أدب القصة بين العقَّاد والرافعي
كاد يبطل التمويه بالقصدير، وقلَّ عدد «المبيِّضين»، وصار الأدب «الشكولاهي»، غير مرغوب فيه؛ فهو ينماع إذا أحرَّ النقد، ولا تستر عورته تلك الأكسية اللمَّاعة البراقة التي لا تفتن إلا الصغار. وسوف تطرح الصحف الخطيرة الغثَّ والهراء ليذهب به الكناسون، فلا نقرأ في قابلٍ إلا رصينًا، ولا نجسُّ إلا سمينًا. ومَن يُهدِ إلينا مثل شاة «فتى منقر» نعلق في جيدها جلجلًا ولا نستحي «كبشَّار» الذي ما استحيا قط إلا تلك المرة. أما الذين يكبسون بيوت «أدباء الغرب» ليسْبُوا بناتها وينهبوا خرثيَّها فنشهرهم تشهيرًا، وهذا هو الحد الذي يقام على لصوص الأدب.
إن لطه حسين يدًا في هذا التطور الأدبي، وإن اقتبس كثيرًا واحتذى أكثر. فلا ضير عليه ما دام قد أبدع شيئًا مذكورًا. لا يضره شيئًا مشْيه على ضوء «تين» ولا يشينه تعكُّزه على «سنت بيف»؛ ففي كل آداب الشعوب عناصر شتى تفاعلت فكوَّنتها. لقد وجَّه طه طريق الأدب العربي الحديث، وعلَّم من لم يعلموا أدب الغرب كيف يفكرون. إلا أن طه وإخوانه من أدباء الساعة في مصر أصبحوا كالدجاج العجوز تبيض قليلًا، وتَقُوق كثيرًا، فتشين عطاءها بالمن والسأم … ويبرم الناس قَوْقها.
فمَن يتفيَّش ويفتخر كالمتنبي أصبح ممقوتًا، ومَن يَقُل للناس كالبحتري: لماذا لا تقولون أحسنت؟! صار مبغوضًا ومنبوذًا، وإن كان لا يزال بعض أدبائنا يفعلون كالمهرِّجين والمغنين أصحاب التخوت من ناقري الدفِّ المخشخش، والبربط، فيسترفقون جوقات للتصفيق و«التطييب» والهيشة، كأن منتديات الأدب عرس رعاع.
ثم لا أدري ما أقول «بنفر» توقَّحوا حتى خطُّوا بأيديهم «التوطئات والتمهيدات والتقاريظ» لما ينشرون ويذيعون، وكلفوا الصحف والمجلات نشرها. وإن استنكرت واستسمجت فعلتهم هذه خبَّروك وما استحَوا أن «شوقي» كان يفعل هذا. فمن أنبأ هؤلاء العقلاء أن كل ما كان يفعله المرحوم شوقي حسن؟!
فما أرى هذه التقاريظ إلا صياح باعة في السوق، فلا يبُطِل زعمَهم إلا نارُ المطبخ، فالطهي يبدي الدسم، والكير يبدي عن خبث الحديد.
وهناك معشر يحردون على النقَّاد، كما فعل العقَّاد. حرد وسخط؛ لأن سيَّد قطب قال: إن قالبه الشعري قاسٍ، وجمع بينه وبين أبي شادي في مقال حين نقد أو قرَّظ ديوانيهما: الينبوع، وهدية الكروان.
فالعقَّاد، كما صرَّح سيِّد قطب: «يكره أن تنعقد في أذهان الناس صلة بين فنه وفن أبي شادي ولو في الأسماء، بل هو يستنكف ويأنف من مثل هذه الصلة» (الأسبوع، عدد ٣٥، ص٢٢).
أرأيت الآن أيها القارئ، أرستقراطية زعماء الأدب في مصر؟ أصدَّقت أن فيهم المنبوذين والأنجاس، كما في الهند؟ فإلى الصوم أيها الغانديون.
غفر الله لطه حسين، فمن جهتين لا جهة أساء؛ فقد جمَّم ويجمِّم مكاييل الثناء للعقاد، ونصره على شوقي، كأن شعار طه انصر أخاك ظالمًا كان أو مظلومًا. وهو لو عدل لاتَّأد في نقد شوقي، ووقف منه موقف النصيح لا المندِّد، ولكن كما قال طه: حب الشهرة عدو الفن، والمرء مؤاخذ بإقراره.
