المعركة الأدبية في مصر
النزاع الذي قام بين أدباء مصر — والنزاع عنوان الحياة — قام ويقوم مثله في كل عصر وزمان، فمن يستعرض تاريخ الأدب يعلم أنه لم تُشن غارة أدبية كالتي شُنَّت على المتنبي؛ فقد تألب على أبي الطيِّب فحول شعراء زمانه، وناصبه العداوة حذَّاق النقاد من أبناء جيله، فكانت حملات تلتها حملات على الشاعر العظيم، فارس حلبة الأدب في ذلك الدهر، والدليل قوله:
ومنذ أعوام حرَّضت فئة لا يستهان بها على «مناوشات» أشبهت، على ضئولتها، تلك الإغارة، فحملت على الشاعر أحمد شوقي عصابة عُقد لواؤها للمازني والعقاد. وكان الشاعر حافظ إبراهيم، ندَّ شوقي، من أبطال خنادق الوقعة، فتترَّس ﺑ «ليالي سطيح».
وانضم إلى «الأحلاف» فارس مغوار تعمَّد شاعر تلك الساعة، بدهائه وأرانا أنه غير مغترض، فما سلم من طعناته أحد، بيد أنَّ منها ما آلم وأثخن، ومنها ما أشبه الملاكمة بقفازات هشَّة، لا خوف منها حتى على حدقة العين. عقدوا مقالات وفصولًا جمعوها كتبًا مليئة بالنعي على الشاعر. نعوا على شوقي تقليده، وسرقاته وسيره على سكة القدماء المعبدة، فما أشبه الليلة بالبارحة.
ثم علا صوت من وراء البحار فاشتدَّ به إزر «الأحلاف» — وأميركا اعتزلت الحرب الكبرى ثم غاصت فيها حتى الآذان — فنصبت الموازين والغرابيل على «بيدر» شاعر زمانه، واستحال النقد هدمًا وتدميرًا، والتشذيب تشويهًا وتمثيلًا، حين رأوا شوقيًّا يُراع من النقد، فطارت للنقَّاد شهرة ما عتَّمت أن أشبهت السيطرة على أسواق الأدب العربية فأخذوا يقوِّمون بضاعتها بالأثمان التي تتراءى لهم وتواتيهم، فمَن كان على هواهم نادوا على محصوله فراجَ ونَفَقَ، ومَن كان لهم فيه مآرب أخرى شالَ في ميزانهم، كما قال شاعر بني أمية. ولم يكن وكدهم غير شوقي.
واعتد الناس بكل كلمة تذيَّل بتواقيعهم، وعوَّلوا على آرائهم، حتى أوشكوا أن يطبعوا الأدب الحديث بطابع خاص، ففرضوا على الأدباء والمتأدبين آراءهم ومذاهبهم فرضًا، فكادوا يسنُّون النواميس والشرائع للكتَّاب والشعراء، فمَن خرج عليهم، أو تجاوز تخوم جمهوريتهم السعيدة، كان العتيق المنبوذ، ولو صام لتحريره ألف غاندي.
فمثُل شبح الإرهاب واتَّقى حمَلة الأقلام شر هذه الحملة المنظَّمة، التي جلبت أعْتِدتها من مصانع الغرب، وما تلك غير اتجاه جديد في مناحي التفكير، وتغيير لمقاييس المثل العليا، فجعلوا الذراع مترًا، والفرسخ كيلومترًا، حتى عابوا على امرئ القيس والمتنبي، مثلًا، تزيِّيهما — في ذلك الزمان — بالكوفية والعقال، واستغربوا كيف أنهما لم يلبسا القبعة، والطوق القائم، وربطة العنق، والسراويل المزمَّكة، كبودلير، ومالرمي، ورمبو، وبريدون، وفرلين، وفالري. كأن الظواهر الجوية لا تختلف في صحراء العرب عنها في جبال الألب، وكأن الجاهلية لا حساب لها، وكأن التفكير يجب أن يكون واحدًا في كل أمة وقطر.
وتقمَّصوا لباس «أنصار الجديد» فلبق بهم لأنهم مجددون حقًّا، وخلعوا على مَن ناوأهم جبَّة القديم، فكانوا متطرفين، ولم يكونوا لو لم يعيِّروه بها. واشتد النضال وحمي الوطيس وكان يوم له ما بعده، صراع بين القديم والجديد تطوع فيه «سنت بيف» لتحرير الأدب العربي، تطوُّع لافاييت لتحرير أميركا!
وما أبصر الناس «سنت بيف» بين الصفوف حتى استصرخوا سواه، فصارت الجبهة الأدبية المصرية عربية أعجمية، وقف فيها القديم من الجديد — في هذا الحين — موقف السُّنَّة من المعتزلة، في ذلك الزمان. تدرَّعت المعتزلة بالفلسفة، وجرَّدت سيف المنطق ذا الحدَّين، فدارت الدائرة على السُّنَّة، في جبهة الجدل، حتى كان الغزالي ورهطه وسبطه.
