الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم
ألَّف هذا الكتاب الأستاذ أنطون غطاس كرم، فسد فراغًا في المكتبة العربية كان لا بد له من سد، فكثيرًا ما يحاول الشعراء الذين قلَّ رأس مالهم من اللغات الأجنبية أن يطلعوا على الحركة الأدبية الرمزية في مصادرها فيتعذر عليهم تفهمها ويخبطون في تقليدهم كمنايا زهير.
الكتاب نافع، وإن جاء متأخرًا، وما مثلنا معه إلا كمثل «الموض» التي تبطل في بلادها فنأبه نحن لها ونُعنَى بها كحدث ظريف، ونفصل قماشنا على طرازها ونلبسها مبتهرين …
لا يبعد الأدب كثيرًا عن أن تكون فيه موض وأزياء، حتى إن المفردات تموت حينًا، ثم تحيا، ثم تموت، تبعًا لسنن الحياة. ألا ترى مثلي أن هذا الشعر الذي يسمونه رمزيًّا يكاد يستأثر بمفردات لا تدور على ألسنة أقلام كتابه غيرها، ثم تسند إلى أشياء بعينها فيخلق المولود الرمزي العجيب.
فما هو الرمز الأدبي؟ لقد أورد الأستاذ أنطون كرم تعريفات كثيرة يضيع القارئ بين سطورها. وأي عجب في ذلك، أليست رمزًا؟
عندما تسنم بول فاليري شاعر فرنسا العظيم كرسي الأدب في «كولج دي فرانس» افتتح دراساته بمحاضرة عن الأدب الرمزي استغرقت حصة طويلة من الزمن، وأخيرًا انتهى والسامعون لم يفهموا مراده … فأقبلوا على زوجته يهنئونها — مجاملة — بما قال زوجها، وابتسامة الحيرة على أفواههم، فقالت لهم الزوجة النبيهة: ماذا تطلبون؟ إنه يحدد ما لا يحدد!
وهذا ما فعله الأستاذ كرم في كتابه «الرمزية». فقد رأى، بعد أن أورد تحديدات عديدة، أن «بوفيه» هو خير من حاول تحديد الرمز بكلام يفهم، فعربه كما يلي: «الرمز هو بقية التصفية الفكرية، والجوهر الأقصى في كل تشبيه.»
- (١)
الشعر خلق من الجمال منغم. والجمال غرضه الأوحد.
- (٢)
هو تلهف نحو مثال أقدس، وانطلاق من نفس متعبة تنهار على ذاتها في جو من الحلم، وفي تعبير شعري موسيقي غنائي.
- (٣)
الحقيقة العميقة في الذات هي موضوع الشعر الحق. بحيث يصبح الشعر توقًا واشتياقًا.
- (٤)
ينبغي أن تكون القصائد وجيزة تهز الذات؛ لأن شعور الإنسان الجمالي زائل عبوري لا يستمر حيًّا طوال القصيدة الطويلة، فإذا طالت القصيدة باد هذا الشعور في كلام المبدع والقارئ وخبا.
إن الشاعر الأميركي بو رصف مبادئه هذه على نسق الوصايا العشر، إلا أنه جعل وصاياه اثنتي عشرة، فاسمح لي أن أترك خامسًا وسادسًا وسابعًا وأقول:
(٨) الإبهام عنصر الشعر الأساسي كما أنه عنصر الموسيقى الأوَّلي: فالإيضاح والبوح بكامل الأشياء يعري هذه الأشياء من مثاليتها وجمالها الأرفع. ومن مسحة الحلم الجميلة. فلينفِ الشاعر الوضوح وليعد إلى خلق جو ضبابي منطوٍ على كل عجيب مبهم.
إنني أستخلص مما تقدم ذكره، ومن كل ما جاء في الكتاب: «إن هذا الشعر الرمزي لا يحفل إلا بالموسيقى والإيحاء ولا يكاد يحفل بالمنطق.» كما جاء في الصفحة ١١٩، وهذا ما يذكرني بما قاله، منذ ألف عام وأكثر، شاعرٌ عربي ربي بدويًّا وتحضر في بغداد. لا تتهمني بالتعصب للعروبة إذا أريتك أن شاعرنا البحتري قد فهم الشعر منذ أحد عشر قرنًا وأكثر، كما فهمه هؤلاء المعاصرون الأوروبيون، فقال يردُّ على خصومه، ولعله يعني ابن الرومي:
لست أعني أن البحتري شاعر رمزي، ولكنني أعني أنه قرر ما قرره أساطين الرمزية.
ثم يغرب الرمزيون في تفصيل فنهم فيجعلونه «أحوالًا» بالصوفية أشبه، فيعدون طور المعقول ويرون الألوان والأصوات والعطور في الحروف.
لا نستطيع مناقشة هذا الآن؛ لأن المجال ضيق، ولكننا نثني على جهود الأستاذ كرم ونتمنى عليه حين يعيد طبع كتابه هذا أن ينقيه من التعابير الواهنة، والخاطئة، وخصوصًا الغامضة؛ فهو لا ينظم شعرًا رمزيًّا بل يكتب عن الرمزية.