أبو الهول وفنيانوس لشكري الخوري
الأستاذ شكري الخوري مجاهد لبناني، بل هو شيخ المجاهدين في البرازيل. خدم وطنه بجريدته «أبو الهول» فجعل اللبناني يفكر بالوطن الأم كلما وقعت عينه على «الحرف» الذي كتب به جدوده معبرين عن أفكارهم.
كان علينا أن نتحدث عن عدد «أبي الهول التاريخي» فور صدوره؛ لأن صاحبه الجليل أخرجه تاريخًا للهجرة اللبنانية الثانية، بعد مرور عشرات القرون على الهجرة الأولى التي خططت المدن والعواصم عبر البحر المتوسط. أجل بذاك يقضي علينا عرفان الجميل والإقرار بفضل الجهاد المثمر، ولكن جاء من الطبل ما أسكت الزمر، فنمنا عنه حتى الآن.
وبعد؛ فلسنا ننقد أثرًا أدبيًّا لنؤجله شهورًا، كما جرت العادة، ولهذا نقدمه على ما عندنا من دواوين وقصص، وآثار أدبية مختلفة. لسنا نعني بهذا أن «عدد أبي الهول التاريخي» ليس بالكتاب الأدبي؛ ففي هذا الكتاب الطويل العريض كثير من الآثار الأدبية كالمقالات، والقصائد، والملح، وحسبه أن يشتمل على قصة «فنيانوس» الخالدة ليكون كتابًا أيَّ كتاب. فهي فريدة، بل هي أم الباب، كما يعبر أصحابنا النحاة، بل هي بكر الطباعة العربية في البرازيل، أندلس اليوم.
القصة مكتوبة باللغة العامية ولكن أشخاصها أحياء حقًّا، تقرؤها فتخال أنك تحادثهم وتؤاكلهم وتشاربهم، وبكلمة طريفة ينقلك شكري الخوري إلى المحيط الذي يصوره لك فتظن أنك فيه، وأنك لا تقرأ فقط بل تسمع وتنظر أيضًا، وهذا هو الروائي، وليكتب بأية لهجة شاء.
ما أحلى اعتراف أم سكحا عمة فنيانوس، بطل القصة! وما أروع حمله لها حين قصَّرت على طريق مار عبدا المشمر، ورحم الله إلياس الفرَّان الشاعر العامي الذي قال مرة لزوار هذا القديس العظيم، رزقنا الله شفاعته:
قد لا يكون شكري الخوري من رءوس النحاة وعلماء اللغة، ولكنه دون شك ذو حظٍّ كبير من الفن الذي ننشده، وهو ممن يكتبون بالقلب واللسان. يتوخى الإبداع فيبدع، وله أسلوب شخصي ظريف خفيف. تقرأ الفصيح منه في هذا العدد التاريخي تحت عنوان «كيف تأسست الصحافة العربية في الأرجنتين» وشكري هو مؤسسها. وتقرأ العامي تحت عنوان: «فاكهة جديدة» فتبدو صورة ناطقة لمجتمع لبناني في دار الغربة. وفي المقالين تبدو لك شخصية شكري الخوري من بين السطور، مثل المليح يطل من شباك، فتتضاءل أمامك أشباح كثيرة ممن هم عند أنفسهم فحول الفصحاء.
قد تعجب لهذا التقريظ لرواية فنيانوس، ولما يكتبه شكري الخوري، ولكن عجبك يزول حين تعلم أن رواية فنيانوس تُدرس في المدارس العليا الأوروبية للمتمشرقين. ليس عندي ما يقال في هذه القصة إلا أن ملكة الكاتب زجت عبارتين فصيحتين في غير محيطهما. الأولى: يقوض الممالك ويثل العروش، والثانية: ولكن أيديهم مغلولة.
وتطالع عدد أبي الهول التاريخي فتعرف جهود الرجل التي ينفقها فيما يجدي وينفع. فشكري الخوري فعَّال أكثر من قوال. ترى على جبين هذا الكتاب صورة الأرز بألوانها، وشكري ثابت في عقيدته كالأرز، وفي صبره كأبي الهول، وفي عزمه كنسور لبنان.
لا أحصي آثاره فأعددها، إنها لكثيرة، ولكني أقول إني سمعت منذ نشأتي بزعيمين لبنانيين يتحدث عنهما كل مهاجر، ويرى فيهما نصيرًا وملجأ في الشدة: نعوم المكرزل في الولايات المتحدة، وشكري الخوري في البرازيل.
وتلي صورة الأرز صورة ابتداعية رائعة تدل على بلاغة شكري وذوقه، وتغني عن ألف مجلد ضخم، ففي شطر منها يرينا اللبناني أول فتحه البرازيل، يحمل بضاعته على ظهره، والتاجر الكبير من اللبنانيين من يقني أو يستكري حمارًا … وفي الثاني كيف أصبح يسكن القصور الشاهقة وفي ساحتها السيارات الطريفة. وقد عرفنا بهذه الصورة إذ كتب تحتها: كيف كنا وكيف صرنا. وتمضي في الكتاب فتقرأ تاريخ الهجرة المجيد، الذي أصدره الأستاذ شكري الخوري في البلايا والمحن، تمجيدًا لأمته، فتأخذك هزة الكبرياء، ويستولي عليك عنفوان الفخر. ولا ينتصف الكتاب حتى ترى صور المعامل اللبنانية فتخال أنك تطل على مصانع «سنت إتيان»، وناطحات السحاب، وتزداد دهشة حين يريك شكري الخوري عمال هذه المعامل بالأرقام، فإذا هي ألوف مؤلفة.
إن مَن يقرأ هذا الكتاب يتعالى أمام أسمى أمم الأرض، فما أوفى شكري الخوري، وأعظم خدماته التي يؤديها كل عام لهذا الوطن فيرفع قدره. وإنما يتمجد الوطن بأبنائه البررة الخيرين.
وإليك الآن كلمة خالدة قالها شكري منذ نصف قرن في اللبناني، وقد نظمها حافظ إبراهيم شعرًا، فجاءت صورة رائعة: «والله، ثم والله، لو كان للقمر طريق لكنت ترى لبنانيًّا حاملًا كشته وصاعدًا إليه، وترى لبنانيًّا آخر قد شك دواته في زناره وسار لينشئ فيه جريدة أو مدرسة.»
صدقت يا أستاذ، وكتابك هذا بمقام ألف شاهد، فحيا الله شعبًا صغيرًا ناهضًا زرع لغته في تربة العالم أجمع، وليس في الأرض من يسأل عنه، بينا مدارس رعايا الدول الأجنبية تتقاضاها الملايين ولا تفعل بعض ما فعل اللبناني.
إن عدد أبي الهول التاريخي نشيد العصامية اللبنانية الصامت، وفي كل سطر منه عزيمة تلقي درسًا على الدنيا. جزى الله خيرًا هذا السبَّاق لكل مأثرة عبقرية. وخير كلمة أختتم بها كلامي عن شكري الخوري هي ما قاله لي أحد أنسبائي المهاجرين: شكري الخوري لبنان في البرازيل.
إن مَن كان هكذا ليستحق شكر لبنان سبع مرات، فإذا كان لدى حكومتنا مرة تغني عن سبع فلتفعل، وهذا أقل شيء يستحقه هذا المجاهد القائد البطل.
فلئن غنى بنو إسرائيل مزاميرهم باكين في سبي بابل، فنحن نسمع من وراء البحار أهازيج المجد، ونفخر بأن جاليتنا شيدت حيث حلَّت مجدًا عظيمًا كلبنان.