وسكنت الأرض بين أيدي دعاة الجديد، وآمن الناس بكل ما أنزل على أقلامهم، وشد أزرهم الشباب، والشباب نزَّاع لكل جديد، فقوي ظهرهم.
ثم مات شوقي وصار في ذمة تاريخ الأدب، فلم نسمع بعد موته نقدًا وهذا أوان النقد النزيه. واشتدَّ ساعد الشباب فحاولوا أن يشاركوا «الآباء» في آرائهم ويُروهم كفاءتهم لصيانة التراث وإنمائه، لعلهم يستعمرونهم في بقاع مملكتهم الواسعة، فلم يعترف «الآباء» لهم بشيء من ذلك؛ سجية الأب المستأثر، فظنَّ الأبناء بالآباء شرًّا، وقالوا: إن هنالك كيدًا. بعدما رأوا كل ثناء الآباء عليهم: «بارك الله عليك» … وإن استحسنوا شيئًا من طرفهم عبَّروا عن استحسانهم بتلك الابتسامة الأبوية الغامضة الفاترة التي رأيناها صغارًا على ثغور آبائنا.
فعلت الصيحة حول «الملاح التائه» و«وراء الغمام»، فانفجرت القنبرة بين الشيوخ والشباب وكان الذي خِفْتُ أن يكون.
ما نُفخ في الصور ولم تقم القيامة فجأةً، بل هنالك مقدمات حسر عنها اللثام «سيد قطب» في مجلة الأسبوع. أما أنا فكنت أترقب قيام الساعة في مصر الأدبية، وقد بدت لي أشراطها حين غادر الدكتور طه حسين «الرسالة» وحلَّ بطن «الوادي» وتربَّع الرافعي على عرشه في الرسالة.
علمت ذاك الحين أن في صدور الشباب براكين تتقد حنقًا على الشيوخ المستأثرين فأخذت أتوقَّع الساعة فإذا بها قد أزفت، وكال الشباب لشيوخهم بالكيل الذي كالوا به هم للرافعي وأنصاره.
ألم يطلق دعاة الجديد أمس، وشيوخ الأدب اليوم، على الرافعي ولفِّه لقب أنصار القديم؟ وهذا ما فعله أدباء الشباب. لقد شيَّخوا طه، والعقاد، والمازني، قبل الأوان.
الله الله ما هذا المصير! كيف استعجلوا الشيء قبل أوانه؟! مسألة فيها نظر، فالأب شيخ في نظر بنيه ولو فتيًّا.
ما قلت ابتهارًا أنني ترقبت قيام الساعة بل سمعت بأذني ورأيت بعيني أن حملة تُجهَّز، فهناك فئوس تشحذ، ومعاول تحدَّد، ومناجل تسنُّ، وشيوخ الأدب على عروشهم يصدرون المراسيم. الأمويون في غفلة والخراسانيُّ يبث الدعوة العباسية.
تربعوا على عرش النقد، والنقد «أعسر أمره ميسور» ما دام تهكمًا واستهجانًا وتطلُّب كمالٍ لم يخلق بعد، ودعوة إلى «موضة» بطلت من أسواق بلادها.
ينقِّبون عن السيئات بالمجهر، ويرون الحسنات فجَّة، ويطلبون من البلبل تغريد الحسون، ومن العربي شعور الفرنجي، ولكل منهما ظروف وأحوال.
وبعد؛ فما لنا ولهذا الآن، فإن ساعته لم تأتِ بعد، وستأتي إن شاءت آلهة الأدب. يقول الناس: «الكَنَّة وحماتها» خصمان أزليَّان، ولا يبحثون عن السبب حتى عدُّوا مخاصمتهما غريزة، وإذا اعترضهم شذوذ عن القاعدة وقفوا حائرين، ولو تبصَّروا لأدركوا أن ذلك الخلاف الأزلي في كل مكان وزمان لم يكن لولا التنازع على السيادة والاختلاف في الرأي.
إنه لصورة جلية من صور تنازع القديم والجديد، فالكَنَّة التي تنقاد لحماتها ملك كريم، أما التي تعارضها أو تخشى الحماة منها كيدًا لسلطتها فهي شيطان رجيم.
