مذكرات الأرقش لميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة أديب مسكوني، ولا ألقبه بالأستاذ؛ لأنه لقب عمَّ حتى خمَّ. ولا أسميه فيلسوفًا لأنه أديب قبل كل شيء، وتظل صبغته الأدبية ثابتة مهما غسلها وطهرها بزوفى الفلسفة. وهذه المذكرات الأرقشية، بدأ بها الأديب الكبير، في فجره الأدبي، وقد قرأت منها فصولًا منذ ثلاثين سنة، وها هو قد أتمها لتخرج سفرًا صغيرًا في حجم أوراقه ولكنه كبير بما يحتوي عليه من الفلسفة النعيمية التي أحبها قولًا وأكرهها فعلًا.
على «الجندي المجهول»، و«مذكرات الأرقش» و«العاقر» و«الغربال» أسس ميخائيل نعيمة صرح شهرته القلمية، ولسنا نقول بدعًا إذا ما قلنا: إن مذكرات الأرقش — لولا حوادثها — هي مذكرات الأستاذ نعيمة، إنها مذكرات أديبنا في مبادئها العامة لا في حوادثها الخاصة، ولا غرو في ذلك فكل ما يكتبه الفنان من خيال أو واقع هو الفنان نفسه. فالنحلة حين تجني ما تجنيه من الزهر لا يكون أريجًا حين تمتصه، ولكنه يصير حين تتمثله وتمجه عسلًا شهيًّا فيه دواء نافع للناس.
لا أستطيع تلخيص فلسفة نعيمة بمناسبة الكلام عن كتابه هذا، فهي متنوعة الألوان تتناول أكثر شئون الحياة، وتنظر إليها أحيانًا نظرة لا تتفق مع نظرة البشر العاديين مثلنا! فالموت في نظر المؤلف إكمال الناقصين، والناس أولاد الذين لم يدركوا رشدهم. إن الصوفية والمحبة ومقابلة الشر بالخير هي قوام الفلسفة النعيمية، ولعل هذه النزعات جاءت الأستاذ من الروسية التي تعلَّم في مدارسها وقرأ كتابها العظام. ولكن لماذا نبعد، بل لماذا نفتش عن جذورها في الغرب؟ فهذه الفلسفة، فلسفة التغاضي والغفران، لبنانية يوحي بها وادي الجماجم وذرى صنين. فالموت إكمال الناقصين عقيدة لبنانية تعتقدها فئة غير قليلة في لبنان … وكذلك الأفكار الخيالية التي يناجي فيها البحر بلسان الأرقش:
«يا بحر يا قلبي وقلب الإله. يا نائمًا لا يستيقظ، ومستيقظًا لا ينام.
أبديتك لمحة، ولمحتك أبدية. أحبك أيها البحر. أحب سكونك الثائر، وثورتك الساكنة، فثورتك ثورتي، وسكونك سكوني. فنحن بحران أيها البحر، ولكن الأرقش هو البحر الأوسع والأعمق والأبقى. فأنت يأتيك يوم تتقلص فيه وتنضب، أما الأرقش فلا يتقلص إلا لينتشر، ولا ينضب إلا ليمتلئ بما لا ينضب.»
شئون وشجون شتى يعالجها الكاتب بلسان الأرقش، وأنت تشعر حين تقرؤها أنك التقيت بها في مكان ما. أجل إنها فوق إدراك الشخصية التي اختارها المؤلف لبث مثل هذه الفلسفة الغريبة. إنها أفكار مثالية كالتي تعود أن يعالجها ميخائيل وإن لم يكثر من الصوفية في هذا المؤلف، فهي لا تطغى هنا كما تطغى في مؤلفاته الأخرى. فها هو ينحدر من كهفه ويرى الناس وخصوصًا العمال، فيخصهم بفصل شائق. كأني به قد رأى بعينه نقاوة اليد العاملة في قرية بسكنتا حيث تحرث الأيدي الخشنة وتنقي وتشذب، وتداوي تلك الجنات الزهراء فتفيض على البلدة خيرًا وبركة، فقال بلسان أرقشه:
«اليوم عيد — عيد العمل — والأرقش عامل، ولكن العيد ليس عيده. وأي يوم هو عيدك يا أرقش؟
أنت وحدك بين كل ما في الأرض من آدميين لا عيد لك. وهل العيد إلا أن تستمتع ولو بنعمة واحدة من نعم الوجود؟! أما نِعم الوجود جميعها فمن ذا يستطيع أن يستوعبها في يوم واحد، أو عام واحد، أو عُمر واحد، بل في ألف عُمر وعُمر؟
وأعياد الناس مع ذلك هي أعياد عيون، وآذان وأنوف، وجيوب، وبطون.»
ثم يعدِّد نِعم العمل حتى يقول:
«يا نِعمة تلجم البرق فتجعله مطية للفكر وسراجًا للعين، يا نِعمة العمل الخلاق يا أكبر نِعمة. بماذا أكافئ الذين زرعوا وحصدوا فأكلت، والذين نسجوا وخاطوا فاكتسيت، والذين خلقوا الحروف والمطابع والورق فتعلمت وقرأت كتبت.»
وقبل ختام مذكرات الأرقش نسمع لغة أنبياء التوراة ولهجتهم وتقريعهم كما في الصفحة ١٢٦.
وبعدُ؛ فقد نسيت أن أعرِّفك بالأرقش. الأرقش خادم في قهوة لا نعرف من أمره، في أول الكتاب، غير أن له مذكرات عثر عليها بعد اختفائه. أما في الختام فنعلم أنه رجل ذبح عروسه ليلة الزفاف، وترك قرب سريرهما هذه العبارة: «ذبحت حبي بيدي؛ لأنه فوق ما يتحمله جسدي ودون ما تشتاقه روحي.»
أراد الأستاذ أن يجعل من هذه المذكرات قصة، فنعمت القصة كانت لو لم تظهر شخصية نعيمة فيها ظهورًا علنيًّا. أما مبادئها فلست أناقشها لأن الآراء لا تفرض فرضًا، ولكنني أتعرض قليلًا، وقليلًا جدًّا، للعبارة، فما الذي حمل الأديب الرصين على القول: كلني اليوم اضطراب. فلو كانت «كلني» من العامي الفصيح كغيرها مما استعمله لاستملحناها ولكنها ليست كذلك. فنون الوقاية لم تخلق لتقي الأسماء من الكسر؛ لأن الكسر من خصائصها. ثم قوله بعد ذلك: قوقعة الدواليب، وصوابها: القعقعة، إذا كان يريد هذا، ثم قوله في مكان آخر: تحدق بي من خلف أهدابها. وحقها أن تكون: تحدق إليَّ. ثم قوله: لا تنبح يا أباه. فيا أباه غير مألوفة قبالة يا أماه. وإذا كان استحلى الندبة فما يكون عليه إلا أن يقول: يا أبتاه.
إن كاتبًا عظيمًا كميخائيل نعيمة يطلب منه الكثير؛ لأنه قدوة للناشئين، فإذا ما تجاوز حدود اللغة شبرًا اجتاح أولئك حدودها وتخومها.