الأدب والنقد في مصر
(١) بين أحمد أمين وطه حسين
وهناك نوع من أرقى أنواع الأدب وهو النقد، وأقول بكل إخلاص: إن النقد عندنا ضعيف. ثم قال في مقال أذاعته الرسالة في عدد ١٥٥: «مَن هو هذا القائل: لأن النقد أول شروطه الحرية؛ الحرية العقلية، والحرية العلمية، والحرية الأدبية، فهو لا يعرف الصداقة، ولا يعرف الإكبار والإجلال، ولا يعرف المجاملة والمداجاة؟»
إني أوازن بين النقد من نحو عشرين عامًا والنقد الآن، فأجده ليس خاضعًا لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.
حياتنا الأدبية في هذه الأعوام الأخيرة فاترة راكدة لا يظهر فيها نشاط ولا إنتاج، قد تمضي الأعوام دون أن يظهر في أفقنا الأدبي رأي جديد، أو فكرة طريفة، أو دعوة إلى مذهب لم نعرفه من قبل … غرَّنا الثناء فتِهْنَا وأُعجبنا بأنفسنا وشُغلنا بها عن المضي في طريقنا. خدعنا بما كان يكتب عنا فأخذنا ننقله ونترجمه ونتناوله بالتفسير والتعليق، وأخذ كل واحد يستزيد من هذا الثناء ومن إذاعته، ويلتمس لنفسه الأنصار والشيعة. وعللت النفس بأن وقت هذه الفتنة لن يطول، وبأننا لن نتجاوز عامًا أو عامين نستريح فيهما من الجهد العنيف الذي بذلناه، ثم نستأنف النشاط والإنتاج، ولكننا مع الأسف لم نصنع من هذا شيئًا إنما مضينا في الراحة وما زلنا إلى الآن نستريح …
وقد لقيت من منذ أعوام بعض المستشرقين في أوروبا وكان يُعنَى بآدابنا الحديثة فسألته عن رأيه في حياتنا الأدبية فأنبأني بأنه ينتظر شيئًا جديدًا. ثم سألته منذ وقت قريب السؤال نفسه فأجابني بأنه ينتظر شيئًا جديدًا … إلخ.
يا أستاذ سلامة «موسى»، كيف تلومنا على التعمق في دراسة الأدب العربي وليس في مصر مَن يفهمه فهم العلماء أكثر من عشرين رجلًا، مع أن مصر سكانها نحو خمسة عشر مليونًا؟! كان لك أن تقول ذلك لو كنا نصدر في كل عام نحو مائة كتاب في الأدب العربيِّ، ولكنك ترى الدراسات الأدبية في تخلف فاضح. وترى مَن يسيطرون على دراسة الأدب في الجامعة المصرية يحملهم الجهل على سرقة آراء المستشرقين كما يفعل صديقنا العزيز طه حسين.
إن الأديب لا يهدمه النقد فهو كائن ممتاز لا يهدم إلا بإذنه، ولا يُقضى عليه إلا بإرادته. إن الأديب لا يموت مقتولًا بل يموت منتحرًا … ومع ذلك فإني لا أحب للمؤلفين أن يغضبوا على أي حال فإن الغضب علامة الضعف الآدمي.
أما السبب في أن كل إنتاجنا الأدبي هو للفناء فراجع إلى أنه أدب مسروق، أو على الأقل أدب مسلوب من آداب الأمم الأخرى، وليس فيه من آثار المصرية إلا أنه مكتوب بلغة عربية، ولكن بأساليب أصبحت بدورها أضعف من أن تحسن أداء رسالة الأدب.
فإذا أردنا جيلًا جديدًا ينشأ على مزاج ديمقراطي فإننا يجب أن نهيئه بالعدة الذهنية التي يستخرج فيها هذا المزاج، وهذه هي مهمة الكاتب المجدد في مصر، هذا الكاتب الذي يأسف الأستاذ أحمد أمين على وفاته، وزواله من عالم الأدب في مصر.
وبعد فقد كتب الزيات أحد بهاليل مملكة الأدب العربي مقالًا عنوانه: «النقد المزيف»، كر فيه كرة عنترة المعلومة في قصته الشهيرة على «رجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين فيقف نفسه موقف القائد الحصيف يلمز هذا ويتنادر على ذاك، ويزعم أنه وحده المسيطر على ثمرات الذهن، فيحكم بذوقه الخاص على هذه بالقبح وعلى تلك بالفجاجة، وأمره كله لا يخرج عن مألوف الطباع الساخرة الفكهة … إلخ» (الرسالة، عدد ١٥٠).
أرأيتك ماذا فهمت، أرأيتك هل عرفت مَن يعني الزيات؟ أما أنا، وحياتك، فما فهمت ولا دريت!
لا شك أبدًا أنك قائل: ماذا يقول مارون عبود، إننا لم نفهم ماذا يقول؟ فنجيب: حقُّك عليَّ يا قارئي فما كلفتك قط فك الطلاسم، إن «أرأيتك» هذه من منبوشات المصرولوجي أحمد حسن الزيات، وهي اسم فعل بمعنى أخبرني (الرسالة، عدد ١٥٠، ص٨٠٢)، فقولي لك: أرأيتك ماذا فهمت؟ كأنني أقول لك: أخبرني ماذا فهمت؟ أرأيتك هل فهمت؟ إذن قل: حيَّا الله الفصاحة والفصحاء والبلاغة والبلغاء، وعاش كارنافون لغة العرب الشيخ أحمد حسن الزيات. فعسى «أرأيتك» هذه أن تجبر خاطر أحمد أمين المفتش بفانوس ديوجين عن المجدد المصري.
