءات البشرية ليس عيبًا فيها؛ ذلك لأن الحيوان لا يستطيع أن يغير نفسه ما لم
يغير نوعه بأكمله. أما الإنسان فينفرد بالقدرة على تشكيل ذاته وتحويرها عن طريق
تكوين بناءات من صنعه هو لا تفرض عليه من الداخل أو من الخارج؛ ولذلك فمهما كان
تأكيدنا لتلك الضرورات الباطنة التي تفرض نفسها على تطور الذهن من خلال تعامله مع
البيئة الخارجية، ينبغي أن نعترف بأن العقل قد تطور، وبأن هذه هي الوسيلة الوحيدة
التي تتيح لنا إنقاذ البنائية من عزلتها المترفعة.
٢١
هكذا فإن نقد بياجيه يُلقي ظلالًا من الشك على الاعتقاد الذي لم يحاول ستروس أن
يناقشه، وهو أن تأكيد أهمية البناءات في المعرفة يستتبعه حتمًا تأكيد ثبات هذه
البناءات، وأن البنائية — من حيث هي مذهب فكري — ترتبط بفكرة الثبات ارتباطًا لا
ينفصم، وأغلب الظن أن العامل الذي أدى إلى تأكيد ستروس لهذه القضية وحرصه الشديد
على أن يقدمها كما لو كانت هي إنجازه الأكبر في الميدان الأنثروبولوجي، هو ذلك
المنهج الخاص الذي اتبعه في الدراسة الأنثروبولوجية، والذي أثار انتقاد عدد كبير من
المتخصصين «المحترفين» في هذا الفرع، وإن كان قد أضفى على كتاباته طابعًا فلسفيًّا
شيقًا، فقد كان ستروس يؤمن بأن البحث الأنثروبولوجي يحتاج إلى قدر محدود من الدراسة
الميدانية التجريبية، وإلى قدر كبير من التفكير والتحليل العقلي. وكان — مثل كبار
الفلاسفة الفرنسيين — يؤمن بأن التجربة لا تتضمن الحقيقة. بل إن الحقيقة «تضاف» إلى
التجربة بواسطة العقل. ومن الطبيعي بالنسبة إلى الباحث الذي يجعل للتحليل العقلي
الدور الأساسي، وأن تكون فكرة «الثبات» أساسية عنده؛ لأن مهمة العقل هي البحث عن
عناصر الثبات من وراء المتغيرات، ولو كان ستروس يتبع المنهج الأنثروبولوجي التقليدي
لما بدأ بحثه وفي ذهنه فكرة لا تتزعزع، هي محاولة الوصول إلى المبادئ العامة للعقل
البشري من خلال دراسة الإنسان البدائي.
لقد كان ستروس — كما وصفه واحد من نقاده — من الأنثروبولوجيين «المربوطين على
الكراسي
Chair-Borne anthroplgists»،
٢٢ (أو المحمولين على الكراسي)، الذين لا يكترثون بالإقامة طويلًا بين
الشعوب البدائية التي يدرسونها، بل يقيم في مكان بالقدر الذي يسمح له بجمع المادة
اللازمة لاستدلالاته العقلية والرياضية، التي هي في الواقع مهمته الأساسية. أما
المعايشة وتعلم اللغات الأصلية للسكان والإقامة بينهم كأنه واحد منهم؛ فكلها أمور
تدخل في باب «التفاصيل» التجريبية التي كان يترفع عنها. وكانت نتيجة ذلك أنه قام
بمغامرة غير مضمونة العواقب، فهو لم يستطع أن يلقي ضوءًا على عقل الإنسان المعاصر
من خلال الإنسان البدائي؛ لأن الهوة التي تفصل بينهما سحيقة ولأن المسافة التاريخية
والحضارية هائلة إلى حد لا يكاد معه القول بوجود «قوالب ثابتة» يفيدنا في إلقاء أي
ضوء على السلوك المعقد للإنسان المعاصر، كما أنه (وهو الأهم) ربما كان قد شوَّه
صورة الإنسان البدائي حين قصر همه على كشف «سماته الأساسية»، إذ إنه لم يحاول أن
يفهمه فهمًا متكاملًا يُعايش فيه كل جوانب حياته، بل كان ما يهمه منه هو أن يجد فيه
صورة بدائية أو «طبعة أولى» لتلك السمات التي يعدها أساسية في الذهن البشري بوجه
عام، ومن شأن هدف كهذا أن يجعل البحث في الإنسان البدائي مجرد وسيلة لإثبات هدف
فلسفي مسبق أصر عليه الباحث منذ البداية.
وهكذا كان الجانب الفلسفي الذي لا يُنْكَر في أبحاث ستروس، سببًا للحملة التي
شنَّها عليه علماء متفرغون للأنثروبولوجيا، ينظرون إلى بحوثهم المتعلقة بالحضارات
القديمة على أنها غاية في ذاتها، تستهدف بقدر الإمكان فهم هذه الحضارات من داخلها
دون إقحام لأي هدف خارجي. ولكن الفلاسفة — من جانبهم — لم يقتنعوا بالأسس الفلسفية
التي ارتكز عليها تفكير ستروس ولا بالأهداف التي سعى هذا التفكير إلى تحقيقها. وكان
الخلاف المشهور بين ليفي ستروس وجان بول سارتر علامة مميزة للتباين في وجهات النظر
بينه وبين الفلاسفة بوجه عام.
إن البنائية في نظر سارتر مذهب «تعالمي Scientiste» يقوم على الأخذ بنموذج علمي معين (قد يكون لغويًّا أو
رياضيًّا … إلخ) ثم تطبيقه على جميع الميادين، وفرضه فرضًا حتى على التركيب الأساسي
للذهن البشري، والفيلسوف أو العالم البنائي لا يرى أمامه — في كل شيء — سوى هذا
النموذج الواحد المستمد من أصل علمي، والذي يبهره إلى حد أنه يتجاهل كل شيء ما
عداه، ومن هنا كانت البنائية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية؛ لأن
التكنوقراطي بدوره إنسان متخصص في ميدان فني أو علمي معين، يعجز عن إدراك أي شيء
إلا من خلال ما تخصص فيه، بحيث تكون نظرته إلى الأمور دائمًا جزئية محدودة، بالرغم
مما تدَّعيه من دقة وانضباط. هذا التكنوقراطي هو النموذج المطلوب للإنسان في
المجتمع البورجوازي لأنه عظيم الكفاءة والإنتاجية في ميدانه. ولكنه عاجز عن رؤية
الصور الكلية والأهداف العامة، ولا يخطر بباله أصلًا أن يسعى إلى تغيير المجتمع ما
دام هذا التغيير يفترض الرؤية الشاملة؛ ولذلك فإن البنائية — التي هي فلسفة مجتمع
تكنوقراطي — تخضع دون أن تشعر للأيديولوجية البورجوازية السائدة في مجتمع لا
يُطْلَب فيه من الإنسان إلا الدقة والانضباط، مع ترك التركيب الأساسي للمجتمع على
ما هو عليه دون أدنى محاولة للتغيير.
على أن ستروس لم يحاول التبرؤ من صفة «التعالمية»، ولم يجد فيها ما يدعو إلى
الخجل، فهو يعترف بأنه يريد أن يبحث الإنسان بطريقة موضوعية؛ ومن ثَم فلا بد أن
يخضعه لنموذج علمي صارم، ومثل هذا البحث لا ينبغي أن يُعَدَّ داخلًا في إطار
أيديولوجية معينة؛ لأنه في حقيقته خارج عن الأيديولوجية، ولا يمكن بالمثل أن يتهم
بأنه تفكير مجتمع تكنوقراطي؛ إذ إنه لا يضع نفسه داخل هذا المجتمع ولا يتحدث من
وجهة نظر مندمجة فيه، فمن طبيعة البنائية أنها ترفض الطابع الظاهري للعالم
والإنسان؛ لكي تكتشف بناءاتهما الخفية، مثل هذا الرفض يجعلها بمنأى عن كل التسميات
أو الاتهامات المستمدة من وجهة نظر مندمجة في العالم ومعترفة بمظهره.
ولكن هل هذا رد مقنع؟ قد يكون مقنعًا للبنائي ذاته. ولكن ناقده يستطيع أن يردَّ
بأن الخروج عن الأيديولوجية هو ذاته نوع من الأيديولوجية، وأن رفض الطابع الظاهري
للعالم والوقوف بمعزل عن محاولات تغييره هو بالضبط ما تريده البورجوازية من الإنسان
التكنوقراطي؛ لكي يخلو لها الجو ويزداد تسلطها إحكامًا، وإن نزعة ستروس اللاسياسية
(
a politisme)
٢٣ التي حرص فيها على أن يظل بعيدًا عن الميدان العملي، تسدي إلى
الأيديولوجية المحافظة خدمة جليلة، وعلى أية حال فالمسألة ستظل دائمًا موضوعًا
للخلاف بين وجهتَي نظر أساسيتين: إحداهما تبحث عن الدلالة الأيديولوجية، لكل سلوك
نظري أو علمي، حتى ولو كان يعلن ابتعاده عن الأيديولوجية، والأخرى تؤكد أن
الأيديولوجية معناها فرض تفسير على الحوادث من خارجها وإخضاعها لغايات ليست كامنة
فيها، بينما المطلوب من العلم أن يقدم تفسيرًا داخليًّا للحوادث وفقًا لما يكمن في
باطنها من عناصر فحسب.
وهكذا يبرر ستروس منهجه في التفكير على أساس أنه هو الذي يتيح كشف الطبيعة
الباطنة للظواهر، دون إقحام لعناصر خارجية. ولكن الأمر الملفت للنظر حقًّا هو أن
كلًّا من الجانبين البنائي والوجودي، يؤكد أن طريقته الخاصة في التفكير هي التي
تتيح بحث الظواهر من الباطن والتغلغل في أعماقها، ويتهم الجانب الآخر بأنه يتبع
منهجًا خارجيًّا أو سطحيًّا في التفكير، لا يسمح بالاندماج في اللب العميق للظواهر،
فكما رأينا سارتر يتهم ستروس بالنزعة التعالمية التي تفرض على الظواهر نموذجًا
علميًّا خارجًا عنها، وتعجز بذلك عن فهم حقيقتها الباطنة أو العمل على تغييرها، فإن
ستروس يوجِّه اتهامًا مماثلًا — ولكن من زاوية أخرى — إلى سارتر وإلى الوجودية بوجه
عام، وقد خصص ستروس فصلًا كاملًا من كتاب «التفكير غير المتحضر La
pensée sauvage»
لنقد وجهة نظر سارتر في كتاب «نقد العقل الجدلي Critique de la raison dialectique»، وهو
نقد لم يَنْصَب في واقع الأمر على سارتر وحده، بل على وجهة نظر كاملة تمثل وجودية
سارتر جانبًا واحدًا من جوانبها المتعددة، فهناك مجموعة كاملة من المذاهب الفلسفية
تتصور أنها تصل إلى العمق الباطن للإنسان من خلال «التجربة المعاشة»، وتشمل هذه
المجموعة — إلى جانب الوجوديين — مفكرين وفلاسفة مثل برجسون ودلتاي وريما هوسرل
أيضًا. ولكن الواقع أن هذه التجربة المعاشة ليست — كما تبدو للوهلة الأولى — الطريق
الموصل إلى ما هو كامن وأصيل في الإنسان. بل إنها — في نظر ستروس — لا تعدو أن تكون
سطحًا خارجيًّا تكمن من ورائه قواعد بنائية أساسية هي تلك القواعد التي تتحكم في
العلاقة بين الأنا والآخر.
فالتجربة المعاشة — مهما بدت عميقة — ليست إلا النتاج الظاهري لأساس أعمق، هو
البناء الذي يشكل معناها الباطن.
ويعتقد ستروس أن الوجوديين وأنصار التجربة المعاشة — بوجه عام — يصعِّدون مشاغلهم
الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية. وهذا — على حد تعبيره في كتاب
Tristes tropiques الذي كان نوعًا من الترجمة
الذاتية لحياته، موضوعة في إطار أنثروبولوجي — «أمر محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى
نوع من الفلسفة السوقية …»
٢٤ ذلك لأن التفكير عندما يدخل المرحلة التعليمية الموضوعية، لا ينبغي أن
يعود مرة أخرى إلى الإهابة بالتجارب الشخصية والفردية التي كان يدور حولها قبل
وصوله إلى هذه المرحلة، والتي تجاوزها عمدًا عن طريق التجريد وبناء أنساق شخصية،
فأمثال هذه المذاهب ترتد ثانيةً إلى المرحلة قبل العلمية، وتنسى أن العالم —
بتجريداته ونماذجه الشكلية — يستطيع أن يلقي ضوءًا حتى على التجربة المعاشة ذاتها،
ويفسرها بطريقة أكثر ثراءً. والمهم في الأمر أن هذا الصراع بين ستروس والوجوديين
يذكرنا بالصراع الذي دار قبله بما يزيد عن قرن من الزمان، بين كير كجورد — فيلسوف
الذاتية المشهور — وبين هيجل — نصير التجريد العقلي والنسق الفكري الشامل —
٢٥ ويبدو أن كل عصر يشهد فصلًا من فصول هذا الصراع الذي لا ينتهي بين
أنصار الفكر العيني المعايش للحياة وأنصار الفكر التجريدي الذي يسعى دوامًا إلى
الشمول.
