طه حسين في آثار ثلاثة
جنة الشوك
حقًّا، ما هذا الكتاب جنَّة شوك، إن هو إلا جحر قنافذ.
اشتقت إلى صاحبي الدكتور طه حسين واشتقت أكثر إلى النقد. أما وضعنا أوزار النقد حين قامت الحرب على ساقها؟ إن المحيط لا يحتمل حربين … والآن وقد نامت تلك فها نحن أولاء نعلنها حربًا أدبية لا تراعي في المنام خليلًا، ولا يخمد نارها إلا هادم اللذات.
قلت: اشتقت إلى صاحبي الدكتور، فبينما أذكره — كما قال ابن أبي ربيعة — إذا بصديق عوَّدني هذا الفضل يدخل عليَّ حاملًا «جنة الشوك» كتاب الدكتور الجليل، فقرأته بلا انقطاع من الجلد إلى الجلد، وكنت أرى طه رائحًا جائيًا بين السطور، كما أتخيَّله أنا، فحتى الساعة لم أسعد برؤيته. يجيء — حفظه الله — لبنان يوم أكون منزويًا في بيتي، في ضيعتي البعيدة القريبة، البعيدة بطريقها الشاقة، والقريبة لأنها في نقطة البيكار من لبنان.
قرأت أدبًا طريفًا في «جنة الشوك»، والدكتور أبو الطريف، بل كاد في هذا الكتاب أن يكون ظريفًا. في «جنة الشوك» كلام نقي خالص كالذهب المصفَّى، فلم يجد النقد فيه مرعى يسمن عليه. فقعدت حسيرًا أشكر للسياسة يدها البيضاء من غير سوء! أقصت الدكتور عن منصبه فأخرج هذا الكتاب الفذَّ، كما صدَّت الولاية في الأمس عن أبي الطيب فترك للذرية تراثًا لا يموت.
أجل، لقد أبعد «المستشار الفني» عن كرسيه فنفح الفن بهذا اللون الطريف، وما كل «مستشار فني» يخرج من رأسه ما خرج من رأس طه إذا عزل. أخرج الدكتور، كما قال: «مرايا يمكن أن يرى الناس فيها أنفسهم.» أما أنا فأشهد أنني رأيت وجه الدكتور في المائة ونصف المائة — كما عبَّر هو — من هذه المرايا التي أخرجها معمله الفني للناس.
لا أقول في «رسالته» لأن الدكتور غضبان على خفافيش الأدب الذين يتخيَّلون أنفسهم أصحاب رسالات ويحدثون الناس عنها، بعنجهية وتبجُّح يفلقان صدر أحلم الناس، وقد خصَّ هؤلاء بمرآة فاقرأها إذا شئت.
أرأيت إلى السم، إن هذه المرايا مثله. أرادها مواعظ بالغة، فبعد عن النكتة المصرية العابثة المرحة التي تضحك ولا تؤلم. فكأنه أراد أن يخاطب بها العقول الحصيفة لا الأذهان الخفيفة الرأس التي تفهم النكتة بيديها ورجليها … لقد مشى الدكتور وابن المقفع جنبًا إلى جنب في الرمز، وفاقه في التعبير العربي اللسان والجنان.
إنني لأعجب منَّا نحن، معشرَ الكتَّاب؛ فقد أدَّبَنا عبدُ الحميد الكاتب غيرَ هذا الأدب. أما قال لنا، رحمه الله، في رسالته إلى الكتَّاب: «وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره. وليكن الرجل منكم، على مَن اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه، أحوط منه على ولده وأخيه.» فما هذا العقوق الذي يصوره الدكتور؟! ومَن ينكر فضل الأستاذ على الجيل الذي ثقَّفه وهذَّبه؟
الحمد لله أن الدكتور الجليل بغنًى عن عطف الناس؛ فهو هو في الحالين، ويستطيع أن يقول بكل فخر لا ادعاء كالطغرائي:
وقد يقول واحد، ولِمَ هذا؟ فالجواب الواضح عند إحدى مرايا الدكتور في «جنة الشوك»، هذا الاسم البودليري اللذيذ، والدكتور في هذا كصديقه أبي العلاء يسمي كتبه أحسن الأسماء، جلَّ مَن له هذه.
