حياتي لأحمد أمين
يحذو أحمد أمين الكاتب المصري الشهير حذو ألفونس دوده، وأناتول فرانس فيما كتباه عن نفسيهما، وحسبه أن يكتب سيرة حياته مخلصًا صادقًا متواضعًا في قصه وأسلوبه وبيانه، بسيطًا غير متكلِّف في إخراج صورها. لم يُسمِّ كتاب حياته كما سماه الكاتبان الفرنسيان العظيمان وغيرهما، بل قال لنا بكل سذاجة: هذه سيرة حياتي أدوِّنها في هذه الأوراق بلا خجل وبدون تزويق.
ينحو أحمد أمين في كتابه نحو العلماء والمفكرين في تحليل الأشياء ودرسها وتمحيصها ليخرج منها بالنتائج والغايات. يهمه أن يفيدك قبل أن يطربك ببلاغته وطرفه، ويعنيه أن تخرج من كتابه مقتديًا بنضاله وكفاحه.
تطالعنا الكآبة والحزن في مطلع كتاب «حياتي»؛ لأن صاحبه مكتئب حزين كما يحدثنا عن نفسه. يعتذر الأستاذ بتواضع عن عدم معرفته نفسه بقوله: «إن الشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته.» ولذلك صعب عليه أن يرى نفسه كما هي. ثم يؤكد لنا أن شخصيته بما فيها من خواص لهي عمل سنين بل صنع أجيال، ولو ورث إنسان غيرُه ما قد ورثه هو من خواص وعاش في بيئة كالتي عاش هو فيها لكان إياه، أو ما يقرب منه جدًّا.
قرأت هذا فذكرني بما حدثنا به مار أغوسطينوس حين زعم لنا أنه لو ولد في الغرفة التي ولد فيها جاره وصديقه اليهودي لكان يهوديًّا لا مسيحيًّا … ثم يتوسَّع الدكتور في الإيضاح فيقول: «ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سخراط وأسكنه القاهرة، حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحًا مع الفلاحين أزرع وأقلع.»
إنا لنحمد الله على هذا المكروه؛ أي ظلم ذلك الصراف الذي أدى إلى منح العربية كاتبًا عاملًا ألَّف «فجر الإسلام وضحاه وعصاراه». خشي الأستاذ أَلَّا تفيد سيرة حياته أحدًا من الناس فإذا بي أراها حافلة بأعظم درس يعلمنا كيف يخلق الرجل المريد نفسه، وأن النبوغ جهاد متصل لا ينقطع حتى يبتدئ. فخير درس مفيد للشباب الطامح الطامع نجده في «حياتي» لأحمد أمين. أما اتفق ثلاثة من جهابذة مصر على إخراج «فجر الإسلام» واقتسموا العمل، ثم حالت شئون وشجون دون نهوض اثنين منهما بحصتهما من هذا العمل المضنك، فإذا بهذا الرجل ينهض بذلك العبء وحده. وكان أن قدرت مصر جهوده وعناءه فكوفئ على عمله الجليل القدر بلقب دكتور فخري وجائزة فؤاد الأول — ألف جنيه.
لا ينفسح المجال لتلخيص كتاب ضخم كهذا، فأنصح لك أن تقرأ هذا الكتاب قراءة متأمل متعظ، فتعلم كيف نشأ أحمد أمين وكيف تعلم وعاش. إنك، إذ ذاك، لتستغرب كيف أن حياة قاسية خشنة كحياة أحمد أمين التي هي صورة مطابقة لصورة حياة المخضرمين منا، تنتج هذا الإنتاج السمين. إنك لتتعجب كيف تخرج ما أخرجت حياة الأمس الخشنة المتواضعة، حياة الغبراء والحصير لا حياة السجاد والسرير والصوف والحرير. إذا قابلت حياة الأمس القاسية بحياة اليوم الهانئة الناعمة، مأكلًا ومشربًا، وملبسًا ورخاء وتسلية، ورأيت ما أخرجت هاتيك الناس، وما تخرج هذه تكفر بالحضارة والمدنية وتقول: عودوا بنا إلى الوراء.
وواحدة أخرى توحي بها إلينا حياة أحمد أمين؛ وهي أننا نعرف منها تطور العلم في مصر، وتبدي لنا صورة تطور الطلاب، وانطباعات نفسية الشباب. فحياة هذا الرجل تاريخ حقبة زمن عصيب إن لم تقرأه مفصلًا، تدركه مجملًا.
وأشهد أني رأيت الأستاذ أحمد أمين يرينا نفسه كما خلقها الله، لا يدثرها بثوب الرياء الذي يلجأ إليه قبل كل شيء أكثر مَن يترجمون لأنفسهم. لست أزعم أنه باح فاستراح، ولكنه قال كل ما يحكى ويقال، وهذا ما يُحمد له، ويُشكر عليه، وحسبنا أنه اعترف لقرائه بحبه معلمته الإنكليزية ذلك الحب العذري.
وما أسفت لشيء في هذا الكتاب إلا لأن الأستاذ الجليل لم يشرح لنا بعض ألفاظ محلية، مثل البوظة والجرن وأشباههما؛ لأننا لا نستطيع فهمها لاختلاف مدلولها بين الأقطار، ولعل الأستاذ يفعل ذلك عندما يعيد طبع كتابه النفيس.
إن لأحمد أمين مقامًا ساميًا في نفسي، وقد قدرت جهاده قبل أن أقرأ كتابه في سيرة حياته، فكيف بي الآن وقد رافقته في جميع مراحل السن، أطال الله مدته وبارك في عمره! وحسبي تقديرًا لكتابه النفيس أني دفعته إلى أولادي ليقرءوه ويتعلموا منه جهاد كبار رجال العلم والأدب، وإني لأسأل الله أن يرزقهم معلمة رصينة كتلك الإنكليزية الساحرة العينين فيرغبوا في تعلم لغة جديدة فوق ما يعرفون من لغات! إن رفيق الطريق الحسَن يمهد العقبات، ويقصر لطفه المسافات ويدني الأبعاد.
جزى الله الأستاذ الأمين صالحة، ووقاني وإياه غدرات السكَّري.