ولقد كان من نتيجة هذا الصراع بين النزعة التجريدية عند ستروس، والنزعة العينية
عند سارتر، أنهما تبادلا الاتهامات في ميدان آخر، هو ميدان التاريخ، الذي كان سارتر
يتأمله في حركته وديناميكيته وصيرورته الدائمة، على حين كان ستروس يجمده لكي يدرس
نماذجه بطريقة سكونية، فقد عاب سارتر على ستروس أن فلسفته تتهرب من الواقع الحي لكي
تغرق نفسها في تجريدات شكلية تَنْصَبُّ على حضارات بدائية يصفها ستروس نفسه بأنها
«خارج التاريخ»؛ ومن ثَم فإنها تعجز عن الانتقال من ذلك الميدان الذي كان فيه
التاريخ متوقفًا أو مجمدًا — إن جاز هذا التعبير — إلى مجال التاريخ الحاضر في
تدفقه نحو المستقبل. ومن المؤكد أن ستروس عاجز عن تطبيق أية نتيجة يتوصل إليها في
مجال بحثه — على الإنسان المعاصر — بالرغم من كل ما بذله من جهود لتأكيد وجود
تشابهات أساسية في «الطبيعة البشرية» بمعناها العام، وبغض النظر عن موقعها من
التاريخ.
على أن ستروس يرد على هذا الاتهام بأن الوجودية — وخاصةً عند سارتر — هي التي
تمركزت حول الحاضر، واتجهت صوب المستقبل أكثر مما ينبغي. صحيح أنها تمجد التاريخ
وتؤكد تدفقه وصيرورته، ولكنها في نظرتها إلى التاريخ تفهم الماضي من خلال مقولات
الحاضر فحسب، ولا تعطي هذا الماضي حقه، بل لا تعترف للآخرين بالحق في دراسة الماضي
لذاته، وإنه لمن الطبيعي للمذهب الذي يرتكز على مقولات الذاتية، وعلى تحليل الإنسان
في موقفه العيني وفي «مشروعه» الحي، أن يكون متمركزًا حول الذات وحول الحاضر، وأن
يكون التاريخ الماضي في نظره هو ما يؤدي إلى الحاضر، والمستقبل هو ما ينبثق عنه؛
على أن النتيجة التي ترتبت على هذا هي أن سارتر قد تجاهل العقلية البدائية، وبدا
كما لو كان يُساير الرأي القائل بأن البدائيين عاجزون عن التحليل العقلي والبرهان
المنطقي، وهو استنتاج غير مستغرب عند فيلسوف يتخذ من الذات — في موقع تاريخي معين —
مركزًا يدور حوله كل تفكيره، وإذا كانت الوجودية تَتَّهم البنائية بأنها تتطلع إلى
الماضي المتجمد خوفًا من مواجهة الحاضر والمستقبل وتهربًا من مسئولية اتخاذ موقف
منهما، فإن البنائية تعود — من جانبها — فتتهم الوجودية بأنها تغمض عينيها عن شكل
أساسي من أشكال التجربة البشرية، هي تلك النظم والطقوس والأساطير التي عاشت بها
الإنسانية البدائية، وتتصور أن السعي من أجل مستقبل أفضل يتحرر فيه الإنسان من شتى
أنواع العبودية، معناه تجاهل البناءات الاجتماعية والفكرية للإنسان في صورتها
النقية الأولى، أو أن الهدف الأول يتعارض مع الثاني، مع أنه لا تعارض بين الاثنين
على الإطلاق.
وهكذا فإن البنائية والوجودية — ممثلتين في ستروس وسارتر — تتبادلان الاتهامات
بصورة يبدو معها كأن المذهبين يقفان على طرفي نقيض، وكأنه لا سبيل على الإطلاق إلى
إيجاد أية وسيلة للتقريب بينهما. ومن المسلَّم به أن المسافة بين هذين المذهبين
كبيرة إلى أبعد حد، وأن بينهما اختلافًا أساسيًّا في منهج التفكير ووسائله وأهدافه.
ومع ذلك فربما كان من الممكن — بشيء من الجهد — أن يتلمس المرء بعض النقاط التي
يتلاقى فيها المذهبان، أو على الأقل بعض أوجه الشبه غير المباشرة. وربما غير
المقصودة، بينهما.
ولنلاحظ أولًا، فيما يتعلق بستروس وسارتر على وجه التحديد، أن كلًّا منهما قد
اتصل بالماركسية خلال فترة معينة من حياته: ستروس في أولها، وسارتر في آخرها، فقد
اعترف ستروس في سيرته الذاتية بأنه كان في شبابه ماركسيًّا. أما سارتر فإن قصة
التقائه المتأخر بالماركسية معروفة للجميع؛ ومن هنا كانت كتابات كلٍّ منهما تلجأ —
بدرجات متفاوتة — إلى المصطلحات الماركسية، على الرغم من أنهما استخدما هذه
المصطلحات بمعانٍ متباينة، وعلى أية حال فإن من القرائن غير المباشرة على أن التضاد
بين البنائية والوجودية ليس بالحدة التي يصوَّر بها عادة أن ستروس، برغم خلافه
الشديد مع سارتر، قد أهدى كتاب «التفكير غير المتحضر
La pensée
sauvage»
إلى ذكرى «مير لو بونتي» الذي كان أقرب إلى الوجودية بكثير منه إلى البنائية.
٢٦
على أننا نستطيع أن نجد نواحي أخرى يتشابه فيها المذهبان دون وعي منهما بهذا
التشابه، وأهم هذه النواحي، رأي ستروس في الطبيعة والثقافة، الذي نجد فيه ما يذكر
برأي سارتر في الوجود والماهية، فمنذ كتاب «البناءات
الأولية لنظام القرابة Les Structures élémentaires
de la parenté» وهو الكتاب الحاسم والأساسي في المذهب
البنائي بأكمله، ويؤكد ستروس وجود تضاد أساسي بين الطبيعة والثقافة Nature et culture في الإنسان، فليس ثمة
إنسان طبيعي، وإنما يكتسب الإنسان طبيعته من خلال ثقافة معينة. وهذا التقابل بين
طبيعة الإنسان وثقافته وخضوع طبيعته للعناصر الثقافية، وهو الذي يميز الإنسان عن
الحيوان، الذي لا يعيش إلا في «الطبيعة» ولا يحوِّر هذه الطبيعة إلا إذا حوَّر نفسه
من حيث هو نوع حيواني. وربما بدا لأول وهلة أن رأي ستروس في هذه المسألة ينطوي على
مفارقة؛ إذ إن هدفه الذي لا يمل تكراره هو أنه يريد الوصول إلى الطبيعة الأساسية
للذهن البشري، مما يوحي بأن لهذا الذهن تركيبًا «طبيعيًّا» ثابتًا. ولكن ستروس يؤكد
— من ناحية أخرى — أن طبيعة الإنسان تكمن في خروجه عن الطبيعة، فإذا أردنا أن نبحث
في ذلك التركيب الثابت الذي يميز الذهن البشري على نحو شامل، فلنبحث عنه في تلك
النظم الثقافية (أي اللاطبيعية) التي انفصل عن الحيوان منذ أن وضعها.
وهذا يعني بعبارة أخرى: أن ستروس عندما بحث عن المبادئ الكلية للذهن البشري —
بوجه عام — لم يحاول أن يلتمسها في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان وإنما تلقاه
على ما هو عليه، بل إنه اهتدى إليها في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به الإنسان
في حياته، الذي يعبر مباشرةً عما هو أساسي في طريقة تفكيره.
وإذا كان من الشائع النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها هي الأصل،
وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، فإن ستروس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلًا
والطبيعة (في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها، وإذا كان من الشائع أيضًا وصف
الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيرة، فإن ستروس يؤكد أن الثقافة
هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان، ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فمنذ اللحظة
التي يُحْظَر فيها زواج المحارم، يكون معنى ذلك ظهور عنصر ثقافي في المجتمع
الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي والقانون) يشكل الطبيعة (وهي غريزة
الجنس) ويتحكم فيها؛ ففي هذا الحظر والتحريم تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين
بناء جديد، يحل فيه التنظيم المعقد المميز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة
التي تميز بناء الحياة الحيوانية.
ولسنا نود أن نستطرد في وصف العلاقة بين الطبيعة والثقافة عند ستروس. بل إن ما
قلناه يكفي لإيضاح المسألة التي نريد أن ننبه إليها، وأعني بها وجود نوع من التشابه
ربما لم يتنبه إليه ستروس ولا سارتر بين البنائية والوجودية في هذه النقطة
الأساسية؛ ذلك لأن من القضايا الرئيسية في الوجودية؛ تلك القضية القائلة: إن وجود
الإنسان سابق لماهيته؛ أي إن ما يميز الإنسان هو عدم وجود طبيعة ثابتة مميزة له.
ومن المؤكد أن هناك تشابهًا قويًّا بين تأكيد ستروس أن الإنسان يصنع طبيعته عن طريق
الثقافة، وتأكيد سارتر أن الإنسان لا يبني وجوده على ماهية ثابتة، بل يصنع ماهيته
من خلال وجوده. وفي كلتا الحالتين تأكيد لحقيقة أساسية: هي أن أهم ما يميز الإنسان
هو ما يصنعه الإنسان نفسه، مع فارق هام مستمد من مجال اهتمام كلٍّ من المفكرين
الكبيرين، هو أن ستروس كان يتحدث عن الإنسان الاجتماعي، على حين أن مدار حديث سارتر
كان الإنسان الفردي.
وأخيرًا، فإن التضاد بين نزعة التجريد عند البنائيين والنزعة العينية عند
الوجوديين يمكن تخفيفه إلى حد غير قليل إذا أدركنا أن كل طرف يحمل في ثنايا مذهبه
شيئًا من صفات الطرف الآخر، فلم تكن الكتابات الوجودية في كل الأحوال عينية تنبض
بالحياة، كما يشيع وصفها عادةً، وإنما كانت في أحيان غير قليلة تتسم بقدر كبير من
الجفاف التجريدي، وأوضح مثل على ذلك كتابَا سارتر: «الوجود والعدم» و«نقد العقل
الجدلي»، اللذان كانا يعرضان مضمونًا فكريًّا عينيًّا من خلال شكل وأسلوب لا يقل في
تجريده عن كتابات ستروس.
ومن جهة أخرى ففي وسع المرء أن يجد في كتابات ستروس جانبًا من اللمحات الشعرية
التي تخفف — من آنٍ لآخر — من غلواء التجريدات المتطرفة، ويظهر ذلك بوضوح حين يتحدث
عن الموسيقى ويربط بينها وبين الأسطورة؛ إذ يجد فيهما معًا إيقاعات متكررة وتنويعات
على ألحان (أو موضوعات) رئيسية. وفضلًا عن ذلك فهما تشتركان معًا في أن ما يفهمه
المرء منهما خاص به إلى حد بعيد، وفي أن من يتلقى الرسالة الموسيقية أو الأسطورية —
وليس مرسلها — هو الذي يتحكم في معناها، وتثير الموسيقى والأسطورة — من حيث هما
أسلوبان ثقافيان — استجابات انفعالية في المخ البشري، يمكن عن طريق تحليلها فهم
البناء اللاشعوري للذهن البشري، وبالفعل يكرس ستروس جزءًا كبيرًا من مجلداته
الثلاثة الضخمة التي ألَّفها بعنوان «أسطوريات
Mythlogiques» للكشف عن الآليات المنطقية التي تثير تلك الاستجابات
الانفعالية، ويؤكد وجود توازٍ بين البناء المنطقي والاستجابة الانفعالية؛ أي بين
الجانب الثقافي والطبيعي في الإنسان، ويمجد ستروس الموسيقى في لغة يختفي فيها جفاف
تجريداته الرياضية المألوفة، فيقول مثلًا: «إن الموسيقى، هي وحدها — من بين سائر
اللغات — التي تتسم بطابع متناقض هو أنها معقولة أو مفهومة. وفي الوقت ذاته غير
قابلة للترجمة، وهذه السمات تجعل الموسيقى ذاتها السر الأعظم في المعرفة البشرية؛
فكل فروع المعرفة الأخرى تسير في أعقابها، وهي التي تحمل مفتاح تقدمها.»
٢٧
والواقع أن كتاب «الأسطوريات» يحفل بأمثال هذه الارتباطات الشعرية التي يمزجها
ستروس بتحليلاته الأنثروبولوجية فيخفف إلى حدٍّ بعيد من جفافها، ويثبت أن للجانب
الانفعالي العيني وجودًا لا يمكن تجاهله وسط الصيغ الرياضية المفرطة التجريد التي
اشتهرت بها كتاباته، ولعل في هذا ما يدل على أن الشُّقَّة التي تفصل بين بنائيته
وبين الوجودية يضيق أحيانًا إلى حد لا يتصوره من يتأملون كلا المذهبين من خلال
الصيغ التي شاع إطلاقها عليهما دون تدقيق أو تمييز.
