خمسة أيام في ربوع الشام
١
كنَّا ننتظر من «معلم المعلمين وأستاذ المربين!» فؤاد إفرام البستاني كتابًا أجلَّ من هذا شأنًا، ﻓ «خمسة أيام في ربوع الشام» عنوان مغرٍ، يوهم سامعه، قبل أن يقرأه، أنه مقبلٌ على قراءة وصف لما شاهد أستاذ الجيل! في هذه «الشطحة» اللطيفة. ولكن الأمل يخيب حين تقع العين على هذه العناوين المضحكة المبكية. وكأن المؤلف — حفظه الله ونفع لبنان بعلمه — وقد شعر مثلي بما في هذه العناوين من سخف، فأراح القارئ من رؤيتها مجمعة في فهرست، وحسنًا فعل.
وأما وقد شوقناك إليها، فهاك أولًا نموذجًا منها ولعله أبرعها: رحلة الموزاييك في سيارة بويك. وهذا الفصل هو فاتحة الكتاب فقل معي: أحسن الله الخاتمة. افتتحه الأستاذ بقوله: «خمسة أيام في ربوع الشام!»
ثم يعود إلى مثل هذا الأسلوب الرائع الجميل مباريًا السيَّارة البويكية، ولا عجب في هذا، ألسنا في عصر السرعة؟
لقد ذكرتني هذه الهذه وهذه وهذه بما كنت أسمعه، حين كنت صبيًّا، من صاحب صندوق الفرجة — صندوق الدنيا بلغة مصر — تفرج يا حبيبي وشوف، تعا تفرج يا سلام، هيدي عبلة بالتمام، وهيدا عنتر الدرغام، هيدي عندك سطنبول، هيدي لندن يا سلام …
وبعدُ؛ أليست الطرافة من مقومات كتب الرحلات؟ فأين هي يا ترى في هذه الرحلة البستانية الجديدة؟ أفي ما شاهده الأستاذ في «سراقب» من أسلوب جديد للاستقاء لا يعرفه، ففهم حين وقعت عينه عليه الصورة الشعرية في قول عنترة:
حقًّا إنها ساعة فيض، إذا كان لأساتذة الأدب ساعات فيض! وحقًّا إن الغربة تلقح الأذهان الثقافية فتنتج لنا غلمانًا خيرًا من غلمان زهير! وإلا فكيف نفهم بيت عنترة لو لم يرَ الأستاذ فؤاد حمار سراقب؟
إن كتابًا مثل هذا، يا معلم إسرائيل، يكتب دون تجشم أخطار أرواد التي نجاك الله منها، وأنت فيه تحاول التأريخ لا الوصف المطلوب من السوَّاح. إنه سياحة في الكتب لا في دنيا الله الواسعة، والأولى أن تسميه «خمسة أيام في كتب الأنام».
قد يقول غيري: هذا ما يسمونه الأسلوب العلمي، أما أنا فأشهد أنه يدق على فكري، وأرى، وقد أكون على ضلال، أن مَن يعجزون عن الأسلوب الشخصي هم الذين يتحصنون في قلاع الأسلوب العلمي المنيعة!
أعجبني ما قرأته في هذا الكتاب عن شاعر الطبيخ الحمصي؛ فهو وإن يكن منقولًا كغيره من تاريخ المدن؛ ففيه فضل إنقاذ قارئ هذه الرحلة من الاختناق في هذا المحيط التاريخي المعقم.
نوم الهنا يا سيدي، تصبح على خير، وإلى اللقاء.
٢
ما أبطأنا على الأستاذ الجليل إلا مكرهين، ومن حضر ما غاب، فلنبدأ.
لقد صعب على معلم المعلمين الخلق في «خمسة أيام» فالتجأ إلى حنكليس — الجري — التاريخ وسردينه، وقديده على اختلاف أنواعه. والناس يرتجون من الرحالة إما السمك الطازج أو اللحم الطري. يحيرني جمود صاحب «لماذا» في هذا الكتاب؛ فهو يكاد يكون فيه كأبي منذر بشار … ترى ألم تسر إليه تلك السهول المترامية الأطراف بكلمة طريفة؟ ألم تقل له تلك الآثار شيئًا يقوله للناس؟ ألم يقع في تلك الرحلة على غير ما احتوته الكتب؟ لقد كان كالبوَّ في ذلك الدوِّ … كان رجلًا من حبر وورق، بل يا ليته كان كذلك ولم يجمع في كتابه الأضداد: من كلمة سوقية إلى كلمة لغوية، فمن دسوت اللبن إلى «سوقا للامتيار شهيرة»، ومن كبش العليق، وأشيار، وطرابين، وشعشوع، زمزريق (ص١٠٩). إلى «الزيَّافة» العنترية التي جاءت في كلام معلم المعلمين كرقعة جديدة في ثوب بالٍ!
