الأسلاك لأميل حائك
أسلاك الكاتب أميل شائكة ومكهربة في وقت معًا. تنظر إلى صاحبها فتخاله بعيدًا عنك وإن كان يحدثك وجهًا لوجه. إنه معك، وإن لم يكن كله فجلُّه. لا يجود لك إلا بمقدار ويحتفظ بالباقي لحين الحاجة. فهو لا يقتصد في الانتباه فقط بل يشحُّ بالابتسامة أيضًا. فلا يتفضل عليك إلا بالنصف، هذا إذا تكارم، وأما النصف الآخر فيعلم الله متى يكون موعده! عينان سابحتان في وجه غائم تشيع فيه بسمة حائرة. إنك لست تدري ما تقول ابتسامته إذا كنت لا تعلم أنها مدت هذه «الأسلاك» الملبسة بالمطاط ولم تعزلها كل العزل فظلت تكهرب.
ليس كتاب «أسلاك» بحديث العهد، وقد يقول قارئه والمؤلف نفسه حين يطالعان كلمتي هذه: «تعيش وتفيق!» أما أنا وهذه عادتي فأجيبهما: أأفاق صبٌّ من هوًى فأفيقا …!
وبعد فما لون هذا الكتاب؟ إنه كتاب نضال يا قرائي العزيز، وقد قال صاحبه حين دفعه إلينا: «هذه المختارات من المقالات، وقد درجت في الصحف لم تجمع في كتاب يقدم إلى المكتبة العربية بتواضع كبير، إلا اعتقادًا بأنه سيكون — في الغد — حافزًا لإنتاج أقوى … إلخ.»
وهذا هو الواقع، وقد نضجت فكرة كاتبها اليوم واكتنزت عبارته فوقفت على قدمين ثابتتين. مدَّ أميل حائك أسلاكه في كل جبهة، فالحكمة، وإن كانت زاد طريق طويل، هي أول أسلاكه التي تطالعك. أليس لابن العشرين في الأدب العربي ما لابن الثمانين؟ قد يوجد الحلم في الشبان والشيب … وترى فيها نظراتٍ وآراءَ في الأدب، إنه يريده نضاليًّا واقعيًّا «يعالج مشاكل الجماهير، ويعبر عن آلامها وآمالها.» يعبر الأستاذ حائك عما يريد بتهكم مرٍّ وهزء موجع لعله وليد تلك الشخصية التي رسمت لك بعض خطوطها الكبرى في مطلع كلمتي هذه. اقرأ شذراته تحت عنوان «الأدب والأديب» لترى كم عند هذا الشاب «الجنتلمان» من آراء تقف عندها واجمًا مفكرًا. فهو يشن غاراته من وراء أسلاكه التي يعتصم خلفها. ويقول كلماته في الأدب بصيغ «المراسيم». يريده «ثورة ونورًا وتوجيهًا وعملًا» وإذا كان غير ذلك «فهو أدب محدود الفائدة ضيق الأفق تائه الفكرة، وقد يكون سيِّئ القصد.»
لا يا أميل، إذا طلبنا هذا من جميع الأدباء كنَّا كمن يريد جميع الطيور بلابل وعنادل … فهناك حد وسط لبعضهم. فليسوا كلهم يصلحون أن يدوروا في حلقة مفرغة من خيالاتهم الفلسفية، أما قيل: الناس أجناس؟
ولا تقف أسلاك أميل عند هذا، بل تتجاوزه إلى شئون أخرى محلية تمس كلها الواقع. ولا بدع في صحفي، وميدان الصحافي هذا الواقع الراهن دون سواه، وقد طغى حب أميل الواقع حتى بلغ الزبى فقال: «لنفتح السجون … إذن، ولنختم المدارس … بالشمع الأسود! أقول هذا، لا حبًّا بالسجن … بل كرهًا للمدرسة … مدرسة الشهادات.» لقد ساءته تلك العلوم النظرية التي لا تنفع صاحبها، فيكون في الحياة غريبًا عن أورشليم كما قالوا قديمًا، فقال ما قال: «أما العلم في نظري فأرى أن يطلب بحسب المواهب لا بحسب أنانية الطالب.»
وبعدُ؛ فإن الأستاذ حائك سيكون كاتبًا نبيه الشأن إذا اهتدى إلى شخصيته، بل فلنقل: إن هذه الشخصية، في كتاب «أسلاك»، ما زالت نجمة سديمية والمستقبل كفيل أن يكثفها ويبلورها.
وأخيرًا ما هي المآخذ على الأستاذ حايك؟ وهنا لا بد من كلمة نوجهها إلى القليلي الحظ من الأصول واللغة، فنراهم مستخفين بهما، قائلين: المعاجم! كتب الصرف والنحو! لا أدري ماذا يريد هؤلاء، فأية أمة من أمم الأرض لا تحافظ أشد المحافظة على صيانة لغتها؟ إننا لا نطلب من هؤلاء ثروة لغوية، ولكننا نريد أن ننفي من نقودهم الدرهم الزيف، ولهم، فيما بعد، أن يدسوه حيث شاءوا، إذا شاءوا. أما من يريد أن يكون له شأن في الكتابة فهو مسئول عن كل هذا.
ففي كتيب الأستاذ حائك أخطاء وافرة، في اللغة والأصول، بعضها طبيعي وبعضها أراده الكاتب هكذا. نراه يضع بعض الألفاظ بين قوسين حاسبًا أنها عامية وهي فصيحة مثل لفظة: بوز، وقرض، ولبط، ونكع، ونفضوا طوقهم … إلخ. ثم نراه في موضع آخر يضع الكلمة العامية ولا يعلِّمها بعلامة.
أما السريانية فما له ولها، في قابل. لقد أخطأ في التعبير، وقال ما لم يقل ولا يقال، فليته ظل يستعين بالألفاظ العامية التي خلقت في تعابيره الكثيرة جوًّا أنيقًا طريفًا.