الكَنَّة وحماتها، والشباب والشيوخ شيئان متشابهان كأنهما حبتا عدس، فمَن ساير الكهول واعترف لهم بالسيادة المطلقة، وأثنى عليهم ثناء أبي نواس على خمرته وقدَّسهم تقديسه لها كان من نوابغ الأدب وكانت تآليفه «خطرة» — تعبير جديد أقرؤه للناقد إدمون جالو، دار على ألسنة أقلام نقادنا حديثًا — ومَن انتبذ منهم مكانًا شرقيًّا وركب رأسه هاجموه بالنبال وأعدُّوا له القيود الدهم في الليالي القمراء. وفيما حدث بين طه حسين وتوفيق الحكيم، منذ عهد غير بعيد، دليل صدق، وعند «الأسبوع» و«الوادي» و«الرسالة» الخبر اليقين.
ودرج فرسان النقد المغاوير، أو شيوخ الأدب في لغة الشباب، على «تقارض» التقريظ والثناء والإشادة بالذكر حتى أصبح شعارهم: أَثنِ عليَّ أُثنِ عليك، حكَّ لي أحكُّ لك. فعجَّت بفصولهم صدور كتبهم، وفاضت بها أنهار الصحف، وجاشت غوارب المجلات.
رأى ذلك منهم زكي مبارك فغاظه. مرُّوا بتآليفه القيِّمة مرور الكرام، فتولى بنفسه تقديم كتابه «النثر الفني»، وقال عن نفسه في مقدمته ما قاله بولس الرسول في بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثس: «إن كانوا عبرانيين فأنا أيضًا عبراني، وإن كانوا من نسل إبراهيم فأنا أيضًا كذلك، بالضرب أفضل منهم، بالجلد أفضل منهم، بالحبس أفضل منهم، وبالوثوقات أفضل منهم. جلدني اليهود كذا، وضربت كذا … إلخ.» وكأن لسان حال الدكتور زكي يقول: ما حكَّ جلدك مثل ظفرك.
شطَّ القلم ولم أقل لك كيف عرفت بهذه الثورة قبل نشوبها، واجهت في حلب — اتفاقًا — سفيرًا من سفراء الشباب أو رائدًا من روادهم، يبشر كراهب الحرب الصليبية، ويعلن أن الشباب من أدباء مصر سيصدرون مجلة يذيعون بها أدبهم على الناس، وأن الشباب يريدون أدبًا غير منقول ولا منحول. ينشدون أدبًا مبتدعًا، شرقي الأصبغة والألوان، يريدون أن يطهوا للجيل أدبًا غير ملتقط عن موائد الغرب، يريدونه أدبًا ملتوتًا بالإدام العربي ليزدرده العرب، ثم صرح بعد هذا التعريض بذكر نفر لم يكونوا شيَّخوهم بعد، فاتهمهم بانتحال شيء كثير.
وشاء القدر حين بارحنا حلب أن يجمعنا القطار، فسِرْنا على بركة الله، وبعد أن انتهينا من التلويح بالمناديل، قعدنا للحديث، فتذاكرنا أدباء مصر المالكين سعيدًا في القاهرة، وطال حديثنا حتى مللناه ونمنا.
واستيقظت قبل صاحبي فانكببت على مطالعة كتاب «خطر غريزة المرأة» للمازني، تفضَّل به عليَّ تلميذي الصديق «أورخان ميسَّر» من أدباء حلب الشباب، ليخفِّف به عني سأم الانفراد وضجر السفر في القطار النعسان، فما جئت على نصف الكتاب حتى أفاق صاحبي من نومه، واللوث بادٍ عليه، ففرك عينيه قليلًا ثم التفت فوقع نظره على عنوان الكتاب فنشط وقال: تطالع «غريزة المرأة» للمازني؟
قلت: نعم.
فهز رأسه ثم قال: أقرأت إبراهيم الكاتب؟
قلت: لا، ولكنني سمعت به.
فهز رأسه وكاد يتبسم، ثم رسم على شفتيه ألفاظًا يجسِّدها المنطق؛ فافهمها.
ودار حديث المسخ والسلخ والنسخ، فتذكرت ابن الأثير، ولئن صح ما اتهم به صاحبي أدباء الساعة، لكان أولى بالأجانب أن يكتبوا «السرقة ممنوعة» بدلًا من جميع «الحقوق محفوظة».
وكان موعدنا بعلبك فنزلنا، وفي الغد تلاقينا على رأس العين، وكان آخر العهد به. وانطوت الأيام وإذا بي أذكره في الشتاء، حين قرأت في مجلة «الأسبوع» وصف حفلة أقامها شباب الأدباء في القاهرة للمستر جب المستشرق الكبير، إكرامًا له واعترافًا بجميله لعنايته بالقصة المصرية، ودرسه لها في كبرى جامعات إنكلترة.
وكان حديث بين المستر جب والمحتفين به من الشباب، لم يخلُ من عتاب سوف يأتيك خبره. فصبرًا يا قارئي العزيز، فالليل طويل وأنت مقمر.