وما عتَّم طه والعقاد ولفُّهما أن صاروا كشوقي، يعدُّون النقد، إن مسهما، تهجمًا وحمقًا، كأنهم بابا رومة، فمَن يناقشه يكفر كلامنيه. فهل لطه أن يتبصَّر، فلا يكون «المروان» سيِّقة يقوده حيث يشاء بعد جلال السن. إن في الذين حاول طه وجماعته أن يقتلعوهم، ساعة طرُّوا، من هو أصلح للغد … أليس الأدب دُولةً كما يقولون؟ فماذا يحل بدولتنا إذا لم يكن فيها «جنود فجيش احتياطي» متى أقعدت السنُّ هؤلاء المارشالات العظام؟
لست إخال طه، وهو قد نصح الشباب أن يطالعوا، إلا قد طالع في «النوفل ليترر» مقال هنري دي رنيه الشاعر الفرنسي، وأحد الأربعين الخالدين. خبَّرنا هذا الشاعر كيف عرَف برونتيير الناقدَ الإفرنسيَّ الشهيرَ، وأحدَ الأربعين أيضًا، ومديرَ مجلة العالمين، وقدَّم له قصيدة من نظمه فأذاعها له في المجلة وعقَّب عليها بما أغمَّ دي رنيه، في البداءة.
وذكر دي رنيه كيف قابلت المجلة عينها الشاعر بودلير يوم أتى ببدع في الشعر، فهان عليه الأمر وأسلس قياده بعد شماس، فاطردت رسالته الأدبية، وخطر لدى رنيه أن يقفز من النظم إلى النقد — وفي راسين أيضًا — فقابله برونتيير بكل فجاجة وقال له: أما النقد يا سيد، فحقًّا لا. إني أؤجلك في هذا عشر سنوات.
هكذا يا شيخنا الجليل، يفعل الناقد النزيه بالشباب. ولكن الولد معجب مزهو، وفي الأب صلف وعرام، وماذا يفعل طه؟ فالعقاد جُنَّ بالإمارة، وطه يمهد لها ولا تأتيه منقادة تجرر أذيالها، ولهذا تراه يحاول تهشيم كل أديب، ولا فرق بين الأقطار، ليسلم رأس «الأمير»، والعقاد مخيِّم في الشاطئ كأبي منذر.
إن النظم، تقليدًا ومحاكاة، لا يخلق شاعرًا، فالتبرُّج غير الحسن والجمال، والإنشاء سجيَّة. وهل من جناح عليَّ إذا سألت شعراءنا المتنطِّسين وأدباءنا المتزمِّتين ونقَّادنا المتحذلقين: أحاكى حزقيال وأشعيا وأرميا وأيوب وسليمان وداود وهومير، غيرهم من الشعراء، أم قالوا هم الشعر فصار شعرهم فنًّا.
وهذه الأجرام أتحلم بالأنظمة أم تسير، فجعلنا سيرها نظامًا؟ فليفترض أنشتين ما شاء، أما أنا فلا يعنيني من الكون إلا ما فيه من فتنة تحيِّرني.
وأكاد أقسم بالله أن شكسبيرَ الجماعةِ لم يفكِّر قط بما يقوله النقَّاد كلَّ يوم، وأن فرجيلهم لم يحلم أبدًا بما يقولون لنا عنه بعد عصر اليوافيخ، وأن المعري لم يفُت علمه علم قروم جيله، وإن قال: وإني وإن كنت الأخير … ولكنه تمرد وصاح، فأخلد وقُدم.
وهذا الأدب القصصي الروسي الذي فتن العالم أطُبع على غرار؟ أكانت له مقاييس خاصة؟ أم كان فصار فنًّا يُقاس عليه؟
ألا فاتركوا النوابغ يخلقون فنهم، فلا نبوغ حيث لا خلق. ارفعوا من سبلهم عُلَّيقكم وقندولكم فهو يدمي أرجلهم، ويمزق أذيالهم، فالنوابغ فقراء «بالمعنيَين».