وما مر أسبوعان على ظهور مقال الزيات «النقد المزيف» حتى قرأنا لأحمد أمين صاحب «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» مقالًا ملخصه: إن النقد قبل عشرين عامًا كان أخصب وأقوى وأعمق، وذكر بالخير اليازجي ونقده ﻟ «مجاني الأدب» و«أقرب الموارد»، ثم قال: لست أنسى ما نقد به كتاب «التمدن الإسلامي» والأخذ والرد اللذين قاما حوله. وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة فيقوم ناقد معترض يبيِّن معايبها، ومادح مقرظ يبيِّن محاسنها، ومن هذا وذاك يستفيد الأديب ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية. وكان يؤلف الكتاب الديني مثل كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فتنشب معارك حامية … وكان في نقدهم أحيانًا هجر وقذع وهجو وسباب … وكان كل من السباب والنقد العنيف علامة حياة أدبية وثورة فكرية وعقل باحث وقلم نشيط.
ورأى الأستاذ أن الإنتاج الأدبي تضاعف وتعددت نواحيه، وكثر الكلام في الأدب العربي وارتقى في جملته، أما النقد فانكمش، وانكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك، فصارت الكتب تنقد نقدًا لا يعتد به. يكتفى باسم الكتاب وعرض موضوعه مستعينين على ذلك بفهرسه ومقدمته، ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ فيلقي الناقد عن عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.
وقال: «إن النقد في الغرب يرقى رقي الأدب ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيرًا محمودًا. وبعدما فتش عن علة ضعف النقد العربي تراءى له أنها علة محلية لا علة طبيعية فشخَّصها بما معناه: النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد ورحابة صدر من المنقود، وأن مثل هذا حدث في تاريخ مصر الحديث، فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث، انتهى بهزيمة المفكرين وتعرضهم للخطر في مناصبهم وأرزاقهم، ونالوا من العسف والعنت ما ليس في طاقتهم فتخلى عنهم أتباعهم في وقت الضيق، ومن عَطَفَ عليهم فعَطْفٌ أفلاطونيٌّ عَطَفٌ يتبخر … فانهزم فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة أمام الرأي العام المُلِحِّ فرجعوا عن رأيهم وداروا الرأي العام وجاروه، فلم يعد هناك معسكران، ولم يعد صراع بل معسكر واحد ولا قتال … وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق وأخذ الدروس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة … وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق، وفي عداوتها وصداقتها الخير.»
ثم يقول: «الأدباء عندنا صنفان، صنف نضج وتكوَّن واستوى على عرش الأدب وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وأصبح كل منهم كالعشراء لا يميلون إلى النطاح ولا يرجون إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون يخشى أن يتعرض لِمَنِ استوى على العرش، فبطش به بطشة جبارة ترده إلى أسفل. فلَمَّا جامل الكبراء بعضهم بعضًا، وخاف الناشئون من الكبراء ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.»
وعزا إلى السياسة بعض أسباب ضعف النقد، فإنها نصرت الجماهير على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين. ثم إنها قوَّمت الأديب بلونه السياسي فأفسد ذلك الأدب والنقد معًا. وقال أيضًا: «إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم المتمدنة ولا يكون لها هذا الأثر؛ لأن الخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحيان، وكذلك الشأن في الخصومة الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من الخصومة السياسية والأدبية والعلمية إلا العداء العنيف، وفي العداء العنيف قتل للحرية.»
وختم مقاله بهذه العبارة: «وهناك أسباب أخرى غير ما ذكرت لعل الكتَّاب يعرضون لها فيكشفون عن أسباب هذا الداء الخطير ويصفون له ما يتطلب من دواء ناجع …»
انتهى ملخصًا تارة بالحرف وطورًا بالمعنى وقد تركت ما لا يخل حذفه بالمعنى، وإن أطلت عليك الكلام في تلخيص مقال أحمد أمين فسألخص لك رد طه حسين تلخيصًا لا تملَّه.
بدأ طه حسين كتنين يونان يشخر وينخر، وأخذ يدور ملتفًّا على نفسه دوران إعصار فوق كثيب رمل، أو كعفريت ألف ليلة وليلة وقد أفلت من القمقم … ثم ختم المقال كمار بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: انظروا ما أكبر الحروف التي كتبتها إليكم بخط يدي! وإليك ملخص ما قال: قال في الفقرة الأولى: إنه لا يجادل أخاه العزيز أحمد أمين في مقاله «في النقد» لأن الفصل فصل صيف، وهو لو أرسل نفسه على سجيتها لما جادل ولكنه مدفوع هذه المرة؛ لأن أحمد أمين كان غير منصف حين عرض لقضية النقد وقضيتهم هم في النقد عرضًا سريعًا (كذا).
أي إن أحمد أمين مرَّ بالهيكل فلثم خد الباب ولم يدخله ليؤدي السجود «لأبي الهول» … فكل ذنب أحمد أمين أنه لم يُسَمِّ طه حسين المالك سعيدًا على عرش الأدب في مصر، بل مر به مر الكرام، ولم يذكر ما قام حول آثاره الأدبية من ضجيج في العشرين سنة، كما قال في كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهذا ما آذى طه وأحْفَظَه، وطه كآل ابن شمَّاس الحطيئة: إذا غضبوا جاء الحفيظة والجد.
