استجواب السيد إيلمور
- (١)
أثبت حارس ميدل تمبل والضابط دريسكول العثورَ على الجثة.
- (٢)
أفاد الطبيب الشرعي بسبب الوفاة: تعرُّض الرجل لضربة شديدة من الخلف بأداة ثقيلة، وتُوفِّي على الفور.
- (٣)
أثبتت الشرطة وموظَّفو المشرحة أنه عند فحص الجثة لم يُعثَر بين طيَّات ملابس الرجل على شيءٍ سوى قصاصة الورق الرمادية التي أصبحت الآن مشهورة.
- (٤)
أثبت راثبري أنه بتتبُّع أثر قبعة القتيل القماشية العصرية الجديدة التي اشتراها من متجر فيسكي الشهير في الطرف الغربي، قادت القبعة البحثَ إلى فندق أنجلو أورينت في حي ووترلو.
- (٥)
السيد وولترز وزوجته شهِدا بوصول ماربري إلى فندق أنجلو أورينت، وأفادا بما فعل خلال وجوده فيه وتَجْواله حوله.
- (٦)
أثبت أمين حسابات سفينة وامبارينو أن ماربري أبحرَ على نحوٍ طبيعي من ميلبورن إلى ساوثهامبتون على متن السفينة كأي مسافر ملتزم بالقواعد، ولم يُثِر انتباهَ أي أحد، وغادَر السفينة في ساوثهامبتون في وقتٍ مبكر من صباحِ ما تبيَّنَ أنه آخِر يوم في حياته بطريقة طبيعية تمامًا.
- (٧)
أفاد السيد كريديه بلقائه بماربري لمناقَشة أمر الطوابع.
- (٨)
أفاد السيد مايرست بزيارة ماربري لشركة صناديق الإيداع الآمنة، وثبت بالفحص الرسمي أن العلبة التي أودَعَها هناك كانت خالية.
- (٩)
أعاد ويليام ويبستر سرْدَ قصة لقائه بماربري في إحدى ساحات مجلس العموم، وذكر أنه شهِد لقاءً بين ماربري والرجل الذي بات ويبستر يعرف الآن أنه السيد إيلمور، عضو البرلمان.
أدى كلُّ ذلك إلى مثول السيد إيلمور نائب البرلمان في منصة الشهود. وكان سبارجو يعلم ويشعر بأن هذا هو ما كان يترقَّبه الحشد الذي غصَّت به قاعة المحكمة. فبفضل مقالاته المتميزة الواقعية والنابضة بالحياة في صحيفة «ووتشمان»، بات الجميع مُلِمًّا الآن بالأدلة التي قدَّمها الشهود التسعة الذين وقفوا في منصة الشهود قبل مثول السيد إيلمور بها. وكانوا أيضًا مُلِمِّين بالحقائق التي سمح السيد إيلمور لسبارجو بنشرها بعد لقائهما في النادي الذي رتَّبه رونالد بريتون. لماذا جذَبَ حضورُ عضو البرلمان كلَّ هذا الاهتمام البالغ إذن؟ لأن القضية استحوذت على اهتمام الجميع، من قاضي الوَفَيَات إلى آخِر رجل تمكَّن من دسِّ جسده في آخِر بوصة مربَّعة شاغرة في القاعة المفتوحة للعامة، وأراد كلُّ مَن كان هناك أن يسمع ويرى الرجل الذي التقى بماربري في هذه الظروف الدرامية، ورافَقه إلى الفندق الذي كان يُقيم فيه، وخالَطه وأسدى له النصيحة، وخرج معه من الفندق في تمشيةٍ لم يَعُد ماربري منها. كان سبارجو يعلم سرَّ الاهتمام البالغ، فقد كان الجميع يعلمون أن إيلمور هو الوحيد الذي يُمكِن أن يُخبر المحكمة بأي شيءٍ مهم عن ماربري، ومَن كان، وإلامَ كان يسعى، وكيف كانت حياته.
