مصطلح التاريخ لأسد رستم
منذ بضع عشرة سنة رأيت الدكتور أسد رستم أول مرة. كان ذلك في «عبرة» التي فوق صيدا، وكانت شهرة رستم في أول هبوبها، فقلت عند التعارف تلك العبارة المبتذلة: أشهر من أن يعرَّف. فبادهني بقوله: إن سوريا مجوَّفة. فذكرني الجاحظ والذي أجابه: هذا شعر لو نقر لطن. وكان حديث لم يخلُ من الملح البريئة.
هيكل رستم الركين ينم عن خصال مؤهلة للتمحيص العنيف، وفي حديثه نبرات كتلك التي يعبر بها المطرب عن فنه الرفيع. وإذا كان النبوغ يحتاج إلى صبر وجلد، بله الذكاء وبعد النظر؛ فقد أبدى رستم كل هذا فيما حقق ونشر من «أصول تاريخية». أما كتابه «مصطلح التاريخ» فيجعله بحق أستاذ التاريخ العلمي عند العرب، وقد تجاوز صداه سوريا المجوفة فملأ الأمصار الأخرى.
مصطلح التاريخ أو علم الميتودولوجيا علم وضع للتثبت من الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها. استنبطه العلامة برنهايم المؤرخ الألماني في النصف الثاني من القرن المنصرم. ثم سار على خطاه العلامتان لانجلو وسنيوبوس الفرنسيان، وعلى هذين اعتمد رستم، ولم يشر إلى هذاك. أما الذين ألفوا في هذا العلم بأميركا وإنكلترة فقد قدموا كتبهم لذكرى برنهايم أبي الميتودولوجيا.
إن للعربية الفخر بظهور زميل لهؤلاء النوابغ فيها. إننا لم نقصر في مضمار التاريخ القديم، وها نحن اليوم نجول في حلبة التاريخ الحديث بلسان عربي مبين.
وهذه مناسبة ثالثة أو رابعة تحملنا على تجميم كيل الثناء للجامعة الأميركية التي أظلت الدكتور رستم وكشفت عن عبقريته؛ ففيها درس هذا العلم على أحدث أساليبه، وفيها يتبوأ اليوم كرسي علم الميتودولوجيا الذي ألف فيه كتابه هذا، فجاء شرقيًّا غربيًّا أحل صاحبه في التاريخ محل سيبويه من النحاة. فقبل أن يخرج رستم كتاب «مصطلح التاريخ» مطبوعًا على الورق طبعه في أذهان شباب سيكونون من مفاخر الأقطار العربية. وهذا فضل آخر نسجله للجامعة التي لا يجاريها معهد في هذا المضمار.
حدثني صديقي الأستاذ يوسف صوراتي أستاذ اللغة الإنكليزية والتاريخ عندنا، أن أستاذه الدكتور رستم يؤمن بالاختصاص، وخصوصًا الضيق النطاق، وهو من الحاضين عليه، ولهذا جعل همه درس دور تاريخي خطير من أدوار تاريخ سوريا — دور الفتح المصري للبلاد الشامية — إنها حقبة قصيرة من الزمن ولكن إخراج «الأصول العربية لتاريخ سوريا على عهد محمد علي باشا» في خمس مجلدات، اقتضى الأستاذ ألف مرحلة فلم تبقَ في القطرين مكتبة، خاصة أو عامة، كبرى أو صغرى، لم يشق رستم غبارها.
لقد نشر الدكتور رستم أكثر مما ألف، والإحجام عن التأليف التاريخي قبل توفر الأصول وتحريها هو من الفضائل النادرة بين المؤرخين وأخص الشرقيين منهم.
من مطالعة توطئة «مصطلح التاريخ» يبدو لنا أن مخيلة المؤلف حبلت بهذا الطفل الميمون مائة وثلاثة وخمسين شهرًا. ثم خشي أن يجيء طُرْحًا فتريث في الأمر «فبدأ بتدريس هذا الموضوع بلغة أجنبية ريثما تتوفر لديه الأمثلة التاريخية المحلية والاصطلاحات العربية الفنية فاضطر إلى أن يرجع إلى مصطلح الحديث الشريف لسببين: أولهما الاستعانة باصطلاحات المحدثين، والثاني ربط ما يضعه لأول مرة في اللغة العربية بما سبق تأليفه في عصور المحدثين.»
