الفوضى العالمية على ضوء الإنجيل للخوري حنا مارون
«يا جمجمة، تفضلي الليلة، تعشي عندنا.
قال هذا ورفسها برجله فتدحرجت. وعند الغروب، يا إخوتي المباركين، تجمعت الضيعة رجال وأولاد، ونسوان وبنات، ودارت الكأس على صوت الدف والقصب. وفيما هم يشربون ويتنقلون دق الباب.
دخلت الجمجمة، لبَّت دعوة الشاب الطائش اللباط. ليتكم تعرفون يا أولادي ما جرى، جنت العروس، وأغمي على العريس، وهرب الناس كلهم، واستحال العرس ليلة فزع ما سمعت بمثلها الضيعة. الموت — يا أولادي — الموت. ما أقوى شوكتك يا موت!»
كان عمري ثماني سنوات عندما سمعت هذه الموعظة عن الموت وتكريم الموتى، فأحدثت في سروالي فزعًا … أحسَّت أمي بالكارثة، فأخذت تشجعني ولكن هيهات، فكنيسة عين كفاع معتمة، ولأمر ما أعد الخوري سراجًا فتيلته كفتيلة سراج بخيل الجاحظ، وأوقد شمعتين فقط، فكان له المشهد الذي شاءه عارم الرعب.
ما تعشيت تلك الليلة. ذهبت توًّا إلى فراشي ونامت أمي إلى جانبي، وظلت تنثر فوق مخدتي أخبارها المضحكة حتى تركتني ظانة أني نمت على سرور. ما كدت أغفى حتى نفضتني الحمى فأفقت أرتجف، فتركت المسكينة الموقد وترامت عليَّ، وهرول جدَّي وانتصب عند فراشي يصلي على رأسي، فازداد فزعي. حسبته ذلك الواعظ الجبار. ورأى هو أن صلاته لم تنفعني فانحنى فوق مخدتي فأجفلت، فصاحت أمي: جدك، يا ابني، جدك. وكلمني هو بصوته المرتجف فأدركت أنه غير ذاك. فسكنت إليه، وهدأت أعصابي.
هذه إحدى المواعظ التي حفظت إيماني من تهور القلب … وعندي لها أخوات نابغات. هذه الصغرى التي تيمها عمر، أما الكبرى والوسطى فيأتيك نبأهما في «قصصي وأخباري».
اللهم عفوًا وغفرانًا، اللهم اغفر لي وللخوري يوسف اللاذقي الواعظ الشهير.
الشيء بالشيء يذكر. ذكرتني مواعظ الخوري يوحنا مارون بهذه النكبة التي حلت بي في طور التكون والتحول، ومن يدري فربما كانت هي التي غيرت مجرى حياتي، فليتني أولد ثاني مرة كما قال السيد المسيح لذلك السائل: كيف يرث ملكوت الله؟
عندما قرأت «الفوضى العالمية» عنَّت لي أيامي السابقة، أيام كنت أعيش في ظل الكنيسة، في ظلمة مار روحانا عين كفاع المطمئنة، ورطوبتها الخشوعية المنعشة. أصغي إلى صوفية مار إفرام، ومار يعقوب، وأسمعهما يتدللان على الله. فلو صحَّ لنا وعَّاظ كهذا الأب المثقف، لما صحت فينا الكلمة المأثورة: ورب أكلة حرمت أكلات …
الخوري يوحنا مارون في مواعظه السبع يحادث القلب والعقل معًا. ما هو بالمنطقي الجاف، ولا بالمتفلسف المتقعر. يعلم أنه يحدث الشعب فيوجه كلامه إلى القلب — مستودع الإيمان — مارًّا بطريق الدماغ. ولا نعدو الحقيقة إن قلنا: جعل الحمل عدلين، فما رجحت كفة على أختها، فمن بعد عن القلب يرفض حديثه، ولهذا تقرأ مواعظ صاحب «الفوضى العالمية» وأنفك راغم — غض الطرف.
تعجبني جدًّا مواعظه فهو رجل عاطفة وإيمان، وصاحب فكر وبيان، فجاءت عظاته من طراز جديد في الكنيسة الشرقية. يحاول مؤلفها أن يدب الحياة إلى المبادئ الدينية التي يراها الكثيرون مفلسة هرمة، ولكن بيان هذا الأب وبرهانه يقنعاننا أن الكمال المسيحي ليس مبدأ خياليًّا يستحيل تحقيقه. فالمحبة حلم يتحقق إذا شاء البشر، وإن الفوضى العالمية لم تعد أنشوطة، وإنما هي عقدة العقد التي لا يحلها إلا الإنجيل.
