اليوم خَمْر لمحمود تيمور
كان العهد بالأستاذ تيمور كاتب أقصوصة مصرية من الطراز الأول، تحفل أقاصيصه باللون المحلي، وتبرز ممتعة بطرافة وصفها وتحليلها لأنفس تلك الطبقة التي لم تزل كما كانت زمن المسيح ومحمد. ثم كتب القصصي الكبير الرواية فسار في طريقها عنقًا فسيحًا … والتفت أخيرًا صوب المسرح فكتب مسرحيات لا أدري كيف تكون حين تعرض على الخشبة. وعلت الصيحة وراء إحدى مسرحياته؛ لأنه كتبها باللغة العامية فنقلها للساخطين باللغة الفصحى.
والتفت تيمور إلى الماضي البعيد فعنَّ له أن يعمل — كشوقي — مسرحيةً من صميم الأدب العربي، فألَّف «اليوم خمر» وهو عنوان يُتِمُّه كل متأدب: وغدًا أمر، متذكرًا امرأ القيس أو خاله المهلهل قبله؛ لأن هذه الكلمة تنسب إلى كليهما.
لم يخرج تيمور في مسرحيته «اليوم خمر» عن نطاق مغامرات امرئ القيس، وليس يوم دارة جلجل بسرٍّ. ثم أجرى الفصل السادس في القسطنطينية، غير مبالٍ بإغضاب مَن أنكروا وجود امرئ القيس، ولا بالأب شيخو الذي عمَّده ليزيد في عدد النصارى شاعرًا. أما تسديس فصول المسرحية فطريف يذكرني بابن زيدون مسدس ولادة!
أحيت مسرحية تيمور ذكرى حامل لواء الشعر في النار على الورق، ولعلها تنجح على الألواح كما تبدو لي موفقة بين دفتي الكتاب. اضطر المؤلف حين ركب هذا المركب الخشن إلى أن يُنطق أبطاله كما كانوا يتكلمون في محاورتهم، فأفلح في هذا وكان طريفًا في حواره، طريفًا في إظهار أخلاق أسلافنا في جاهليتهم، ومرحهم، وبطرهم، وأرانا أنهم — على يبوسة محيطهم وجفافه — لم يحرموا نضارة الحياة.
إن أبطال «اليوم خمر» أشكال وألوان. فحنظلة وغضنفر شخصان يهزلان في كل مقام، فيخلقان جوًّا مرحًا في المسرحية. كما نرى أكثر الأشخاص الآخرين يستخيرون الصنم وبينهم المؤمن والهازئ. فأشخاص «اليوم خمر» يُعرَفُون من ميولهم لا من سماتهم وسحنهم، وما فيها من علامات فارقة، كما هي العادة عند مؤلفي القصص والمسرحيات. فإذا سمعت أبطال تيمور يتحاورون بلغة الجزيرة تنكر أن يكون مؤلفها الأستاذ تيمور صاحب الحاج شلبي وغيرها، وإن كانت لم تخلُ من ألفاظ وتعابير معاصرة. ولقد أحسن المؤلف تقمُّص أبطاله فاختفت شخصيته كل الاختفاء، وهذه أُولى حسنات المسرحية.
أما المآخذ فقليلة، وأكثرها في التعبير كقول أحد الأبطال لامرئ القيس: يخطب ودك. أما الفصل الخامس فيبدو لي كأنه كُتِبَ توطئة لغيره، فلو تصرف الأستاذ تيمور في حوادث المسرحية لجعل النظارة يتوقعون حدثًا جديدًا، ولكنه رأى الدرب دونه … فسار عليها آمنًا ضاحكًا ولم يبكِ كصاحب امرئ القيس.
وبعد؛ فلست أرى حضور بنت قيصر إلى القهوة أمرًا سهلًا وطبيعيًّا، ناهيك أن اجتماع ثلاث نساء في قهوة لا يحتمل ولا يطاق. وكأن المؤلف قد استكثرهن فجعل أحد أبطال المسرحية حنظلة يقول: ثلاث نساء ورجل واحد!
وكأن المؤلف شاء أن يُظهر أخلاق امرئ القيس فختم المسرحية بقوله يخاطب بنت قيصر وبنت صاحب الحانة: «لقد أنست معكما بأعذب متعة وأطيب وقت. لا أنساكما ما دمت حيًّا.» ولكن هذا كثير جدًّا.
وتختم المسرحية بانصراف الملك الضليل ليلحق بقومه منتصرًا على حبه انتصار تيمور في القصة، لا المسرحية!