السيد كوارتربيدج يستذكر الماضي
لو قلب سبارجو سلطانيةَ شرابِ البنش الثانية التي كانت أمام جماعة الشيوخ، أو ألقى بينهم قنبلة، لَمَا زاد تفاجُؤ الرجال بذلك عن تفاجُئِهم عندما أبرز التذكرةَ الفِضية فجأة. بُتِر حديثهم، وسقط الغليون من أحدهم، وأخرج آخَرُ سيجارَه من فمه كما لو كان قد اكتشف فجأةً أنه كان يَلْعق عصًا مُترَعة بسُمٍّ زُعاف؛ رفعوا جميعًا وجوهَهم المشدوهة إلى الشخص الذي قاطَعَهم، وأجالوا نظرَهم بينه وبين التذكرة اللامعة التي كانت على راحته الممدودة. وفي النهاية نطق السيد كوارتربيدج — وقد تعمَّد سبارجو توجيهَ حديثِه إليه أكثرَ من نُدمائه — وأشار في انبهارٍ شديد إلى التذكرة.
قال: «أيها الشاب! من أين جئتَ بهذه؟» قالها بنبرةٍ أحسَّ سبارجو فيها ببعض الارتعاش.
قال سبارجو متعمِّدًا إطالةَ النقاش بعض الشيء: «أتعرف ما هي إذن؟ هل تتعرَّف عليها؟»
قال السيد كوارتربيدج منفعلًا: «أعرفها؟! أتعرَّف عليها! نعم، وكلُّ الرجال الحاضرين أيضًا يعرفونها، ولم أسألك من أين جئتَ بها إلا لأني لاحظتُ أنك غريبٌ عن هذه البلدة. أظنُّك لم تحصل عليها من هذه البلدة أيها الشاب.»
رد سبارجو: «كلا. لم أحصل عليها من هذه البلدة بالتأكيد. كيف يُمكِنني أن أحصل عليها من هذه البلدة إذا كنتُ غريبًا عنها؟»
تمتم السيد كوارتربيدج: «أنت مُحِق، مُحِق تمامًا! لا يُمكِنني أن أتخيَّل كيف يُمكِن لأي شخصٍ في البلدة في حوزته واحدة مثل هذه اﻟ… ماذا أُسمِّيها؟ … النفائس المتوارَثة؟ … نعم، النفائس المتوارَثة العتيقة، لا أتخيَّل كيف يبلغ به الانحطاطُ أن يتخلَّى عنها. ولذا أسألك مجددًا، من أين جئتَ بها أيها الشاب؟»
أومأ الرجلُ الضخم لسبارجو فاستجاب له وسحب كرسيًّا وانضمَّ إليهم وقال: «قبل أن أخبرك بذلك، هلا أخبرتَني ما هي بالضبط! أراها قطعةً من الفِضة القديمة المصقولة المهترئة بشدة، على أحدِ وجهَيْها شعارُ نبالة يرمز إلى شخصٍ ما أو شيءٍ ما، وعلى الوجه الآخَر شكلُ حصان يرمح. لكن … ماذا تكون؟»
تبادَلَ الرجالُ الخمسة نظراتٍ سريعةً وأصدروا أصواتَ استنكارٍ في الوقت ذاتِه. ثم نطق السيد كوارتربيدج.
وقال: «إنها واحدةٌ من التذاكر التي كانت تُخصَّص لخمسين من أهل ماركت ميلكاستر أيها الشاب، كانت تَمنح حامِلَها مزايا خاصةً وقيِّمة للحضور في حَلْبة السباق التي كانت ذائعةَ الصيت يومًا، أمَّا الآن، فلقد انتهى أمرُها مع الأسف.» وأضاف: «منذ خمسين عامًا … بل أربعين … كانت حيازةُ واحدةٍ من هذه التذاكر شأنًا … شأنًا …»
أكمل أحد الشيوخ جملته: «شأنًا عظيمًا!»
قال السيد كوارتربيدج: «السيد لوميس مُحِق. كانت شأنًا عظيمًا، شأنًا عظيمًا جدًّا. فهذه التذاكر يا سيدي كانت محلَّ اعتزاز، بل ما زالت كذلك. ومع ذلك ها أنت تُرينا واحدةً منها وأنت الغريب عن البلدة. هل فهمتَ الآن يا سيدي …»
أدرك سبارجو أن الاقتضاب في الحديث بات ضروريًّا.
فقال: «وجدتُ هذه التذكرةَ في لندن في ظروف غامضة. وأريد الوصول إلى مصدرها. أريد أن أعرفَ هُوِيةَ مالِكها الأصلي. ولهذا جئتُ إلى ماركت ميلكاستر.»
أجال السيد كوارتربيدج نظرَه ببطء في الوجوه المتحلِّقة.
