شفتان بخيلتان لرياض طه
عندما أصدرت دار العلم للملايين مجموعة الأستاذ رياض طه القصصية «شفتان بخيلتان» جاءتني تختال كما قال ابن الرومي: خيلاء الفتاة في الإبراد.
يحق لرياض طه أن يتيه ويعجب بعرائسه الحسان، ولكن ليس له أن يحمِّلهن في جيوبهن بطاقة حافلة بالابتهار فيجر سلاحه على «مارون عبود». ظن رياض، كما ظن غيره أيضًا، أني شيَّخت فاتسع صدري، وصرت حليمًا، كما قال مرة صديقنا الأديب محمد النقاش، حين سمعني أثني من محطة الشرق الأدنى على بعض الكتب ولا أنتقد الانتقاد المر.
لزمن خلا كان المؤلفون يرهبون مارون عبود، فيترددون لدى نشر كتبهم متهيبين الوقعة …
أما أنا فلم أتهيب، بل أسرعت إلى نشر هذا الكتاب بكل جرأة وتحدٍّ … وذلك لأن أبا محمد ألقى سلاحه على ما يبدو … ولأنني لست من أولئك «الفطاحل» الذين كان مارون عبود يعترضهم ليفرفك مناخيرهم …
والله العظيم، ما آلمني إلا عبارتان: لزمن خلا، وكان مارون عبود. لم تكن تهمني لفظة «كان» لما كانت لبطتي تهد الحيط، أما اليوم فكل فعل ماضٍ، وخصوصًا كان وخلا وما أشبههما، يصح بي أن أقول عند سماعها: سمعت بأذني رنَّة السهم في قلبي.
ليس. فلندخل الموضوع. قرأت تلك الأقاصيص الرياضية وفي نيتي أن أتناول «المهدَّة» ولكنني رأيت أمامي بناء طريفًا، وكاتبًا في عز طلعته يرجى خيره، قد أعرب في محاولته الأولى عن مقدرة فنية في أكثر أقاصيصه. وهذي خطتي مع الثنيان، أما السَّدَس من الكباش وما فوق، فالأجدى — متى أساء — أن يجعل عبرة وعظة للطري عودهم. أقول هذا لئلا يغتر أحدٌ أن شبابي ولى، ثم هل يطلب منا أن نحطم بحق، وبغير حق؟ لا والله!
أظن أنه حان لنا الآن أن ننقل ما كتبناه بالحرف عن «شفتان بخيلتان»، بتاريخ ١٤ /٦ /١٩٥٠، وأذيع في وقته من محطة الشرق الأدنى، ولا تزال نسخته محفوظة عندها كما أن الأصل عندي وهذا هو:
«شفتان بخيلتان عنوان أقصوصة جعله مؤلفها الأديب رياض طه عنوانًا لمجموعة أقاصيص طريفة. قدم لهذه المجموعة القصصي الشهير الأستاذ محمود تيمور، وأثنى عليها بالتي هي أهله. فأقاصيص رياض ذات لون محلي صارخ، وعبارة قصصية حقًّا. تمشي القصة على رسلها حيث لا يتكلف رياض طه الخلق، أما حين يحاوله فتبدو الغرابة، ويقع المستحيل الممكن … وكثيرًا ما تنتهي هذه القصص بالاطلاع على نبأ في جريدة، ولا بدع فرياض ممن مارسوا الصحافة ونبه فيها شأنهم.»
الحوار عند قصصيِّنا الموهوب طبيعي لو لم يكن يفسده غالبًا بكلمات لا ينطق بها الناس عادة في المحاورة مثل: لقد، وإن، وأمثال هاتين.
أما البدعة الجديدة التي لم أرَ مثلها من قبل، فهي أن الأستاذ رياض طه يعارض من قدَّم لكتابه بأقوال غيره فيه. فإذا قال تيمور برفق: «وكأن هذا كله قد ألهاك شيئًا ما عن عنصر له مكانته في الفن القصصي؛ ذلك هو التحليل النفسي للمشاعر والمواقف والشخصيات.» علق رياض حاشية تنقض هذا القول وهي: نشر الأستاذ صلاح الأسير مقالًا في نقد هذه المجموعة قال فيه: «ولقد استوقفتني قصة «بعد خيانتها»؛ لأنها تنبض بالتحليل النفسي العميق، دون تكلف له أو تصنع.»
وهناك حاشية أخرى يدحض فيها أيضًا كلام صاحب المقدمة. قال تيمور: «إن الحياة على اختلاف ألوانها تهتف بنا أن نوليها حقها من الوصف والعرض والتصوير، فلا تلفتنا عاطفة الحب وحدها.» فكانت حاشية أخرى للأسير ناقد هذه القصص، وهذا ما أحتاج إليه منها: «إن عنايته — أي رياض — بالحب في جميع قصصه تصبح حدثًا عارضًا في سياق الحياة الخافقة بألف لون ولون. ومن أجل ذلك يختفي الحب في قصصه ساعة ينبغي له ألا يكون … فليس الحب عنده — ولله الحمد — ضرورة قصصية …» (المقدمة، ص٧).