أما الجمل الضعيفة التأليف فيليق بها تحريف بيت النواسي: ذكرت شيئًا وقد فاتتك أشياء … لأنها لا تحصى.
قال الأستاذ، نفعنا الله بعلمه: «فخفر الحدود صورة الدولة» (ص١١). والصحيح خفراء لا خفر.
وقال: «هو النهر الأبرش. وقد قطعنا إحدى سواعده من دقيقتين» (ص١٢). متوهمًا أن سواعده جمع ساعد، بينما هي جمع ساعدة، ولهذا وجب القول: إحدى سواعده. ثم ليته قال: منذ دقيقتين، لتصح عبارته ويزول اللبس.
وقال: «ونحتل الثاني في جمهور الطلاب» (ص٢٣)، والصواب بجمهور.
وقال: «وفيها العزبان» (ص٢٤)، فكان كلام العوام أصح من كلامه؛ لأنهم يقولون: عزَّاب. وقال: «وتراكم البيوت بعضها فوق بعض» (ص٢٨)، والصواب: تراكم بعض البيوت فوق بعض، أو تراكم البيوت فقط، فمعنى ركم الشيء وضع بعضه فوق بعض.
والذي يتفاصح ويُعنى بالتدبيج، كما فعل الأستاذ في هذه الصفحة لا يغض النظر عن قوله: «مشحات الغيوم الجهم، ويفقش فيها الموج مشعًّا صافقًا.» فالفقش للبيض، والمشحة سريانية لا عربية. أبعدها الله عني وعنه!
وقال: «وكان للمطران إبراهيم أن يستدعى إلى حلب، فينتخب» (ص٦٢)، لعل هذا التعبير فينيقي؟ أما في العربية فيقال: وكان قد استدعي … إلخ. وقال في هذه الصفحة، متحدثًا عن النور: «يتخلل من النوافذ» (ص٧٢)، وهو تعبير فاسد إذ يقال: تخلله لا تخلل منه. ثم قال: على «نحو المعروف» (ص٨٤)، والصواب: على النحو المعروف.
وقال: «يقصدها الملوك والأمراء من أقصى الحدود، وتمر بها جماهير الزوار هدفًا من أهدافها في الأراضي المقدسة» (ص٨٦). أما كيف تمر بها هدفًا، فهذا مما لم أفهمه أيضًا من كلام الأستاذ.
وقال: «حتى تجمع شباب اللاذقية» (ص٩٤) لست أدري من قال له: إن كلمة شباب خطأ حتى صححها في آخر كتابه وجعلها «شبَّان». ألا يذكر «معلم الجيل» قول السموءل:
وقال: «حتى لا يكاد يبدو» (ص١١٠)، وصوابها: حتى يكاد لا يبدو. وقال في هذه الصفحة أيضًا: «بيد أن الحقائب مشتملة على الزوادات.» لا أدري من أين جاء بهذه الزوادات، زاد الله في عمره ومعرفته. إنها من فصيح «ستنا» رحمها الله. وقال: «ينصرفون أكثرهم إلى الزراعة في وادي العاصي» (ص١١١)، وحقها أن تكون وينصرف أكثرهم، فنحن في عصر الددت.
وعاد أيضًا إلى القول: «مشحات الكلأ والشعير» (ص١١٩)، فمن مشحات غيم إلى مشحات شعير، ثم لا أدري إلى أي مشحات آخر يؤدي به المطاف؟! ترى أعجزت اللغة عن لفظة تؤدي معناه؟
وقال: «وهو غريب فيمن يعيش في مثل بيئة حماة جمالًا طبيعيًّا، ومناخًا سهلًا … إلخ.» (ص١٥٠). لعله أراد شيئًا لم يحسن التعبير عنه، فوجه الكلام هو: وهو غريب فيمن يعيش في بيئة مثل بيئة حماة جمالًا … إلخ؛ أي بزيادة كلمة بيئة قبل مثل.
وقال: «يؤمونها لبيع منتجاتهم، ولا سيما الخيول المشهورة بها حماة، ومشترى حاجاتهم.» (ص١٥٤). فاضطربت جملته؛ لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أطول من شهر الصوم.