(٤) ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
حين نشر ميشيل فوكو M. Foucault كتاب
«الكلمات والأشياء Les Mots et le Choses» في
عام ١٩٦٦م، أحدث الكتاب ضجة كبرى، ورآه البعض مبشرًا بفلسفة جديدة، بينما نظر إليه
آخرون على أنه أضاف بعدًا جديدًا إلى الحركة التي سبق أن أثمرت — في ميادين
اللغويات والأنثروبولوجيا — التحليل النفسي والتفسير الماركسي. ولكن هذه الضجة
الصاخبة التي كانت في واقع الأمر ضجة مؤقتة؛ إذ إن الكتاب بعد مضيِّ عشر سنوات على
نشره، لم يثبت قدرته على الصمود للزمن، وأصبح من المألوف كلما تعرض باحث لهذا
الكتاب في الوقت الحالي أن تغلب لهجة الانتقاد عنده على لهجة الإعجاب. بل إن البعض
يعربون عن اعتقادهم بأن الكتاب كان «موضة» مرتبطة بفترة معينة، وأنه — برغم عدم
اعترافه بالتاريخ — قد أصبح اليوم ذا قيمة تاريخية فحسب؛ ومن هنا فإننا لا نعتزم
الإطالة في الكلام عن فوكو وعن كتابه الرئيسي هذا؛ إذ إن الاتجاهات الأكثر ثباتًا
في البنائية أحق منه بالبحث المطول.
في كتاب «الكلمات والأشياء» يعرض فوكو الصور البنائية المختلفة التي أخذها العقل
الأوروبي منذ عصر النهضة في القرن العشرين، وقد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن
مثل هذا العرض لا بُدَّ أن يكون تاريخيًّا، ما دام موضوعه قد تغير طابعه على مر
القرون الخمسة التي اتخذها المؤلف ميدانًا لبحثه. ولكن حقيقة الأمر أن فوكو نظر إلى
العقل — الذي أطلق عليه اسمه اللاتيني Ratio — نظرة
نسبية لا علاقة لها بالتاريخ؛ فالعقل قد تغير طابعه في مرحلة من مراحل بحثه؛ لأن
هناك «بناءً» مميزًا لكلٍّ من هذه المراحل. أما تلك التغيرات التي تطرأ نتيجة
لتفاعل العقل مع الأحداث وحركته خلال الزمان فإن فوكو لا يهتم بها، ولا يتحدث عنها
في كتابه. وهكذا فإن كل ما يقدمه إلينا هو مجموعة من البناءات المغلقة إغلاقًا
محكمًا، والتي اتخذها العقل خلال الفترة الحديثة من الحضارة الأوروبية. أما كيفية
الانتقال من كل بناء إلى آخر، والعوامل التي أدت إلى تغير البناءات، فهذا ما لا
يحاول فوكو أن يفسره.
ولقد وضع فوكو لكتابه هذا عنوانًا فرعيًّا هو: Archéologie des
sciences humaines.
وهو عنوان يمكن أن يعني في اللغة العربية أمورًا كثيرة: فلفظ
archéologie هو — في معناه المباشر — علم
الآثار، وعلم الآثار علم تاريخي، فهل كان هذا ما يهدف إليه فوكو؟ الحقيقة أن رفضه
للنزعة التاريخية يؤدي إلى استبعاد هذا التفسير من أساسه، كذلك قد يدل هذا اللفظ
على فكرة القدم؛ بحيث يكون المعنى المقصود هو البحث في الجذور القديمة للعلوم
الإنسانية أو في مبادئها الأولى،
٢٨ لا بالمعنى التاريخي بل بالمعنى البنائي. وهذا بالفعل هو ما يقصده
فوكو، فهو لا يريد أن يدرس ماضي الإنسانية من خلال وثائقها القديمة (كما يفعل علماء
الآثار في ميدانهم الخاص) لكي يتابع بالتدريج تلك العملية التي أدت — من خلال
تحولات تعاقبت تاريخيًّا في خط متصل — إلى اتخاذ العلوم الإنسانية طابعها الراهن.
بل إنه يجمد كل وضع اتخذته هذه العلوم خلال تلك الفترة، ويتأمل كل مرحلة انتقالية؛
لأن بناءها يبدو له متماسكًا، ولأنه يُسْقِط من حسابه عناصر التحول والتغير الكامنة
في كل مرحلة؛ لكي يحتفظ بهيكل بنائي ساكن يراه أنه هو المميز حقًّا لكل
مرحلة.
ففي عصر النهضة نرى بناءً أساسيًّا واحدًا يسود جميع المجالات، ويعبر عنه فوكو
بفكرة الفك الكري La Sphére؛ فالمعارف كلها موحدة،
ومقولة التشابه والتماثل هي السارية على جميع الميادين، والمعرفة ذاتها متناهية
مقفلة دائرية، ومثل هذا التصور لعصر النهضة يعتمد في الواقع على الاستشهاد بآراء
شخصيات ثانوية في ذلك العصر؛ ولذلك التجأ فوكو في كثير من المواضع إلى آراء شخصيات
مغمورة، محققًا بذلك هدفين: أولهما أن يبهر القارئ بمعارفه الواسعة وقراءاته
المستفيضة، فيجتذب بذلك أولئك الذين لا يبحثون في الفكر إلا عن تبحر صاحبه
érudition، وثانيهما أن يجد في هذه الشخصيات
الثانوية — التي لم تكن تتابع حركة الرفض الناشئة في ذلك الحين — تأييدًا لذلك
التصوير البنائي الذي عبَّر عن روح عصر النهضة، ولو كان فوكو قد رجع إلى الشخصيات
الكبيرة في ذلك العصر؛ لأدرك أن كل شيء كان موضوعًا موضع الشك والتساؤل، وأن العقول
الناضجة لم تكن سوى إشكالات وأسئلة قلقة حيث كانت العقول الهزيلة ترى كلًّا
متكاملًا مقفلًا على ذاته. ومن الجائز أن هذه الأسئلة لم تكن تُطْرَح دائمًا بطريقة
صارخة، وأن الشك والقلق كان يخشى التعبير عن كل ما ينطوي عليه من هدم لنظام المعرفة
القديم، ولكن من المؤكد أن اتجاه أقطاب عصر النهضة كان واضحًا، وأن بركانًا كان
يغلي تحت السطح، على حين أن فوكو لم يركز نظرته إلا على ذلك السطح الساكن الراكد،
فكان من الطبيعي ألا يتصور البناء الفكري لذلك العصر إلا على أنه أشبه بالفلك
المقفل المستدير.
ومثل هذا يقال عن نظرته إلى العصر الكلاسيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر،
حيث كان «النظام Ordre» يسود جميع مجالات المعرفة
والنشاط الذهني للإنسان؛ ففي وسعنا أن نوافق معه على أن النظام كان بالفعل حقيقة
أساسية في ميادين الرياضيات والفلك والفيزياء. وفي الإبداع الفني (القواعد
الكلاسيكية للعمل الفني) والميدان السياسي (نظام الحكم المطلق). ولكن هذا النظام
بدوره لم يكن يخلو من قلق وتوثب وتحفز لكسر كل إطار يدور في داخله النظام الموجود،
والدليل على ذلك أن الفترة الأخيرة من هذا العصر هي التي شهدت حركة التنوير، وهي
حركة كان أهم ما يميزها هو تطلعها إلى عصر مقبل تتحطم فيه قيود النظام المستتب،
سواء أكان ذلك في المجال العقلي أم في المجال السياسي والاجتماعي. ومن الظلم إدراج
حركة التنوير — التي كانت تتضمن بذوره ثورة كاملة — ضمن إطار عصر يوصف بأنه عصر
شكلت فيه المعرفة نسقًا لا يحيل إلا إلى ذاته، ولا تستمد أية حقيقة فيه قيمتها إلا
من موقعها في كل أوسع منها، وبأنه عصر لا تظهر فيه أدنى بادرة لفكرة التطور
والتحول.
وحين ينتقل فوكو إلى القرن التاسع عشر، يصفه بأنه هو القرن الذي «اخترع» التاريخ
واستعاض به عن النظام؛ على أنه لما كانت نظرة فوكو في أساسها غير تاريخية، فإنه
يسيء فهم البناء الأساسي لهذا العصر إلى حد بعيد، ومثال ذلك أنه لا يتحدث عن ماركس
إلا في صفات قلائل، ويستبعده بسرعة على أساس أنه لم يأتِ بجديد بالقياس إلى
ريكاردو، ويذهب إلى أنه لم يتجاوز نفس المشكلات، ونفس الإطار المعرفي، الذي دارت
فيه أبحاث ريكاردو، ويصف الموجة التي أثارها الاثنان معًا بأنها «زوبعة في فنجان»،
٢٩ وليس من الصعب أن يدرك المرء الأسباب التي دعت به إلى إصدار مثل هذا
الحكم الجائر، فتفكير ماركس يخرج عن إطار البناء الموحد الذي حدده للقرن التاسع
عشر. كما أن ثبات البناء يقتضي ألا يكون قد حدث تحوُّل أساسي في الموضوع الواحد بين
شخصيتين كبيرتين مثل ريكاردو وماركس.
أما العصر الحاضر، فإن فوكو يقسم المجال المعرفي فيه إلى أبعاد ثلاثة، الأول منها
هو العلوم الرياضية والفيزياء، والثاني هو العلوم التي أطلق عليها اسم «التجريبية»
كالاقتصاد والبيولوجيا واللغويات، والثالث هو التفكير الفلسفي. وفي رأيه أن العلوم
الإنسانية تبحث لنفسها عن مكان في هذه المجالات الثلاثة؛ إذ تحاول البحث عن صياغة
رياضية، وتطبيق الأسلوب التجريبي، وإن كانت تخضع في كثير من الأحيان لإغراء الفكر
التأملي. ولكن فوكو لم يتعمق في بحث المشكلات الجوهرية التي تواجه العلوم الإنسانية
في عصرنا الحاضر، كالتضاد بين الفهم والتفسير، وبين فكرتي البناء الثابت والمنشأ
التاريخي … إلخ.
ومن خلال هذا العرض السريع للاتجاهات الأساسية في كتاب «الكلمات والأشياء»،
نستطيع أن ندرك العيوب الأساسية التي اتسمت بها نظرته إلى بناء الفكر الأوروبي
الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم.
فكتابه يحفل بمحاولات التقسيم الثلاثي الذي يسري — بطريقة واحدة — على جميع
المجالات، وهي المحاولات التي اشتهر بها كانْت في تقسيمه الثلاثي للمقولات الذهنية
وتطبيقه لهذه التقسيمات على بحوثه في مختلف المجالات، كما اشتهر بها هيجل في
التزامه للإيقاع الديالكتيكي الثلاثي الذي يظل يحكم المذهب من بدايته إلى نهايته؛
فالانتقال من عصر النهضة إلى العصر الحاضر كان انتقالًا ثلاثيًّا مبنيًّا على نموذج
هندسي، هو الانتقال من الشكل الكري
المقفل La sphére الذي كانت فيه المعرفة محددة مقفلة، إلى المسطح Le plan الذي يسوده النظام الهندسي في العصر
الكلاسيكي، إلى المثلث أو الثلاث La triedre الذي
يتألف منه العلم المعاصر، وأمثال هذه التقسيمات قد تعجب هواة التماثلية والتناسق
الشكلي. ولكنها لا تفيد في الكشف عن طبيعة الواقع؛ لأن واضعها كثيرًا ما يضطر إلى
تجاهل عناصر أساسية، أو التعسف في تفسير عناصر موجودة، من أجل ضمان الانسجام الشكلي
الظاهري للبناء. وفي حالة فوكو نجده يتجاهل القرن التاسع عشر؛ لأنه لا يدخل في
الإطار الثلاثي الذي وضعه، فضلًا عن أن فكرة المسطح ليست هي الفكرة المميزة لعصر
تسوده روح النظام. بل إن أي شكل هندسي آخر يصلح لتحقيق هذا الغرض.
ومن ناحية أخرى فإن فوكو حتى ولو كان قد أتى بنموذج يصلح للتعبير عن كل مرحلة «من
داخلها»، فإنه يعجز تمامًا عن تفسير الانتقال من مرحلة إلى أخرى؛ أي عن تفسير
التغير الذي أدَّى إلى تحول الفكر الأوروبي من بناء إلى آخر، فموقفه يستلزم القول
بوجود انفصال أساسي بين كل مرحلة وأخرى، مع أن المعقولية تقتضي السعي إلى إيجاد
اتصال بين المراحل، والتاريخ يستحيل تصوره في ظل نظرة تضع هوة لا قرار لها بين
فتراته المختلفة، وتقف عند حد فهم كل فترة في إطارها الداخلي الخاص. وليس أدل على
ذلك من أن فوكو وجد نفسه مضطرًّا إلى القول بوجود «انقطاع غامض rupture énigmatique» في تفسير الانتقال من
عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي، أو من عصر «النظام» إلى عصر «التاريخ»، وهو تعبير
يكشف بطريقة صريحة عن العجز عن الفهم، ويدل على أن التمسك المفرط بالبناء والنسق
يمكن أن يصبح عقبة في وجه المعقولية الصحيحة.
على أن أهم أوجه النقد التي يمكن أن توجَّه إلى فوكو هو استخفافه بالتاريخ،
وإنكاره أن يكون العقل البشري قد أحرز تقدمًا منذ عصر النهضة حتى عصرنا الحاضر،
وكما هو واضح فإن هذا النقد لا ينطبق على فوكو وحده، بل ينطبق على البنائيين
عمومًا، وإن كان إهمال فوكو لفكرة الاتصال التاريخي أكثر وضوحًا؛ لأن الموضوع الذي
عالجه في كتابه الرئيسي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع التاريخ، وعلى أية حال فإن
النقد الذي يوجَّه إلى فوكو في هذا الصدد يمكن أن يعمَّم على معظم البنائيين
الآخرين.