أجال نظره في القاعة في حين كان عضو البرلمان يدخل منصة الشهود، كان رجلًا وسيمًا طويلَ القامة أنيقَ الملبس، في لحيته القليل من الشعر الرمادي، وكانت قامتُه منتصبة كجندي مُدرَّب جيدًا، وبدا مُدرِكًا للسَّطوة البادية في مظهره. جلست ابنتا إيلمور على مسافة بعيدة قليلًا قبالةَ سبارجو، وكان معهما رونالد بريتون، والتقتْ عينا سبارجو بأعينهما وهما يدخلان القاعة، فأومأتا له مبتسمتَين. كان يُراقِبهما من وقتٍ إلى آخر، وبدا جليًّا له أنهما كانا يعتبران القضيةَ كلَّها نوعًا جديدًا من الترفيه، قد يتخيَّلهما المرء جالستَين في خمول في أحد البازارات الشرقية يُنصِتان إلى حكايات تُروى على ألسنة الحكَّائين المحترفين. والآن، بينما كان أبوهما يَعتلي منصة الشهود، رمقهما سبارجو بنظرة أخرى، فلم يُلاحِظ عليهما إلا تورُّدَ وجنتَيهما وزيادة التماع أعينهما.
خاطَبَ نفسه: «كل ما يشعران به هو المزيد من الإثارة فقط لأن أباهما متورِّطٌ في هذا اللغز المثير. إممم! لكن … ما مدى تورُّطه؟»
التفت إلى منصة الشهود، ومنذ ذلك الحين لم يرفع عينَيه عن الرجل الذي كان فيها. فقد كانت في ذهن سبارجو أفكارٌ عن ذلك الشاهد أراد أن يتحقَّق منها.
خيَّبَت شهادة السيد إيلمور أملَ كلِّ مَن كان يتوقَّع فيها شيئًا مثيرًا مباشرًا. فبعد أن حلف إيلمور اليمينَ وطرح عليه قاضي الوَفَيَات سؤالًا أو اثنين، استأذن أن يحكيَ بطريقته الخاصة ما كان يعرفه عن الرجل الميت والواقعة المؤسِفة التي أودتْ بحياته، ولما مُنِح الإذن مضى يتحدَّث في هدوءٍ وبلا انفعال، وكرَّر ما قصَّ على سبارجو بالضبط. بدت قصته عادية جدًّا. كان يعرف ماربري منذ أعوام عديدة. ثم تفرَّقت بهما السُّبلُ عشرين عامًا تقريبًا. والتقى به بالمصادَفة في إحدى ساحات مجلس العموم في المساء السابق للجريمة. وطلب منه ماربري النصيحة. ونظرًا إلى عدم انشغاله بمهمة محدَّدة وإقباله على مدِّ يد العون لواحد من معارفه القدامى، فقد عاد مع ماربري إلى فندق أنجلو أورينت، ومكث معه في غرفته بعضَ الوقت يفحص ماساته الأسترالية، ثم خرج معه. كان قد أسدى له النُّصحَ كما طلب، وتمشَّيا على جسر ووترلو، وبعد ذلك مباشَرةً افترقا. وكان هذا كل ما يعرف.
كان ذلك معلومًا من ذي قبلُ لهيئة المحكمة ولسبارجو ولكلِّ مَن كانوا هناك. فقد سبق نشْرُ هذه المعلومات تحت عُنوانٍ عريض في صحيفة «ووتشمان». أعاد إيلمور سرْدَ القصة، ولما فرغ من ذلك بدا أنه يظن أن خطوته التالية هي مغادَرةُ منصةِ الشهود وقاعة المحكمة، وبعد سؤال أو سؤالَين رتيبَين من قاضي الوَفَيَات ورئيس هيئة المحلَّفين هَمَّ إيلمور بالنزول عن المنصة. بيْدَ أن سبارجو كان يَعِي منذ بداية الاستجواب وجودَ مستشار بارز يُمثِّل الخزانةَ بين الحضور، فصوَّب نظراته في اتجاهه، ولم يستغرب أنْ وقَفَ الرجل بطريقته المعتادة التي يبدو منها عدم مبالاته، وثبَّت نظَّارتَه الأحاديةَ العدسةِ على عينه اليمنى، ورمق الرجلَ الطويل القامة الذي كان على منصة الشهود بنظرةٍ خاطفة.
