أشياخ الأدب في مصر
أغضبنا عبَّاد «الأصنام» من أجل «التوحيد» الأدبي؛ فانهالت علينا الرسائل سوداء وحمراء مِمَّنْ يفكرون بعقول جيرانهم مستهجنين نقدنا، تارة يسمونه تحاملًا وطورًا يعدونه تهجمًا، ونصحوا لنا أن نتناول غير مشيخة أدباء مصر الوقر، فيدنا أقصر من أن تنال الثريا … فصبرنا على هذه العطعطة ولا نزال، وكتبنا وسنظل نكتب، يعزينا إخلاص المنصفين — ومنهم كبار المتمشرقين — وإن ضميرنا مستريح.
يتساءل بعضهم: لموضوع المجترين بقية فأين هي؟ نعم يا أخي للحديث بقية، ولكن ألا ينقطع مساق حديثك إذا بدا لك ما يهمك إعلانه. فحديث المجترين كان قد تم لو لم يستوقفني مقال في «المجلة الجديدة» لسلامة موسى — المهداة إلى ابني نديم من رفيق له — عنوانه «خصائص الأدب والأدباء» نقلته المجلة عن «الفجر» أما كاتبه فالأستاذ محمود سيف الدين الإيراني.
أما منو الإيراني هذا؟ فالجواب أنني قرأت لهذا الاسم في «السياسة الأسبوعية»، وفي مقاله الذي أنقل لك نتفًا منه يرى حضرته رأينا في «متزعمي» الأدب الذي يريدون تسميته مصريًّا، وما هو إلا أدب عربي بلحمه وعظمه، ولا أشبهه إلا بالماء المتلون بلون الإناء.
تناول الإيراني الكتَّاب عينهم: طه وهيكل والمازني والعقاد وسلامة موسى، وفصَّل ما أجملناه. أما كلامنا فإليك بعضه: «فما يضر العقاد لو انصرف إلى النثر وفي أبحاث لا يتعداها، وإن كان يتجاهلها أو يجهلها دللناه بالإصبع عليها. أيغصب نفسه على الشعر … إلخ.
وما ضرَّ طه حسين لو انصرف إلى الترجمة «جهرة» والنقد العام لا التطبيقي، والدراسات الفردية — كما أشار عليه المازني منذ أعوام — واختص بدرس تاريخ الأدب العربي وتمحيص الرواية، ولو غوى مع كثير من المتمشرقين، وهام في أودية مرغليوث!
وما ضرَّ المازني لو لزم أسلوبه الفكاهي وقفَّى على آثار مارك توين وأضرابه فلا خوف على شهرته ولا هو يحزن إذا أدى رسالته بأمانة!
وما ضرَّ حسين هيكل لو جاور أنقاض إيزيس وأبيس وسميراميس واختص بأدبه الفرعوني وقصصه، ولو طلست ألوانه المصرية وشاهت لهذا التعمد وتتالت الأصباغ!
وما ضرَّ سلامة موسى لو اختص بأبحاثه الحديثة فأتم رسالة صروف ونمر!
فلو حصر كل واحد من هؤلاء نفسه في نطاق لا يتعداه ترك في الأدب العربي أثرًا، هذا إذا أقلعوا عن خطتهم المعهودة وفكروا كثيرًا، فأدبهم الإنشائي بل إنتاجهم الشخصي ضئيل جدًّا، وكلما تقدمت بهم السن شاخت فكرتهم ونصل صباغهم، وأنسلوا ذرية ضعافًا — بينا هتلر وعلماء الأجناس يقولون بالتعقيم — فماذا يكون لو بلغوا أرذل العمر.»
لقد مللنا حديثهم، فما كتبوه، إلا أقله، لا يخرج عمَّا يقول الدليل حول الأهرام وبين أنقاض قلعة بعلبك، وأنس الوجود، وليس هذا بالأدب الخالد. إن ما ينقلونه إلى لغة العرب يعثر عليه كل طالب مُلِمٌّ بلغة أجنبية … لقد توكَّئوا على الشهرة، والشهرة كالسياسة تفسد الفن، فقلَّ إخلاصهم لفنهم وتفه محصول كهولتهم، رزقهم «ربنا» شيخوخة صالحة.