وا عجبا! أتندِّدون بالتقليد والمقلِّدين، والتقليدَ تفعلون؟ لقد قللتم شعراءنا القدامى في أعيننا ولم تبدعوا كما أبدعوا، بل رحتم تقلدون الإفرنجيَّ والإنكليزيَّ والألمانيَّ، ماسخين سالخين ناسخين.
قد تكون السيطرة في كل شيء، أمَّا الأدب فهو شخصي، ومن لا شخصية له في أدبه فهو البَوُّ.
إن الحسون لا يحفل بسلالم فاجنر، والبلبل لا يبالي بمعازف الموصلي، أتشوَّشت أوتارها أو أصلحها. والكروان الذي فتن العقَّاد لا يصغي إلى الفارابي؛ فهو لا يضحك ولا يبكي ولا ينام، مهما لعب أبو نصر بعيدانه وافتنَّ في تركيبها. الطير تستقبل النور وتغني على الغصون ولا تصغي إلى مَن في الظلال، ولو كانوا يستمعون إلى «إسطوانات بتهوفن» التي ردها طه حسين إلى توفيق الحكيم حين كانت بينهما مغايظة. الطيور الموهوبة تغنِّي ولا تكون حديَّا أحد، ومتى امتلأت نفسها غبطة ولم يعد عندها ما تقوله طارت. إنها ليست ككثير من الشعراء … إنها لا تهب إلا عن فيض.
والأدباء المطبوعون كالطيور، فدعوهم وشأنهم، واحملوا براجركم وفوادنكم؛ فما تهبه الطبيعة لابنها «البار» لا يقاس، ولا يكال، ولا يزان، فكل شيء يزان إلا العبقرية.
وقصارى الكلام أن الأدب البارع شهي، أأدب قصة كان أم أدب مقالة أم أدب قصيدة أم ما يخلق النوابغ. الأدب كالأثمار التي تخلقها جنينتي. لكل ثمرة طعم ولذة.
•••
سئل العقاد عن رأيه في القصة فقال: «ليس خلو أدب أمة من القصة دليلًا على نقص في أدب الأمة، أو في أدب الفرد أيضًا.»
لا بدَّ لي من كلمة قبل المناقشة: إن في العقاد لباقة الخائط، ذاك يرفو الثياب وهذا يرفو المقاييس الأدبية، لتطابق هيكله طولًا وعرضًا، فما أشبهه بصاحب المثل السائر، الذي كأنه لم يؤلف هذا الكتاب إلا ليدلُّنا على نفسه، تارة بقلتُ، وطورًا بأما أنا فقلت!
أدرك العقاد أن شعره كالدينار الأخرس، لا نغمة له ولا إيقاع، فأخذ يتمدَّح «بساطة» الشعر الإنكليزي والألماني، وعدَّ فكتور هيغو مجلجلًا بلا رحمة ولا هوادة، ونسي نكتة الجاحظ في سينيَّة أبي نواس: هذا شعر لو نقر لطنَّ.
ولما سئل عن رأيه في القصة، ورأى أن أدبه خلو منها أخذ يتمطَّط في الحديث وينافح بالسيف والترس عن أدب الأمم والشعوب والجماعات والأفراد.
أمَّا الأمم يا أستاذ، فأول أدبها القصص، والمشترع، ولو وثنيًّا، يفكِّر بقصة الخلق قبل عرض دينه على البشر. فكم عندنا وعندكم من قصص! الحياة كلها قصة، ووجودي ووجودك اليوم قصة — أحسن الله الخاتمة — فلا تخف أن يخلو الأدب العربي منها إذا خلا أدبك، «لا سمح الله، أما عندك مذكرات إبليس!»
ثم قال: «إن كثيرًا من أكبر الشعراء والكتَّاب نظموا ونثروا دون أن يخطر لهم في بال أن يساهموا في كتابة القصص.»
إذا أردت القصص كما نعرفها اليوم، فالجواب نعم. أمَّا خلوُّ أدبهم من القصص فهذا شيء ندر، فلم يخلَّد عمر بن أبي ربيعة لأنه كان «يحفل بتجويد اللغة» كما ستقول؛ ففي المتأخرين والمتقدمين من جوَّدها أكثر منه.