إن فوكو يحاول أن يهتدي — في كل عصر — إلى عناصر الثبات من وراء التحول الظاهري،
وهو في هذا يرتكز على مبدأ يسلم به — هو ومعظم البنائيين — دون مناقشة، وهو أن
العناصر الثابتة هي الأساسية والجوهرية، وأن العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية
عرضية؛ على أن هذا المبدأ يمكن الاعتراض عليه من الأساس، فمن الممكن من وجهة نظر
أخرى أن نقول: إن الثبات هو المظهر السطحي، الذي تكمن من ورائه تحولات وتغيرات أعم
منه؛ ذلك لأن حالة المعرفة في كل عصر تبدو ثابتة بالنسبة إلى من يضع نفسه في إطار
ذلك العصر. ولكن في استطاعة النظرة التاريخية — حين تخرج عن ذلك الإطار وتطل على
ذلك العصر إطلالة راجعة فيها رحابة واتساع — أن تكشف عن العمليات المتغيرة
والتفاعلات التي كانت تدور في الخفاء من وراء هذا الثبات الظاهري. وفي هذه الحالة
يعتبر المنظور التاريخي المبني على التغير أعمق وأكثر نفاذًا إلى باطن الأشياء من
المنظور البنائي الذي يعد عندئذٍ مكتفيًا بوصف السطح الخارجي وقبوله على ما هو
عليه، ولسنا ندَّعي أن هذه هي الحالة الوحيدة الممكنة؛ إذ إن البنائي يستطيع أن
يؤكد أنه اكتشف عناصر ثابتة أعمق من عناصر التحول الجديدة. وهكذا يظل لكلٍّ من
المنظورين الحق في القول بأنه يتعمق في الظواهر إلى مستوًى أبعد من الآخر. ولكن من
المهم في الأمر أن هذا يبطل ادعاء البنائية، وادعاء فوكو على وجه التحديد بأن منهجه
الذي ركز فيه باختياره على عناصر الثبات وجمدها، وأهمل عناصر التحول، هو وحده الذي
يوصل إلى الأساس المطلق للمعرفة.
(٦) البنائية والماركسية
(٦-١) ألتوسير
كان تفكير «لوي ألتوسير Louis Althusser»
أوسع وأشمل بكثير من تفكير «سيباج»، كما أن اتجاهات العام في تفسير الماركسية —
وهو اتجاه بنائي في أساسه، وإن لم يكن هو ذاته يرحب كثيرًا بهذه الصفة — قد
تحددت معالمه قبل سنوات قليلة من ظهور كتاب سيباج عن الماركسية والبنائية. ومع
ذلك فقد أرجأنا الكلام عنه إلى ما بعد عرض آراء سيباج حتى يكون الانتقال بينهما
انتقالًا إلى مزيد من التفصيل والتعمق في الموضوع. هذا فضلًا عن أن ألتوسير ما
زال مؤلفًا خصب الإنتاج، وما زال صاحب مدرسة كاملة في التفسير الماركسي، في
الوقت الذي توقَّف فيه إنتاج سيباج فجأة بموته السابق لأوانه.
وليس من الصعب أن يستدل المرء على طبيعة الظروف التي ظهر فيها التفسير
البنائي للماركسية عند ألتوسير؛ إذ إن جهده الفلسفي يمكن أن يوصف بأنه رد فعل
على رد فعل؛ فبعد النقد العنيف الذي وُجِّهَ إلى الجمود الفكري الذي اتصفت به
المرحلة الستالينية، حدث رد فعل في الاتجاه المضاد، وظهرت تفسيرات للماركسية
تؤكد جوانبها الإنسانية وتحاول التوفيق بينها وبين كثير من المذاهب الفلسفية
التي حاربتها طويلًا، وكأنها تحاول إزالة صفات التحجر المذهبي وإنكار النزعة
الإنسانية، وهي الصفات التي اتُّهِمَت بها ماركسية ستالين في أوساط كثيرة —
منها الأوساط الماركسية ذاتها — في الخمسينيات من هذا القرن.
ولقد كان المفكر الذي حمل لواء هذه الدعوة إلى كسر جمود الماركسية التقليدية
وإذابة جليد الاتجاه اللا إنساني في الستالينية هو «روجيه جارودي Roger Garaudy»، ولو شئنا أن نلخص الطابع
المميز لرد الفعل عند جارودي — بالقياس إلى الاتجاهات السائدة من قبل — لقلنا
(مستخدمين لفظًا أصبح شائعًا في هذه الأيام): إنه هو الاتجاه إلى «الانفتاح»
على الفلسفات الأخرى التي كانت تقف من الماركسية السابقة موقفًا عدائيًّا
صريحًا، محاولًا بذلك تعويض الدجماطيقية والتزمُّت والخصومة العنيفة التي اتسمت
بها فترة عبادة الفرد الستالينية؛ ففي كتاب «النزعة الإنسانية الماركسية Humanisme marxiste»،
وكذلك في كتاب «آفاق الإنسان
Perspectives de l’homme»، قدَّم جارودي للماركسية تفسيرًا إنسانيًّا وصفه بأنه يستخلص —
«عن طريق التحليل النقدي للوجودية والفكر الكاثوليكي وللماركسية — نقاط
الالتقاء الممكنة في المسعى المشترك الذي تبذله هذه المذاهب من أجل الوصول إلى
الإنسان الكلي»، وواضح من هذا الوصف أنه يهدف إلى إثبات وجود نوع من التكامل
بين أفكار ماركس وبين مذاهب أخرى كانت حتى ذلك الحين تخوض ضد هذه الأفكار معارك
حامية؛ على أن جارودي قد ذهب في هذا البحث عن التكامل والسعي إلى التوفيق،
ومحاولة إجراء «حوار» يسوده التفاهم مع التيارات الفلسفية الأخرى إلى حد أبعد
مما ينبغي؛ إذ إنه أرجع الماركسية إلى أصولها المثالية، وخاصةً عند
«فشته Fichte» وتجاهل الانقلاب
الإبستمولوجي الذي قام به ماركس وإنجلز، وجعل التحول الاجتماعي راجعًا إلى
أسباب إنسانية تجريدية ولم يعط إلا أهمية ثانوية لمقولات المادية التاريخية
والديالكتيك الموضوعي، وإذا كانت الماركسية قد كسبت — بمحاولة جارودي هذه —
صداقة بعض التيارات التي كانت تعاديها كالوجودية والشخصانية، أو اتخذت صورة
متقاربة معها، فإنها قد خسرت قدرًا غير قليل من طابعها النضالي وقدرتها على نقد
الأيديولوجيات المضادة لها، وفقدت جانبًا كبيرًا من طابعها العلمي
الموضوعي.
ويمكن القول: إن أعمال ألتوسير كانت — في جانبها الأهم — رد فعل على هذا
الاتجاه إلى إذابة الماركسية في رخاوة النزعة الإنسانية (ولهذا وصفناها من قبل
بأنها رد فعل على رد فعل). وكانت سعيًا إلى العودة بها إلى صلابة النزعة
«العلمية Scientificité»، وعودة إلى تأكيد
مقولاتها المادية المستمدة من كتب مثل «الأيديولوجية الألمانية» و«رأس المال»،
وإبرازًا لطابعها المتميز الذي يرتكز على أسس لا يمكن الجمع بينها وبين تلك
التي تقوم عليها الفلسفات البرجوازية، فلسفته هي بمعنى معين نوع من «السلفية»
المتقشفة الصارمة، التي ترجع إلى المنبع وتنبذ التحريفات. ولكنها تقوم في الوقت
ذاته بحركة مزدوجة؛ فهي في رجوعها إلى المنبع لا تكتفي بلعبة الاقتباس
والاستشهاد بالنصوص، وهي اللعبة التي يندفع إليها كثير من الماركسيين، إما عن
عجز منهم عن التفكير المستقل، وإما عن تقصير في متابعة تيارات الفكر التي أعقبت
ظهور المؤلفات الأساسية للماركسية، وإما نتيجة الانشغال بالكفاح السياسي، ورغبة
في خدمة الاعتبارات العلمية والكفاحية قبل أية اعتبارات أخرى. بل إن ألتوسير
يعود إلى الأصول مزودًا بكل إنجازات الفكر والعلم المعاصر، ويستخدم في فهم
النصوص أحدث أدوات التحليل الفكري التي عُرِفَت في النصف الثاني من القرن
العشرين، وخاصةً تلك التي تحققت في العلوم الإنسانية التي امتد إليها تأثير
العلم الطبيعي، كعلم اللغويات المرتكز على فكرة البناء، والتحليل النفسي الجديد
المتأثر بهذه الفكرة نفسها، مما أتاح إلقاء جديد على موضوعه من زوايا حديثة
متعددة. وهكذا يمثل تفكيره عودة إلى المنبع وقفزة إلى الأمام في آنٍ واحد، وهو
— فضلًا عن ذلك — لا يتجاهل المشكلات السياسية التي تشغل الماركسيين في الوقت
الحاضر، وكل ما في الأمر أنه يؤكد الحاجة إلى منهج يتمشى مع الاتجاه الأساسي
لماركس، ويتيح لنا معرفة الواقع بطريقة علمية، فهو ينظر إلى الماركسية بوصفها
علمًا يأخذ هو على عاتقه صياغة قوانينه الأساسية، عن طريق هذه القوانين يمكن
التصدي للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر بثقة والإتيان بحلول أصيلة
لها.
على أن من الخطأ أن ننظر إلى هذه العودة إلى المنبع على أنها مجرد شرح وإيضاح
لفكر ماركس، فمرحلة الشرح قد تم تجاوزها منذ وقت طويل، بل لقد أصبحت كثرة
الشروح المباشرة وتكرارها الممل مشكلة من المشكلات التي تواجه الفكر الماركسي.
وكان من الضروري أن تأتي بعد ذلك مرحلة تقديم ذلك الفكر بطريقة منهجية جديدة،
وإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الجديدة التي تم اكتسابها في ميادين متعددة. بل
إن نصيب الفكر المبتكر الخلَّاق في أعماق ألتوسير لا يقل عن نصيب الكتابات
الأصيلة التي يقوم بتفسيرها، فإذا تذكَّر المرء ذلك المستوى الهابط الذي
قُدِّمَت به الماركسية في كثير من الشروح المباشرة — التي امتلأت بالدعايات
الساذجة وسطَّحت تفكير الفيلسوف نفسه — أمكنه أن يقدِّر أهمية العمل الذي قام
به ألتوسير، الذي بعث حياة جديدة في الفكر الماركسي، و«أثبت أن المفكر يستطيع
أن يكون ماركسيًّا وخلَّاقًا في الوقت ذاته.»
٣٦
ولقد كانت نقطة البداية الطبيعية في هذا الخلق الجديد للماركسية، هي نقد
الاتجاهات السائدة في تفسير الماركسية، لا في عصره فقط، بل منذ أن ظهر ذلك
المذهب؛ ذلك لأن هناك تفسيرًا شائعًا، له سمات محددة لا يكاد يشك فيها أحد، وهو
تفسير تفقد فيه الماركسية أصالتها وتتحول إلى مجرد امتداد للهيجلية. هذا
التفسير هو الذي أخذ ألتوسير على عاتقه مهمة نقده، بعد أن أطلق عليه اسم
«الماركسية السوقية أو العامية marxisme
vulgair»، فعلى أي نحو انتقد ألتوسير هذا التفسير
الشائع؟
في التفسير الشائع للماركسية تأكيد مفرط لتأثير هيجل في ماركس؛ فالماركسية
تُصَوَّر على أنها فرع من شجرة متعددة الأغصان، هي الهيجلية التي سارت
إمداداتها — من بعدها — في اتجاهات اليمين والوسط واليسار. وهذا الأصل الهيجلي
هو مصدر الخطأ الأكبر في الفهم الشائع؛ إذ إنه يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى لم
تكن هي التي تميزت بها هذه الفلسفة، ولم تكن هي موضع الجدة والأصالة
فيها.
والواقع أن نظرة ماركس إلى الفكر تؤدي — منذ البداية — إلى افترق طريقه عن
هيجل على نحو حاسم، فماركس لم يعرف ذلك الفكر المكتفي بنفسه، الذي هو أبرز
السمات عند هيجل، وإذا كان الفكر والواقع عند هيجل يمتزجان في بوتقة واحدة، فإن
هذا الامتزاج يتم عن طريق إضفاء الصبغة الفكرية على الواقع. وحين يقول هيجل: إن
«كل واقع معقول، وكل معقول واقع»، فإن أساس قوله هذا هو طريقته الخاصة في إضفاء
الطابع الفكري على الواقع؛ بحيث يكون الفكر هو الطرف الثابت، والواقع هو الطرف
الذي يتشكل وفقًا للفكر، والذي لا نفهمه إلا من حيث هو تعبير عن مقولات فكرية.