أما كلام الأستاذ الإيراني فإليكه محوطًا بهلالين:
(إنما يعنينا أن نتقصى جهود طه حسين والعقاد وهيكل والمازني وسلامة موسى ومَن إليهم، فهل نلمس في أعمالهم صور الحياة المصرية؟)
نعم نلمس هذا: أدب مصري، أدب فرعوني، قصة مصرية، صورة مصرية، مصرولوجي … إلخ. وإن تتقصَّ، كما تزعم لنا، تجد أدبًا عربيًّا عتيقًا كأنه هارب من الصحراء يشطفه العرق، وقد فصَّل سرواله بنطلونًا وعباءته بردوسيًّا، وحوَّل عقاله عصابة للعنق …
(الواقع أنهم يتفاوتون في ذلك، ونظراتهم وميولهم لا تكاد تلتقي وتتفق، وهم يختلفون في بعدهم أو قربهم من روح العصر، وهم يخطئون جدًّا في تتبع الحركة الثقافية في الغرب ويخلطون بين الصحيح والفاسد … فإن طه حسين حين يبحث الأدب العربي يعتمد على نظريات وآراء المستشرقين، ويشايعهم ويتعصب لهم في كثير من هذه الآراء.)
ليتك كنت أجرأ وقلت وما حابيت: ويأخذ عنهم …
(وحين يتناول الأدب الغربي يحدثنا عن طائفة من المسرحيات العقيمة لمؤلفين ينكرهم روح العصر. لماذا لا يحدثنا طه حسين — وهو ربيب الثقافة اللاتينية — عن جيد، ودي مامل، وبندا، ودي لاكروتيل، ومنترلان، وهنري بربوس. إن هؤلاء يجدِّدون في الأدب الإفرنسي ويخلقون أعمالًا أدبية … من وحي العصر في مشكلاته وأزماته. واتجاهاته المختلفة تمثل كلها الروح الأدبي في فرنسا خير تمثيل. أكاد أجزم أن طه لم يقرأ هؤلاء، ولم يحاول أن يقرأ، ولو قرأ لحدَّثنا عن أثرهم في نفسه …)
سبحان الله، كيف يقول الإيراني اليوم في طه ما قاله طه منذ أعوام في شوقي؛ أي إنه لم يقرأ غير هيغو ولامرتين ومدرستهما، ولم يعرف شيئًا عن مدرسة فرلين وبودلير.
(ولكنه — أي طه — آثر هذه الألوان اليسيرة السهلة وفضَّل العَرض على الجوهر، وبقي أسير الأدب البرجوازي المخنث، واطمأن إلى القصر المترف والسيارة الفخمة والحياة الرغدة؛ لأنه هو نفسه لا يستطيع أن يتحرر من قصره، وسيارته وترف عيشه.)
معذور يا أستاذ، واطمئنانه كاطمئنان شوقي إلى القصر وحنينه إليه. وبعد فالكاتب حر فيما يعتنق من مذاهب، ولا حرج عليه إن هو أبدع.
(ولكن هل نلمس في إنتاج طه حسين «الخالص» وحي المجتمع وأصداء الحياة المصرية بما فيها من آلام وأرزاء ومحن وجهاد متصل؟)
ليس له شيء من هذا، فلغو الصيف لغو، و«أديب» كاللغو، وهامش السيرة إحياء أدب قديم.
(يعتز الدكتور بكتابه «الأيام» ولكنني أطمئنه؛ فإن أقل الناشئين شأنًا في أوروبا يكتب أعمالًا أدبية «أوتوبيوغرافية» أروع وأجل من الأيام.)