لا يدعي رستم أنه مبدع هذا العلم كما رأيت، أما نحن فندعي أن هذا المؤرخ الكبير أبدع كل الإبداع بوصله حاضرنا بماضينا، فأرانا أن علماء الحديث نهجوا نهج برنهايم ومدرسته. نبش عن منتوجات تلك الأدمغة التي كان يحدوها الإيمان ويزجيها اليقين، مطابقًا بين العملين بما توج به كتابه النفيس: الحديث علم ودراية، والتاريخ علم ودراية. ففي كتاب رستم جدة وإبداع؛ جدة إذ وضع لنا أصول علم طريف، والإبداع في إحياء فن عرفه علماؤنا القدماء قبل علماء التاريخ المعاصرين. ناهيك بما في الكتاب من أمثلة محلية كثيرة جعلها الأستاذ الكبير كتمارين للمؤرخ المستجد. ولو كان رستم يؤثر الراحة على الإفادة والإتقان لاكتفى بترجمة الأمثلة التاريخية الواردة في الكتب التي يعلمها حتى حفظها كالماء الجاري.
تعودنا أن نلخص ما ننقد حتى القصص فكيف بنا ونحن ندرس كتابًا هو الأول من طرازه بل من نوعه في مكتبتنا العربية، هو الابن البكر للتاريخ الحديث. ففي كلمة المؤلف يلمح إلى قِصر باع أكثر مؤرخينا الشرقيين في هذا العلم، وإلى زعمهم الخاطئ «إن كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة.»
قلت: هكذا علمتهم مدارسهم التي تؤثر دائمًا الفصاحة على العلم، فتعهد بتدريس التاريخ وغيره إلى المتفيقهين وذوي الإلمام. كنت أتمنى على المؤلف أن يكتب لنا تاريخ المتيودولوجيا وآثار أقطابها العالميين الذين أصبح هو أحدهم بكل فخر، ولكنه تنصل من هذه التبعة زاعمًا أن كتابه هذا رسالة. وكم أضاع تواضع العلماء من فائدة. فمم يشكو كتابه؟ إن صفحاته فوق المائتين من القطع الوسط والكبير.
- التقميش: والتقميش كلمة من اصطلاح المحدثين قالها أبو حاتم الرازي ومعناها جمع
المواد. قلت: ألم يكن الله سبحانه وتعالى أول من قمَّش؟ من قرأ الفصل الأول
من سفر التكوين يعلم أنه، جلَّ وعلا، فكر في خلق شيء على صورته ومثاله، وإذ
لم يكن له ما يقمشه قال للمواد كوني فكانت، ثم أبدعه من أتفه ما خلق، من
التراب!
فالتقميش جمع الأصول التاريخية كلها «وإذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.» والحقيقة هي الحقيقة كلها، ومن هذا الباب يطل رستم على العالم العربي فيحث على التقميش ليس في العلوم التاريخية وحدها، بل في كل فن ومطلب. فهل لأدبائنا الذين يعنينا أمرهم أن يقمشوا ليزفوا إلى دنيا الفن عرائس مزينة؟
- العلوم الموصلة: وهي ما على المؤرخ أن يعرفه ليحقق الأصول والمصادر ويفهمها. أولها اللغة أو اللغات، وخصوصًا معاني الكلمات التي تتحول معانيها على العصور من معنًى إلى معنًى، ثم إجادة قراءة الخطوط والخبرة بأنواع الحبر والورق وما إليه، ليستطيع نقد الأصول والمصادر ويميز زيفها من جيدها.
- نقد الأصول: لا تثق «بالأصول» ثقة عمياء، ولا تركن إليها، لا تثق بكل أحد ولا تصدق كل ما تقرأ، وقد ضرب للقارئ مثلًا تحقيقه «الوثيقة الذذدارية» ثم بحث تحقيق الأصول بحثًا علميًّا وأشار بما يجب عمله إذا ضاع الأصل وبقيت نسخة واحدة أو نسخ متعددة.
- تنظيم العمل: يصف الأستاذ أفضل الخطط لاستخلاص المعلومات من الأصول، وذلك بتدوين النص أو ملخصه على أوراق متفرقة لا على دفاتر ليزيد عليها ما شاء، وترتب ترتيبًا أبجديًّا ليرجع إليها بسهولة.
- تفسير النص: يشير باتباع الطرق التي اتبعها علماء التفسير، وهي التي يتبعها اليوم المؤرخون المعاصرون؛ «أن يعمد إلى تفسير القرآن بالقرآن، فإن أعياه ذلك فعليه بالسنة، فإذا لم يجدِ التفسير في أحدهما فعليه أن يرجع في ذلك إلى أقوال الصحابة.» أي أن يعمد المؤرخ المستجد إلى تفسير النص بالنص عينه، وإن أعياه ذلك فعليه بكتب المؤلف وإلا فليعد إلى أقوال زملائه المعاصرين.