أما في حالة ماركس فإن نقطة البداية مختلفة اختلافًا جذريًّا؛ إذ إن التفكير
عنده نوع من الإنتاج أو الإحداث، والفكر «ممارسة نظرية
Pratique théorique» لا تنتج عن جهد
الذات الفردية بقدر ما تكون حصيلة تفاعلات بين الذات وبيئتها التي تدخل فيها
عوامل اجتماعية وتاريخية،
٣٧ بل إن كل معرفة إنما هي نوع من الإنتاج، يقوم به المجتمع مثلما
يقوم بإنتاج الثروة، والنظام الذي يخضع له «الإنتاج» في الحالتين متشابه. ولا
شك أن هذه النظرة إلى الفكر بوصفه ناتجًا اجتماعيًّا خاضعًا لشروط مشابهة لتلك
التي تخضع لها النواتج الاجتماعية الأخرى تشكل فارقًا أساسيًّا ينبغي أن يؤخذ
في الاعتبار قبل أية محاولة للمقارنة بين فكر هيجل وماركس.
فإذا انتقلنا إلى مضمون فلسفة هيجل؛ وجدنا أن الرأي الشائع في هذا الصدد هو
أن ماركس قد اقتبس الجدل الهيجلي على ما هو عليه، وإن كان قد جعله يعتدل بعد أن
كان مقلوبًا، واستخدمه في فهم الواقع المادي بعد أن كان يُسْتَخْدَم في تحديد
مسار حركة الفكر؛ على أن ماركس قد افترق عن هيجل افتراقًا تامًّا في تصوُّره
لفكرة التناقض التي هي الفكرة المركزية في الجدل الهيجلي؛ فالحركة الجدلية تتم
في الإطار الهيجلي عن طريق السلب الذي يُعْرَض علينا، كما لو كان يتضمن قوة
خفية تؤدي إلى التحريك. ويبدو أن في قلب الجدل الهيجلي إيمانًا بنوع من الغائية
الغامضة تتمثل في تلك الدينامية المنبعثة عن التناقض، والتي تدفع بالفكر إلى
الأمام نحو مزيد من التعقيد، وتصل بهذا الفكر في النهاية إلى غايته المرسومة
مقدمًا. وحين يقتبس الماركسيون التقليديون هذا التصور الهيجلي للجدل، ويطبقونه
على مسار التاريخ، يصورون هذا المسار كما لو كان صراعًا مستمرًّا بين الأبيض
والأسود، يقوم فيه ملاك طاهر (هو المركب) بالتوفيق بينهما، مع إلحاق الهزيمة —
جزئيًّا على الأقل — بالأسود. وهذا التبسيط هو ما يعترض عليه ألتوسير، ويراه
تزييفًا مثاليًّا لفكر ماركس.
والواقع أن ماركس، كما يفهمه ألتوسير، لم يكن مجرد ناقد لهيجل أو مصحح له،
اكتفى باقتباس الجدل منه مع إيقافه على قدميه بدلًا من رأسه. بل إنه أزال الزيف
الهيجلي المثالي وأعاد إلى الحقيقة طابعها المعقد المتشابك، ولم يكن استمرارًا
لهيجل، بل كانت مهمته الرئيسية هي تفنيده وتبديد أساطيره. وهكذا لم تكن نقطة
بداية ماركس هي الرغبة في إكمال مسار هيجل بعد تصحيحه، وإنما كانت هي «العودة
إلى الوراء»، إلى التاريخ الحقيقي الذي شوَّهته الأيديولوجية الألمانية وبخاصة
عند هيجل، وإلى العناصر التي حُرِّفت في مذهب هيجل؛ ومن هنا فإن من الخطأ النظر
إلى العلاقة بين ماركس وهيجل في ضوء فكرة «التجاوز والرفع Aufhebung» الهيجلية؛ لأن ماركس لم يقوِّم أخطاء هيجل،
وإنما بدَّد أوهامه، وعاد إلى الوراء من الوهم المتبدد إلى الواقع الذي لم
يتنبه إليه هيجل؛ أي إلى الأسس العينية للحياة الاجتماعية، كما تتمثل في
التاريخ والاقتصادي السياسي والاجتماع. فهو بالاختصار قد اقتحم أرضًا جديدة
واستمد تفكيره من مصادر مغايرة لتلك التي انطلق منها هيجل.
ولو قارن المرء بين ما قام به هيجل بالنسبة إلى السابقين عليه، وما قام به
ماركس بالنسبة إلى هيجل؛ لأدرك الفرق بوضوح؛ فهيجل قد تجاوز بالفعل كلًّا من
اسبينوزا وكانْت «وفشته»، ولكن هذا كان تجاوزًا ينطبق عليه لفظ
Aufhebung؛ إذ إنه واصل السير في نفس طريق
الفلسفة التأملية النظرية الذي سلكوه، واحتفظ بواحدية اسبينوزا وبالذات الفعالة
عند كانْت وفشته، مع تجاوزه للنظرة الأحادية الجانب عند كلٍّ منهم،
٣٨ أما في حالة علاقة ماركس بهيجل فإن الأمر يختلف؛ إذ إنه اتخذ لنفسه
منذ البداية طريقًا مختلفًا، وتخلى عن الوظيفة التأملية للفكر لكي يربط بينه
وبين الممارسة العلمية ربطًا أساسيًّا، وجعل للتفكير مهمة مغايرة لكلِّ مَن
سبقه، هي مهمة تغيير العالم لا مجرد تفسيره؛ أي إنه بدلًا من أن يرتفع بتأملات
هيجل إلى مستوًى أعلى قد فجَّر مذهبه من أساسه.
على أن هذا لا يعني أن ماركس قد انفصل بفكره عن هيجل من أول عهده بالتأليف.
فهناك قدر من الصواب في الرأي القائل: إنه قد بدأ هيجليًّا. ولكن المهم أن نفرق
بين الفترة التي كان فيها ماركس دائرًا في فلك «الإشكال الهيجلي
la probématique Hegelinre» وتلك التي
أصبح له فيها إطاره الفكري الخاص، الذي يتسم بالانضباط العلمي، وتنطبق عليه
المقولات البنائية؛ لذلك يقسم ألتوسير تفكير ماركس إلى مراحل: مرحلة الشباب
(١٨٤٠–١٨٤٤م)، ومرحلة الانفصال أو الاعتزال
coupure٣٩ (١٨٤٥م)، ومرحلة النضج
(١٨٤٥–١٨٥٧م وما بعدها)؛ ففي المرحلة الأولى التي يمكن تسميتها بالمرحلة
الأنثروبولوجية، كان اهتمام ماركس منصبًّا على الإنسان. وكان متأثرًا بفوير باخ
عندما جعل هدفه هو أن يحقق للإنسان ماهيته الأصيلة ومتأثرًا بهيجل في مصطلحاته
وطريقته التأملية في تقديم الحجج وحديثه كفيلسوف تجريدي. أما بعدَ «الاعتزال»
فقد أصبح يُعِدُّ المرحلة السابقة مرحلة «أيديولوجية»، وأخذ يبحث لنفسه عن
مصطلحه الخاص، وازداد اهتمامًا «بالطابع العلمي» للفكر بدلًا من طابعه
الأيديولوجي، وأصبح مدار بحثه تحليل بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن
كان تحقيق ماهية الإنسان.
في هذه المرحلة لم ينفصل ماركس، في الواقع، عن هيجل فحسب. بل إنه انفصل عن
التراث الفلسفي السابق كله. وتلك نقطة يؤكدها ألتوسير بقوة؛ إذ إن من أهم
القضايا التي يلحُّ عليها في تفسيره الخاص للماركسية، أن تفكير ماركس الناضج
كان يتسم بالجِدَّة الكاملة وكان يمثل انقطاعًا أساسيًّا
rypture بالنسبة إلى كل ما سبقه. فما هي
السمة المميزة لتفكير ماركس في هذه المرحلة الرئيسية، مرحلة الجِدة والاستقلال
عن التراث الفلسفي السابق؟
لكي يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي علينا أن نلقي الضوء على لفظٍ
محوري في لغة ألتوسير، استخدمناه منذ قليل دون إيضاح لمعناه، وهو لفظ
Problématique (مستخدمًا بوصفه اسمًا لا
صفة)؛ ففي رأي ألتوسير أن كل مذهب فكري له إشكاله الخاص، أو على الأصح: إطاره
الإشكالي المميز، الذي تدور في نطاقه كل تفاصيله وجزئياته. بل إن كل أيديولوجية
ينبغي أن تُفْهَم على أنها تؤلِّف كلًّا تجمعه وحدة باطنة، هي وحدة ذلك الإطار
الإشكالي أو التساؤلي الذي تتصدى للإجابة عنه، والذي تنفرد به عن غيرها، ويشكل
البؤرة المركزية المميزة لتكوينها النظري،
٤٠ وسيان أن ننظر إلى هذا المحور الأساسي في ضوء تشبيه الإطار؛ بحيث
يكون هو الهيكل الذي تندرج «في داخله» كل التفاصيل ولا تُفْهَم إلا من خلاله،
أو في ضوء تشبيه النواة المركزية؛ بحيث تكون هذه التفاصيل دائرة «حوله» ومتجهة
نحوه، فإن المهم في الأمر أن فهم هذا المحور أساسي من أجل الوصول إلى معنى كل
قضية من القضايا التي تثار في المذهب أو الأيديولوجية المعينة.
على أنه لا يتعين أن يكون المفكر على وعي بالإطار الإشكالي الذي يدور في
داخله تفكيره، أو أن يصرح به في كتاباته بوضوح. بل إن هذه هي مهمة المفسر الذي
ينبغي عليه أن يستخلصه من كتابات بطريقة ضمنية، وأن يقرأ ما بين السطور، ولا
يكفي بما هو مصرح به. وفي كثير من الأحيان لا يكون السؤال الأساسي أو المحوري
هو ذلك الذي «يبدو» بارزًا في كتابات الفيلسوف؛ ففي كتاب «رأس المال» يبدو أن
الفكرة الرئيسية هي فكرة العمل وعلاقته برأس المال. ولكن التفسير الصحيح في رأي
ألتوسير ينبغي أن يرتكز على التقابل بين القيمة والقيمة الاستعمالية valeur d’usage وعلى فكرة فائض
القيمة، ومن هاتين الفكرتين يستخلص «البناء» الأساسي الذي أخذ ماركس يطوره
وينميه طوال الأجزاء الثلاثة من كتابه الرئيسي، بغضِّ النظر عن الترتيب الفعلي
الذي سار عليه من جزء إلى آخر.
هذا «البناء» المميز للماركسية ذو طابع موضوعي، أصبحت بفضله الماركسية
«علمًا» بالمعنى الصحيح. أما تفسير الماركسية من خلال كتابات الشباب التي كانت
تنظر إلى الإنسان بوصفه الموضوع الأساسي للبحث، وتعدُّه المحرك الوحيد للتاريخ،
وتركز جهودها على تحقيق صورة مُثلَى للإنسانية، فأقل ما يقال عنه إنه يصبغ
الماركسية بصبغة رومانتيكية تضيع معها علميتها وموضعيتها وانضباطها، فأصل البحث
الماركسي ومحوره هو ذلك البناء الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمل الإنسان في
طياته، والذي يساعدنا — إذا شئنا — على أن نفهم الإنسان في داخله، وإن لم يكن
مستمدًّا من المقولات الإنسانية؛ لأنه يتعلق بحقيقة مستقلة عنها، لها قوانينها
الموضوعية، شأنها شأن أي بناء آخر. وكل تحليلات ماركس للصراع الطبقي من هذا
النوع المرتكز على قوانين بنائية تنتمي إلى تركيب المجتمع ذاته، وتفرض نفسها
على الإنسان.
ولكي يعمل ألتوسير حسابًا لهذا البناء المعقد الذي هو محور التساؤل ومدار
البحث عند ماركس، كان من الضروري أن يتجاوز المفهوم الساذج للحتمية الاقتصادية،
الذي روَّجت له الماركسية العامية. فهذا التفسير الساذج يرد كلَّ شيءٍ إلى عامل
واحد، هو العامل الاقتصادي، ويقول بوجود علاقة سببية مباشرة بين البناء الأدنى
والبناء الأعلى، ويغفل التعقد الشديد للواقع، واستحالة تطبيق مثل هذه الحتمية
المباشرة ذات الاتجاه الواحد في مجال معقد كذلك الذي تصدت له الماركسية. وفي
مقابل ذلك يقول ألتوسير: إن نوع الحتمية الوحيد الذي يمكن تصوره في هذا المجال
هو ما يسميه بالحتمية المتبادلة أو المعقدة
surdétermination، فمن الخطأ في نظره تفسير
ماركس على أساس القول بعنصر رئيسي ذي طبيعة اقتصادية تخضع له كل العناصر الأخرى
التي تُعَد «ثانوية» بالقياس إليه. بل إن الحقيقة الأصلية معقدة بطبيعتها،
والحتمية فيها متبادلة دون أفضلية لواحد من عناصرها على الآخرين. وهكذا يستخدم
ألتوسير مقولة فكرية تلائم تعقُّد الموضوع الذي يبحثه، ويستعين بمعطيات ذهنية
جديدة يراها أصلح للتعبير عن المعقولية الكامنة في الماركسية، وكما أن علماء
الفيزياء أدركوا — في مطلع القرن العشرين — أن الحتمية المباشرة ذات الاتجاه
الواحد لا تصلح للتعبير عن سلوك الجزئيات في المجال الذري، وأدخلوا مفاهيم
جديدة تحفظ لهذا المجال طابعه الموضوعي، وتعمل في الوقت ذاته حسابًا لتعقده
وتشابكه، فكذلك يفسر ألتوسير الماركسية على أساس فكرة العلية المتعددة الجوانب،
التي لا يكون فيها مركز مميز لأي عنصر بعينه من عناصرها؛ فالأسباب أو العلل في
المجال الاجتماعي شديدة التعقيد، والحركة لا تتولد فيه عن طريق إضافة الأسباب
بعضها إلى بعض خلال مسارها، وهي تمارس تأثيرها على المستويات المختلفة،
٤١ وبذلك يتسع نطاق المعقولية على نحو يتجاوز بكثير الفهم التقليدي
للحتمية الاقتصادية.
