العُلْبة الجلدية
لم يُفصِح سبارجو لأحدٍ بمدى تفاؤُلِه بأن يجلب له ذلك السؤالُ الجاذب للانتباه أيَّ معلومات من التي يسعى وراءها. كان من الأكيد أن الآلاف من الأعْيُن قد وقعت على جون ماربري خلال المدَّة التي حدَّدها سبارجو في ذلك السؤال، المشكلة الآن هي: مَن بالتحديد من أصحاب تلك الأعْيُن سيتذكَّره؟ وولترز وزوجته كان لديهما سببٌ لتذكُّره، كريديه كان لديه سببٌ لتذكُّره، وكذلك مايرست، وويليام ويبستر أيضًا. لكن يبدو أن أحدًا لا يتذكَّره بين مغادرتِه شركةَ لندن آند يونيفرسال لصناديق الإيداع الآمنة في الثالثة والربع، وجلوسِه إلى جانب ويبستر في مجلس العموم في التاسعة والربع، باستثناء السيد فيسكي صانع القبعات، وحتى هذا لم يكَدْ يتذكَّره لولا أن اشترى ماربري قبعةً قماشية عصرية من متجره. على أي حال، انتصف نهار ذلك اليوم دونَ أن يأتيَ أحد للإبلاغ عن تذكُّره إياه. لا بد أن يكون قد اتجهَ غربًا بعد زيارته لمايرست؛ لأنه اشترى قبعتَه من متجر فيسكي، ولا بد أنه اتجهَ إلى الجنوب الغربي في نهاية المطاف؛ لأنه ظهر في ويستمينستر. لكن، إلى أين عساه ذهب غيرَ هذه الأماكن؟ وماذا فعل؟ وإلى مَن تحدَّث؟ ظلت هذه الأسئلة بلا إجابات.
كان الشابُّ رونالد بريتون يَقْضي ساعةً بين الظهر والعصر متكاسلًا في غرفة سبارجو في مقر صحيفة «ووتشمان»، وهي الساعة التي لا يُنجِز فيها حتى المشغولون من الرجال شيئًا، وحينئذٍ قال: «هذا يُظهِر كيف أن المرء قد يتجوَّل في لندن كما لو كان نملةً تضلُّ سبيلَها فتنضمُّ إلى كومةِ نملٍ غير كومتها دون أن يُلاحِظ ذلك أحد.»
قال سبارجو: «يجدر بك قراءةُ بعضِ أساسيات علم الحشرات يا بريتون، أنا أيضًا لا أعلم عنه الكثير، لكني أعلم جيدًا أن النملة إذا سارت في أرجاءِ مستعمرةِ نملٍ لا تنتمي إليها، فإنها لا تلبث أن تَهلِكَ بعد ذلك بثوانٍ؛ نتيجةً لتطفُّلها.»
قال بريتون: «أنت تعرف ما أقصد، لندن كومة نمل، أليست كذلك؟ لا تُؤثِّر فيها زيادةُ نملةٍ بشرية واحدة أو نقصانها. لا بد أن ماربري هذا فعل الكثيرَ خلال هذه الساعات الست. لا شكَّ أنه ركب حافلة، وهذا مؤكَّد تقريبًا. واستقل سيارة أجرة، وهذا مؤكَّد أكثر لأنها شيء غريبٌ عليه. ولا بد أنه أراد شربَ بعض الشاي على أي حال، ولا شكَّ أنه أراد أن يتناول مشروبًا آخَر. ولا بد أنه ذهب إلى مكانٍ ما ليشربَ الشاي أو المشروب الآخر. ولا بد كذلك أنه اشترى أشياءَ من أحد المتاجر، هكذا يفعل قاطِنو المستعمرات دومًا. ومن الأكيد أنه ذهب إلى مكانٍ ما ليتناول عشاءَه. ومن الأكيد أيضًا أنه … ولكن، ما فائدةُ سردِ هذه الأمور في هذه القضية؟»
رد سبارجو: «ما هو إلا سرْدٌ للبديهيات.»
واصَل بريتون: «ما أعنيه هو أنه من المؤكَّد أن عددًا كبيرًا من الأشخاص رأَوه، ومع ذلك مرَّت ساعات طويلة منذ صدر عدد الصحيفة في الصباح ولم يأتِ أحدٌ ليُخبرنا بشيء. عندما تفكِّر في الأمر يتبادر إلى الذهن سؤالٌ عما قد يجعلهم يتذكَّرونه. مَن قد يتذكَّر رؤيةَ رجلٍ عادي يرتدي بِذْلة رمادية من الصوف؟»
كرَّر سبارجو: «رجل ذو مظهر عادي يرتدي بِذْلة رمادية من الصوف. وصْفٌ جيد. تذكَّر أنك لا تملك حقَّ المؤلف الاستئثاري. سيكون هذا عنوانًا رئيسيًّا جيدًا.»