- العدالة والضبط: إن أمانة المؤلف وتجرده عن الهوى لا يكفيان للأخذ بروايته، فإن كان شاهدًا عيانيًّا فقد تخدعه حواسه. ثم ضرب مثلًا على خداع الحواس، حادثة طريفة جرت، أو أجريت في الصف عندما كان يدرس علم النفس، فكانت حواس جميع التلاميذ مخدوعة. وهناك أمور كثيرة لا بد منها سنناقش بعضها في آخر هذا المقال.
- الحقائق المفردة: أنقبل رواية الراوي بعد التثبت من عدالته وضبطه؟ الجواب: لا. يحذر المؤلف من اعتبار رواية انفرد بها راوٍ واحد مهما بلغ من العدالة والأمانة، ومهما توفرت لديه شروط المشاهدة العلمية، وقد تتوافق الروايات فلا يطمئن إليها المؤلف، ويمثل على ذلك بتزوير الخط «فحيث ينطبق إمضاء معترض عليه، من جميع نواحيه وفي جميع دقائقه، على إمضاء معترف به، يرجح وقوع التزوير.»
- الربط والتأليف: هنا تنتهي مرحلة الجمع والنقد ويبدأ التأليف. افتتح المؤلف هذا الفصل
بالمقابلة بين حقائق التاريخ وحقائق العلوم الطبيعية. فحقائق التاريخ مبنية
غالبًا على رواية الآخرين، وحقائق علم الطبيعة تقوم على الملاحظة المباشرة.
الحقائق العلمية متجانسة متآلفة يسهل ربطها وتأليفها، وبضد ذلك، حقائق
التاريخ. الحقائق العلمية ذات صفة عامة، وهي لا تختص بزمان ومكان معينين
ويستطاع إجراؤها في المختبر بينما الحقائق التاريخية تتعلق بزمان ومكان
معينين يصعب إرجاعهما. لا دوافع نفسية في العلوم الطبيعية وهي ذات شأن عظيم
في المسائل الاجتماعية. هنا منبع العقبات التي تعترض طريق المؤرخ إلى الربط
والتأليف، فيشير بالتمسك بالحقائق المفردة على أساس علاقتها بالحاضر. فما
يعيننا على فهم الحاضر هو أهم بكثير من غيره؛ إذ القصد من درس التاريخ إنما
هو فهم الحاضر وإعداد العدة للمستقبل.
ثم يشير إلى تأثير فلسفة المؤرخ في انتقائه للحقائق؛ إذ يختارها مستنيرًا بفلسفته في الحياة ولو كان الدكتور يحدثنا بغير لغة العلماء لقال حسب ميله وهواه.
- الاجتهاد: قد تتوافر الحقائق المفردة في ناحية من نواحي الماضي، وتعدم من الناحية
الأخرى فيتلافى المؤرخ باجتهاده ما قد يقع من فراغ. وفي هذا الفصل يعرف
المؤلف الاجتهاد ويجعله قسمين: الاجتهاد السلبي — أو السكوت حجة —
والاجتهاد الإيجابي. وبعد وصفهما يدلي بمثل على الاجتهاد السلبي فعله هو:
يقال: إن المتوكل على الله آخر الخلفاء تنازل عن حقوقه للسلطان سليم. أثارت
هذه القضية اهتمام الدكتور رستم على أثر خلع آل عثمان وإعلان الجمهورية
التركية، فراجع التواريخ العربية والروايات التركية عن الفتح العثماني لمصر
فلم يجد لهذا التخلي أثرًا. وهنا يتساءل المؤلف هل لنا أن ننفي تخلي
الخليفة العباسي عن الخلافة متخذين سكوت الأصول التاريخية حجة على
ذلك؟
قلت: ولعلها أول مرة ينفي فيها رأيًا من آراء علماء الحديث.
- التعليل والإيضاح: يقول المؤلف إنه إذا علل المؤرخ وأوضح أسباب ما يروي تخطى من التاريخ إلى
فلسفته، وعليه هنا أن يتبع طريقة علماء الطبيعة، فيوضح بعض الحقائق بحقائق
أخرى. ثم لا بد من الالتجاء إلى الفلسفة إذا ما أردنا أن نقف على أسرار
الحياة البشرية في الماضي. ومؤرخ من هذا الطراز لا بد له من إتقان الفلسفة
والعلوم الاجتماعية والجغرافيا وعلم النفس، ليوضح ويعلل على هدى.