ثم أعاد ما قاله أحمد أمين في النقاد وكيف شايعوا الجمهور بعد تمردهم وكيف لانوا خائفين على عافيتهم ومناصبهم. ثم تبعهم إخوتهم الصغار فصار الأدب تقليدًا وتملقًا، والنقد مصانعة ومتابعة. وبعدما صرح طه أن هذا التصريح يؤذيه أكثر مما أذاه كل ما لقي من مشقة وإعنات، راح يصف لنا ما عرفناه عن جهاد الوفديين والكتَّاب الذين منهم، وطه أحدهم، وهنا صار حديث الأستاذ أشبه بأحاديث النساء اللواتي يتعايرن قائلات: كنتم وكنا، صنعنا وفعلتم، وعملنا وسوَّيتم … وإليك نموذجًا واحدًا مما قاله لأحمد أمين: «كنا نغالب الأمواج وكنتم تقومون على الشاطئ …» ثم قال: «إن السياسية العنيفة المنكرة لم تشغلهم عن الأدب ولا عن النقد، وإنهم كلهم أنتجوا أثناء المحنة …»
قلنا: إن أحمد ينظر إلى الكيف، وطه ينظر إلى الكمِّ، ونحن وأحمد أمين، وهيكل ومظهر، وطه أيضًا متفقون على أن هذا الإنتاج من الصنف الرذل؛ فهو لا يدل لا على تفكير ولا على إبداع، وما هو إلا كلام مرصوف، وحديث مكرور، بشهادة طه نفسه، راجع كلمته في صدر المقال.
ثم يعرض طه بوجه خاص للنقد، فيقول إنهم كانوا برغم السياسة وأثقالها وأهوالها يقرءون الكتب والدواوين ويقولون رأيهم فيها، ويفرضون على أنفسهم صفحة أدبية في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ثم ذكر ما ثار بينه وبين هيكل حول «ثورة الأدب» — كتاب لهيكل عنوانه ثورة، ولكنه سلام وطمأنينة — وبينه وبين العقاد حول اللاتينية والسكسكونية، وبينه وبين العقاد أيضًا حول ديوان من دواوينه. ثم ذكَّرنا أنه كان يحدث الناس في الراديو وينتقد.
لا شك أن طه حسين كان أكثر الأدباء المصريين كلامًا في الراديو، ولكن كلام طه أعجبنا منه ما كان في فجر أدبه وضحاه، أما ما يكتبه ويحدثنا به في عصارى نهاره فيدل على أن طه لا يحترم نفسه وقراءه، أو أن جعبته فرغت، وما كلف الله نفسًا فوق طاقتها.
وهنا ذكَّر طه أحمد أمين أنه أتيح له الهدوء واستمتع بالبال الرخي والحياة المستقيمة المطمئنة، وما نقد لأنه لا يقرأ، أو لا ينتقد لأنه يقرأ ويشفق من أن يعلن آراءه، فيتنكر له الناس ويسلقه أصحاب الكتب بألسنة حداد.
قلنا: نحن لم نقرأ نقدًا لأحمد أمين لأنه غير ناقد، ولكننا قرأنا له كتابًا نفيسًا هو «فجر الإسلام وضحى الإسلام» وعرفنا أنه رجل بمقام ثلاثة … أما قام وحده بعمل أعلن طه أنه هو والعبادي شريكاه فيه، ثم ارفضَّا عنه فبقي وحده، وأخرج هذا الكتاب القيم الذي لا أعدل به أيَّ أثر أدبيٍّ مصريٍّ آخر؟
نعم إنه ككل أدب إخواننا المصريين يعول على المتمشرقين، ويصاب أمامهم بشلل الفكر، ولكنه، كيفما دارت به الحال، كتاب ظريف صريح بمقدار. فأحمد أمين تاجر سليم الذوق يعرف كيف ينتقي السلع من البندر ويحسن عرضها في مخزنه.
وعرض طه أيضًا للأدباء الناشئين فقال: «إنهم ضعاف أَثِرون عَجِلون، ذوو كبرياء لا تخلو من سخف، ومن سخف يذكِّر بأخلاق الأطفال. يستعجلون الشهرة ويريدون أن تتم لهم ما بين طرفة عين وانتباهتها، يرون لأنفسهم العصمة ولا ينتظرون من النقاد إلا ثناءً وحمدًا. جيل رخو … إلخ.»
ثم أعلن طه أنه مستعد إلى أن يستأنف ما فعل منذ عشر سنين. وإلى أن يستأنف أيضًا ما فعل منذ أربع سنين.
فلننتظر نحن وأحمد أمين، وعسى أن يكون أدبًا سمينًا رصينًا ليس من نوع خالف تعرف، فهذا يكون في الانقلابات السياسية، أما في الأدب فيمر مر العاصفة ويكون الهدوء. ليعمل طه أثرًا خالدًا يُذكر له إن كان يستطيع.
وشاء طه، وهو لا يحب الشهرة كالجيل الناشئ الرخو، أن يخبرنا أن الأستاذ كراتشكوفسكي ترجم كتابه «الأيام» وقدَّم له، فقال لأحمد أمين: «إني لشديد الأسف إن كانت ثقة الأستاذ كراتشكوفسكي بي أشد وأقوى من ثقتك أنت، فإنه لم يتردد في مقدمة ترجمته للأيام أن يتنبأ (كذا) بأن ما عرض لي من الخطوب ليس كل شيء وأنه ينتظر أن يعرض لي مثله.» ا.ﻫ.
(٢) بين أمين وطه وهيكل
أسمعت بأذنك أن طه حسين يرى الأدب كله في ضوضى يهيجها، فيقوم لها الرأي العام ويقعد، فما مثله في الناس إلا شاعر يرى كل «فنه» في تصفيق النظَّارة.