وقال: «الدجاج المحمرة» (ص١٥٨)، مع أن المطاعم تكتب «دجاج محمر»! وكيف ينسى وهو أستاذ أدب، ومصنف «الروائع»، قول صاحبه الأخطل: صاح الدجاج. وقول صحابنا أبي النواس:
وقال: «متمايلات بالفساطين الزرق على الشراويل الحمر» (ص١٧٠)، فإذا كان يريد الشراويل لبنانية فهي لباس الرجال، فلماذا ابتعد عن السروال ولم يقل كالمتنبي، وبديع الزمان في مضيريته: ودخل في سراويلها عشرون ذراعًا … ثم أين هذا من قول الريحاني: «وشمَّرت بكرم فضَّاح؟»
إن رحلة الأستاذ، على كثرة عدد صفحاتها، لا تساوي صفحة أو صفحتين مما كتبه الشدياق والريحاني في هذا الموضوع.
وقال: «يستحر الجوع» (ص١٧١)، ولعله اغتر بقول المتنبي: بأجسام يحر القتل فيها. إن الجوع يبرد ولا يحر، فلماذا رغب في فعل حار؟
قد يقول بعضهم: لماذا كل هذا التشدد؟ والجواب هو أن البلاغة تطلب من رجل يخرِّج معلمين للوطن، فإذا كان هو هكذا فكيف يكونون هم؟!
وقال: «وكأنه يتشامخ مترفعًا أن تمسه» (ص١٩٥)، إن فعل ترفع يتعدى بعن كقول المتنبي:
فكيف ينساه المعلم وهو قد نسخه لروائعه؟
أما الجمل المخلعة والكسيحة التي لا تقوم على أمشاط أرجلها فقد ضربت عنها صفحًا؛ لأنني لست مسيحًا لأقول لها: احملي سريرك وامشي.
أعجبني الأستاذ حين وقف عند المعري وأخذ يعلم شيخ الدهور القياس … ويناقشه في الملائكة … والجن. فعل كل هذا في رحلة دامت خمسة أيام، فكيف لو كانت أسبوعًا أو أسبوعين؟ أفما كان أحرى بمعلم الجيل (!) أن يصف لنا ما رأى لا ما قرأ؟ أيظن قراء كتب الرحلات طلاب بكالوريا، أو ليسانس كلية الآداب الشرقية الليلية؟
إن رغبة معلم المعلمين في تكبير حجم كتابه هذا حملته على نسخ ما نسخ من هنا وهناك وهنالك حتى أدت به خاتمة المطاف إلى الأخذ عن تاريخ المير حيدر. وإذا كان له عذر على هيمانه في أودية تاريخ أرواد فأي عذر له فيما نقله عن بعير بيعر؟
ولكن الأستاذ، حرسه الله، تعود اللمَّ والجمع في كتبه ومقالاته جميعها — ما عدا قصته «لماذا» — وعادة البدن لا تتغير.
لما قرأت عنوان «أحاديث السندباد في جزيرة أرواد» انتظرت عجائب غرائب، ولكني لم أظفر بشيء غير وضع الأستاذ كلمة «مثل الزيت» بين قوسين، ثم استعماله ما استعمل من ألفاظ سوقية … وأغرب من هذا كله أن يعمل «إصلاح خطأ» لكتاب لا تخلو صفحة منه من ركاكة أو خطأ، فكتاب عليل سقيم ككتاب خمسة أيام يحتاج إلى خمسة أعوام في مصح ضهر الباشق أو الشبانية … لا إلى إصلاح خطأ.
إن كتب الرحلات تحتاج إلى طرافة وظَرف، والأستاذ المحترم يعرف هذا ويحب أن يتظرف، ولذلك جاء بتلك العناوين المسجعة، وبنقل ما نقل عن شاعري حمص وحماة، فصح فيه قول المثل: العين بصيرة ولكن اليد قصيرة!
وأخيرًا أقول: لم يكن هذا الكتاب ليستحق النقد؛ لأنه هش فاضٍ، فخير ما فيه تحقيق تأريخ أرواد … أقول هذا بالنسبة إلى معرفتي أنا بالتاريخ، أما رأي الدكاترة حتي وزريق ورستم فلا أعرفه.
وهنا يحق لي أن أتساءل: ترى ماذا يقول مؤرخو النهضة الأدبية، بعد عشرات السنين، إذ يقرءون كتاب، «خمسة أيام في ربوع الشام»؟ ماذا يقولون حين يعرفون من مطالعته أن الأستاذ فؤاد إفرام البستاني كان مدير دار المعلمين الصغرى، وأستاذ العربية وآدابها في النصف الثاني من القرن العشرين؟
اللهم نجِّ لبنان من تلك الساعة، وأجز عنه تلك الكاس!