كرم ملحم كرم وألف ليلة وليلة
أطلت على الوجود منذ ست سنوات، وها هي اليوم في مطلع عامها السابع، بالغة الرشد، مجتمع معظم أشدها، دارجة في حياتها على ناموس النشوء والارتقاء، ولكن شريعة النمو كالشجرة المغروسة على مجاري المياه. ولو أتيح لمنشئها كرم ملحم كرم أن يعيد النظر ولو مرة واحدة فيما يكتب لأرانا عرائس فنه الروائي البارعات الجمال أشدَّ فتنة.
فالرواية اليوم هي كل الأدب الحديث، رافقت الإنسانية من المهد وستماشيها إلى اللحد. كانت أسطورة حافلة بالجن والعفاريت والمردة، فأصبحت حقيقة، بل صارت قطعة من الحياة، إن لم نقل: الحياة بعينها، فأعظِم بالروائي الحاذق مبدعًا، يخلق عالمًا لا يموت!
لا تستهوي الخطبة والمقالة الأطفال والصبيان والشباب، بل الرجال الذين نسميهم بحق — مع أغوسطينوس — أطفالًا كبارًا، كما تستهويهم القصص الرائعة التي تلقي على الحياة أشعة ثاقبة تمزق ظلماتها ودياجيرها. ألم ترَ إلى أبيك الشيخ كيف يرى كل اللذة في أن يقص على الناس حكايات حياته وما فيها من مغامرات تنبثق من طبائعه؟ ألم ترَ إلى غضون وجهه كيف تتبلور حتى تمتلئ نورًا إذا رأى في وجوه السامعين إصغاء وارتياحًا؟
فالقصة حديث البشرية مذ تجمَّع الناس في الكهوف، بل الإنسانية برمتها قصة أبدية، كثيرة الألوان مشتبكة الخطوط، أبطالها عباقرة. ومن تأملها رأى جمالًا كثيرًا حتى في أشد مشاهدها قبحًا، وما هذه القصص «الدهرية»، ذلك الميراث الخالد، إلا فصول رائعة من هذه القصة الكبرى.
وكلما دنت القصة من «الواقع» قاربت الكمال الفني، فالروائيون مصورون بغير الألوان، وكم رأينا الملهمين منهم يوحون إلى نوابغ المصورين رسومًا وألواحًا خالدة. والمصورون كالروائيين أيضًا، خيرهم من دنا أكثر من تقليد الأشباح والأظلال، فكأنما حسن التقليد قمة الفنون الجميلة. فهنيئًا لمن أُوتي من الروائيين سلامة ذوق ليختار من اللغة ألوانًا ويبدع من تمازج ألفاظها ألوان قوس قزح.
وهذا ما أخذت ألمسه في روايات كرم ملحم كرم منذ عام وبضعة أشهر. أجل، لقد صار يحسن تقليد الطبيعة ومحاكاتها، ولم تكن أوليات رواياته في نظري غير محاولات في هذا الفن الرفيع — وإن كانت ناجحة — ومن يكبر هذا القول فكأنه يمتعض إذا قلنا له: كنت طفلًا تحبو، ثم غلامًا تعدو، فشابًّا مكتمل الرجولة. وأي لوم على كرم في فن هو أشبه بمفازة لا أعلام فيها، وقد كاد يكون بلا أصول حتى في الأدب الغربي.
فأكثر ما قرأنا قبل روايات كرم ملحم كرم مترجم إلى العربية — ما خلا نزرًا يسيرًا يعوزه فن كثير — لا يحدثنا عن شئوننا بشيء، فتلك إذن روايات غريبة عنا، زيُّها غير زيِّنا، وعاداتها غير عاداتنا، لا نلمح فيها شيئًا منا إلا تقاطيع الإنسانية الشاملة، فلا نستلذ طعمها ولا يفتننا لونها، فكنا أشبه بشرقي في وليمة غربية.