تمتم سبارجو: «ها قد أوشك المرح أن يبدأ.»
أجال مُمثل الخِزانة عينَيه بين إيلمور وقاضي الوَفَيات وانحنى انحناءةً متعجِّلة للقاضي ولإيلمور ثم اعتدل واقفًا. بدا كرجلٍ مُوشِك على طرح أسئلة عادية عن حالة الطقس أو عن آخِر أحوال زوجة سميث، أو عن احتمال ارتفاع قيمة الأسهم أو انخفاضها. لكن سبارجو كان قد سمع هذا الرجل يتحدَّث من قبلُ، وتعرَّف على ما في صوته وإيماءاته من إشاراتٍ ذات مغزًى.
قال الرجل بصوته الهادئ الذي تبدو فيه اللامبالاة: «أريد أن أسألك القليلَ من الأسئلة يا سيد إيلمور عن علاقتك بالمتوفَّى. كنتَ تعرفه منذ وقت طويل، صحيح؟»
رد إيلمور: «منذ وقت طويل جدًّا.»
سأل الرجل: «منذ متى تقريبًا؟»
أجاب إيلمور: «منذ عشرين إلى اثنين وعشرين عامًا، أو ثلاثة وعشرين على ما أظن.»
سأل الرجل: «ولم تلتقِ به في هذه المدَّة قطُّ قبل أن تلتقيَا بالصدفة على النحو الذي أخبرتَنا به؟»
أجاب إيلمور: «صحيح.»
سأل الرجل: «ولم يتواصَل معك حتى؟»
أجاب إيلمور: «كلا.»
سأل الرجل: «ولا سمعتَ خبرًا عنه؟»
أجاب إيلمور: «لا.»
سأل الرجل: «لكنَّ كلًّا منكما تعرَّف على الآخَر على الفور عندما التقيتما، صحيح؟»
قال إيلمور: «على الفور تقريبًا.»
سأل الرجل: «على الفور تقريبًا … إذن، معنى ذلك أن كلًّا منكما كان يعرف الآخَر معرفةً وثيقة جدًّا منذ عشرين أو اثنين وعشرين عامًا، صحيح؟»
أجاب إيلمور: «نعم، كان كلٌّ منا يعرف الآخر جيدًا.»
سأل الرجل: «كنتما صديقَين حميمَين؟»
قال إيلمور: «قلت إننا كنا من المعارف فحسب.»
قال الرجل: «المعارف! … ماذا كان اسمه الذي تعرفه به حينَذاك؟»
رد إيلمور: «اسمه؟! كان اسمه ماربري.»
سأل الرجل: «ماربري، أيْ نفس الاسم، وأين كنت تعرفه؟»
رد إيلمور: «هنا في لندن.»
سأل الرجل: «وماذا كان عمله؟»
رد إيلمور: «أتعني مِهنته؟»
قال الرجل: «ماذا كانت مهنته؟»
قال إيلمور: «أظنه كان يعمل في حقل المال.»
قال الرجل: «يعمل في حقل المال. هل كانت لك تعامُلاتٌ معه؟»
رد إيلمور: «نعم، أحيانًا.»
سأل الرجل: «وماذا كان عُنوان مكتبه في لندن؟»
رد إيلمور: «لا يُمكِنني تذكُّرُ ذلك.»
سأل الرجل: «وعُنوانه الشخصي؟»
رد إيلمور: «لم أعرفه قطُّ.»
سأل الرجل: «أين كنتَ تُجرِي صفقاتِك معه؟»
رد إيلمور: «كنا نتقابل، من وقتٍ إلى آخر.»
سأل الرجل: «أين؟ في أي مكان؟ أفي مكتب، أم منتجع؟»
رد إيلمور: «لا يُمكِنني أن أتذكَّر أماكنَ بعينها، في حي مدينة لندن أحيانًا.»
سأل الرجل: «حي مدينة لندن … أين في حي مدينة لندن؟ في مانشن هاوس، أم شارع لومبارد، أم ساحة كنيسة سانت بول، أم أولد بايلي، أم أين؟»
رد إيلمور: «أتذكَّر لقاءاتٍ لنا خارج البورصة.»