وليس من المرء بحاجة إلى تفكير طويل لكي يدرك مدى تأثير فكرة «البناء» على
مفهوم «العلية المتبادلة» عند ألتوسير، فهذه الفكرة هي التي تتيح فهم التفاعلات
المتبادلة الكثيرة التي تحدث على مستويات مختلفة للواقع الاجتماعي. ولا شك أن
ألتوسير قد أضاف إلى الماركسية بُعْدًا عميقًا حين استخدم، في تفسيره الفلسفي،
مفاهيم جديدة توصلت إليها البحوث العلمية المعاصرة، فاستطاع بذلك أن يحقق ما
عجزت عنه أدوات التفكير الكلاسيكية، وتمكَّن من الإحاطة على نحو أكمل بالعلاقة
البالغة التعقيد بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، متجنبًا ذلك التبسيط
المُخِل الذي كانت الماركسية العامية مهددة دائمًا بالوقوع فيه.
وعلى الرغم من أن كتابات ماركس لم تعبر عن هذا الاتجاه إلا بصورة ضمنية، فقد
كانت فيها بذور مؤكدة أكن تنميتها فيما بعد، فعلى حين أن بعض الماركسيين
يعتقدون أن كل مجتمع بشري ينبغي أن يمر بنفس المراحل المحددة: من البدائية إلى
الرق ثم الإقطاع وبعده الرأسمالية؛ لينتهي إلى الاشتراكية، فإن كتابات ماركس
ذاتها قد تضمنت ما يوحي لنا بتفسير مخالف، يساعد على كشف ما هو مميز لكل مجتمع،
ولا ينظر إلى التاريخ بنظرة تراكمية تؤدي فيها كل حضارة إلى ظهور حضارة أخرى
تمر بنفس المراحل، ويتمثل هذا التفسير المخالف في تنبيه ماركس إلى ما أُطْلِقَ
عليه اسم «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، الذي يدل على رغبته في فهم واقع الشعوب
الآسيوية، وكثير من المجتمعات التي نطلق عليها اليوم اسم «العالم الثالث» دون
الحاجة إلى وضعها في قوالب أوروبية أو تأكيد انطباق مقولات التاريخ الأوروبي
عليها بطريقة مبسطة موحدة الاتجاه، وما هذا إلا مثل واحد يدل على أن كتابات
ماركس كانت تتضمن بالفعل بذورًا لنظرة جديدة إلى الحتمية، مخالفة للحتمية
المبسطة ذات الاتجاه الواحد، التي اعتاد الماركسيون اللاحقون أن ينسبوها
إليه.
بقي أمامنا في هذا العرض الذي نقدمه لتفسير ألتوسير البنائي للماركسية سؤال
أخير، هو: هل نجح هذا التفسير بالفعل في تجاوز كل العقبات التي تقف في وجه
التفسير التقليدي للماركسية؟ وهل تمكن من أن يعبِّر — على نحو جامع — عن
الماهية الأصلية لتفكير ماركس؟ من المؤكد أن ألتوسير مفكر قدير، متمكن من مادته
ومن أسلوبه، وأن عمقه قد أفاد الماركسية كثيرًا في إنقاذها من خطر «التسطيح»
الذي تتعرض له على يد التفسيرات المفرطة في التبسيط. ولكن المشكلة في أمثال هذه
التفسيرات المتعمقة هي أنها أحيانًا تقوم بعملية «إسقاط» تطغى فيها أفكار
المفسر ذاته على الفيلسوف الذي تفسره، كما أنها قد تضطر — من أجل الاحتفاظ
بتماسكها الداخلي — إلى تجاهل بعض الحقائق الأساسية التي تقف عقبة في وجهها،
ويبدو أن ألتوسير معرض للوقوع في أخطاء من هذين النوعين.
ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه — في هذا الصدد — هو الاتجاه العام لتفسير
ماركس عن ألتوسير، فهو يريد أن يثبت أن الإطار الذي وضعه ماركس لتفكيره كان
جديدًا كل الجِدَّة، وربما كان من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت مبادئ الماركسية
ذاتها تسمح بوجود إطار جديد كل الجِدَّة لدى أي مفكر؛ ذلك لأن هذا معناه أن
يكون المفكر مختلفًا عن كل السابقين غير متأثر بهم، فهل تعد هذه النظرة إلى
تطور الفكر، التي تؤكد وجود حالات «انقطاع» حاسم فيه، وتنكر الاتصال التاريخي
بالنسبة إلى هذه الحالات بعينها، وتقول بإمكان وجود بداية مطلقة في الفكر؛ هل
تعد هذه النظرة متمشية مع وجهة النظر الماركسية ذاتها في تطور الفكر؟ أشك
كثيرًا في أن يكون الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب.
وفي سبيل تأكيد هذه البداية المطلقة، أنكر ألتوسير أن يكون ماركس قد تأثر —
في مرحلة نضوجه — بالمقولات الفكرية الهيجلية، وتلك نقطة أخرى لا يمكن قبولها
بسهولة. وكانت هي على وجه التحديد من أكثر النقاط التي اعترض عليها ماركسيون
آخرون من نقاد ألتوسير؛ ذلك لأن ألتوسير تجاهل هنا أن ماركس نفسه قد شهد في
كتاباته بتأثير المنهج الديكالتيكي الهيجلي عليه، وبأنه قد اقتبسه بعد أن أعاده
من وضعه المقلوب إلى وضع الاعتدال، كما تجاهل لغة ماركس التي ظلت هيجلية حتى
كتاب «الأيديولوجية الألمانية» على الأقل، وتجاهل تأكيد ماركس أن هيجل هو الذي
قدم إليه الأداة المنطقية التي تمكن بواسطتها من الانتقال من أبسط العلاقات
وأقربها إلى الطابع المباشر — أي العلاقة بين شخصين في التعامل بسلعة معينة —
إلى النقد العام للنظام الرأسمالي بأسره، متبعًا نفس المنهج الذي اتبعه هيجل في
انتقاله من أبسط المفاهيم حتى أعقدها، في كتابي «المنطق» و«ظاهريات الروح»،
وتجاهل أخيرًا كل ما قاله لينين بعد ذلك عن أهمية هيجل واستحالة فهم ماركس دون
دراسة منطق هيجل، والأمر الذي أتاح له هذا التجاهل هو تلك التفرقة التي وضعها
بين ما عبر ماركس عنه صراحةً وعن وعي، وما كان ماركس يعنيه بالفعل، فهو لا
يكترث بالتصريحات الفعلية بقدر ما يهتم بالمعاني الضمنية التي لا تُفْهَم إلا
من خلال دراسة «النسق» الفكري لكتاباته وتحليل بنائها، بغية الوصول إلى دلالتها
التي تظهر على السطح الخارجي. وهكذا كان ألتوسير يقلل من شأن تأكيد ماركس أنه
قلب الجدل الهيجلي رأسًا على عقب، ويصفه أنه مجرد مجاز لفظي، وهي طريقة في
التفسير يمكن أن تؤدي إلى أية نتائج يريدها المرء، ما دام لا يقيم وزنًا لما
يقوله المفكر نفسه، وأما عن شهادة لينين، فمن الملاحظ أن ألتوسير قد قام بنفس
هذا العمل عن لينين نفسه (في كتاب «لينين
والفلسفة
Lenine et la
philosophie»)؛ أي إنه فسره تفسيرًا «علميًّا» مبالغًا فيه،
وتجاهل الارتباط الوثيق بين البناء الشكلي والمضمون الفلسفي في كتاباته، كما
تجاهل المضمون الثوري الذي ينبغي للمرء أن يعمل حسابه في كل قراءة لتلك
الكتابات، إلى جانب ما فيها من شكل علمي خارجي.
٤٢
والواقع أن حرص ألتوسير الشديد على كشف «البناء» العلمي المنضبط في كتابات
ماركس، قد أدى به إلى السير في متعرجات الاستدلال الفلسفي، التي يتوه فيها
القارئ معه دون أن يعرف كيف يعود إلى الواقع الذي بدأ منه. وفي خلال هذا المسار
المتعرج، والذي ينبغي أن نعترف لألتوسير بالقدرة على سلوكه دون أن يفقد الخيط
الجامع بين أطراف براهينه، وبالتمكن التام من شاد الاستدلالات تجريدًا، في خلال
ذلك يحس القارئ بأن النهاية شيء والبداية شيء آخر، وبأن البناء الشكلي للتفسير
أخذ يطغى بالتدريج على المضمون الفكري، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى مجرد
الاستمتاع بالجمال الشكلي لهذا البناء مع نسيان الهدف الأصلي الذي كان ماركس
يضعه نُصْبَ عينيه في كل ما كتب.
أما هذا الهدف الأصلي، فهو الإنسان أولًا وأخيرًا، ومهما قيل عن وجود بناء
علمي موضوعي لا شأن له بالاعتبارات العاطفية الإنسانية عند ماركس (وكثير من هذا
الذي يقال صحيح)، فإن كل بناء شيده ماركس كان له — في النهاية — هدف إنساني.
صحيح أن ماركس قد استبعد الاعتبارات العاطفية من تفكيره، ولم يكن في مرحلته
الناضجة يهتم بتحقيق صورة مثالية للإنسان بقدر ما كان يهتم بكشف القوانين
العلمية الموضوعية للعلاقات الاجتماعية التي تعلو على الأشخاص، كل هذا صحيح.
ولكن هذه الحجج «العلمية» كلها كانت تستهدف — آخر الأمر — القيام بثورة
«إنسانية» تؤدي إلى إقامة علاقات اجتماعية يختفي فيها استغلال الإنسان للإنسان،
ولو لم يتذكر المرء هذا الهدف النهائي للماركسية على الدوام؛ لكان — على حد
تعبير أحد نقاد ألتوسير — كالمستجير من دجماطيقية النزعة الإنسانية بدجماطيقية
أخرى أفدح وأخطر، هي دجماطيقية الشكلية التجريدية.
٤٣
والواقع أن ألتوسير كان على حق في محاولته تخليص فكر ماركس من التشويهات التي
أصابته على يد أولئك الذين كان هدفهم الأوحد تحقيق غايات علمية وبرجماتية؛ بحيث
نسبوا إليه نزعة إنسانية شبه مثالية لكي يرضوا مجتمعًا متشبعًا بالأفكار
والمبادئ الليبرالية، ويقربوا أفكاره إلى عقول الناس في مثل هذا المجتمع، وبهذا
المعنى كان تفسير ألتوسير نوعًا من العودة إلى الأصالة بعد التشويهات العملية،
التي لا تقيم وزنًا كبيرًا للمذهب في صورته النقية، ولا يملك المرء إلا أن
يتعرف بأن ألتوسير كان على حق — ولو بصورة جزئية — حين هاجم أولئك الذين
انطلقوا — في تفسيرهم لماركس — من مفهوم مجرد للإنسان، وارتكزوا على مفاهيم مثل
«الاغتراب» لم يحاولوا أن يربطوها بجذور اجتماعية ملموسة. وكان على حق حين أكد
أن العلم الإنساني الذي شيَّده ماركس في «رأس المال» لم ينطلق من مفهوم
الإنسان، حتى لو كان ذلك هو الإنسان الواقعي في علاقاته الإنتاجية المحددة، بل
انطلق من تحليل بناء الإنتاج ومن فكرة الطبقات الاجتماعية. ومن القوانين
الموضوعية للاقتصاد التي توجد مستقلة عن وعي الإنسان بها، بل وتتحكم في هذا
الوعي.
ولكن عندما يصل الأمر بهذا التفسير إلى رفع شعار «موت الإنسان» (بالمعنى
المحدد في الفقرة السابقة)، فإن المرء لا يملك إلا أن يُعِدَّ هذا تطرفًا غير
مشروع؛ فالقضية الكامنة من وراء هذا الشعار — وهي أن هناك تعارضًا بين الاعتراف
بالإنسان كنقطة بداية للبحث، وبين الوصول إلى الحقائق الموضوعية للمجتمع — هي
ذاتها قضية مشكوك فيها إلى حد بعيد، وإذا كانت تلك الحقائق الموضوعية الذي ركز
عليها ألتوسير تفسيره هي البناء الطبقي وعلاقات الإنتاج وقوانينها اللاشخصية،
فمن المهم أن نذكر أن عملية الإنتاج نفسها عملية إنسانية، بل هي التي تميز
الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا «تنتج» شيئًا لكي تعيش، وتلك حقيقة أكَّدها
ماركس نفسه، وخطورة هذا التطرف في التفسير تكمن في أنه يصور الأمر كما لو كانت
في المجتمع قوى تعمل بذاتها — بصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة — على نحو
مستقل عن الإنسان الذي هو في نهاية الأمر صانعها وسبب وجودها.