لقد أثار كتاب طه «الشعر الجاهلي» نقعًا كالذي وصفه أعمى البصرة وهو منبطح في دهليزه كالجاموس. ولكن هذا الرهج ما لبث أن همد وسيمحَى أثره يوم تتسع ثقافة الشباب وتعمق؛ إذ يعرفون مصادره كما عرف ذو الصليب منبع الفرات المسحنفر من بلاد الروم.
إن أنبياء الله قد ختموا، ومع ذلك فإني أتنبأ لطه كما تنبأ له كراتشكوفسكي، وما يمنع أن يكون بين الأنبياء شاوولان جديدان؟ إن كتاب طه «الشعر الجاهلي» يظل قيدوم آثاره ولن يقدر طه على خير منه. أما حاول أن يثير في «على هامش السيرة» ما أثاره في الشعر الجاهلي فقعد ملومًا محسورًا؟ ما طن كتابه الجديد كما توقع، ولم يؤاخذه أحد بكلمة إلا العقاد. قلت كلمة، نعم كلمة واحدة فقط لا غير، وأظنها «الوجدان» إن لم تخني الذاكرة. فقد قال العقاد: «إن الوجدان لم تكن مفهومة في جيل أصحاب السيرة بمعناها المجازي اليوم.» ولامه أيضًا حسين هيكل على ابتداعه أساطير جديدة أضافها إلى السيرة النبوية. قلت: «ابتداعه» فعفوك أيها القارئ فليس طه من المبدعين ولكنه يستعير. قد استعار بعض أساطير قديمة زاد فيها قارئ السيرة عمى، في حين أن حسين هيكل قام يحاول الإقلال منها في كتابه: «حياة محمد».
فلندع ذا، كما يقول الجاهليون في تخلصهم، لنعود إلى رد أحمد أمين على طه، قال أحمد: تظهر كل عام كتب لهيكل وطه والعقاد والزيات ومبارك وغيرهم، وتنظم قصائد وتنشر روايات ولا تنقد، ثم يخص بالذكر كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم ويذكر كيف مر بسلام.
قلت: أين الروايات يا أستاذ لِمَن سميتهم؟ أهي «أديب» طه حسين! وأيُّ شأن لرواية كهذه؟ شاء الدكتور طه أن يكون فيها قصصيًّا فكان محدثًا كالحارث بن همام وغيره من فصحاء المقامات، وشاء أن يكون من علماء النفس فكان من رصَّافي الكلام، فتمطط في الحديث حتى كتب في مائتين وإحدى وخمسين صفحة ما كان في مكنته أن يلزه ويحشره في صفحات تؤلف أقصوصة لا قصة. ولكن طه مولع بالتبسط والتمدد كخباز ابن الرومي، أو في التشابك كقالي الزلابيه فيرميك بصفائح براقة كلفائف الشكولاتا، تحسبها ذهبًا أو فضة وما هي غير قصدير.
أما كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم فلم أقرأه بعد ولكنه صار عندي، وأنا زعيم لك، كما يقول طه حسين، أنه لو صدر قبل أن شق توفيق عصا الطاعة ووقف في صف الخوارج لسمعت طه يقول في مقدمته: ومن الخير لي ولك أن تقرأ هذا الكتاب ففيه الأدب الممتع كله، والمتاع الفني كله، والبلاغة كلها، وأنا زعيم لك بأنك سترى فيه ما رأيت وتقول ما قلت … إلخ. ولكن هذا التوفيق الحكيم صار للعبودية كارهًا وأبغض المسيطرين، فدفع كتابه إلى المطبعة توًّا فكسب احترامنا لاعتماده على نفسه، وأراحنا من مقدمات طه اللولبية التي يرفع عقيرته فيها مرددًا عشرات المرات كلمة أو فكرة يعثر عليها في كتاب يقدم له، فيذكرنا بالدلالين الذين يؤجرون على نفاق خرثيِّ البيوت، وما يطرح في السوق من سقط المتاع.
ثم قال أحمد أمين: «إن الأفكار في مصر مكبلة مقيدة؛ فالمواضيع التي بحثت منذ ألف سنة ولم يمس أصحابها بأذى يعرض لها اليوم بعض الكتَّاب في مصر فيقرر مجلس الوزارة مصادرة كتبهم ولا أحد يحرِّك لذلك ساكنًا.» ويرى أحمد أمين أنه لو وقع هذا الحادث من عشر سنين لقام له الكتَّاب الأحرار وقعدوا ودافعوا وانتقدوا.
ورأى أيضًا أن لجنة التأليف والنشر — جزاها الله صالحة ووفق السيد منير الحسامي إلى إنشاء مثلها في قطرنا الشامي — تصدر كتبًا وما مَن ينقدها، فاستدل بهذا وبغيره على ضعف النقد، وبيَّن كيف ينظرون إلى الناقد في الشرق وكيف ينظرون إليه في الغرب، وشبه الناقد بالقاضي الذي لا يجب أن يعول على وجدانه فقط.
ثم عرض أحمد أمين لقول طه حسين عنه إنه لم ينقد فرد عليه بقوله: وهل من العيب أن يشرح المريض مرضًا عامًّا أصيب به هو وغيره؟ وهل يحجر على الإنسان أن يقول: إن هذا ليس بجميل إلا إذا كان هو جميلًا، وليس أبيض ولا أسود إلا إذا كان هو أسود أو أبيض!