قلت: وهل لنا أن نزيد درس الأرض التي تقلنا وتغذينا؟ فالإنسان وليد وطنه، وهذا مذهب ميشيله في الأسباب الطبيعية التي تكوِّن الإنسان.
- العرض: أما عرض ما قمشه المؤرخ وجمعه بعدما حلله وحققه ونسَّقه ونظمه وعلله وأوضحه فله طريقتان: خاصة وعامة. فحين يكتب للخاصة؛ أي للزملاء، فلتكن رسالته وحدة تامة المعنى، مرتبطة الأجزاء، جيدة الكتابة. أما ما يكتب للجمهور فهو كما يكتب للخاصة من حيث صحة القول وسلامة الاستنتاج، والفرق بينهما أن هذه تعرض عرضًا واضحًا جدًّا لتقرب من أفهامهم. ويحث على العرض بصورة جذابة ترغب القارئ في الاستطلاع. ويخص الأسلوب الشائق بالثناء منددًا ببعض المحدثين من العلماء الذين كادوا يذهبون إلى أن شروط الطريقة العلمية في البحث أن لا يعمد المؤلف إلى الأساليب الشيقة في عرض الحقائق، كأنهم يزعمون أن العلم يتنافى معها. والواقع أنه بإمكان العالم أن يكون دقيقًا في كلامه واستنتاجه، وجذابًا في أسلوبه وعرضه في آنٍ واحد «ومن يدري فلعل الدافع عند هؤلاء إلى مثل هذه الأحكام هو ضعفهم في الأداء وعدم تمكنهم من ناصية اللغة، وقصورهم عن إيجاد التعابير الشيقة.»
قلت: مثل الذين أومأ إليهم الدكتور من المؤرخين مثل بعض الشعراء الذين يفرضون على الناس أصولًا تنطبق على أساليبهم. قصَّر العقاد مثلًا في الأسلوب، فأخذ والمازني يؤلهان ابن الرومي وشاعريته.
ثم قال: «فواجب المؤرخ إذن؛ أن يجيد اللغة التي يصطنعها لتدوين حقائقه وعرضها بحيث لا تعوزه معرفة قواعد اللغة ومفرداتها وبيانها وأساليبها، وعليه أن يتقن فن الرواية، وقص القصص في اللغة التي يكتب بها حتى إذا قص أخباره وقعت موقعًا حسنًا في قلوب القراء.»
فمرحى وألف مرحى لأستاذ التاريخ الحديث في العالم العربي، ويا لها دعوة سامية لتطور التاريخ الجاف. إني أؤيد فكرته هذه، وهل عاب الأصبهانيَّ أسلوبُه البديع، وهل قدحت فصاحته في صحة روايته؟
هذا ما يتمناه على المؤرخ «المؤلف»، وأما المؤرخ «الناشر» فيقول له: «فحيث يظفر المؤرخ بالأصل بخط واضعه، أو بتصديقه، عليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته. فكم وكم من الاصطلاحات العامية تفقد قوتها أو ضعفها عندما تبدل بما يفتكره الناشر مقابلًا لها باللغة الفصحى.» (ص٤٧). إنه يشير بترك التاريخ المنشور كالعاديات لا صقل ولا جلاء، وهكذا فعل الدكتور زريق حين نشر تاريخ ابن الفرات، واليزيدية قديمًا وحديثًا.
إن «التاريخ علم في تحريه الحقيقة، وكعلم يطلب الحقيقة كما هي لا كما يجب أن تكون» وإن قال بجعله قصة طلية مشوقة؛ فهو يريد تلك القصة كما وقعت، لا كما يكوِّنها القصصي تكوينًا فنيًّا.
أما الفلسفة فيعدها من العلوم الموصلة في التأليف لا في النشر، وقد أغلى في إطرائها حتى نقل عبارة المؤرخ الطلياني: التاريخ هو الفلسفة والفلسفة هي التاريخ.