إن قصيدته «أمن آل نعم …» هي أقصوصة اليوم الفنيَّة لو أحسن خاتمتها ووقف عند:
ولكن مرض العصر الجاهلي راوده عن فنه فأغواه، كما أغوت الحية حواء بمكرها، وما أراه وصف ناقته إلا ليفتننا بهذا البيت:
يا ليتك لم تقم إليها يا عمر! أبعد ذاك الفن الممتع تسمعنا هذا اللغو — لغو الصيف — بل ليتك سُمِّرت في أرضك كامرأة لوط، تراقب الخد النقيَّ والمحجر ولم تخربش قصيدة كأنها العافية في البدن.
فمَن علَّم عمر القصص يا أستاذ؟ إن النابغة يخلق الفن، ولن تخلق الجرومية فنانًا. أنقلد شعراء الغرب ونقول بالتجديد؟ لا وآلهة الفن، إن التجديد إلهام، ولا يتأمم الناس إلا مَن يأتي بدعًا.
وقال: «ولولا سهولة القصص، ولا سيما عند الذين لا يحفلون بتجويد اللغة، لما كثرت الدعوة إليها بين الكسالى الناشئين.»
قلت: «جاء يوحنَّا لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فقلتم: إن به شيطانًا، وجاء ابن البشر يأكل ويشرب فقلتم: هو ذا إنسان أكول شرِّيب للخمر محبٌّ للعشارين والخطأة.» جوَّد البعض اللغة وإمامهم الرافعي والزيات والمازني، فقلتم: الرافعي عتيق يعيش في الجاهلية، وعيَّر طه صديقه الزيات بسجعه، وعدَّ سلامة موسى المازنيَّ قديمًا. وكتب الناشئون فقلتم: كسالى لا يحفلون بتجويد اللغة.
أأمست النصيحة تعييرًا، وصرتم يا رجال الأدب كأمراء الأساطيل تحيُّون بعضكم بقنابر المدافع.
قال المحدِّث: وهنا سألت العقاد لماذا لا يعالج القصة ليرينا شيئًا «مثاليًّا» في هذا الفن ينسج على منواله الناشئون الذي يصفهم بالكسالى، ولماذا يخلو أدبه من القصة؟
فأجاب: «إن كتابتي لم تخل من القصة؛ لأنني كتبت فصولًا مختلفة بعنوان مذكرات إبليس قبل نيف وعشرين سنة، ولم ينشر من هذه المذكرات غير مذكرة واحدة عن إغواء فتاة … إلخ.»
قلت: لقد قرأت كثيرًا عن شيطان العقاد الذي فتن أخيرًا صاحبه طه حسين حتى عدَّ قصيدة العقاد ملحمة. ليرحم الله صاحب فاوست، وشتَّان ما بين اليزيدين!
وقال: «على أنني لا أهتم كثيرًا بكتابة القصة — قلت: ولا قليلًا، ولا هذا عيب، ولماذا كل هذا التنصُّل — لأنني أعتبرها نوعًا من أنواع الأدب التي يكثر فيها الإسفاف ويقل السمو، وهي غير مطلوبة لذاتها، بل مطلوبة في الأكثر لأنها أيسر منالًا عند الجماهير التي لم تألف دراسة الأدب الرفيعة، ولن ترى في كل ألف قصة وقصة تظهر واحدةً جديرة بالقراءة والبقاء.»
أمَّا كثرة الإسفاف وقلة السمو فهذا صحيح بالقياس إلى طغيان أدب القصَّة، ولكن أليس الأمر كذلك في كل فنٍّ؟ أما في الشعر إسفاف … هلا ذكر الأستاذ كثرة المواليد وقلة النوابغ؟ فهل ينصح النساء ألَّا تحبل وتلد؟! فليكتب هو شيئًا ساميًا، فمثل العقاد لا يسعى لنا في أطفال الشئون.