قلت: وما يمنعك يا سيد أحمد أن تنتقد كطه «اليوم»؟ أليس هذا ميسورًا لك ولغيرك؟ فلا تحرم نفسك منه. اعمل بقول المثل الشامي العامي الفصيح: «كبر البيدر ولا شماتة العدى». وأخيرًا ختم الأستاذ أحمد رده بهذه الكلمة الرصينة: «إن أراد أخي طه أن ينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت، ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، ويئست ونعمت، وشقيت وسعدت، لم أجاره في ذلك!»
أحسنت يا أستاذ، فلولا داهنته وتملقته وهرقت على قدميه طيوب الثناء كالمجدلية لضمن لك الخلود في ملكوته ولم يعيِّرك قلة النقد. ولولا سلمت عليه بالزعامة كما عودتموه لأدناك من السرير وقال فيك اليوم ما قاله أمس في مقدمة «ضحى الإسلام». ولكنك نسيت أو تناسيت ذكره وأهملت التحية فجاءتك البلية، نسأل الله أن يخلصك منه يا شيخ، فالسلامة غنيمة!
ولم نفرغ من درس ما كتبه أحمد وطه حتى طلع علينا (العدد ١٥٥ من الرسالة) يحمل كلمة لتوفيق الحكيم وفيها ثناء طيب لذيذ على أحمد أمين، ولوم المؤلفين لأن صدورهم تضيق بالنقد والنقاد. قال: «وإن أعجب ظاهرة في أدبنا العربي أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ الأدب — كالتي كانت بينه وبين طه مثلًا — تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار ما لا يقوَّم بمال.» ثم تجاهل ما ينقصنا فقال: «أهو شيء من الخلق، أم هو ضعف في النفس أم هو نقص في الثقافة؟ لست أعلم.»
قلت: أنا أعلم يا أستاذ، تنقصنا كل هذه مجتمعة ولكننا في الطريق سائرون، وسنصل، ستتمسح جلود أدبائنا الرقيقة فلا تعود تؤثر بها إبر النقاد ومسلَّاتهم، فيسلس قيادهم ولا يتعنفصون.
وعرض أيضًا حسين هيكل لموضوع النقد فكتب في هذا الموضوع مقالًا طويلًا برَّأ فيه نفسه واتهم غيره فقال: «لم يكن انصرافي عن النقد عن إيثار للسلامة أو مداراة للجمهور، أو اندفاع في تيار الجمهور بعد أن كنت أريد جذبه إلى تياري … كلا. وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره من الكتابة أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث في سيرة النبيِّ العربيِّ وفي عصره، ما هو أجدى على القراء وعلى الغرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت بسبيله من قبل.»
قلت: أرأيت ما في تعابير حسين هيكل من تعاريج وتلافيف فكأنها بوق بزَّاقة، فاسمع لألخص لك ما بقي. ورأى هيكل بعد كلام بيَّن فيه أهمية عمله المنصرف إليه — وهو مهم حقًّا — أن هذا الانصراف طبيعي؛ لأن أكثر الكتَّاب يبدءون حياتهم في الكتابة بالنقد ثم ينصرفون عنه، وكذلك شأنهم في أوروبا وغير أوروبا. وبعد أن طاف حول الموضوع يؤيد كلامه عاد فاستدرك على نفسه فقال: صحيح أن من الكتَّاب مَن يجعل النقد رسالته الأدبية طوال حياته، ولقد كان من هؤلاء في فرنسا عدد غير قليل، أمثال: سنت بيف وجيل لامتر؛ جعلوا النقد رسالتهم على أنه لون من ألوان التصوير لتاريخ الحياة الأدبية في عصرهم وفيما سبقهم من عصور، ولكنهم كانوا في عصر النضج أدنى إلى المؤرخين منهم إلى النقاد.
قلنا: إن سنت بيف وتين وبرينتيير كانوا يؤلفون في عصر عمرهم تاريخًا علميًّا للأدب، أي تاريخًا طبيعيًّا كتاريخ النبات مثلًا، لا تاريخًا بالمعنى الذي يفهم من كلام حسين هيكل. أما أناتول فرانس وجيل لامتر فنقدهما معروف، وقد قدره الناقد الحازم برينتيير بما يستحق، ومَن أعياه الاطلاع على مقال برينتيير في هذا الصدد يسهل عليه مطالعة رد أناتول وقد صَدَّرَ به الجزء الثالث من كتابه «الحياة الأدبية»، فيدرك مآخذ برينتيير على فرانس ولامتر وزميل لهما آخر لا يحضرني اسمه.
ثم قال هيكل: إن تين وضع كتابًا فريدًا جعل عنوانه «مذكرات من باريس» وكم تمنى لو سلك تين هذا المسلك ووضع على هذا النحو كثيرًا من الكتب، لكن أحدًا لم يوجه إليه اللوم؛ لأنه آثر الفلسفة أو التاريخ.
قلت: ونحن أيضًا لا نؤاخذك يا أستاذ على تركك النقد وانصرافك إلى غيره من ألوان الأدب فحسنًا صنعت. فليس النقد شرحًا وتحليلًا كما كنت تفعل. إن النقد شيء غير هذا، ولا يحسنه إلا مَن خلقوا له، امض في سبيلك على خيرة الله فليس فينا مَن يلومك. إننا نكبر عملك الذي مضيت فيه، سدد الله خطواتك، وأوصلك بالسلامة إلى حيث تبغي، على خيرة الرحمن وبركته، فلا تأسف على تركك نقدًا قليل الخير والبركة.
