التذكرة الفضية
سحب سبارجو الفتاة جانبًا من بين الحشد بحرصٍ غريزي على حمايتها، وبعد لحظةٍ كان قد قادها إلى شارع جانبي هادئ. وأخذ ينظر إليها عندما وقفتْ تلتقطُ أنفاسها.
قال في هدوء: «نعم؟»
نظرَت إليه جيسي إيلمور وعلى وجهها ابتسامةٌ ضعيفة.
وقالت: «أريد التحدث إليك. بل لا بدَّ أن أتحدَّث إليك.»
قال سبارجو: «حسنًا. لكن ماذا عن الآخَرين؟ أختك؟ … وبريتون؟»
ردَّت: «تعمَّدتُ ترْكَهم لآتيَ للتحدُّث إليك. وهم يعرفون أني انفصلتُ عنهم. اعتدتُ العناية بشئوني الخاصة.»
تقدَّم سبارجو في الشارع الجانبي، وأشار إلى رفيقته لتتقدَّم معه.
وقال: «ما تحتاجين إليه هو الشاي. أعرف مكانًا غريبًا قديمَ الطراز على مقربة من هنا يُمكِنكِ فيه احتساءُ أفضل شاي صيني في لندن. تعالَي واشربي بعضًا منه.»
ابتسمت جيسي إيلمور وتبعت دليلَها مُطِيعةً. ولم يقُل سبارجو شيئًا، بل مضى في طريقه بثبات واضعًا إبهامَيه في جيبَي الصديري الذي كان يرتديه وأخذ يُحرِّك باقيَ أصابعه خارج الجيبَين كمَن يعزف لحنًا غير مسموع، وظل على حاله حتى استقر هو ورفيقته في ركنٍ هادئ بالمقهى القديم الذي حدَّثها عنه، وطلب من النادلة التي بدا جليًّا أنها تعرفه شايًا وكعك الشاي. ثم التفت إلى رفيقته.
وقال: «هل تريدين الحديثَ معي عن أبيكِ؟»
ردَّت: «نعم. هذا ما أريد.»
سأل سبارجو: «لماذا؟»
حدجته الفتاة بنظرة فاحصة.
وردَّت: «يقول رونالد بريتون إنك الرجل الذي كتب كلَّ هذه المقالات الخاصة في صحيفة «ووتشمان» عن قضية ماربري. أهذا صحيح؟»
قال سبارجو: «نعم.»
قالت: «إذن أنت رجلٌ بالغُ التأثير. يُمكِنك توجيهُ رأيِ العامة. يا سيد سبارجو، ماذا ستكتب عن أبي وعما جرى اليوم؟»
أشار سبارجو إليها بأنْ تصبَّ الشاي الذي وصل للتو. وأمسك في حماسٍ بقطعة من كعك الشاي الساخن المُترَع بالزبد، وقضم منها قضمةً كبيرة.
قال بصوتٍ حالَ امتلاءُ فمِه من خروجه واضحًا: «بصراحة، لا أعرف. لا أعرف بعدُ. لكن من الأفضل أن أقول لكِ الحقيقة … ينبغي ألَّا أسمح لأي شيءٍ قد تقولينه لي بجعلي أتحيَّز أو أتحامل في الاستنتاجات التي أتوصَّل إليها. أفهمتِ قصدي؟»
شعرَت جيسي إيلمور بإعجابٍ مفاجئ بسبارجو لأسلوبه المباشِر غير التقليدي.
وقالت: «لا أريد أن أجعلك تتحامل أو تتحيَّز. كل ما أريد هو أن تتيقَّن تمامًا من … أي شيء … قبل أن تُفصِح عنه.»
قال سبارجو: «سأتيقَّن. لا تقلقي. هل أعجبَكِ الشاي؟»
قالت وعلى وجهها ابتسامةٌ جعلت سبارجو ينظر إليها من جديد: «إنه رائع! جميل! أخبِرْني يا سيد سبارجو، ما رأيك في … فيما حدث؟»
رفع سبارجو إحدى يدَيه ومسح بها على شعره الذي كان مبعثرًا كعادته دائمًا غيرَ آبهٍ بالزُّبْد الذي كانت أصابعه مُترَعة به. ثم أكل المزيدَ من كعك الشاي واحتسى المزيدَ من الشاي.