إن المتمشرقين ينظرون إلى القصة كأنها الأدب كله، وما ظفروا حتى الساعة بقصَّة مصرية بل عربية تستأهل الجلوس على الرف بين طرائف البيت. فما يصد العقَّاد عن هذا وهو ذو فن يطمح إلى إخلاده بكل قواه؟ وأمَّا أن الرواية أيسر منالًا عند الجماهير التي لم تألف الآداب الرفيعة، فلِمَن كتب تولستوي، ودوستفسكي، وتورغنيف، وغوته، وملتون، وفلوبيير، ودانت، وبو، وفرانس، وماريمه، وكبلنغ، وشو؟ وأخيرًا جول رومان الذي احتفيتم به في هذا الشتاء «وشغل المثقفين من سكان مصر أسبوعًا كاملًا كأنه عيد من أعياد الثقافة العليا، وكأنكم بتحدثكم إليه قد تحدثتم إلى العقل الإفرنسي كله»، إلى ما هنالك من كلام صاحبك طه.
مسكين طاغور يكلف نفسه كتابة القصة وهي ليست من الآداب الرفيعة يكثر فيها الإسفاف ويقل السمو، بل ما أغبى جماعة جائزة نوبل، كيف يمنحون القصصيين ذلك المبلغ الضخم!
والآن كما بدأنا هذا الأمر نعيده: وإن مقاييس العقاد في الكم والكيف مفصلة عليه، فما خلا منه أدبه فذاك شيء لا يعتد به، وليس من الآداب الرفيعة! فهب يا أستاذ أن ما تكتبه مُنزَّل، فما شرط هذا على الرسل ليؤدوا رسالتهم، ولا يتدللوا على الله مثل هذا التدلل. نوِّرنا يا أستاذ، نوَّر الله وجهك، حقًّا إنك متعنِّت.
وبعد أن وعد الأستاذ، لو توافر له الوقت، بتدوين كثير من تجاريبه وملاحظاته بقالب قصة — نتمنى أَلَّا يكون قاسيًا — قال: «أما الآن فحسبي أن أُؤدي في أمانة الأدب ما أنظم من شعر وما أكتب من فصول أو مؤلفات.»
قلت: يا ليته قدم النثر على الشعر فنثر العقاد أشعر من نظمه.
أقول هذا، ولا أبالي، أغضب العقاد أم رضي؛ فقد واثقت نفسي يوم أقدمت على تدوين هذه الفصول أن أكتب للدهر العتيد، وبدأت بِمَن لا أعرف حتى إذا جاءت نوبة مَن أعرفهم عذروني وتأسَّوا.
•••
وسأل المخبر عينه مصطفى صادق الرافعي لماذا لا يكتب في القصة، فأدلى إليه بمقال عنوانه «فلسفة القصة، ولماذا لا أكتب فيها» (الرسالة، عدد ٤٠).
افتتح الأستاذ مقاله بأنه وضع كل كتبه ومقالاته في قصة بعينها هي قصة العقل الذي في رأسه، والقلب الذي بين جنبيه، ثم شارك زميله العقاد في تقريع كتَّاب القصة بمصر فقال: «فقام عندنا المتابعون في الرأي والمقلِّدون في الهوى والضعفاء بطبيعة التقليد والمتابعة.»
ثم قال: «أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم آخر.»
إلى أن قال: «ولذا لا أمسُّ من الآداب إلَّا نواحيها العليا.»
وأدب الرواية ماذا يا أستاذ؟ حقًّا إن عنب هذه الدالية مزٌّ …
وقال أيضًا: «ثم يخيل إليَّ أنني رسول لغويٌّ بعث للدفاع عن القرآن وفنه وبيانه.»
الحمد لله لم يؤمر العقاد، فلو أمرناه لكنت رأيت يا رافعي … لكان والله فعل في وادي النيل ما فعله لؤلؤ نائب الإخشيد في بادية السماوة!
فلا تتعنَّ الدفاع عن القرآن، فالذي حفظ الأمة واللغة، حتى سمعناك ناطقًا بها، يغلب وحده كل جيش من لحم ودم. ألم يأتك نبأ فتحة اليابان؛ فقد آمنوا به، وما اطلعوا على كتابك «إعجاز القرآن»!
ثم قال: «أنا من أجل ذلك أراني إلى الآن مع الأدب العربي في فنه وبيانه أكثر مما أنا مع الحكاية ولغيها وعواطفها. فأكبر عملي إضافة الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا، متحاشيًا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابتي دواب الأرض ودواب الناس … إلخ.»
حاشاك يا أستاذ، ولكن كيف غابت عنك وأنت الرسول اللغوي، أن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة! ألا فاسلم لأدبنا وبياننا والصور الفكرية الجميلة. بحسبنا منك دواب الأرض ودواب الناس. حقًّا إنها لصورة فكرية جميلة.