أما الذي لاحظته أنا فهو أن القصتين اللتين كتبتا عام ٤٩ هما دون أخواتهما، ولعلهما كتبتا على عجل، أو لتكبير الحجم، وإن كنت أعلم حق العلم أن دار العلم للملايين ليست في هذا على رأي أحمد فارس …
رأيت رياض طه في القصص التي تلائم عمره أبرع منه في سواها، فقصة «بعد خيانتها» تجري على هينتها، وهذا السير السريع المطمئن من مقومات القصة الفنية، وهو يدلنا على أن ما ينبع من النفس تسهل تأديته.
قد أجاد صاحب «شفتان بخيلتان» سلمت يده.
هذا ما أذيع بحروفه من محطة الشرق الأدنى، لم أزد عليه مدحًا ولا قدحًا. وإنما زدت حواشي الأسير وكلام تيمور؛ لأن المجال في الإذاعة لم ينفسح لذلك، والآن بما أننا ننشر النقد في جريدة صاحب «شفتان بخيلتان» فلا بد لنا من زيادة ولو قليلة.
قصة «قلب من حجر» جميلة بدايتها ولكنها قصرت عن مستواها في النهاية ولا سيما حين تكلف رياض خلق الفاجعة التي أوحاها إليك سمك بلده النادر الوجود — الهرملاني.
سخيف طلب تلك الآنسة التي علمتها عمتها المقهورة تلك التعاليم التي يقطر منها كيد النساء: «عذِّبي الرجال يا هيفا، حطمي قلوبهم …» إلخ. طبيعي جدًّا كان مطلع هذه الأقصوصة، ولو ظل السياق مطردًا لكانت من أروع الأقاصيص. ومع ذلك أقول: في الدنيا سخف كثير؛ فقد توجد واحدة تتمنع وتتأبى كهيفاء ثم تطلب أخيرًا السمك الهرملاني … ولكن وفاء هيفاء لصاحبها يستر عليها.
أما ملاحظاتي على الأسلوب فأرى أن فيه بعض عبارات مدرسية ولغوية يزجها رياض زجًّا فتشوه إنشاءه القصصي الجميل، مثلًا: تغذ في سيرها، وكزتها بأظافرها، ثم الفينة المنفلوطية. فقوله: تغذ أشبه بقول الشاعر صلاح لبكي أمس، في ذكرى الريحاني:
لماذا آثر صلاح بهاليلها ولم يقل مثلًا: مغاويرها؟ من يدري؟ وللناس فيما يعشقون مذاهب … وكذلك لا يعلم أحد أي شأن لرياض في تغذ. فليفعل ما شاء ولكنني أرجو منه أن يترك السين وسوف في الحوار، وأن لا يكثر من استعمال «إنَّ» فهي أكثر مما يلزم. ولينفر من العبارات المعلوكة وليكثر من مثل هذا التعبير: الثغر الممتلئ الثائر. أما قوله: احتواها المقعد، وإن قالها شوقي — همت الفلك واحتواها الماء — اضطرارًا، فهي لا تحلو لحسنائه ولا لقصصي من طرازه.
وإذا قلت يا رياض: «رأيت ساميًا»، مثلًا، فهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولكن لأي سبب تقول: «وما دمت أهوى نوالًا؟» قل: أهوى نوال؛ لأنه صحيح وطبيعي في وقت معًا. إن نوال ممنوعة من الصرف لأنها اسم علم مؤنث. فلو كان زيد اسم علم لامرأة منع من الصرف، كما قال ابن مالك: أو زيد اسم امرأة لا اسم ذكر.
وفي الحوار الذي تهنأ عليه أحر التهنئة اسمح لي أن أفصِّل ما أجملت، حين كتبت لمحطة الشرق الأدنى، تقول في قصة «يوم افترقنا»: لقد طالت غيبتك جدًّا يا أستاذ، أين أنت في هذه الأيام؟
طيب! ولكن ألا ترى «لقد» هنا مثل عقدة في قضيب خيزران؟ ثم جواب الأستاذ: والله، لقد كنت مشغولًا. ألا ترى لقد هنا أبشع وأبشع! ناهيك أن أصول البلاغة لا تدعونا إلى استعمال لقد. فبعد القسم بالله لا يحتاج إليها. أنسيت قول النابغة حين حلف للنعمان وقال:
نسيتُ أن أقول شيئًا، وهو أن شخوصك كأنها ذات وجود، نستطيع أن نميزها ونشعر كأننا نعايشها؛ أي إن بعضها يحمل هُوية — تذكرة النفوس — فيها علاماته الفارقة، كما أن القارئ ينتقل معك إلى حيث تنقله حين يقرأ قصصك، ولا سيما حين تحدد الأماكن ضمن إطار معين.
أهنئك ثاني مرة.