وبعد هذه المقدمة جعل هيكل جريمة إهمال النقد في عنق الشباب، ثم قال: أما والشباب لا ينقد فمعنى هذا أنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يمحِّص، وأنه إذا محَّص لا يثور فينقد.
قلت: وهذا هيكل يجاري أخاه طه في لوم الناس على قلة القراءة. ليس فينا مَن يشك أن القراءة دعامة الثقافة، ولكنها وحدها لا تكوِّن الناقد ولا تخلقه، عرفت أكثر من واحد يقرءون الليل والنهار وسيان في نظرهم، «أديب» طه حسين، وسفر أيوب! فلماذا لا يكون هؤلاء من النقاد؟ إن النقد ملكة كغيرها من الملكات تنميها القراءة ولكنها لا توجدها يا دكتور، ولو عقب القراءة ورافقها ألف تمحيص. إنك تتصور لي منكبًّا على الأسفار تطالعها ولا أرى لك نقدًا مذكورًا، فخير ما كتبت في النقد ما كانت له مصادر أجنبية، أما حين تتناول موضوعًا بكرًا فما أراك تقول فيه شيئًا خطيرًا، فلماذا هذا وأنت تقرأ كثيرًا؟
ثم وجه هيكل اللوم إلى الذين يهذبون الشباب ويثقفونه، فقال: لقد أصبح همُّ الشباب المال الذي يجر الجاه والاحترام والتقدير؛ فبعدوا عن النقد الذي يريده أحمد أمين قويًّا ناهضًا، ورأى أيضًا أن النقد يقتضي الحرية العقلية والعلمية والأدبية كما ذكرنا في صدر المقال السابق. وكيف يأتي والحالة هذه للشباب الناشئ أن ينقد كتابًا لطه، أو لهيكل، أو لأحمد أمين، أو للعقاد، أو للمازني أو لغيرهم، وهؤلاء قد يكونون وسيلته إلى الوظيفة، أو إلى مال الوظيفة وجاهها وما لها في أعين الناس من احترام وتقدير؟! لذلك تعلَّم الشباب المداجاة والرياء حتى في العلم والأدب، وهذا سبب العلة وموضع الداء. فليلتمس أحمد أمين شبابًا حرًّا يؤمن بالثورة وأنا ضمين له بعودة النقد وفتوته. أما هؤلاء الشيوخ الذين يتوجه إليهم بالنقد فقد رغبوا إلى لون من الأدب عن النقد. لم يبقَ منهم إلا صديقي وصديقه الدكتور طه الحريص على أن يبقى مع الشباب حرصه على أن يكون في طليعة الشيوخ.
قلت: وهذا طبيعي، فمَن استطاع أن يماشي الشباب كما يزعم الدكتور هيكل، كان لا شك في طليعة الشيوخ، ولكنني أنصح للشباب ألا يقتدوا بطه حسين في هذه الأيام، فدكتورنا أمسى «مخمِّنًا» لا ناقدًا، وإن قلده الشباب وترسموا خطاه في النقد والأسلوب صار النقد نقرًا، والكلام نخالة يكال بالغرارة ولا يوضع في ميزان!
(٣) تجديد طه تفكير في الإفرنسية
قلنا في الفصل السابق: إن طه حسين أمسى «مخمِّنًا» لا ناقدًا، وإنه نقد بضع نقدات حين كان يتسلق الجبل، ليدرك نسر القمة. أما اليوم فألقى طه منجله واستراح وأغنته السمعة عن المشقة، وإن شئت نبذة من طرف «تخمينه» فإليك رأيه في الحركة الأدبية في سورية كما أذاعه مندوب جريدة الأيام الدمشقية:
«إن الأكثرية عندكم من المحافظين المتعصبين في العقيدة الأدبية، وإذا كان ظن الأكثرية المحافظة أن اللغة كالقرآن لا يمس، وأن المحافظة دين فلا سبيل لإقناعها وعبثًا السعي، ويكون نصيب الأدب التقهقر والانحطاط، وإن الحقبة التي نقضيها محافظين غير مجددين تبعث على الندم؛ لذلك عندما أفكر في موضوع ما فإني أفكر في الإفرنسية … إلخ.»
والبقية تأتي.
قلنا: صح فينا ما قاله القدماء: إن لم تعلم ابنك فالدهر يعلمه، فشكرًا للزمان على هدايته المصريين الذين حاربوا المجددين السوريين ربع قرن، فكم جاهدوا في قتال مدرسة جبران الثائرة على القديم البالي حتى وصموا زعيمها بالمروق من دين أدب العرب، وما استراح لهم بال حتى ضرب الراعي وتبددت الخراف!