ضحك بريتون. وقال: «أنت غريبُ الأطوار يا سبارجو. هل تعتقد حقًّا أنك تقترب من اكتشاف أي شيء؟»
رد سبارجو: «أقترب من اكتشافِ شيءٍ من خلال كل شيء أُنجِزَ حتى الآن. لا يمكنك أن تتولى مهمة كهذه دون أن تتوصَّل إلى شيءٍ جديد مما لديك.»
قال بريتون: «لا أرى في الأمر لغزًا كبيرًا. فقد شرح السيد إيلمور سببَ وجود عنواني مع الجثة، وأوضح تاجرُ الطوابع كريديه أن …»
رفع سبارجو نظره فجأةً.
وقال بنبرة حادة: «ماذا؟»
رد بريتون: «أوضَحَ سببَ العثور على ماربري حيث عُثِر عليه. بالطبع، أفهم الأمرَ كلَّه! كان ماربري يتجوَّل في شارع فليت، ودخل زقاق ميدل تمبل بالرغم من تأخُّر الوقت فقط ليرى أين يسكن العجوز كاردلستون، وهناك هُوجِم وقُتِل. الأمر واضح بالنسبة إليَّ. المهم الآن أن نعرف مَن ارتكب الجريمة.»
وافَقه سبارجو: «نعم، هذا هو المهم الآن.» وأخذ يُقلِّب أوراقَ دفتر اليوميات الذي كان على مكتبه. وقال: «بالمناسبة، في الحادية عشرة من صباح الغد تنعقد جلسةُ المحاكَمة المؤجَّلة. هل ستحضرها؟»
أجاب بريتون: «بكل تأكيد سأذهب. بل سأصطحب أيضًا الآنسةَ إيلمور وأختَها. فقد انتهت مناقَشةُ التفاصيل المروعة في الجلسة الأولى، ولن يُناقَش غدًا سوى الأدلة الجديدة، ونظرًا إلى أنهما لم يسبق لهما دخول محكمة الوَفَيَات …»
قاطَعه سبارجو: «سيكون السيد إيلمور الشاهِدَ الرئيسي غدًا. أتوقَّع أن يتمكَّن من الإفصاح عن أكثرَ مما أخبرني به بكثير.»
هز بريتون كتفَيه.
وقال: «لا أرى أن هناك المزيدَ ليُفصح عنه.» وأضاف وهو يضحك ضحكةً خبيثة: «لكن، أظنك تريد كتابةَ المزيد من المقالات الجيدة، أليس كذلك؟»
ألقى سبارجو نظرةً سريعة على ساعته، ثم نهض وأخذ قبعته. وقال: «سأخبرك بما أريد. أريد أن أعرف مَن كان جون ماربري. هذا ما سيصنع المقال الجيد. أريد أن أعرف مَن كان منذ عشرين عامًا، بل منذ خمسة وعشرين أو أربعين عامًا. هل فهمتَ قصدي؟»
سأل بريتون: «وهل تعتقد أن السيد إيلمور يستطيع أن يُخبرنا بذلك؟»
أجاب سبارجو: «السيد إيلمور هو الشخص الوحيد الذي التقيتُ به حتى الآن وأَقرَّ بأنه كان يعرف جون ماربري في الماضي. لكنه لم يُخبِرني بالكثير. ربما سيخبر قاضيَ الوَفَيَات ومحلَّفيه بالمزيد. والآن سأنصرف يا بريتون، فلديَّ موعد.»
ترك سبارجو بريتون وانصرف وحده متعجلًا، وقفز إلى داخل سيارة أجرة أسرعَتْ به إلى شركة لندن آند يونيفرسال لصناديق الإيداع الآمنة.
وعند زاوية مبنى الشركة وجد راثبري في انتظاره.
فقال سبارجو وهو يقفز خارجًا من السيارة: «حسنًا؟ كيف جرَت الأمور؟»
أجاب راثبري: «كل شيء على ما يُرام. يُمكِنك الحضور؛ حصلت على التصريح اللازم. ونظرًا إلى عدم وجودِ أقاربَ معروفين، لن يحضر سوى مسئولٍ أو اثنين وأنت ومسئولي شركة صناديق الإيداع الآمنة، وأنا. هيا … لقد حان الوقت.»
قال سبارجو: «كأننا سننبش قبرًا.»
ضحك راثبري. وقال: «في الحقيقة نحن سننبش أسرارَ رجلٍ ميت بالتأكيد. هذا ما يبدو أننا مُقبِلون عليه على الأقل. أتوقَّع يا سيد سبارجو أننا سنجد دليلًا ما في هذه العُلْبة الجلدية.»