أما التي أرضت الجمهور منها فملاكها المفاجآت والأزمات وليست هذه كل الرواية، فعهد المفاجآت والأزمات مضى وراح، فالرواية العصرية ترمي إلى غرض أسمى من التسلية. هي درس عميق يخفيه الروائي اللبق تحت ستار القصص، ويدسه في سياق الرواية دسًّا كما تدس العقاقير للأطفال في قرص الحلوى. فالروائي النبيه يريك ما تراه كلَّ يوم ولا تدركه، ويلقي روايته من بين يديه تهتز كأنها جان، مزينة بالرسوم والمشاهد البيانية فتلمح صورة المجتمع حية يجسمها لك التمثيل وتجسدها لك السينماء متحركة ناطقة.
ولا أخطئ إذا قلت: إن الرواية أطروحة تقوَّم بنبالة أشخاصها وسمو أخلاقهم. يلقيها الكاتب النزيه على الناس مصلحًا، لا مفسدًا ولا مخدرًا للأعصاب. فاعتماد الإنسانية في نشدها المثل الأعلى أصبح يعتمد على نزاهة الروائي وإخلاصه للأخلاق والفن. فخير الروائيين من شق بمقدم سفينة خياله عباب المفاسد متجهًا بقرائه إلى ميناء الفضيلة الحصين، دون أن ينسى أن الرواية للتسلية قبل أن تكون للوعظ الجاف، والتحليل العقيم الممل.
قلنا: إننا قبل روايات ألف ليلة وليلة لم نقرأ روايات قومية تحدثنا بلغتنا، وتصور لنا عاداتنا أصدق تصوير، ولكن يا للأسف إن معظم القراء لا تروقهم الرواية إلا إذا كانت حادة لاذعة، غريبة كالأساطير، ذات مفاجآت وأزمات كروايات البوليس السري، والذين يقدرون ما يقرءون نزر عددهم. ولا أراني مخطئًا إذا قلت: إنهم يقبلون على ألف ليلة وليلة بقدر ما فيها من إكسير الشباب، لا بمقدار ما فيها من فن، وإن نفرًا غير قليل منهم يحسبها كقصة الزناتي ونجمة السحور.
فما كان أشد ألمك يا كرم، وما أعظم جهادك، ولله صبرك، بيد أنك ربحت المعركة، والله مع الصابرين.
أما كيف، فإليك الخبر: حبِّب إلى الجمهور مطالعة قصصه الفصيحة، ومال بهم عن تلك السفاسف فرقَّى ميولهم وعلمهم التفكير — وهذا أول دروس الحياة — ورغبهم في قراءة القصص المتصلة بحياتهم كل الاتصال، وبسط لهم بمهارة الروائي وحذقه الحوادث التي تلابسهم كل حين فخدم اللغة والفكر، وأرانا فنًّا روائيًّا عربيًّا ما رأينا مثله من قبل.
لم يسمع كرم ملحم كرم بحادثة رائعة، بل لم تقع حادثة ذات شأن في البلاد إلا انبرى لها يسكبها بقالب روائي جذاب وأظهرها بعد أسبوع في مجلته، وهذه لعمري جهود جبارة يقدرها لكرم الأديبِ الجسورِ كلُّ من أدركته حرفة الأدب. فكأني بكرم معمل روايات لا تقف دواليبه هنيهة حتى يستطيع كل هذا الإنتاج والإصدار. فأكثر الروائيين إنتاجًا اليوم لا يصدر في عامه نصف ما يصدره هذا الشاب المقدام الخصب المخيلة.
والذي يتراءى لي أن كرمًا لا يرسم لرواياته هيكلًا فهو كالحاسبين عن ظهر قلبهم، يجمعون ويطرحون ويضربون ويقسمون دون أن يلجئوا إلى القلم والورق. إن كرمًا لا يدبر الخطة إذن، بل لا يراجع ما يكتب إلا ساعة تصليح المسودة، وإذا صححها مرة صارت المبيضة، هذا إن كان يكتب دائمًا كما رأيته مرة. كان يسلم كلًّا من منضدي الحروف قصاصة فيها بضعة أسطر حتى إذا نضدها رجع إليه. فالمنضدون إلى مكتبه رائحون جيَّاءون وهو يكتب ويقص ويسلم. حرب سجال بينه وبين منضدي الحروف، لا هدنة ولا نزع سلاح حتى يغشاهم الليل، وعند الصباح يعودون كما بدءوا.