وقال فجأة: «اسمعي! لا أجيد الحديث. لكني أستطيع الكتابةَ ببراعة عندما تكون في جَعْبتي قصةٌ جيدة لأرويَها، مع ذلك لا أتحدَّث كثيرًا؛ لأني لا يُمكِنني أبدًا أن أُعبِّر عما أعني إلا إذا كان في يدي قلم. بصراحة، أجد صعوبةً في إخباركِ برأيي. عندما أكتب مقالتي هذا المساء، سأصوغ كلَّ هذه الأحداث في شكلٍ مناسب، وسأكتبُ عنها بوضوح. لكني سأخبرك برأيي في شيءٍ واحد: ليتَ أباكِ صارَحني بكل ما لديه في البداية عندما أجريتُ معه تلك المقابَلة، أو حتى ليته قال كل ما لديه عند صعوده إلى منصة الشهود للمرة الأولى.»
سألَتْه: «لماذا؟»
رد سبارجو: «لأنه الآن تسبَّبَ في إثارة الرِّيبة والاشتباه حول نفسه. فالناس سيفكِّرون، وستذهب بهم الظنون كلَّ مَذهب! إنهم يعرفون بالفعل أنه يعرف عن ماربري أكثرَ مما يريد الإفصاحَ عنه، وهذا …»
قاطعَته بسرعة: «لكن هل هذا صحيح؟ أتعتقد أنه يعرف أكثرَ مما قال؟»
ردَّ سبارجو قاطِعًا: «نعم! هذا ما أعتقد. يعرف أكثر بكثير! ليتَه كان صريحًا من البداية … لكنه لم يكن كذلك. والآن قُضِي الأمر. اسمعي، هل تدركين أن أباك في خطرٍ داهِم في الوضع الحالي؟»
قالت مُتسائِلة: «خطر؟»
رد سبارجو: «خطر داهِم! فالحقائق كما يلي: لقد أقرَّ بأنه اصطحب ماربري معه إلى مسكنه في تمبل تلك الليلة. وفي الصباح التالي عُثِر على ماربري مقتولًا ومتعلقاته مسروقة في مدخل يبعد عنه بأقلَّ من خمسين ياردة!»
ضحكت بازدراءٍ وقالت: «وهل يتصوَّر أحد أن يُقدِم أبي على قتْلِه لسرقة متعلقاته أيًّا كانت؟ أبي رجلٌ واسِعُ الثراء يا سيد سبارجو.»
قال سبارجو: «قد يكون هذا صحيحًا. لكن من المعروف أن أصحاب الملايين يقتلون مَن يكتمون أسرارًا.»
قالت في استغراب: «أسرار!»
قال سبارجو وهو يُومِئ إلى إبريق الشاي: «اشربي المزيد من الشاي. اسمعي … ها هي الحكاية. الفرضية التي سيُكوِّنها الناس … أو بعض الناس (ولن أنكر أنها راوَدَتْني أنا شخصيًّا) هي أن ثَمةَ لغزًا في هذه العلاقة أو المعرفة أو الصلة أو ما كان يجمع أباكِ بماربري منذ عشرين عامًا بصرفِ النظر عن ماهيَّته. لا شكَّ في ذلك. هناك سرٌّ عمرُه عشرون عامًا في حياة أبيك. لا بد أنَّ هناك سرًّا، وإلا لَأجاب عن تلك الأسئلة. سيقول العامة: «حسنًا، الآن فهمنا الأمر؛ كانت لدى ماربري وسيلةٌ للسيطرة على إيلمور. وظهر ماربري. فاستدرَجَه إيلمور إلى تمبل وقتله ليصون سرَّه، وسرق منه كلَّ ما كان معه للتمويه.» صحيح؟»
قالت منفعلةً: «تعتقد أن هذا ما سيقوله الناس؟»
رد: «متأكِّدٌ تمامًا! فهُم يقولون ذلك بالفعل، سمعتُ الكثير منهم يقولونه بطريقةٍ أو بأخرى وأنا أخرج من المحكمة. وبالطبع سيقولون ذلك. ماذا عساهم يقولون غيره؟»
جلست جيسي إيلمور لوهلة تنظر إلى فنجان الشاي في صمت. ثم وجَّهت عينَيها إلى سبارجو، الذي بدا عليه فجأةً اهتمامٌ مفاجئ بما تبقَّى من كعك الشاي.