لم يردَّ سبارجو. ودخلا الشركة فدلُّوهما إلى غرفةٍ كان فيها السيد مايرست، ورجلٌ تبيَّن أنه رئيس مجلس إدارة الشركة، والمسئولون الذين ذكرهم راثبري. وبعد لحظةٍ سمع سبارجو رئيسَ مجلس إدارة الشركة يشرح أنَّ لدى الشركة نُسَخًا من مفاتيح كل الخزائن، وأن التصاريحَ اللازمة صدرت بالفعل من جهات الاختصاص، وأن الحاضرين سيتوجَّهون بعد قليلٍ إلى الخزينة التي استأجرها الراحِلُ جون ماربري حديثًا، وسيأخذون منها المقتنيات التي أودَعَها هو بنفسه فيها، وهي عُلْبة جلدية صغيرة، وسيُحضِرونها بعد ذلك إلى هذه الغرفة وسيفتحونها في حضورهم جميعًا.
استكثر سبارجو المزاليج والقضبان التي ظلَّت أقفالها تُفتَح وقتًا طويلًا حتى وصل هو ورِفاقُه إلى الخزينة التي كان قد استأجرها حديثًا السيدُ الراحِل جون ماربري الذي لم يَعُد هناك شكٌّ الآن في وفاته. ولما وقع نظره عليها ظنها للوهلة الأولى صغيرةً جدًّا لدرجةٍ تجعل العثورَ على أي شيءٍ مهم فيها أمرًا مستبعَدًا. لقد بدَت في الحقيقة كخزينة خشبية عادية لا سِمةَ تميِّزها من بين الخزائن العديدة التي كانت في الغرفة الصغيرة المُحكمة، ولم يَسَع سبارجو عندما رآها إلا أن يتذكَّر الخزينةَ التي كان يحتفظ فيها أيامَ المدرسة بمتعلقاته الشخصية وحلوى تارت المربى والنقانق والحلوى الصلبة المهرَّبة من دكان الحلويات. كان اسم ماربري قد كُتِب عليها حديثًا بدهان لم يَكَد يجف. ولما فتح رئيسُ مجلس إدارة الشركة البابَ الأمامي لمعبد الأسرار هذا — أيْ باب الخزينة الخشبي — ظهر وراءه بابٌ فولاذي منيع، فماجت صدورُ المشاهدين بالترقُّب.
قال رئيس مجلس إدارة الشركة في حزم: «نسخة المفتاح من فضلك يا سيد مايرست، نسخة المفتاح!»
ارتسمتْ على هيئة مايرست جديةٌ لم تقلَّ عن جديةِ رئيسه، وأخرج مِفتاحًا غريبَ الشكل، فرفع رئيسُ مجلس إدارة الشركة يدَه كما لو كان على وشك إطلاقِ سفينةٍ حربية في رحلتها الأولى، وانفتح الباب الفولاذي ببطء. فظهرت العُلْبة الجلدية وراءه في كوَّةٍ مساحتُها قَدَمان مربَّعتان.
وبينما كان الجَمْع من الرجال يعودون أدراجَهم إلى غرفة السكرتير في صفٍّ واحد، شعر سبارجو بأنهم صاروا أشبهَ ما يكون بموكبٍ جنائزي مهيب. تقدَّمَ الرَّكْبَ رئيسُ مجلس إدارة الشركة بصحبةِ مسئولٍ رفيعٍ كان قد جلب معه التصاريحَ اللازمة من هيئات الحَلِّ والعَقْد المختصة، ثم تبعهما مايرست حاملًا العُلْبة، ثم رجلان آخَران هما مسئولان قانونيَّان مكلَّفان بمُراقَبة الأعمال الرسمية والشرطية، وسار راثبري وسبارجو في مؤخرة الموكب. همس سبارجو بفكرة للمحقِّق فأومأ راثبري متفهمًا.
وقال: «لنأمُل أن نشاهد شيئًا ذا قيمة!»
كان في غرفة السكرتير رجلٌ ينتظر، وما إنْ دخل عليه الرجلان اللذان كان يتقدَّمان الموكبَ حتى لمس مقدمةَ رأسه محييًا في احترام. وضع مايرست العُلْبةَ على الطاولة، فهز الرجلُ المنتظر المفاتيحَ مُحدِثًا رنينًا، وتحلَّقَ أعضاءُ الموكب الآخَرون حول الطاولة.
قال رئيس مجلس إدارة الشركة بنبرة جدية: «نظرًا إلى أننا لا نملك مفتاحًا لهذه العُلْبة بطبيعة الحال، كان من واجبنا أن نستعين بمساعَدةِ محترفٍ في فتحها، تفضَّلْ يا جوبسون!»