قرأت له تسعًا من رواياته، أولها: «ماذا فعلت أيها المحترم» وآخرها: «في قبضة الجبار». قصص مختلفة البيئات والشئون، أكثرها واقعية، فرأيت اللون المحلي حتى في البعيد الدار منها. وتتبعت سياق الرواية السهل فإذا بي كلما دنوت من يومنا «هذا» أدنو من الجمال الفني في بروز الأشخاص التي تكاد تتحرك في سهولة القصص المترقرقة كالجدول الصافي، في الألفاظ والتعابير التي ينطق بها أشخاصه، وأفرحني تجنبه بث الآراء الشخصية كأنه يعلم أن القراء يستسمجون الرواية إذا كانت لحمتها وسداها فلسفة وآراء.
فلو كان كرم يكتب لغير من يكتب، أي للأدباء فقط، لأرضى الفن أكثر، بل لجاءت روايته قطعة فنية لا «لو» فيها حتى في نظر أكبر الروائيين، على حداثة الرواية في الأدب العربي، وقلة البضاعة التي يحتاج إليها الروائي في لغتنا الغنية الفقيرة. ولكن هو الرأي العام عقبة في وجه كل متفنِّن، فهناك تقاليد ونظريات تكبل الأديب فلا يفلص منها مهما حاول، وأنَّى لمن يتوكأ على الرأي العام، مثل كرم، أن يغضبه.
ولو استطاع كرم أن يخصص لروايته حصة من الزمن لجارى روائيي الغرب، وكانت روايته التي أتمنى أن يتفرغ لها، رواية العام.
فما أدق نظره عندما يضع لك رواية لبنانية؛ إذ لا يترك شاردة ولا واردة يتطلبها الفن، فتبرز شخوص روايته ناتئة كأنها تماثيل ودمى من رخام كالبلور، وهو إلى ذلك كأولئك الرسامين المختزلين الذين يرونك سحنة أشخاصهم بخطوط قليلة جدًّا.
اقرأ صفحة ٤ من العدد ٢٥٢ تتجلَّ لك شخصية بطل روايته، واقرأ صفحة ٩ من العدد عينه تعرف كيف يكون الحوار وأي ألفاظ يُنطق بها أشخاصَه الروائيُّ الحاذق الموهوب، حتى إذا انتهيت من مطالعة الصفحة العاشرة قل معي: هذا ما يتمناه لنفسه أوفر الروائيين حظًّا من الفن، حقًّا إن من الفن لسحرًا.
ولفت نظري في كرم قلة تحامله على أبطال رواياته فكأنه لا علاقة له بهم، يسرد الحدث وينطقك غير مخير بالحكم الذي يريده، حتى تخاله محدثًا أو «شاهدًا» لا أكثر ولا أقل.
أما مواضيعه فيستقيها كما قلنا من المحيط ويلتقطها عن طريق الحياة فلا تتغير إلا قليلًا حسب الحوادث والأشخاص. ومعظمها واقعية أو كالواقعية، إلا بعض روايات غريبة الأشخاص مترجمة بتصرف واسع الخطة — كما فعل تولستوي ببعض روايات موبسان — وغالبًا ما يمشرقها. إن العاطفة تظل السيدة المطلقة في كل ما ينشر ويذيع.
وأراه يعطي أشخاصه أحيانًا شواعر غريبة وفضائل نادرة، كما في رواية «قاهر الأمير بشير»، فلو لم يكن في الغالب أسير أشخاصه لكيَّفهم كما شاء، ولكن ما الحيلة وهم أحياء يعرفهم الناس؟ إلا أن من يعرفهم يكاد يسمعهم يتكلمون، وإن كان كرم لا يعرفنا إليهم أكثر الأحيان.