هذا عرض كتاب «مصطلح التاريخ» وإن صدقنا فلنقل: مسخه. الكتاب طريف حقًّا، بل هو نجمة الصبح في فجر هذه النهضة، استنارت بهديه ثلاث عواصم: بيروت والقاهرة وبغداد. ولو كانت لغة العرب عالمية كغيرها لقلنا فيه مقال المتنبي في أميره الحمداني: وتفتخر الدنيا به لا العواصم. أما أسلوب الكتاب فناصع لا غبار عليه، ولا تضيره بضع عبارات جرت على قلم الدكتور اقتباسًا من ألوف الوثائق التاريخية المكتوبة في القرن المنصرم، كقوله: ويتضح مما تقدم ذكره أعلاه. وكقوله: تجاه أمر واقع. وكقوله أيضًا: من حيث النوع أو الموضوع، أو الاثنين معًا.
أما من حيث التأليف فلا نستدرك عليه إلا الإفاضة في أخبار علماء الحديث إفاضة نشعر معها أننا ضللنا السبيل؛ فهو يقص علينا مثل: «وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحثات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح» (ص١٠٤). لست أظن ترك هذا التزمت يقدح اليوم في مروءة أحد، فشعار اليوم: الوقت ذهب، واضحك يضحك لك العالم.
إن قوة تداعي المعاني، وهي عند علماء النفس من سمات النبوغ، ملموسة عند رستم، وبهذه الخاصية وصل قديمنا بجديد عصرنا الطريف، أخذ هذين البيتين:
ثم دار حول هذا الشاعر الهازئ فأحال سخريته حقيقة علمية إذ قال: وقد قال علماء التاريخ: شك المؤرخ رائد حكمته. وقالوا: الأصل في التاريخ الاتهام لا براءة الذمة (ص٨٧). رحم الله ديكارت.
وفي باب العدالة والضبط أيضًا، وهو أضخم أبواب الكتاب، سرد قواعد جليلة بعضها مبني على علم النفس. وفي هذا المعترك الحامي تكثر الشروط، فللمؤلف منها ستة يختمها بهذه العبارة: «فكلما ازداد الراوي إبداعًا في أسلوبه الأدبي ازددنا شكًّا في عدله وقل اطمئناننا إليه» (ص٩٤).
لست إخال هذا ينقض ما دعا إليه في آخر كتابه؛ أي إلى الأسلوب الجذاب. فرب شاهد بالزور تمسكن لتقبل شهادته، ورب رجل طعنت فصاحته في صدقه وهو لم يقل إلا الحق.
وتلي شروط المؤلف في العدالة والضبط شروط أخرى عديدة وضعها المؤرخ الفرنسي لانجلو، ثم يعقبها صفحات من آراء علماء الحديث وأطولها ما قاله ابن الصلاح. ويختتم هذا الباب بتمحيص ابن خلدون لروايات غيره من المؤرخين، كالمسعودي، عن بناء الإسكندرية، وتمثال الزرزور الذي برومة، ومدينة النحاس والمدينة ذات الأبواب التي روى خبرها البكري.
لقد أصاب ابن خلدون فيما ضبط وحقق هنا، ولكني أسأل الدكتور: هل نهج في تاريخه هذا النهج؟ وهل محض كل ما كتب؟ وما قول أستاذنا الكبير في حجج ابن خلدون مدافعًا عن هارون وأخته العباسة؟! إن الدكتور لم يقف أمام ابن خلدون موقف المشلول، أو المؤمن المشدوه كما يقف غيره، بل ذكرنا بموقف الجاحظ من صاحب المنطق.
وبعدُ؛ فقد ترك رستم في سورية المجوفة دويًّا متنبئيًّا، فهل للأستاذ الجليل، وهو يعيش في حقبة خطيرة جدًّا، أن يضع لنا تاريخها ليكون لنا تاريخ؟ إننا في حاجة إلى أكثر من تحقيق وثائق وضبط تواريخ قديمة. ليس لنا تاريخ يركن إليه، تاريخ يدرس هذا الشعب وطباعه وما نهض به من أعباء أحلَّتهُ المحل الأول في تاريخ العالم. إن العظمة الكبرى لا تخرج من دائرة النواميس الطبيعية كما زعم ميشيله، حين درس جان دارك، فهل لرستم أن يكون ميشليه العرب، فيستنطق جميع ما تركوه من دين وأدب وتاريخ وفن مشيدًا تاريخنا العظيم على هذه الآثار ومسبباتها كالأرض وطبيعتها؟ فالناس للأرض أتباع … كما قال فيلسوف المعرة.
إني أقترح عليه وعلى تلميذه بالأمس، ورفيق سفرته اليوم الدكتور زريق تأليف هذا التاريخ. العمل خطير جدًّا، ولكني أزعم أن كليهما كفؤ له، ونحن أحوج ما نكون إلى تاريخ كهذا.