سألته في هدوء: «أهذا ما ستَكتُبه في مقالك في الصحيفة اليوم؟»
رد على الفور: «كلا! لن أكتب ذلك. سأنتظر الليلةَ وأترقَّب. وبالإضافة إلى ذلك، القضيةُ منظورةٌ أمام القضاء. كلُّ ما سأفعله هو سرْدُ ما حدث في المحاكَمة على طريقتي.»
مدَّت الفتاة يدَها ووضعتها على قبضة سبارجو الكبيرة بلا تفكير.
وسألت بصوت خفيض: «أهذا ما تظن؟»
قال سبارجو منفعلًا: «كلا، أقسم بشرفي إن هذا ليس ظني! ليس صحيحًا! لا أظن ذلك البتة. أظن أن هناك لغزًا شديدَ الغموض وراء مَقتل ماربري، وأعتقد أن أباكِ يعرف الكثير عن ماربري ولا يريد الكشف عنه، لكني متأكِّد تمامًا أنه لم يقتل ماربري ولا يعرف أيَّ شيءٍ على الإطلاق عن مَقتله. وبينما أمضي في مسعايَ لحل هذا اللغز — وقد عقدتُ العزم على ذلك — سيُسعِدني إبراءُ ساحةِ أبيك أكثر من أي شيء. فَلْتأكلي بعضًا من كعك الشاي. سنطلب المزيدَ منه، ومن الشاي أيضًا.»
قالت مبتسمةً: «كلا، شكرًا لك. شكرًا لك على ما قلتَه أيضًا. سأنصرف الآن يا سيد سبارجو. لقد كنتَ كريمًا معي.»
قال سبارجو منفعلًا: «لا داعيَ للشكر! لم أفعل شيئًا! قلتُ لك رأيي فحسب. هل أنتِ مضطرَّة للانصراف؟»
أوصَلَها إلى سيارة أجرة على الفور، وعندما رحلَت وقف يُحدِّق في سيارة الأجرة شاردَ الذهن حتى ربَّتتْ يدٌ على كتفه برفق. التفت فوجد راثبري يبتسم له.
وقال: «حسنًا يا سيد سبارجو، لقد رأيتُك! مُرافَقةُ الشابات تغييرٌ مُبهِج بعد قضاء يوم كامل في تلك المحكمة. اسمع، هل ستبدأ في كتابتك الآن؟»
رد سبارجو: «لن أبدأ في كتابتي — حسب تعبيرك — إلا بعد أن أتعشَّى الساعةَ السابعة وأمنحَ نفسي فرصةً لهضمِ عشائي المتواضِع. ما الأمر؟»
قال راثبري: «عُد معي وألْقِ نظرةً أخرى على تلك العُلْبة الجلدية. إنها في غرفتي، وأود أن أفحصها بنفسي. تعالَ!»
قال سبارجو: «إنها فارغة.»
فقال راثبري: «قد يكون فيها جيبٌ خفي. مَن يعلم؟! هيا! اركب!»
ودفع سبارجو إلى داخل سيارة أجرة عابرة، ثم طلب من السائق أن يتوجَّه إلى سكوتلاند يارد على الفور. لما وصلا دلف هو وسبارجو إلى غرفةٍ كئيبةِ المنظر كان الصحفيُّ قد رآه فيها من قبلُ، وأغلَقَها راثبري عليهما.
وسأل: «ما رأيك فيما حدث اليومَ يا سبارجو؟» وفتح قُفلَ خزانةٍ كانت في الغرفة.
ردَّ سبارجو: «أعتقد، أن بعضكم أيها الرفاق قد حزمتم أمركم.»
وافَقه راثبري: «صحيح. بالطبع، المهمة التالية هي أن نعرف كلَّ شيء عن السيد إيلمور منذ عشرين عامًا. فعندما يرفض رجلٌ الإفصاحَ عن المكان الذي كان يعيش فيه من عشرين عامًا، أو عن عمله حينئذٍ بالتحديد، أو عن طبيعة علاقته برجلٍ آخَر بدقة، فلا بدَّ من البحث عن الإجابات، أليس كذلك؟ بعض الزملاء يبحثون في تاريخِ حياةِ الموقَّر ستيفن إيلمور عضو البرلمان بالفعل، بالطبع! والآن يا سبارجو، ها هي العُلْبة الشهيرة.»
أخرَجَ المحقق العُلْبةَ الجلدية القديمة من الخزانة التي كان يُفتش عنها فيها، ووضعها على مكتبه. فتح سبارجو غِطاءَها ونظر بداخلها، وأخذ يُقارِن سَعتَها من الداخل بمحيطها من الخارج.