إن أنفة إخواننا فراعنة الأدب المصري الحديث تأبى الاعتراف لِمَن سخَّروا نفوسهم لبناء أهرام الأدب الجديد، وهم ينتحلون كل شيء حتى التجديد في الأدب، وتاريخه يشهد عليهم أنهم كانوا ألد أعداء زعيمه جبران. وإليك كلمة أخرى للأستاذ جب تجلو هذا الغموض: «شرع الكتَّاب المصريون ينكرون على الكتَّاب السوريين سيطرتهم وتقدمهم، وعمدوا إلى ما اقتبسه السوريون عن الغربيين من تجديد فمصَّروه وأدخلوه إدخالًا جديدًا عن طريقهم هم.» قلنا: ليس في الأمر بدع فالمصريون مولعون «بالتبنِّي» من عهد فرعون موسى حتى الساعة. فأي غرابة إذن في قول طه عن السوريين إنهم محافظون في الأدب، وأي عجب في ادعائه التجديد وهو غارق في العتيق حتى الأذنين؟
أما التجديد في عرف طه فسندلك عليه بعد مناقشة الدكتور «المجدد» في كلمة قالها لأحمد أمين، وهي أنه — أي طه — كان برغم السياسة وأثقالها وأهوالها يفرض على نفسه صفحة أدبية كل أسبوع يفرغ لها اليوم أو أكثر من اليوم. فعدت إلى حزم قصاصات الصحف، أو الجزازات كما يسميها المجمع العربي، فإذا بي أستعرض ساعات صرفها طه مع المثقب العبدي، وابن المعتز، وسويد بن أبي كاهل، وعنترة، وزهير وابنه كعب، وطرفة ولبيد. ثم أعود منها وقد فزرني الملل، ولو لم يكن لي معدة تقطع الصوان لما كبست على نفسي وتصفحتها. يحاور طه في هذه الساعات شخصًا جرَّده من نفسه، والحوار لذيذ إن لم يكن مضجرًا، ولكن طه كما عودنا، يدور مع صاحبه ويدور ويدور ويدور — وهذا التعبير من تجديده — حتى يصاب القارئ بدوار إن لم يكن راضه طه على الدوران معه!
أما الذي قاله عميد الجامعة المصرية في هذه الساعات فشرح لقصائد أولئك الشعراء على نمط المتقدمين؛ ليفهمها الشباب الذين غرهم الأدب الغربي فعجزوا عن فهم الأدب العربي القديم، فجفوه لأنهم لم يستسيغوه.
وأعادني تفكير طه في الإفرنسية كما ادَّعى إلى مقال له عنوانه «أثناء قراءة الشعر القديم» كتبه قبل هذه «الساعات» وختمه بقوله: «ثم تمَّ الاتفاق بيننا — أي بين طه وبين الشخص الذي جرده من نفسه — على أن يكون يوم الأربعاء من كل أسبوع موعدًا للنزهة في صحراء الأدب الجاهلي التي يراها الناس صحراء، وأراها أنا حديقة من أجمل الحدائق وأروعها.»
هذا ما قاله الأستاذ الجليل أولًا، أما ما قاله بعد ذلك فهو: «إنني أفكر في الإفرنسية؛ لأن الأدب العربي لم يتطوَّر، والأفكار لا تزال قديمة تفقد الرونق الذي يتمثل في الأدب الغربي الحديث في أبهى صورة وأجملها وأحبها للنفس، وفيه من جزالة اللفظ ونعومة العبارة وسهولة تفهمه وقوته وبراعته ما يحملني على الإعجاب به والارتياح إليه.»
قلت: إن سماحة الأستاذ مشهورة وتواضعه عميق؛ ولذلك لا يأنف من الثناء على الأدب الغربي. ثم عدت إلى قصاصات الصحف ألتمس الدليل على تفكير طه في الإفرنسية فوجدته بعد بحث عنيف في مقال كتبه عن بارتو وبوانكاره على أثر وفاتهما. وهاك منه الفقرة الأولى وفيها الدليل القاطع، قال: «كان من المؤثر في النفوس التي احتفظت ببقية من حس وفضل من شعور أن يعرف الإنسان أن بارتو قتل يوم الثلاثاء فحزن عليه بوانكاره حتى قتله الحزن يوم الإثنين، وأن بارتو دفن يوم السبت فلم يستطع بوانكاره إلا أن يموت ليدفن يوم السبت الذي يليه.»
ألا يضحك هذا التفكير الفرنجي البرِّي؟ أهكذا يفكر الإفرنسيون، وهكذا يكتبون فيستعملون القصر في ما لا يسلم به صبي؟ أيقولون: فلم يستطع بوانكاره إلا أن يموت يوم الإثنين ليدفن يوم السبت! كأن بارتو وبوانكاره على ميعاد! هبها محالفة أو معاهدة يا دكتور فهم ينقضونها، ليت بوانكاره عجل ليدفن مع بارتو في يوم واحد، وقبر واحد كعشاق الحكايات لنرى من طه تفكيرًا فرنسيًّا أغرب وأعمق!
كنا إذا كتبنا مقالًا فرنسيًّا قال لنا معلمنا: إنكم تفكرون في العربية، فهل صار العكس بالعكس كما يقول النحاة، لننصح لتلاميذنا أن يفكروا في الإفرنسية ويكتبوا العربية كطه حسين؟ وهل من الخير، كما يعبر طه، أن نعلمهم ليقولوا في عشرة أسطر ما يقال في سطر عملًا بأسلوب طه الفرنجي العربي؟ وهل من الخير مرة أخرى أن ننبذ ظهريًّا شعارنا العربي: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، لنفكر ونكتب في أسلوب طه الحلزوني المطاط؟ إن كان هكذا يفكر الفرنسيون؛ فالجماعة — قسمًا بالله — بلا فكر.
قال طه أن المتمشرق كراتشوفسكي عرفه أكثر من أحمد أمين، وإن لديه أشياء … فهل هذه البدعة الجديدة — التفكير في الإفرنسية — من طلائع أشياء طه؟ لا أشك أبدًا في أن طه عبد الغربيين، وأدبه عيال عليهم، ولكنني ما حسبت قط أن ستأتي ساعة نسمع فيها مثل هذه السفسطة من الدكتور. إني أرى تفكير طه في الإفرنسية أخا البرنيطة التي يزعم سلامة موسى أنها تقربنا من الغرب وتبعدنا عن الشرق «القذر» فنفتكر كغربيين لا كشرقيين. فعلى مَن يروم الجديد أن يعمل برأي الأستاذين موسى وحسين، فيلبس البرنيطة ليفكر في الإفرنسية، وهكذا يدرك الأدب العربي التجديد من أقرب الطرق، وكفى الله المؤمنين القتال.