وأشهد أنني تمثلت أمام عيني الشيخ عقلة القطامي — الذي عرفته في عمان — كأنه يحدثني في رواية «بعرضك يا باشا» كما سمعت الشيخ إبراهيم يتكلم في رواية «راهبة عبرين» والابتسامة الحائرة ملء فيه.
فلهذا أقول: إن لغة الحوار أو الحديث عند كرم لكأنها الواقع، وهذا مشكل لم يفك حتى في روايات الغربيين الذين يكتبون كما يتكلمون، فكيف برواياتنا التي تكتب بلغتنا العربية ذات اللغتين الفصحى والعامية؟
وأسلوبه الإنشائي من طراز «السهل الممتنع» — حسب التعريف البالي — غير أن بعض فقرات تأتي من الطراز العالي، كأن كرمًا نسي إذ ذاك أنه يكتب للجمهور، وما هي إلا لحظة حتى ينقطع هدير الشلال وينساب جدولًا هامسًا.
وكم أتمثله متى أقبل على نقض نقيصة يزأر المجرمَ بعينيه الحادتين وذلك الوجه العبوس الذي قلما يبتسم، وإن تبسم فابتسامة غير كاملة. وهو في كل حال لا يريد إلا أن يكون روائيًّا قصصيًّا لا كاتبًا اجتماعيًّا يتوسل بالرواية إلى نشر بعض آراء يملأ بها أفواه أشخاصه وإلى أغراض يحشرها حشرًا في سياق الرواية فتتفكك أجزاؤها. ولا يتعمد الشعر الطليق فيأتي في قصته كرقعة جديدة في ثوب بالٍ، كما فعل ويفعل كثيرون من محاولي كتابة القصة، فيصعدون بك إلى الأولمب ويهبطون إلى وادي جيهنوم، كل ذلك في عشرات من السطور.
إن مهمة الروائي في الأدب العربي شاقة جدًّا، فلو أراد أن يدقق في الوصف ككتاب الغرب لعازته ألفاظ كثيرة وضعية، فاللبيب من روائيينا من هرب ما استطاع من المحيط الذي يقلد المدنية الغربية فيدرك بذلك غرضين: الأول وهو الأهم أنه يرسم صورة شرقية صحيحة وهذه مهمة الروائيين اليوم، والثاني أنه يتخلص — إذا شاء أن يصف ككتاب الغرب — من وصف أشياء لم تعرب أسماؤها بعد، فعسى أن يكفينا المجمع العلمي المصري هذه المئونة. وكيلا أكون حرجًا أقول: إن كرمًا لا يستطيع الفرار من هذه المعركة، معركة الرواية الواقعية، وهو حامل علمها الأعلم.
وقصارى الكلام أن كرم ملحم كرم ظل يجاهد حتى أرانا في مجلته «ألف ليلة وليلة»، وخصوصًا في الفترة الأخيرة، روايات قيمة بارعة لو كان كاتبها غير عربي لنعم بالشهرة والغنى.
فسر يا أخي، بحراسة آلهة الفن وكفاك فخرًا أنك سدَدت ثُلمة في جدران الأدب العربي، وكأني أراك بعد سنوات تطبع فيها على هذا الغرار واقفًا على قمة الفن الروائي بين زعمائه العالميين.
ولي عود إلى هذا الموضوع فأخص رواياته التي قرأتها بنقد وتقدير وإذ ذاك ننظر فيما لكرم الروائي وما عليه، وأظن أن من لا يرحم أحدًا حتى أعز أصدقائه في «عاصفته» التي تكتسح أبدًا، يفرحه نقد غرضه التمحيص ورائده الإخلاص للأدب والفن لا للأشخاص.
وحبذا الأديب هو لو مرحب فصولي العتيدة فتنزل على الرحب والسعة في «عاصفته»، فخلِّ التواضع يا كرم وقل: أهلًا وسهلًا، فالضيف خليق بالكرامة وأنت عربي لبناني، فأنا معك وعليك، وهب أنك قلت: يا ضيفنا … فلك أقول: شرط في الحقل ولا قتال على البيدر، أريد نشر فصولي «بحروفها».
أقول هذا خوفًا من نشر النقد وطي التقدير، وليس هذا بعدل.