وقال: «رائع! رائع! لقد وجد هذه التذكرة … واحدة من الخمسين تذكرةً الشهيرة لدينا … وجدها في لندن، وفي ظروفٍ غامضة. ويريد تتبُّعَ أثرِها إلى مصدرها، يريد أن يعرفَ مَن كان مالِكَها الأصلي! ولهذا جاء إلى ماركت ميلكاستر. أمر غريب للغاية أيها السادة! أليس هذا أغربَ ما جرى في ماركت ميلكاستر منذ … أعوام لا أعرف عددَها؟»
سرَتْ في المكان تمتماتُ موافَقة، ووجد سبارجو الجميعَ ينظرون إليه كما لو كان قد أعلن أنه جاء ليشتريَ البلدةَ كلها.
وسأل سبارجو في استغرابٍ بالغ: «لكن … لماذا؟ لماذا؟»
قال كوارتربيدج منفعلًا: «لماذا؟ إنه يسأل لماذا؟ السببُ أيها الشابُّ أن أكبرَ مفاجأةٍ لي — ولجميع أصدقائي هؤلاء أيضًا — هي أن نسمع أن أيًّا من الخمسين تذكرةً الخاصة ببلدتنا خرجَت من حوزةِ أيٍّ من الخمسين عائلةً التي تملكها! وإن لم أكن مخطئًا بشدة وفداحة وبعيدًا عن الصواب لسببٍ غير مفهوم أيها الشاب، أنت لستَ فردًا في أيٍّ من عائلات ماركت ميلكاستر.»
قال سبارجو معترفًا: «هذا صحيح، لا أنتسِب إلى أيٍّ من عائلات ماركت ميلكاستر.» وهَمَّ بإضافةِ أنه لم يكن قد سمع بماركت ميلكاستر قبل مساء اليوم الماضي، لكنه امتنع عن ذلك بقرار حكيم. وأضاف: «بالتأكيد لستُ كذلك.»
لوَّح السيد كوارتربيدج بغليونه الطويل.
وقال: «أعتقد أنه لولا أن الأُمسية شارَفتْ على الانتهاء، وأننا سننصرف بعد دقائقَ قليلةٍ أيها الشاب، لولا ذلك، لَتمكَّنتُ من أن أستعين بذاكرتي لإعطائك أسماءَ الخمسين عائلةً التي كانت تحوز هذه التذاكرَ عندما توقَّفت إقامة السباق. أعتقد أني كنتُ سأتمكَّن من ذلك.»
فقال الرجل النحيف ذو البِذلة المبهرجة موافِقًا: «أنا متأكِّد أنك كنتَ ستتمكَّن من ذلك! فذاكرتُكَ هي الأقوى على الإطلاق!»
وعلَّق الرجل الضخم: «خاصةً في أي شيءٍ متعلِّقٍ بالسباقات القديمة. السيد كوارتربيدج موسوعة تمشي على قدمَين.»
قال السيد كوارتربيدج: «ذاكرتي جيدة. وهي أعظمُ نعمةٍ حَظيتُ بها في سنواتي الأخيرة. نعم، أنا متأكِّد أن بإمكاني ذِكرَ أسماءِ العائلات بالقليل من التفكير. الأهمُّ من ذلك أن كل هذه العائلاتِ الخمسين تقريبًا لم تزَل في البلدة، أو على الأقلِّ بالقرب منها، وحتى مَن ابتعد عن البلدة منهم أعرف مكانه. لذلك لا أفهم كيف أصبحتْ في حوزة هذا الشاب … وهو مِن لندن، صحيحٌ يا سيدي؟»
أجاب سبارجو: «نعم، من لندن.»
واصَل السيد كوارتربيدج: «لا أعرف كيف أصبحتْ في حوزة هذا الشابِّ اللندني واحدةٌ من تذاكرنا. الأمر … الأمر مُذهِل! لكن اسمع أيها الشاب اللندني، إذا تكرَّمتَ بقَبول دعوتي للإفطار في الصباح، فسأُرِيك كتبَ السباقات التي لديَّ ووثائقَها، وسنكتشف مَن كان المالك الأصلي لهذه التذكرة سريعًا. اسمي كوارتربيدج … بنجامين كوارتربيدج، وأسكن في البيت المحاط باللبلاب المقابلِ لهذا الفندق مباشَرةً، وأتناول الفطور في التاسعة صباحًا بالضبط، ستُسعِدني استضافتك!»
انحنى سبارجو في تأدُّب.
وقال: «سيدي، أنا ممتنٌّ لدعوتك الكريمة، وسأتشرَّف بلقائك في الوقت المحدد.»