قال الدكتور، وعنوان هذه المرآة تجنٍّ:
«تلقَّاهم من المدارس الثانوية لا يحسنون شيئًا، فتعهَّدهم حتى أحسنوا أشياء كثيرة وحتى ظفروا بِمَا يظفر به الشباب الممتازون في الحياة الجامعية من درجات وألقاب.
ثم تعهدهم حتى اطمأنوا في الحياة إلى ما يحبون.
وكانوا لهذا كله ذاكرين شاكرين، وكانوا من هذا كله متزيدين، حتى لم يجدوا سبيلًا للمزيد. ثم ازورَّ عنه السلطان، فازورُّوا عنه، وقالوا: جفوتنا حين كان يحسن أن تصلنا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أعرف أنهم لقوا منك جفاء وازورارًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ليس المهم أن تعرف أو لا تعرف، وإنما المهمُّ أن تعلم أن كلمات التجنِّي والتعلُّل والتكلف لم توضع في اللغة عبثًا، وإنما وضعت لتدل على معانٍ. والمعاني لا تقوم بأنفسها وإنما تقوم بأنفس الناس.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس قد علَّمنا المعلمون في الكتاتيب أن الإمام الشافعي كان يقول: مَن علمني حرفًا صرت له عبدًا؟
قال الأستاذ لتلميذه: بلى، ولكن الحياة قد علمتنا أن الضرورات تبيح المحظورات. ومن المحظورات أن تجفو مَن جفاه السلطان. فقد تصدُّك صلته عن بعض ما تحب، وتصرف عنك بعض ما تتمنى.»
إن الكتاب يا عزيزي القارئ، محاورات بين شيخ وطالب فتًى، وما أحسن جواب الشيخ، وهو الأستاذ الجليل، في المرآة التي سمَّاها هجاء:
«قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أي فنون الأدب أحق أن يزدهر وينفق في هذا العصر الذي نحن فيه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا أدري. ولكننا في عصر انتقال أشد فنون الأدب له ملاءمة فنُّ الهجاء.»
لقد أصاب الدكتور من جهتين؛ فقد يؤدي الهجاء إلى المناصب، فأكرم بهذه المرآة، فهي أنقى من مرآة الغريبة.
ويتكلم الفتى سائلًا أستاذه الشيخ بعد أن تحدثا عن وعود النساء: «وأيُّ وعود الرجال أشبه في ذلك بوعود النساء؟
أجاب الأستاذ الشيخ: وعود الساسة حين يطلبون النيابة من الشعب، أو النهوض بأعباء الحكم.» وكم أعجبتني هذه التي عنوانها نحو:
«قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أأُصدق النحويين وأصحاب اللغة أم أصدِّق فلانًا مع أنه لا يقول في النحو إلا خطأ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: صدِّق فلانًا؛ لأنه نحوي لغوي بحكم القانون.»
صدق الدكتور، إن القوانين تخلق ما لا تعلمون.
أظنني أكثرت من الاستشهاد ولكن هذا اللون الطريف لا يملُّ ولا يشبع منه، فإليك هذه الشوكة الأخيرة، واسمها زيارة: «قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد كان فلان يكثر من زيارة فلان قبل أن يتنكر له السلطان، فلما أعرضت عنه الدنيا أعرض معها.»
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا. ولكنه يزوره ويطيل الإقامة عنده إذا جنَّ عليه الليل؛ لأن آية النهار مبصرة، فإذا انصرف أنشد قول المتنبي في بعض مدائحه لكافور:
آه، كم أحس بما يعانيه الدكتور من هؤلاء المتذبذبين!
ولكي يتمتع القارئ بهذا الظرف الوقور فأنصحه أن يقرأ هذا السفر الصغير؛ ففيه متعة كبرى لقوم يعقلون ويريدون أن يتأدبوا بكل ما في كلمة «تأدُّب» من معان!