وقال: «لا يوجد جيب خفي فيها يا راثبري. لا يوجد سوى العُلْبة الجلدية الخارجية والبطانة الداخلية القديمة، لا شيءَ غير ذلك. ولا مكانَ لأيِّ جيبٍ خفي أو أي شيءٍ من هذا القبيل، هل ترى شيئًا؟»
قيَّمَ راثبري أيضًا سَعةَ العُلْبة.
وقال محبَطًا: «يبدو ذلك. ماذا عن الغطاء إذن؟ أتذكَّر أن عُلْبةً قديمة مثل هذه كانت في بيت جدتي الريفي الذي نشأتُ فيه، وكان في غطائها جيب. لنرَ ما إذا كان هناك شيءٌ من هذا القبيل.»
فتح الغطاء وأخذ يتحسَّس بطانته بأطراف أصابعه، ثم التفت إلى رفيقه وعلى وجهه اندهاشٌ بالغ.
وقال: «يا إلهي! سبارجو! لا أعرف إن كان هناك جيب، لكنَّ هناك شيئًا تحت البطانة. تحسَّسْها. هنا … وهنا.»
تحسَّسَ سبارجو المكانَين بإصبعه.
وقال موافِقًا: «نعم، هذا صحيح. يبدو أن هناك بطاقتَين، واحدة كبيرة والأخرى صغيرة، والصغيرة أكثرُ صلابةً من الكبيرة، علينا إزالة البطانة يا راثبري.»
قال راثبري وهو يُخرِج سكين جيب: «هذا ما سأفعله بالضبط. سنقطع بطول هذه الخياطة.»
نزع البطانةَ بعنايةٍ من الطرف العلوي للغطاء، ونظر تحتها ثم سحب شيئَين ووضعَهما على لوحِ تجفيفِ الحبر.
قال وهو ينظر إلى أحد الشيئَين: «صورة طفل. لكن، ماذا قد يكون هذا بحق السماء؟»
وكان يشير إلى قطعةٍ من الفِضة صغيرةٍ ورفيعة ومستطيلة وشديدة القِدَم، يُقارِب حجمُها حجمَ تذكرة القطار. وكان على أحد جانبَيها ما بدا أنه شعارٌ للنبالة أو وسامٌ حربيٌّ كاد يختفي من فرط الكشط، وكان على الجانب الآخَر رسْمُ حصانٍ أيضًا كاد الاحتكاكُ يمحوه هو الآخَر.
قال سبارجو وهو يُمسِك البطاقة الفضية: «شيء غريب. لم أرَ مثلَه قطُّ. ماذا عساه يكون؟»
رد راثبري: «لا أعرف … لم أرَ شيئًا كهذا قطُّ أنا أيضًا. ربما كان وسامًا قديمًا. وماذا عن هذه الصورة؟ هل ترى؟ لقد نُزِع اسمُ المصوِّر وعُنوانه أو أُزِيلا … لم يتبقَّ شيء إلا حرفَين مما كان على ما يبدو اسمَ البلدة. هذا كل ما تبقَّى. وصورة للطفل، صحيح؟»
ألقى سبارجو نظرةً لو ألقاها أيُّ شخصٍ غيره لَاعتُبرت نظرةً خاطفة لا أكثر على صورة الطفل. ثم أمسك البطاقة الفضية مجددًا وأخذ يُقلِّبها على وجهَيها.
وقال: «اسمع يا راثبري. دَعْني آخُذ هذه البطاقة الفضية. أعلم أين يُمكِنني معرفة ماهيَّتها. أعتقد ذلك على الأقل.»
وافَق المحقِّق قائلًا: «حسنًا، لكن اعتنِ بها عنايةً بالغة، ولا تُخبِر أحدًا أننا وجدناها في هذه العُلْبة. لا تربط بينها وبين قضية ماربري يا سبارجو، لا تَنْسَ.»
قال سبارجو: «حسنًا. ثِق بي.»
ووضع سبارجو البطاقة الفِضية في جيبه، وعاد إلى المكتب يتساءل عن هذا الاكتشاف الفريد. وبعد أن كتب مقاله ذلك المساء وتفقَّدَ نسخةً منه، قصد شارع فليت عاقدًا العزمَ على البحث عن معلوماتٍ ذاتِ طبيعةٍ خاصة.