في التاسعة إلا خمسَ دقائق من صباح اليوم التالي، وجد سبارجو نفسَه في منزلٍ قديمِ الطراز يطلُّ على حديقة غنَّاء أضْفَت عليها زهورُ الصيف بهجةً، قدَّمَه السيدُ كوارتربيدج الأب إلى السيدِ كوارتربيدج الابن وهو سِتِّينيٌّ بهيُّ الطلة يُشير إليه أبوه دومًا بأسماء صبيانية، كما عرَّفه الأبُ بالآنسة كوارتربيدج، وهي سيدةٌ متقدِّمة في العمر مُفعَمة بالشباب، تصغر أخاها بقليل، واجتمعوا حولَ مائدةِ إفطارٍ زاخرة بكل خيرات الموسم. كان السيد كوارتربيدج الأبُ مُفعمًا بالحيوية؛ حتى إن سبارجو انبهر بلقاءِ رجلٍ في هذه السنِّ لم يَزَل مُفعمًا بالحياة والروح المعنوية المرتفعة، ولم تزَل شهيتُه مفتوحة.
وبالطبع دار حديثُ المائدة حول حيازةِ سبارجو للتذكرة الفضية القديمة، وهو الموضوع الذي بدا أن تفكير السيد كوارتربيدج لم يَزَل منشغلًا به. رأى سبارجو أنه من الملائِم أن يُخبر مضيفَه بهُوِيته، وأبرزَ خطابًا كان رئيس تحرير صحيفة «ووتشمان» قد أعطاه إيَّاه، وقال لمضيفه إن عمله الصحفيَّ قاده لاكتشافِ التذكرة في بِطانة عُلْبة قديمة، لكنه لم يَذكر شيئًا عن موضوع ماربري؛ إذ أراد أولًا أن يرى إلى أين قد يقوده كلامُ السيد كوارتربيدج.
عندما فرَغوا من تناوُل الفطور انفرد العجوز بسبارجو في مكتبةٍ صغيرة زاخرة بالبراهين على ذوقِ المضيف الرياضي، وقال العجوز: «ليستْ لديك أدنى فكرة عن قيمةِ حيازةِ واحدةٍ من هذه التذاكر الفضية في الماضي. ها هي تذكرتي مؤطَّرة ومُثبَّتة على الحائط بإحكام كما ترى. هذه التذاكر الخمسون يا سيدي صُنِعت عندما بدأ السباق يُقام عندنا في الماضي، كان ذلك عام ١٧٨١. صنعها صائغُ فضةٍ محليٌّ من البلدة، لم يَزَل حفيدُ حفيدِه يُزاوِل المهنةَ نفسَها. كانت خمسون تذكرة تُوزَّع على أهمِّ وجهاء البلدة لتحتفظَ بها عائلاتُهم للأبد، ولم يتوقَّع أحدٌ ذلك الحين أن تنقطع إقامةُ السباق لدينا. كانت التذكرة تمنح حامِلَها مزايا عظيمة؛ كانت تسمح لحامِلها وكلِّ أفراد عائلته من الذكور والإناث بدخول المدرَّجات والحلبات والحظائر، وكانت تُعطي صاحبَها الأساسيَّ وأكبرَ أبنائه — إذا كان بالغًا — حقَّ الانضمام إلى مأدبةِ السباق العظيمة التي — واسمع هذا يا سيد سبارجو — كان أعضاء العائلة المالِكة يحضرونها بأنفُسِهم أحيانًا في الأيام الخوالي. لذلك، كان امتلاكُ واحدةٍ من هذه التذاكر الفضية يجعل المالِكَ من الوجهاء.»
سأل سبارجو: «وعندما توقَّف السباق، ماذا حدث؟»
رد السيد كوارتربيدج: «عندئذٍ بدأت العائلات التي كانت تمتلك التذاكرَ تعتبرها موروثاتٍ ينبغي أن تُولَى رعايةً فائقة؛ فعامَلوا تذاكرَهم كما عامَلتُ تذكرتي، أطَّروها على خلفيةٍ مخملية وعلَّقوها، أو احتفظوا بها في مكانٍ مغلق. أنا متأكِّد أن كلَّ مَن كانت لديه واحدة منها أولاها عنايةً فائقة. على أي حال، قلتُ لك أمسِ ونحن في فندق يلو دراجون أن بإمكاني أن أذكر أسماءَ جميعِ العائلات التي كانت تملك هذه التذاكر، وبإمكاني ذلك بالفعل، لكن إليك هذا.» وفتح العجوز درجًا، وأخرج منه كتابًا مجلدًا وحمله في رفقٍ بالغ وقال: «إليك هذا المجلدَ المكتوب بخطِّ يدي، به مذكراتٌ متعلقة بسباقات ماريكت ميكاستر، وستجد فيه قائمةً بمُلَّاك التذاكر الأصليين، وقائمةً أخرى بمَن كانوا يحوزون التذاكرَ عندما توقَّفتْ إقامةُ السباق. يُمكِنني أن أقول يا سيد سبارجو إن القائمة الثانية تُمكِّنني من تتبُّعِ كل تذكرة، باستثناء التذكرة التي في محفظتك.»