لست أكتم القارئ أنه سيجد مرارة حادة كما قلت، ولكنها مرارة الدواء الذي ينجِّي ويشفي من الداء. وسيقبلها القارئ ويتأثر بها لأنها صادرة من أعمق أعماق نفس طه حسين الأديب العظيم. فهذا الرجل، كما يظهر لي من إنشائه، قوي الحساسية، بل أرى حساسيته أشد تأثرًا من زجاجة التصوير الشمسي.
إننا نشكر الفرصة التي أخرجت هذا الكتاب الطريف الجديد، ويا ليت الحوادث تتكرر، بشرط أَلَّا تنال الدكتور العزيز بأذى، ليخرج لنا مثل هذه الذخيرة النفيسة الطريفة فيثري أدبنا العربي، فنفس الأديب الحق كالأرض، ولا يستغلها كل الاستغلال إلا الظواهر الجوية، فأبرقي يا سماء وأرعدي. اللهم حوالينا لا علينا!
مرآة الضمير
نقول: طه حسين كما يقولون — جورج ديهامل وغيره — من أعاظم الكتَّاب؛ فقد أصبح في غنًى عن جميع الألقاب، وإن منح أخيرًا لقب باشا. أما هذا الكتاب فمجموعة مقالات أخرجها الأديب العظيم في صورة رسائل، وجميعها تنضح بالألم المر. يشبه هذا الكتاب أخًا له من قبل اسمه «جنة الشوك»، وفي هذا وهذاك أشواك حادة يستحقها كل تمساح عاق، ناكر للجميل. صُدِّرت هذه المجموعة بأربع رسائل كتب الدكتور تعريفًا بها هو هذا: «رسائل تنسب إلى الجاحظ، وأراها محمولة عليه؛ لأن تكلف التقليد فيها ظاهر.» وإني أشايعه في هذا الرأي، فقد رمى فأصمى لأن التقليد مستحيل. كما لا يستطيع أحد أن يقلد طه حسين وغيره، كذلك لا يستطيع طه حسين أن يقلد الجاحظ وغيره من سادة القلم. وهب أننا قلدنا الجاحظ في تعبيره وتفكيره فمن أين نجيء بشخصيته التي هي ملاك أسلوبه وبها تحيا كتابته.
رحم الله الطغرائي؛ فقد سبق إلى ما يجيئنا به اليوم الدكتور طه، أما قال ذاك:
ودكتورنا الجليل يقول في أصحابه الذين عقوا، وكفروا وما شكروا: «قد أقاموا حياتهم على الكذب، وأجروا سيرتهم على الرياء، فهم لا يستطيعون أن يعيشوا بأنفسهم، وإنما يستمدون حياتهم من المنعمين عليهم، ومن المغترِّين بهم، يرقون على أعناق سادتهم الذين أحسنوا إليهم وبرُّوا بهم وغمروهم بالمعروف.»
وما أجمل ما يصف لنا نموذجًا من الناس نتعثر بوجهه في أغلب الأوقات فيقول له: «إنما أنت رجل محصنٌ، لا يبلغه العدو، ولا يصل إليه الصديق، وأكاد أعتقد أن ليس لك عدو ولا صديق. شُغلت بنفسك حتى يئس الناس منك فلم يطمع فيك طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئًا.» وهذا هو اليأس المريح الذي رأيناه عند الحطيئة. ثم يقول لهذا: «أنت شريكهم في العيش الرخيِّ والحياة المقبلة، وأنت أبعد الناس عنهم حين يغلظ العيش ويعظم اليأس وتدبر الحياة.»
ثم ينتقل إلى وصف قلب هذا الصديق الصخريِّ فيصفه وصفًا وافيًا شافيًا كشأنه حين يريد أن يصف شيئًا فيطمره حتى يكاد يفطِّسه بتلك التعابير المتشاكلة المتشابهة. وأخيرًا يتحول إلى نصحه ووعظه فيقول له: «صدقني إن من الخير الكثير لك ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تشعر مَن حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم خلقت من تراب وستعود إلى التراب.»