ولذلك نعتقد أن «ميلو
Milhau» كان على حق
حين انتقد تطرف ألتوسير في إنكار النزعة الإنسانية بقوله: «إذا اعترفنا بأن
الماركسية منظورًا إليها على أنها تصور علمي لتطور المجتمع لم تكن نزعة إنسانية
بمعنى نظرية تستمد نقطة انطلاقها من الإنسان، وإذا سلَّمنا بأنها على عكس ذلك،
هي الدراسة العلمية لتطور المجتمع في تحديداته الذاتية والموضوعية، فإنه يظل من
الصحيح رغم ذلك أن هناك نزعة إنسانية ماركسية تعبر عن أماني الطبقات المضطهدة
في صراعها من أجل التحرر. هذه النزعة الإنسانية ليست إضافة ذات طابع روحي تلصق
أو تلحق بنظرية علمية، بل هي تركز نظريًّا على حقيقة واقعة، هي وجود أفراد من
البشر يسلكون في العمل المنتج وفي صراع الطبقات بكل أشكاله وفقًا لشروط محددة
لا تتوقف عليهم، وتترتب على سلوكهم هذا تغييرات على مستويات متعددة، سواء أكان
سلوكهم واعيًا أم لم يكن، وسواء أكانت هذه التغيرات متعمدة أم لم تكن، وهذه
التغيرات بدورها تتخذ موضوعًا لدراسات تجريبية وعينية، وفقًا لمقولات المادية
التاريخية، (مما يؤدي إلى ظهور) دراسة إنسانية علمية لا يمكن أن تستمد مبادئها
إلا من المادية الجدلية والمادية التاريخية مفهومتين بمعناهما الشامل.»
٤٤
وهكذا يكون من الممكن التوفيق بين الاهتمام بالقوانين الموضوعية للمجتمع
والاهتمام بالإنسان. أما حين يصل الأمر عند ألتوسير إلى حد استبعاد مفاهيم
أساسية عند ماركس، مثل مفهوم النزعة الإنسانية والاغتراب و«البراكسيس» والنزعة
التاريخية على أساس أنها كلها تمثل مرحلة «أيديولوجية» سابقة على الماركسية
الناضجة، وعلى أساس أنها تشكل عقبة في وجه الفهم البنائي العقلاني للمجتمع، فإن
هذا يعني أن صاحب هذا التفسير لا يتحدث عن ماركس الحقيقي بقدر ما يتحدث عن
ماركس كما يتلاءم مع تفكير المفسر ذاته؛ أعني ماركس التجريدي الذي وضع الإنسان
وواقعه العيني «بين قوسين»، واكتفى ببناء طاغ على الإنسان، ولتحقيق ذلك لجأ
ألتوسير إلى التمييز بين ما قاله ماركس فعلًا، وما كان يعنيه «حقيقة» ولكن
بصورة ضمنية، ومثل هذا التمييز بين التعبير الصريح للمفكر وبين «ما يقصده
بالفعل» هو دائمًا محفوف بالخطر، يكون من الصعب معه وضع حد فاصل بين التفكير
الأصلي للفيلسوف المراد تفسيره، وبين الاتجاهات الخاصة التي يريد المفسر —
بناءً على تكوينه الفكري الخاص — أن ينسبها إليه، وبقدر ما يكون في مثل هذا
التفسير من جِدَّة ومن أصالة — وهي صفات تتوافر في ألتوسير بغير شك — فإنه يظل
على الدوام معرضًا للانحراف عن نقط البداية التي انطلق منها، ولفقدان الطريق
الموصل إلى حل للمشكلات التي بدأ بالتصدي لها.
خاتمة: البنائية والإنسانية
لم يكن ألتوسير هو الفيلسوف البنائي الوحيد الذي وُجِّهت إليه تهمة إنكار الإنسان
من أجل تأكيد نسق أو بناء يعلو عليه ويتجاوزه، فواقع الأمر هو أن البنائية — في شتى
اتجاهاتها — معرضة لهذا الاتهام، وبعض ممثليها لا ينكره ولا يجد فيه ما يدعوه إلى
اتخاذ موقف الدفاع عن نفسه. وفي البنائية — كمذهب — اتجاه عام إلى تأكيد طغيان
النسق على الإنسان؛ بحيث يعجز الإنسان عن التحكم في نشأته أو في غايته، ولا يتبقى
أمامه إلا إخضاع دراسة الإنسان للمعقولية والموضوعية الكاملة هو الذي بدا — في نظر
الكثيرين — مهددًا للإنسان نفسه؛ بحيث تبلورت حوله كل الانتقادات التي وُجِّهَت إلى
البنائية من شتى الاتجاهات.
ولعل أبرز العناصر التي انصبَّ عليها هجوم نقاد البنائية، هو نظرتها السكونية
Statique إلى الإنسان وإلى تاريخه، فعلى قدر
نجاح البنائية في التعبير «التكوين الثابت» للإنسان عبر العصور المختلفة، نجدها
تخفق في تعليل التطور والتقدم، وتكاد تذهب إلى حد القول بأن الاعتقاد بالتقدم وهم،
وبأن التحديدات التاريخية سراب خداع، ويترتب على هذه النظرة السكونية عجز البنائية
عن تفسير «منشأ» البناءات التي تدور حولها أبحاثها، وعن تفسير كيفية الانتقال من
مرحلة إلى أخرى، أو من بناءٍ إلى آخر؛ ففي أبحاث ستروس — التي استهدفت الوصول إلى
التكوين الثابت للعقل من خلال الدراسة الأنثروبولوجية للحضارة، نعجز عن تعليل كيفية
ظهور هذا العقل أو نشوئه، ويبدو وكأن هذا العقل كان «هناك» على الدوام، كما نعجز عن
تفسير تحول هذا العقل إلى صورته الحديثة التي أنتجت العلم وأنتجت البنائية ذاتها
مظهرًا من مظاهر العلم. وفي تحليلات ألتوسير ينصبُّ التأكيد على فهم العناصر المتزامنة
synchroniques. أما الانتقال من أسلوب
في الإنتاج إلى آخر، والطريقة التي تكوَّن بها هذا الأسلوب في فترة تاريخية معينة،
فهذا ما نعجز عن الاهتداء إليه في نطاق أبحاثه؛ أي إن ألتوسير بدوره لا يقدم
تعليلًا كافيًا «لمنشأ» الظواهر التي يبحثها، أو «لنقاط التحول» التاريخية الحاسمة
التي تطرأ عليها، والتي يتعين إذا شئنا تفسيرها أن نخرج عن النطاق الذي تقيَّد به
ألتوسير، ونعود إلى البشر والإطار الذهني الذي كانوا يعيشون فيه. أما «فوكو» فكان
إنكاره للتاريخ صريحًا. بل إنه يتجنب كل ما له صلة بمقولات التغير والتحول، ولا يرى
في كل مرحلة تاريخية إلا ثوابها فحسب، ويصل به الأمر إلى حد التشكيك في مفهوم
«الإنسان» نفسه، من حيث هو مفهوم يصلح لإقامة دراسة علمية موضوعية، مؤكدًا أن
الإنسان ليس إلا «ثنية خفية
ride» في الرمال.
٤٥
ومن النتائج الهامة التي ترتبت على إنكار مفهوم الإنسان، وإسقاط التاريخ من
الحساب، هجوم بعض البنائيين على المفهوم الجدلي للعقل، واعترافهم بعقل واحد فقط هو
العقل التحليلي، وقد ظهر ذلك واضحًا في الفصل الذي خصَّصه ستروس لمهاجمة كتاب «نقد
العقد الجدلي» لجان بول سارتر، فهو في هذا الفصل ينكر أن يكون هناك استخدام آخر
للعقل غير الاستخدام التحليلي، ومن ثم فإن كل اتجاه إلى البحث عن منشأ الظواهر
وتاريخها وتطورها هو اتجاه ثانوي، يمكن أن يضاف إلى العقل التحليلي. ولكنه لا يمكن
أن يكون بديلًا عنه، فما يسمى بالعقل الجدلي هو الجهد الذي يبذله العقل التحليلي
عندما يريد أن يقوم بمغامرات، ويشيد الجسور ويعبرها، وينتقل من مواقعه. ولكنه ليس
على الإطلاق «نوعًا آخر» من العقل «يختلف» عن العقل التحليلي أو يحل محله، ويظل
الطابع الدائم للعقل الإنساني هو التحليل الذي يكشف عن البناءات الثابتة، والذي
يوصلنا هو وحده إلى المعقولية في فهم الظواهر.
على أن البعض الآخر من أنصار البنائية يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن المذهب ضد
هذه الاتهامات الموجهة إلى تصور البنائية للإنسان؛ ومن ثَم للتاريخ والعقل الجدلي،
وهم ينطلقون في دفاعهم هذا من مبدأين أساسيين: أولهما وجود سوء فهم لتلك المقولات
التي تتهم البنائية بأنها تنكرها، وثانيهما إمكان التوفيق بين البنائية وبين تلك
المقولات مفهومة بمعناها الصحيح.
أول هؤلاء المدافعين هو بياجيه، وقد عرضنا في مستهلِّ هذا البحث لرأيه في إمكان
التوفيق بين البنائية والنزعة التاريخية، وتساؤله عن الحكمة في إصرار البنائيين على
النظرة السكونية إلى المعرفة البشرية. وحسبنا الآن أن نعرض رأيه في النقد الذي
أشرنا إليه في النقطة الأخيرة، وأعني به تصور العقل في البنائية؛ ففي رأي بياجيه أن
ستروس كان على صواب حين قال: إن العقل الجدلي يضاف إلى العقل التحليلي وليس بديلًا
عنه، وهو بدوره يؤمن بأن كلًّا منهما طريقة خاصة في استخدام العقل. ولكنهما
متكاملان وليسا متنافرين، فمهمة العقل التحليلي في العلم هي القيام بالتحقيق
والتثبيت من صحة القضايا
verification، ومهمة العقل
الجدلي أو التركيبي هي أن يعطينا القدرة على الإبداع والتقدم، وهي قدرة يفتقر إليها
العقل التحليلي، وفي كثير من الأحيان يتم التقدم في العلم عن طريق عملية
النفي
négation التي يهدم بها العقل الجدلي
معتقدات كثيرة زائفة تعترض طريق العلم، أو ينتزع مبدأً علميًّا يعتقد الناس بصحته
المطلقة من مكانته الرفيعة، ويضع محله مبدأً آخر أكثر منه مرونة، وأقْدَر منه على
تكوين مركب يوسع نطاق العلم. وهذا ما حدث حين أنكرت الهندسة اللاإقليدية مصادرة
التوازي، مما أدى إلى قيام هندسات أشمل من هندسة إقليدس، أو حين أنكر المناطقة
المعاصرون مبدأ الثالث المرفوع، فترتب على ذلك ظهور المنطق متعدد القيم،
٤٦ وهكذا فإن بياجيه — مع اعترافه بوحدة العقل البشري وبالدور الرئيسي
للعقل التحليلي في العلم — يؤكد إمكان التوفيق بين هذا الرأي وبين أنصار العقل
الجدلي في العلم، يؤكد إمكان التوفيق بين هذا الرأي وبين أنصار العقل الجدلي، إذا
اعترفنا بأن هذا الأخير يمثل طريقة مثمرة في استخدام العقل العلمي، وأنه هو الذي
يتيح للعلم فرصة التحرك نحو أنساق أو بناءات أوسع وأشمل.
أما الاتهام القائل بتجاهل البنائية للإنسان أو للنزعة الإنسانية بوجه عام، فإن
بياجيه يرد عليه أن هذا اتهام مبني على سوء فهم لمعنى النزعة الإنسانية؛ ذلك لأن
موجهي هذه التهمة يعرفون الذات الإنسانية على طريقتهم الخاصة، ثم ينعون على
البنائية أنها تهدم هذا الذي يرون أنه هو تلك الذات، وحقيقة الأمر — في رأي بياجيه
— هي أن البنائية تفرق بين الذات الفردية — التي لا تتخذها البنائية موضوعًا للبحث
على الإطلاق — وبين «الذات المعرفية»
epistémique،
أي تلك النواة المعرفية التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوًى واحد، كذلك
تفرق البنائية بين ما تحققه الذات بالفعل، وبين ما يصل إليه وعيها، وهو محدود
بطبيعته، وما تركز عليه البنائية اهتمامها هو تلك العمليات التي تقوم بها الذات،
وتستخلصها بالتجريد من أفعالها الذهنية العامة، ومن هذه العمليات تؤلف البناءات
التي تستخدمها الذات في نشاطها العقلي الذي لا ينقطع؛ ومن هنا لم تكن عملية تكوين
البناءات واعية، ويرى بياجيه أن هناك سوء فهم يكمن وراء الاعتقاد بأن التركيز على
هذه العمليات اللاشخصية العامة — التي تتكون منها البناءات — معناه اختفاء «الذات»
الإنسانية؛ إذ إننا ها هنا في مجال العلاقات الشخصية، وإنما نحن في مجال «المعرفة».
وهذا فارق عظيم الأهمية؛ ففي مجال المعرفة نتخلى عن اتجاهنا التلقائي إلى التمركز
حول أنفسنا، ونتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون للذات وجود — بوصفها ذاتًا
عارفة — إلا بقدر ما تعمل على إيجاد مركبات بين عناصر معرفتها، وبقدر ما تكشف عن
ترابطاتها المتداخلة، التي تتولد منها البناءات،
٤٧ وبالاختصار فإن تلك الذات التي تصور سارتر في نقده أن البنائية تنكرها،
هي الذات الشخصية التي تركزت عليها فلسفته. ولكنها ليست الذات التي تشيد بناء
العلم، والتي يتحتم عليها — بحكم طبيعة عملها — أن تلجأ إلى تجريدات لا شخصية،
والتي لا نستدل على وجودها إلا من هذه التجريدات.