ولوَّح بيده، فتقدَّمَ حامِلُ المفاتيح في حماس. وفحص قُفلَ العُلْبة بعينَين خبيرتَين، كان من السهل ملاحظةُ تلهُّفه للانكباب عليها. نظر سبارجو إلى العُلْبة متفكرًا. كانت كما وُصِفت له تقريبًا؛ عُلْبة مربَّعة صغيرة قديمة من جلد البقر، متينة للغاية، ومهترئة للغاية ومبقَّعة من الخارج، لها مقبض يَبرز من غِطائها، يبدو من مظهرها أنها كانت مخبَّأةً في مكانٍ ما زمنًا طويلًا.
صدر صوتُ طقَّة، وانفتحت العُلْبة، فتراجع جوبسون إلى الوراء.
وقال: «ها قد انفتحت، تفضَّل يا سيدي.»
أشار رئيس مجلس إدارة الشركة إلى المسئول الرفيع.
وقال: «هلا تفضَّلتَ بفتح العُلْبة يا سيدي. انتهت مهمتنا عند هذا الحد.»
وبينما كان المسئول الرفيع يمدُّ يدَه إلى الغطاء، تحلَّقَ الرجال الآخَرون واشرأبَّت أعناقهم، وطفَر الترقُّب من أعيُنهم. رُفِع الغطاء، وانطلقت من أحدهم تنهيدةٌ عميقة. وقرَّب سبارجو رأسَه وعينَيه.
العُلْبة فارغة!
فارغة، كفراغ أي شيء فارغ! هكذا خاطَب سبارجو نفسه، لم يكن في العُلبة شيء، حرفيًّا. كانوا جميعًا يحدِّقون إلى داخل عُلْبة عادية أكَلَ عليها الدهرُ وشَرِب، مبطَّنة بنسيجٍ قطني قديمِ الطِّراز، كالذي كان أسلافنا في منتصف العصر الفيكتوري يألفونه، ومع ذلك لا شيءَ فيها.
قال رئيس مجلس إدارة الشركة: «يا إلهي! إن هذا … يا للهول! لا شيءَ في العُلْبة!»
قال المسئول الرفيع المستوى بلا انفعال: «هذا واضح.»
نظر رئيس مجلس إدارة الشركة إلى السكرتير.
وقال بنبرةٍ كسيرة كمَن حُرِم من مفاجأة رائعة كان يُمنِّي نفسَه بها: «كنتُ أتصوَّر أن العلبة ذاتُ قيمةٍ كبيرة يا سيد مايرست. قيمة كبيرة!»
سعل مايرست.
وقال: «لا يَسَعني سوى أن أُكرِّر ما قلته سابقًا يا سيد بنجامين. لقد قال السيد الراحل ماربري عن وديعته إن قيمتَها كبيرةٌ عنده، ولم يتركها من يده حتى وضعها في الخزينة. وبدا عليه أنه يعتبرها ذاتَ قيمةٍ لا تُضاهى.»
قال رئيس مجلس إدارة الشركة: «لكننا فهمنا من إفادة السيد كريديه التي أدلى بها لصحيفة «ووتشمان» أن العُلْبة كانت مليئةً بالأوراق و… وأشياء أخرى. لقد رأى كريديه فيها أوراقًا قبل أن تُجلَب إلى هنا بساعة تقريبًا.»
بسَط مايرست كفَّيه.
وقال: «لا يَسَعُني سوى أن أُكرِّر ما قلته يا سيد بنجامين. لا أعرف أكثر من ذلك.»
قال رئيس مجلس إدارة الشركة: «لكن، لِمَ قد يُودِع رجلٌ علبةً خاويةً في خزانة؟ لا أﻓ…»
وهنا تدخَّل المسئول الرفيع.
وقال: «هذه العلبة خالية لا شك. هل حملتَها بنفسك في أي وقتٍ يا سيد مايرست؟»
ابتسم مايرست في ترفُّع.
وقال: «لقد قلتُ بالفعل يا سيدي إن المتوفَّى منذ لحظةِ دخوله هذه الغرفةَ حتى وضع العلبة في الخزينة التي استأجرها، لم يترك العلبةَ من يدَيه.»
عمَّ الصمت لحظات. ثم التفت المسئول الرفيع إلى رئيس مجلس الإدارة.
وقال: «حسنًا. لقد أجرينا التحقيق. يا راثبري، خذ العلبةَ معك وحرِّزها في سكوتلاند يارد.»
لذا خرج سبارجو مع راثبري ومعهما العلبة، وأدرك أنه عثر للمقالة التي أصبحت تُنشَر يوميًّا في صحيفته على مادةٍ صحفية ممتازة، ولو اكتنفها الغموض.