قال سبارجو متفاجئًا: «كل تذكرة؟»
رد السيد كوارتربيدج: «كل تذكرة! قلتُ لك إن من العائلات مَن لم تَزَل في البلدة (فنحن أهل ماركت ميلكاستر أناسٌ متحفِّظون ولا نبتعد كثيرًا عن البلدة)، ومنها مَن على تُخوم البلدة، والبقية لم تبتعد عنها كثيرًا. لا يمكنني أن أفهم كيف يُمكِن للتذكرة التي معك — وهي أصليةٌ بالفعل — أن تخرج من حوزةِ هذه العائلات، و…»
قال سبارجو: «ربما لم تخرج من حوزةِ أيِّ عائلة قطُّ. قلتُ لك إنها وُجِدت في بطانةِ عُلْبة … هذه العلبة كانت تخصُّ رجلًا ميتًا.»
قال السيد كوارتربيدج منفعلًا: «رجلًا ميتًا! رجلًا ميتًا! مَن قد ﻳ… عجبًا! ربما … ربما تكون لديَّ فكرة. نعم! فكرة. تذكَّرت شيئًا الآن لم يخطر لي ببال.»
فتح العجوز دبوس المجلد، وقلَّبَ صفحاته حتى وصل إلى صفحةٍ كانت بها قائمةُ أسماء. وعرضها على سبارجو.
وقال: «هذه قائمة بمالِكي التذاكر الفضِّية عند توقُّف السباقات. لو كنتَ تعرف البلدة لَعرَفتَ أيضًا أن هذه أسماءُ أبرزِ قاطِنيها، وجميعهم بالتأكيد من الوجهاء. ها هو اسمي، أتراه؟ كوارتربيدج. وها هو اسم لوميس، وكاي، وسكين، وتمبلباي … وهم الرجال الذين رأيتَهم أمسِ. كلهم من أبناء البلدة القدامى. كل الأسماء موجودة هنا … في هذه القائمة. أعرف كل العائلات المذكورة. الكثير ممَّن كانوا يملكون التذاكرَ ذلك الحين ماتوا، لكنَّ وَرَثتَهم يحتفظون بالتذاكر. هذا صحيح … وبينما أُفكِّر في الأمر الآن، تذكَّرتُ أن هناك رجلًا واحدًا كانت لديه تذكرةٌ عندما وضعت هذه القائمة لا أعرف عنه شيئًا … لا أعرف عنه شيئًا. في الآونة الأخيرة على الأقل. التذكرةُ التي وجدتَها يا سيد سبارجو لا بد أن تكون تذكرتَه. لكني كنتُ أظنُّها مع شخص آخر!»
سأل سبارجو مُدرِكًا أنه على وشك التوصُّل إلى جديد: «ومَن يكون هذا الرجل سيدي؟ مَن كان؟ هل اسمه موجودٌ هنا؟»
مرَّر العجوز طرَفَ إصبعه على قائمة الأسماء.
وقال: «ها هو! جون ميتلاند.»
انحنى سبارجو يفحص الكتابةَ الدقيقة.
وقال: «نعم، جون ميتلاند. ومَن كان جون ميتلاند؟»
هز السيد كوارتربيدج رأسَه. والتفت إلى دُرجٍ آخَر من أدراجٍ عديدة في مكتب عتيق، وأخذ يُفتِّش عن شيء بين كُومة من ورق الصحف القديمة المرتَّبة في حُزمٍ صغيرة مربوطة.
وقال: «لو كنتَ قد عشتَ في ماركت ميلكاستر منذ واحد وعشرين عامًا يا سيد سبارجو لَعلمتَ من كان جون ميتلاند. لقد كان في فترةٍ من الزمان أشهرَ رجال البلدة … بل أشهر رجال هذا الجزء من العالَم. لكن … ها هي … صحيفة بتاريخ الخامس من أكتوبر ١٨٩١. والآن يا سيد سبارجو، ستعرف مِن هذه الصحيفة القديمة مَن كان جون ميتلاند، وكلَّ شيء عنه. سأُخبرك بما عليك فعله الآن. عليَّ أن أذهب إلى مكتبي لمدة ساعة للحديث عن أعمال اليوم مع ابني … وخذ أنت هذه الصحيفةَ إلى الحديقة وخذ سيجارًا من هذا، واقرأ ما ستجده في الصحيفة، وعندما تَفرغُ من ذلك سنستأنف الحديث.»
وأخذ سبارجو الصحيفةَ القديمة إلى الحديقة المشمسة.