سأل الرجل: «وهل كان يعمل في هذه المؤسَّسة؟»
رد إيلمور: «كلا، على حدِّ علمي.»
سأل الرجل: «وهل كنتَ أنت تعمل فيها؟»
رد إيلمور: «قطعًا لا.»
سأل الرجل: «وماذا كان نوعُ تعامُلاتِك معه؟»
رد إيلمور: «تعامُلات مالية … وصغيرة.»
سأل الرجل: «كم كان طولُ مدةِ معرفتك به؟ ما المدة الزمنية التي امتدَّت خلالها؟»
رد إيلمور: «من ستة أشهر إلى تسعة حسَبما أظن.»
سأل الرجل: «فقط؟»
رد إيلمور: «فقط، بالتأكيد.»
قال الرجل: «كانتْ معرفةً عابرة إذن، صحيح؟»
رد إيلمور: «صحيح.»
قال الرجل: «ومع ذلك، عندما التقيتَ بذلك الرجل الذي كنتَ تعرفه معرفةً عابرة فحَسْب بعد أكثرَ من عشرين عامًا مِن تفرُّق السُّبل بينكما، اهتممتَ به اهتمامًا شديدًا؟»
قال إيلمور: «كنتُ أريد مدَّ يدِ العون له، وكنتُ مهتمًّا بما قاله لي ذلك المساء.»
قال الرجل: «مفهوم، والآن أرجو ألَّا تُمانِع إن سألتك سؤالًا شخصيًّا أو سؤالَين. أنت رجل بارز في المجال العام، والحقائقُ ذات الصلة بحياة رجال المجال العام هي مِلكية عامة تقريبًا. مذكورٌ في هذا المرجع الشعبي أنك جئتَ إلى هذا البلد عام ١٩٠٢ قادِمًا من الأرجنتين التي كوَّنتَ فيها ثروة طائلة. ومع ذلك قلتَ لنا إنك كنتَ في لندن — حيث كانت معرفتك بماربري — عامَ ١٨٩٠ أو ١٨٩٢ تقريبًا، فهل غادَرتَ إنجلترا بعد انقطاع معرفتك بماربري بمدة قصيرة إذن؟»
قال إيلمور: «نعم، لقد غادَرتُ إنجلترا عام ١٨٩١ أو ١٨٩٢، لست متأكدًا من العام بالتحديد.»
قال الرجل: «نريد التأكُّد من هذه الإجابة تمامًا يا سيد إيلمور. نريد أن نجد إجابةً للسؤال المهم: مَن كان جون ماربري؟ وكيف لقِي حتفه؟ ويبدو أنك الشخصُ الوحيد الذي يعرف أيَّ شيءٍ عنه، ماذا كان مجالُ عملك قبل أن تُغادِر إنجلترا؟»
قال إيلمور: «كنتُ أعمل في الشئون المالية.»
قال الرجل: «مثل ماربري. وأين كنتَ تُزاوِل عملك؟»
رد إيلمور: «في لندن، بالطبع.»
قال الرجل: «وماذا كان عنوانُ عملك؟»
لسببٍ ما كان اضطرابُ إيلمور يزداد رويدًا رويدًا. احمرَّ جبينُه، وأخذ شاربه يرتعش، فاستجمع شجاعتَه وواجَهَ مستجوِبَه في تحدٍّ وقال منتفضًا:
«أعترض على هذه الأسئلة التي تتناوَل شئوني الخاصة!»
قال الرجل: «ومع ذلك عليَّ طرحها. أكرِّر سؤالي السابق.»
قال إيلمور: «وأنا أرفض الإجابة عنه.»
قال الرجل: «إذن سأسألك سؤالًا غيره. أين كنتَ تعيش في لندن في المدة التي تحدَّثنا عنها؛ أيْ حين كنتَ تعرف جون ماربري؟»
رد إيلمور: «أرفض الإجابة عن هذا السؤال أيضًا!»
جلس مستشار الخزانة ونظر إلى القاضي.