لم تتعود منابرنا مثل هذه اللهجة، ولم تألف مثل هذا الكلام الذي يقرؤه المؤمن والزنديق والكافر ويخرجون منه جميعًا معجبين بالقلم الذي خطه، القلم المبشر بروح الإنجيل أعجوبة العجائب.
من مقطع واحد من فصول الإنجيل — أو من إنجيل واحد بلغة الكنيسة — اتخذ الخوري يوحنا مارون مادة عظاته، فخلق من بضعة أسطر زادًا له وللمؤمنين، مدة الصوم، كما خلق السيد المعلم من السمكتين والخمسة أرغفة مأدبة للموعوظين عند الجبل، قبل أن تثور بحيرة طبريا.
لقد أصبح لطبريا رائعتان، رائعة المتنبي في الشعر، ورائعة يوحنا مارون في الوعظ الديني والمدني، وموضوع النابغتين الأسد: هذا الأسد المنتصر من سبط يهوذا، وذاك أسد بدر بن عمار بن إسماعيلا.
ما أشبه هذا الأب بلا كوردير فصاحة وبيانًا. للكاهنين — الغربي والشرقي — هدف واحد هو الملاءمة بين الدنيا والدين. وجعل المسيحية عامة والكثلكة خاصة ملأى بروح العصر، وقد عالج الأب مارون، مثل لاكوردير، إنما في عشرات الصفحات، معظم مشاكلنا الحاضرة على ضوء الإنجيل. عرض لنا بإيجاز مسهب جميع مبادئ زماننا وعقائده من سياسة وفلسفة واجتماع وعلم ببراعة لا عهد لنا بها في كنائسنا من قبل.
إن أسلوب الخوري يوحنا مارون متقد، يجذب القارئ، ويسوقه بعصاه السحرية إلى حيث يشاء. لا أجادله فيما يتحدث عنه، وحسبي النتيجة الإقناعية التي تؤدي إليها بحوثه. وكم أعجبت بالموعظتين الأخيرتين بل بكتيبه كله، وتمنيت لو يكثر عندنا مثل هذا الوعظ الذي يأخذ الناس بالحيلة البولسية. أما أحابيل واعظنا الكبير فهي غير تلك، إنها عصرية مصنوعة في معامل العلم، لا تتكئ على سواعد الإيمان فقط، فيرفضها من يريد، ولكنها تفقأ في عين المماحك حصرمًا.
من فكاهات الجاحظ طرفته الفنية «آكل الرءوس»؛ فقد روى أن بطله أبا عبد الرحمن كان يسمي الرأس مرة «الجامع» ومرة «الكامل» فهل نؤاخذ إذا استعرنا هذا اللقب لكتاب «الفوضى العالمية»؟ وهل من حرج إذا دعونا هذه العظات المعلقات السبع في الأدب «الطقسي»؟ ففيها خيال بديع وأدب رومنتيكي، وبلاغة لا تشوبها ركاكة، ولو قرأها الفارياق لقال: هذا خوري فصيح وهذا وعظ مبين، ثم حذف ذلك الفصل من كتابه الخالد.
إن صاحب «الفوضى العالمية» رجل مثقف، ومتى علمت أنه قائد جحفل لجب من شباب البلاد، مدبرًا ومعلمًا لا تكبر صدور هذه المواعظ عنه؛ ففي ذلك الجسم النحيل عزيمة الجبال، ورواء المدينة. إنه ليصح أن يؤخذ وجهًا من وجوهنا في القرن العشرين، فعدته تامة، وشخصيته مسلحة بقوى نفسية نادرة؛ فهو كالأب ديدون يحاول أن يجد في الكثلكة دواءً شافيًا لبؤس العصر. وقد توصل بتأويله وتفسيره إلى إقناع غير قليل، فأرانا أن بين الدين والدنيا قرابة دموية. وحسبك الموعظة السادسة لتؤمن بل لتصدق ما أقول أنا، وتؤمن بما قال هو. عالج هناك معجزة المعجزات — سر الأفخارستيا — بتوفيق عظيم أغبطه عليه، وأهنئ الكنيسة. ولا بدع؛ فقديمًا كان فم يوحنا ذهبيًّا … وطوبى للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله.
وإن كان لا بد من قول فيكون حول تفرنج الأسلوب، ولكن ذلك قليل جدًّا. فإلى الأمام يا محترم، احرث كرْم ربك، فالحصاد كثير، والفعلة — اللهم المهرة — قليلون.