وهذا ما قاله المستر جب عن كتاب الأيام ننقله عن الأسبوع، وهو: يوجد رأي أدبي إنكليزي يقول: إن كل إنسان في الحياة، ولو لم تكن له ملكة الكتابة، في استطاعته أن يكتب قصة بإتقان … ونحن لا نرى هذا الرأي … إلخ.
(مرة أخرى أقرر أن الدكتور طه حسين يعيش على هامش الحياة المصرية لا تؤثر فيه ولا يؤثر فيها.)
وانتقل الإيراني إلى هيكل فقال عنه: (والدكتور هيكل بك حين أراد أن يكتب في الأدب الغربي راح يحدثنا عن روسو وتين وشكسبير وشلي وبيرون، ولا ريب أن هؤلاء من عباقرة الزمن، ولكن الدكتور هيكل جمع بينهم على اختلاف منازعهم وجنسياتهم، وعلى تباين رسالاتهم في الحياة. لم يحاول أن يعطينا عملًا موحدًا عن عصر من العصور، وعن طور من الأطوار الثقافية، ومرحلة تامة من مراحل الفكر. مجرد دراسات متفرقة لا يضمها لون واحد ولا يجمع بينها غرض ثقافي معين، ولكن الدكتور رجل مستقل التفكير فهو لا يقلد أحدًا ولا يسطو على آراء أحد.)
بمن تعرِّض يا أستاذ محمود؟ ليتك صرحت وعددت الغزاة! ولكنني أعذرك وما إخالك إلا تعمل بقول أحد ظرفائنا لواحد كان يعد السكيرين في ضيعة سوادها يسكر. قال له: عُدَّ الذين لا يسكرون وخلصنا! إذا كان هيكل كما تقول فلماذا يحلل الأدباء العالميين أدق تحليل، حتى إذا كتب مقدمة ديوان شوقي اضمحلت براعة تحليله، وامحى ذاك الإدراك السامي للجمال الفني.
«وهو إلى هذا يشعر بوحي مجتمعه وتؤثر فيه الحياة المصرية — في حدود معينة — فينعكس هذا التأثر في أعماله على صور مختلفة تشعرنا بشخصيته، ولكننا نريد التفاتًا أوضح من الدكتور هيكل إلى استلهام الحياة في البلاد العربية.»
أنسيت يا أستاذ، أن الدكتور فرعونيٌّ، أم رأيته كتب «حياة محمد» فدعوته إلى الفتح والاستعمار! أولى بهيكل ألا يبرح محيطه فهو كاتب محلي، وإن نتوسع فإقليمي. أراد أن يكون «رنان» المسلمين فقصَّر جدًّا. وإن كان كتاب «حياة محمد» سفرًا نفيسًا.
(أما العقاد والمازني فإنهما يتفاوتان أيضًا في الشعور بمجتمعهما وفي نقل صور الثقافة العربية إلى أدبنا الحديث.)
قلَّلتها يا أستاذ، أما يستأهل العقاد إلا هذه الكلمة وهو يعتز بفنه اعتزاز الخوري إبراهيم بلحيته الطويلة حتى قيل فيها: اشتر لحيته كما تثمنها أنت، وبعها كما يثمنها هو تَصِرْ أغنى الناس!
(وفي رأيي — رأي الإيراني — أن المازني أوثق صلة بالحياة العصرية وأقرب إلى موحيات بيئته.)
قلت: نعم، فالعقاد مشغول بالغزل الفلسفي … ولكن إذا لم يكن العقاد وثيق الصلة بالحياة المصرية، فكيف نظم «هدية الكروان» وقال في مقدمته، وهو فيها أشعر منه في نظمه: «ومن العجيب أنك لا تقرأ صدى الكروان فيما ينظم الشعراء المصريون، على كثرة ما يسمع الكروان في أجوائنا المصرية من شمال وجنوب … إلخ.»