ويستولي الأديب على أمد الألم واليأس فيقول: «حيَّة وكلب وديك، هؤلاء هم أصدقاؤنا القدماء. فابكِ إن كنت خيِّرًا واضحك إن كنت شرِّيرًا، وثق على كل حال بأن أصدقاءنا هؤلاء لم ينفردوا بما كتب عليهم من المسخ، وإنمَّا هي محنة عامة يمتحن بها هذا الوطن البائس في كثير من بنيه.»
إن في مرآة الضمير الحديث صورًا بشعة، وكاتبه الفذ ما شاء أن يرينا غير هذه البشاعة التي نراها في كل مكان وزمان، فغمض عيوننا، ولكن أين يهرب قايين من عين الله؟ فهذه العين كما صوَّرها هيغو تخترق الجبال النحاسية لا الأسوار. أصلح الله الحال، وعلى أديبنا المفجوع بأمانيه، أن يصبر متمثلًا بقول الطغرائي:
المعذَّبون في الأرض
وهذا كتاب آخر عنوانه: «المعذَّبون في الأرض» كتبه مؤلفه في فترات مختلفة. في صدره فصول كتبت على غرار القصص. يريد الدكتور أن تكون هذه الفصول قصصًا، وهو يعلم أنه ما هكذا تكتب القصص، فيقطع الدرب على قارئه وناقده، يتغداه قبل أن يتعشاه كما يقول المثل. قال في المقال الأول وعنوانه «صالح»: «لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لمَا التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أومن بها ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد، مهما يكونوا، أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن. ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنمَّا هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه. فمَن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومَن ضاق بقراءته فلينصرف عنه.»
ليس «المعذبون في الأرض» إلا مآسي بؤساء تنضح بالويل والعذاب، فهي كعبرات المنفلوطي شقاء، ولكنَّ بينهما بونًا شاسعًا في الفن. فطه يعرف من أين تؤكل الكتف، ولولا تمرُّده الجميل الذي بسطته لك، وحبه دغدغة قارئه ومداعبته والثرثرة معه — كما يعبِّر الفرنج — لكانت «المعذَّبون في الأرض» قصصًا فنية طريفة. ولكنه يسوِّد مثلًا سبع صفحات ليخبرنا بها عما يريد أن يحدثنا به عن المعتزلة، وأمِّ تمام. فطه وقارئه في نضال مستمر وجهد جهيد، فلا يترك ذاك القارئ حتى يعود إليه. لقد أجاد في «المعذَّبون في الأرض»؛ لأنه اتخذ حوادثه وأبطاله من شئون يحسُّها ويعرفها مثل: وصف الكتاتيب والتعليم فيها، وطه أدرى البشر بسيِّدنا والعريف، وهو يعلم كيف كانوا يختمون الأولاد ليحولوا دون خطر السباحة الذي كان يتهدِّد حياتهم … وقد أجاد كل الإجادة في وصف الأم الضاربة بنتها الشاردة!
وفي هذه القصص شيء كثير من العنصر الشعري الذي هو جوهر القصة. وهي تمتاز باللون المحلِّيِّ الصارخ وهذا أيضًا من عناصرها ومميزاتها، وهنالك تعابير طريفة يوفَّق إليها الدكتور فتغطي عيبًا لا يستطيع التخلص منه، قوله مثلًا: وكان دنو امرأته من الشيخوخة أو دنو الشيخوخة من امرأته.
ويعجبني من أديبنا العظيم في «المعذَّبون في الأرض» تركه التنطُّس القديم، ولجوءُه إلى ألفاظ تؤدي معناه وإن كانت ليست من كلام العرب كقوله: خبز حاف، بدلًا من قولهم قفار، وصينية وغيرها.
إن شخوص هذه الأقاصيص تحمل أوراق هويتها علاماتها الفارقة، وهذا ما لا بد منه في كتابة القصص.
في «المعذَّبون في الأرض» ستَّة فصول في ثوب قصصي، وخمسة من نوع المقالة، وفي هذه كلها يسود عنصر القص؛ لأن طه — أينما كتب — لا يفارق عمود القص؛ فهو دائمًا يحدث، وإننا نسأل له طول العمر ليظل يحدِّث.