روى الماضون أساطير شتى عن «القبع الأخفى» فهل تمثله البرنيطة الموسوية أصدق تمثيل؟ لقد عملت عصا موسى العتيق عجائب، فهل تحيي لنا عهدها برنيطة موسى مصر الجديدة؟ أما أنا فأشهد أنني عرفت أكثر من ألف معَّاز لبناني سوري عادوا إلينا من المهجر وقد لبسوا البرنيطة ربع قرن ولم يتغير تفكيرهم! فهل عند سلامة موسى طريقة يعلمها هؤلاء المتبرنطين ليفكروا تفكيرًا غربيًّا كما يريد هو والشيخ طه؟ رحم الله مَن قال: وكم بمصر من المضحكات … لم يبقَ إلا بدعة الحروف اللاتينية فليقرها هذان الأخوان فيتيسر لنا التفكير والتعبير الغربيان ويُقضى الأمر.
إن الملبوس لا يعمل القسوس، فالتجديد غير ما يفكر به طه، ولا ما يرشد إليه سلامة، فلا الطربوش يعتِّق ولا البرنيطة تجدِّد. إن منبع التجديد تحت البرنيطة والطربوش، وآلته عقل ثاقب، وخيال رائع، وفطرة مبدعة، والعبقري لا يعوزه التقليد.
إن الفرنجة لا يكتبون ككتابة طه الناشفة كلسان المحموم، ولكل أمة أسلوب في التفكير والتعبير، واختلاف الأدب ظاهر حتى بين الإنكليزي والأميركي. قد علمنا كثير من القدماء والجدد كيف يكون التجديد فلنقتدِ بهم!
يقول طه: إن الأكثرية في سورية من المحافظين. نحن نسلِّم بذلك ونزيد عليه: إننا نعد هؤلاء المحافظين أشياعًا لطه وأضرابه، وإذا كان في مصر مَن هو ذو أسلوب عربي خاص بصاحبه فذاك هو العقاد في نثره — دعْ شعره البارد — فهو عربي التفكير، والتعبير بضد طه الذي لا يستطيع التعمق وهو معذور. تقرأ مقالًا للعقاد فتعلم أنك أمام رجل مفكر، وتقرأ مقالًا لطه فتعلم أنك أمام رجل يحب الحكي!
ولم يكتفِ المصريون بادعاء التجديد في اللغة الفصحى حتى قال سلامة موسى: «إن لغة أم كلثوم وعبد الوهاب ترطب لغتنا العامية وتعلمنا درسًا جديدًا.» أما نحن فنقول: إنه لا يلذ لنا من غنائهما إلا الفصيح لأننا نفهمه، وكثيرًا ما أفسدت علينا لغتهم العامية رواياتهم المسرحية والسينمائية، كما بسطنا ذلك للزعيم الاقتصادي الجليل طلعت حرب باشا، فأجاب جواب مَن يتلافى الخطأ متى اهتدى إليه.
وبعد فلننظر ما أنتج أدباء مصر في هذه السنين القاحلة. أما طه فما عمل شيئًا غير مقالات جمعها تحت عنوان جديد كما فعل من قبل في كتاب «حافظ وشوقي»، وأكثر كتَّابهم يفرِّون من معركة الإبداع إلى ميدان إحياء القديم. ومهما يكن من شيء فقد عرف كل كاتب من أشياخ كتَّاب مصر اتجاهه إلا طه فإنه لا يزال كحاطب ليل، وهو إلى هذا يدعي التجديد، والتجديد عنده تفكير في الإفرنسية كما رأيت.
هذا كثير يا دكتور، أتقلد الفرنجة حتى في تفكيرهم؟ لقد أغليت يا مولانا حتى صرت كرأس براهمة الكوخ الهندي ترى كل شيء فيك.
قال حسين هيكل: «لم يثبت في ميدان النقد إلا طه»، أما أنا فأقول: إن نقد طه تضخم حتى فاق نقد هذه الأيام فهو يجتر ويجتر ويجتر، ويدعي ويدعي ويدعي حتى كاد يقول كالمعربدين: نحن العالم.
إن ذوق أستاذكم الفنيَّ ضئيل جدًّا، وهو يتفرعن بلا شيء، وما أشبهه بالبزَّاقة، فهي إذا أنحت عن خرطومها المدر كخابية الأخطل، ومدَّت قرونها وانتفشت حسبتها شيئًا، أما إذا أعدتها إلى بوقها فتراها محتشمة متواضعة وديعة.
إن طه يطلب أما معدته فلا تقطع، وهذا ما بلاه بعسر الهضم، وإن بقي معتزمًا الاصطياف في لبنان، فأنصحه أن يصيِّف في فالوغا، فمياهها تغني المعدة عن علم أبي جعفر صاحب أبي نواس … أما حاول طه أن يقلد المعري في «على هامش السيرة» فلم يُفلح؟ وما أدرك الظالع شأو الضليع، كقول شيخ ربيعة الفرس. أما كتب أيضًا قصة «أديب» فكانت لا شيء؟ والأستاذ إلى كل هذا نسَّاء ينفي اليوم ما أثبته أمس فكأنه لم يهتدِ بعد إلى شخصيته. إنه يحاول ولكنه غير موفق، هدانا الله وإياه الصراط المستقيم.