أما ما سقته في مقالك عن القصص الرديئة فرأيك كرأي كل ذي لبٍّ، وكل إنسان يعرفه بالبديهة، فالأدب كالطبيعة فيها الترياق وفيها السم. وفي الأديان — وكلها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر — ما هو إلهي وما هو غير إلهي، فكيف بالأدب!
ثم قال، ويا ليته قال هذا وأراحنا: «إن في القصة أدبًا عاليًا … ولا ينبغي أن يتناولها إلا الأفذاذ من فلاسفة الفكر، والأعلام من فلاسفة البيان.»
ألست أنت منهم؟ فقد كتبت والعقاد مقالات فلسفية حملت المازني أن يقول في صددها: «والآن فلنتفلسف، وفلسفتنا هذه جديدة، إلا أنها مستمدة من سوانا» (قبض الريح، ص٦٢).
ثم تلوَّى الرافعي ولدغ كتَّاب القصة بقوله: «أما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص فهم في الأدب رعاع وهمج، كان من أثر قصصهم ما يتخبط به العالم من فوضى الغرائز.»
الغرائز غرائز يا أستاذ، بقصة وبلا قصة، والغرائز هي التي خلقت القصة، ألا فاكتب لنا أنت ما يكبت هذه الغرائز ويتسامى بها ويخمد فوضاها، فأنت من سراة الأدباء، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم …
وبعد؛ فما تقول بقصة يوسف، وقصة بوعز، وقصة داود «أبو التسع والتسعين» وقصة سوسنة، وقصة راحاب، وقصة يهوديت، وقصة دليلة، وقصة قوم لوط، وقصة تامار … أما كل هذه في التوراة، والتوراة كتاب مقدس؟
ولكن الرافعي كزميله العقاد يريد أن يطعن في كتَّاب القصة المصريين، فكلهم شباب ما خلا بضعة نفر، ولهذا ختم فلسفته الطريفة بقوله الرائع: «إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بدأت تسفل، وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت من نفسك أشياء بدأت تعلو.»
اللهم غفرانك! أيخطر في بال غير المهلوس العقل أن يلتمس منك ومن العقاد بابة تسفل؟ فحنانيكما بعض شيء من بابة تعلو، وانسفا هذه الآداب، آداب تسفل، حتى لا نرى فيها عوجًا ولا أمتًا.
ألأن أدبك خلا من القصة، اللهم إلا قصة عقلك وقلبك، يصبح كتَّاب القصة — إلا مَن استثنيت — رعاعًا وهمجًا، ويتنزه قلمك عن وصف دواب الناس؟ فما هكذا ينظر كبار الكتَّاب مثلك إلى الناس. لقد كان أجمل بالصحف أن تتنزه عن عرض هذه الخضارة الرديئة لتبيعها من الناس كأنها طازج. ولكن ما الحيلة في أسواق لا تراقبها بلدية ولا «صحيَّة»؟ بل ما العمل بكم؟ ففي عنقكم رقية الشهرة فاستعصيتم على النقد. دامت لكم خرزة العين.
•••
هذان رأيان لكاتبين كبيرين من أدبائنا، وشاعرين أيضًا، بل نموذجان من أدبنا العصري، واحد عتيق وآخر جديد، ثكلتني أمي رحمها الله إن كنت أعرف الجديد منهما!
حاشية: هوَّنها الله علينا فحاول الرافعي — ولعل العقاد حاول أيضًا ولم أدرِ — كتابة قصة (الرسالة، عدد ٥٦)، إلا أنها لم تخرج بعد عن قصة عقله وقلبه … فهي ليست من الفن القصصي.
إن هذا الفن يحتاج إلى أداتين: الطبع أولًا والمزاولة ثانيًا. أما المزاولة فلا أضمنها، فقد فات الوقت، إلا إذا كتب قصة حياته فقد يجيدها كما أجاد طه حسين «الأيام». وأما الطبع فما تحسَّسته، وقد تكون الأولى منه فخدعتني عن نفسه، أقول هذا ولا أقطع، وأترحَّم على القائل: ما أهون الحرب على النظَّارة.