لماذا لم يعتدَّ الإيراني بهذا الديوان الغالي ويحسبه صلة وثيقة بالحياة المصرية، أتراه اطلع على «يتيمة الثعالبي» وقرأ شعرًا عربيًّا في الكروان، أم أنه رأى بشارة الخوري يذكره أيضًا توددًا إلى المغنين والمغنيات المصريين، وما أكثر تودد أخينا بشارة في سبيل نفاق شعره، حتى غرد الفجر وماجت «الدفقات» ولم يعد ينقصه غير المخضوضر والمعشوشب!
هب أننا رضينا بهذا العليل، فهل للأستاذ الإيراني أن ينبئنا من أين استوحى العقاد قصيدته الفريدة الخالدة ودرته العصماء … التي مطلعها:
والله ما أدري كيف يكون ناظم هذه الرائعة قليل الشعور بالحياة المصرية … وقد فاق فرويد في تحليله نفسية الأطفال، وتكلم بلغتهم في شعره المضحك المبكي المنوِّم كآلة الفارابي؟!
(ولكنه — المازني — بعيد من أن يحدث بأدبه ثورة ثقافية واجتماعية، ذلك لأنه يميل بطبعه إلى الأدب الفكه.)
(أما الأستاذ سلامة موسى فإنه طبقة وحده ليس بالأديب ولا بالعالم، ولكنه مزيج من هذا وذا، وتغلب عليه نزعة «البروباغندا» الاجتماعية، ولكنه يتابع التطور الثقافي والعلمي في أوروبا ينقل عنهما صورًا وآراء لا يفتر عن بثها والدعاية لها، وكادت تكون ثقافتنا ناقصة لولا سلامة موسى.)
هذا صحيح، فسلامة موسى مزيج من فرح أنطون وصروف ونمر، لو كان يحسن التعبير مثلهم. فلو قرأت رأيه (اليوم والغد، ص٢٣٧) في اللغة وعلومها لقلت له معي: الذنب ذنب معلمك يا أستاذ!
(فإنه في تطرفه وحماسته للآراء والمذاهب الجديدة يحفظ التوازن تجاه الجامدين والمتحجِّرين، ولم ألمس الشعور بآلام الحياة المصرية … مثلما لمسته في كتابات هذا الرجل، وهو لهذا أقدر المفكرين جميعًا على إثارة التمرَّد وفتح العيون على ما في المجتمع المصري من ألوان الذل والفقر والجهل …)
وختم الإيراني مقاله بهذا الحكم القاسي:
(وهناك فريق آخر من الْكُتَّاب، فريق مريض منحل يرى الأدب حلية وزينة أو قطعة لذيذة من الحلوى يمثل هذه الطائفة الشاذة: مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، والشيخ عبد العزيز البشري.)
يا ضياع تعب محمود العريان تلميذ الرافعي وصديقه ونجيه؛ فقد ملأ الرسالة بخورًا وندًا … أحرقه أمام صنمه الأدبي. أما شيخنا البشري فمفخرة العرب عند إمام الصناعتين، وشاعر الأقطار العربية، الجواد المسماح بالألقاب والمقدمات، فكل الناس عند «خليل» نوابغ وكل الكتب درر غوالٍ، فعلى «الفقير» الراجي خير التعرف إلى الجمهور أن يأخذ «منشورًا» من «المطران» المكرمان!
(قوام أدبهم — الرافعي والزيات والبشري — التحسين اللفظي، والمظهر البراق، والألوان الخيالية «الرومنتيكية» المريضة، وهؤلاء شرهم كثير، فإنهم يصدون الناشئة ببهارجهم وحليهم وزينتهم عن الأصول القويمة للأدب والثقافة ويحولون بينه وبين عصره … إلخ.) ا.ﻫ.
نحيل هذا المقال على مَن يفكرون بعقول جيرانهم، ويحسبون نقدنا تحككًا وتحاملًا وتهجمًا على «قدس أقداس» الأدب العربي — وليس أفرغ من قدس الأقداس إلا عقولهم — ويرون في «توابيت العهد» ما لم يحلم به بنو إسرائيل حتى جرَّته البقر وأعادته إليهم بلا رهبة ولا إجلال!