وعلى أية حال؛ ففي استطاعة المرء أن يدرك بسهولة أن هذا الاهتمام بالبناءات
التجريدية قد انبثق — في حالة البنائية — من دراسة متعمقة لعددٍ كبيرٍ من الظواهر
الإنسانية الأصيلة، كالأساطير والأحلام والطقوس البدائية، ولو قارنا بين موقف
البنائية وموقف الوضعية المنطقية في هذا الصدد لاتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الأحق —
بغير جدال — بأن توصف بتجاهلها للإنسان، فقد استبعدت الوضعية المنطقية — باسم العلم
أو النظرة العلمية — كل هذه الظواهر من مجال «ما له معنى»، وأَبَتْ أن تعترف لها
بأي نوع من الحقيقة؛ حرصًا منها على فهمها الخاص الشديد الضيق للحقيقة وللمعرفة
العلمية التي تنحصر فيما يقبل التحقيق verification، أما البنائية فكانت علمية بمعنى أوسع بكثير، يتسع
لأنواع من النشاط ومن التجارب الإنسانية التي ظلت تعد حتى ذلك الحين داخلة في باب
«اللامنطقي» أو «اللامعقول»، وأتاح لها هذا التوسيع لحدود النشاط العقلي أن ترد
اعتبار الإنسانية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، وهو ذلك الجزء الذي كان تسوده
الأساطير والطقوس والنظم البدائية، كما أتاح لها الوصول إلى معنى جديد للمعقولية،
وهو ذلك الذي يهتدي إلى تركيبات عقلية في تلك الظواهر التي تبدو في الظاهر أبعد ما
تكون عن العقل.
ولقد انتهى «سيباج
Sebag» في دفاع آخر عن
البنائية ضد تهمة إنكار الإنسان إلى نتيجة مماثلة ولكن من زاوية أخرى، فهو يعترف
بأن البناءات — التي هي ذات تركيب رياضي ومنطقي — يمكن أن تُفْهَمَ على أنها مستقلة
عن إنتاج الإنسان لها؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن تفسير مصدر إلا عن طريق الاعتراف بوجودها
«قبليًّا» على نحو لا يخفف من غموض المشكلة الأصلية في شيء، أو عن طريق افتراض
لاهوتي هو وجود إله يجعل تركيب الأشياء ذاتها قابلًا للحساب الرياضي
Dieu calculateur،
٤٨ وهو فرض يعبر عن العجز عن حل المشكلة؛ على أن «سيباج» يرد على هذا
النقد معترفًا بأن كل ما ينتمي إلى مجال الإنسان لا بد أن يكون من صنع الإنسان؛ ومن
ثَمَّ فلا يصح أن نتصور البنائية على أنها نظرية تجعل أصل الأنساق التي تفسر بها
الظواهر الإنسانية خارجًا عن نطاق الإنسان، فمسألة ارتباط اللغة والأسطورة والدين
والمجتمع بالإنسان ونشاطه العقلي هي مسألة لا جدال فيها. ولكن من الواجب أن نفرق
بين مقاصدنا أو نوايانا الخاصة حين نستخدم اللغة أو الأسطورة مثلًا، وبين ذلك النسق
الذي ينبغي أن نراعيه كلما نطقنا كلامًا لغويًّا أو عرضنا موضوعًا أسطوريًّا، فلكي
يكون كلامي مفهومًا ينبغي أن ألتزم قواعد معينة، وحتى لو كنت من أنصار التجديد في
اللغة فلا بد أن أخضع في هذا التجديد لمبادئ معينة في النسق اللغوي ذاته، ومعنى ذلك
أن العلاقة بين الناتج وعملية الإنتاج تصبح في هذه الحالة معكوسة؛ إذ إن الناتج (هو
النسق اللغوي) هو الذي يتحكم في عملية الإنتاج (أي التجديد اللغوي واستخدام اللغة
بوجه عام) لا العكس. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن يقال به: إن البناء يؤدي عمله على
نحو مستقل عن الإنسان،
٤٩ أما القول بوجود بناءات خارجة عن أفعال الأفراد والجماعات الإنسانية
التي تتعلق بها هذه البناءات، فإنه يعبر عن فهم مثالي مشوه للبنائية؛ إذ إنه يؤدي
إلى تجاهل العناصر والمعلومات التي لا غناء لنا عنها في ذلك الجهد النظري الذي
نبذله من أجل استخلاص البناء،
٥٠ أي إن البناء — في رأي سيباج — مستقل «فكريًّا» عن الإنسان ولكنه
«واقعيًّا» يظل مرتبطًا به ومعتمدًا عليه.
ويقف «فرانسوا شاتليه François Châtelet» موقفًا
مماثلًا في دفاعه عن البنائية ضد تهمة التشكيك في مفهوم الإنسان، والقضاء على
الحرية الإنسانية التي يقال: إنها تضيع عندما يصبح «النسق» مسيطرًا على جميع مجالات
الواقع، دون أن يترك أي مجال للمبادرة الإنسانية؛ ففي رأي «شاتليه» أن المسألة ليست
عدوانًا على حرية الإنسان، أو تشكيكًا في مفهوم الإنسان، بل هي أولًا وأخيرًا سعي
إلى «العلمية» في ميدان دراسة الإنسان، وكل سعي إلى إخضاع الظواهر الإنسانية للعلم
كان يُتَّهم في وقت ما بأنه يقضي على حرية الإنسان، ثم يتبين فيما بعد أنه يدعم هذه
الحرية إذ يساعد على مزيد من الفهم للإنسان، وكل ما تسعى البنائية إلى القضاء عليه
— في رأي شاتليه — هو تلك الطريقة غير العلمية في بحث الإنسان، التي غلبت عليها
النزعة البلاغية والإنشائية، التي كانت سائدة في البحوث الإنسانية قبل ظهور
البنائية. والواقع أنه ليس هناك ما يمنع من أن تكتسب العلوم الاجتماعية طابعًا
موضوعيًّا مماثلًا لذلك الذي نجده في العلوم الطبيعية وإن كان نوعه مختلفًا؛
فالمجتمعات البشرية ليست أَعْقَد من أن تدرس موضوعيًّا، وهي لا تعرف ذلك الخضوع
المزعوم لنزوات الحرية وتلقائيتها.
ولكي تحقق العلوم الاجتماعية هدف الموضوعية هذا، لا بد لها من أن تشيد لنفسها لغة
مجردة تعمل بها على تفسير عالم الحياة اليومية، بدلًا من أن تتحدث بلغة هذا العالم
ذاته؛ على أن كلَّ منهج يعتمد في دراسته للإنسان على التجربة الحية أو الوعي
العلمي، يتقيد بهذه اللغة اليومية؛ أي إنه يظل متعلقًا بالمظاهر بدلًا من أن يصل
إلى جوهر الظواهر الإنسانية.
ومن هنا كانت البنائية تستهدف الانتقال من بحث المظاهر الخارجية إلى ما تُطْلَق
عليه الفلسفة الكلاسيكية اسم «الماهيات»؛ وبذلك تتوصل إلى المعقولية الكامنة من
وراء التجربة العينية المعاشة؛ وعلى ذلك فإن البناءات لا تعدو أن تكون تلك المجردات
التي تتوصل بها إلى المعقولية في فهم الظواهر الإنسانية؛ أي إنها «أنساق للمعقولية
systémes d’intelligibilité»،
٥١ فعلم اللغة البنائي هو الهيكل الفكري أو التصوري الذي أمكن بفضله جعل
اللغات الفعلية معقولة، ومفهوم اللاشعور هو الإطار الفكري الذي جعل من الممكن إضفاء
مزيد من المعقولية على ممارسات الإنسان وسلوكه، وأنساق القرابة تضفي معقولية على
الظواهر المعاشة في المجتمعات البدائية، والبناء الأساسي لعلاقات الإنتاج هو التصور
الذي أصبحت بفضله ممارسات المجتمع — في نظر ماركس — معقولة. ومن المؤكد أن سعي
البنائية إلى تحقيق المعقولية في كل هذه الميادين، التي كانت خاضعة لمفاهيم غير
علمية تغذيها نزعة إنسانية تعتمد على «التجارب المعاشة»، وعلى المظاهر الخارجية
لسلوك الإنسان؛ هذا السعي إلى تحقيق المعقولية لا يحد من حرية الإنسان، ولا ينطوي
على إنكار لتصور الإنسان إلا في ظل مذهب يسيء فهم النزعة الإنسانية فحسب.
ولكن من حقنا — بعد هذا كله — أن نتساءل: هل يظل معنى النسق واحدًا في حالة
البناء الرياضي. وفي حالة البناء الإنساني الاجتماعي؟ هل يكون من المشروع تشبيه
النسق الذي يجمع بين أطراف واقعية ملموسة — كنظام القرابة أو علاقة الإنتاج —
بالنسق الذي تكون أطرافه تجريدات عقلية خالصة؟ وهل يوافق العلم على هذا التشبيه؟
يبدو أن «دوفرين
M. Dufrenne» كان على حق حين قال:
إن البنائيين وقعوا في خطأ كبير حين تصوروا أن معنى النسق واحد في الحالتين، وأن
هذا الخطأ راجع إلى أنهم — بقدر ما أرادوا التشبه بالعلم — لم يكونوا علماء بالمعنى
الصحيح؛ ولذلك كان هناك قدر من الصواب في عبارته الساخرة التي أطلقها على فلسفة
البناء أو النسق: «إن فلسفة النسق هي فلسفة للعلم وضعها أناس لم يمارسوا العلم»،
٥٢ ولكن في العبارة أيضًا قدرًا من الخطأ؛ إذ إن من يضع فلسفة للعلم لا
يتعين عليه أن يكون ممارسًا للعلم، وكل محاولات «تأسيس» العلم في الفلسفة تدخل في
هذا المضمار.
على أن السؤال الأكبر هو: هل يقنعنا دفاع البنائية عن نفسها — كما عرضنا نماذج
رئيسة له من قبل — بأن البنائية لم تتجاهل الإنسان بالفعل، ولم تضع مفهوم البناء أو
النسق بوصفه قوة عقلية شبه دكتاتورية، تفرض نفسها سواء شاء الإنسان أم لم
يشأ؟
إن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن البنائية أكثر انطباقًا على الحالات السكونية
للإنسان منها على الحالات المتغيرة. ومن المسلَّم به أن العلم يغدو أقدر على تحليل
موضوعاته حين يجعلها ثابتة أو يتصورها في حالة الثبات. ولكن العلم الذي يتناول
الميدان الإنساني بالذات يتعين عليه أن يعترف بالتغير والحركة والتاريخ بوصفها
مقولات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في تفسير الظواهر الإنسانية؛ ومن هنا رأى
البعض أن الأحداث التي عصفت بأوروبا في عام ١٩٦٨م (مظاهرات الطلبة في باريس ثم في
معظم البلاد الأوروبية وأحداث تشيكوسلوفاكيا) قد زعزعت إلى حد بعيد أركان البنائية
التي بلغت أوج ازدهارها قبل هذه الأحداث بعام أو عامين؛ فهي قد أكدت مرة أخرى أهمية
عوامل الحركة والتغيير، وقدرتها على دفع العقل الإنساني إلى مراجعة كثير من
المفاهيم التي يضعها في حالاته السكونية، وشكَّكت الأذهان من حيث المبدأ في إمكان
وجود أي بناء ثابت لعقل الإنسان وأنظمته.
وفي اعتقادي أن المشكلة الأساسية التي تثيرها البنائية هي: هل الإنسان — بالنسبة
إلى النظم التي تسود حياته — فاعل أم مفعول؟ إن أنصار البنائية يغلِّبون صفة
«المفعولية» للإنسان بالنسبة إلى هذه النظم، على حين أن نقادها يغلِّبون صفة
«الفاعلية». ولقد لخص سارتر سمة الفاعلية حين قال: «إن الشيء الهام، هو ما يفعله الناس
بما فُعِلَ بهم.» L’important c’est
ce que les hommes، font de ce qu’on a fait d’eux
فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء «موجود هناك»، بغضِّ النظر عن
الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبَّق فيها هذا البناء، فإن قدرة
الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام
حقًّا.
ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو
البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها — أعني
الميل إلى جعل الإنسان «مفعولًا» لا «فاعلًا» — يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول
الأمر الواقع. ولقد ضرب «دوفرين» للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق
مثلًا طريفًا، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان
هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي
لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام)، فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية
الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي
ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد «للنسق»، وهكذا فإن الأنساق
لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله
مجرد مفعول.
وهكذا تظهر الصورة أخيرًا — في تطور التاريخ — مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة
للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتًا، فأحداث عام ١٩٦٨م تفجر الإطار
السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو
ثابتًا، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو
استقلال الأنساق عن الإنسان.
ولكن، إذا كان التاريخ قد بادَرَ إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها
مباشرةً، فلنذكر — أخيرًا — أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن
فاعلية الإنسان إزاء بناءاته؛ فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول؛
إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا
جهدًا عقليًّا لا نظير له، ومارسوا «فاعليتهم» الذهنية إلى أقصى حد لكي «يكتشفوا»
بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان «مفعولًا»!