صحيفة قديمة
ما إن فتح سبارجو الصحيفةَ حتى رأى في صفحتِها الوُسطى ما كان يبحث عنه: وجد عُنوانَين مكتوبَين بخطٍّ عريض. فأشعل السيجار وجلس يقرأ.
جلسات ماركت ميلكاستر ربع السنوية
محاكَمة جون ميتلاند
انعقدَت جلساتُ مقاطَعةِ ماركت ميلكاستر ربعُ السنوية يومَ الأربعاء الماضي، الثالث من أكتوبر لعام ١٨٩١، في مقر مجلس البلدة، في حضور القاضي الموقَّر هنري جون كامبرناون مستشار الملك، ورافَقه على منصة القضاء سيادةُ حاكم ماركت ميلكاستر ألدرمان بيتيفورد، وكاهنُ ماركت ميلكاستر الموقَّر (بي بي كلابرتون ماجستير في تطوير الريف)، والقاضي ألدرمان بانكس، والقاضي ألدرمان بيترز، والقاضي السيد جيرفيز راكتون، والقاضي الكولونيل فلادجيت، والقاضي الكابتن ميوريل، وقُضاة وسادة آخَرون. وحضر الجلسةَ جمهورٌ غفير من العامة الذين كانوا يترقَّبون محاكَمةَ جون ميتلاند، المديرِ السابق لمصرف ماركت ميلكاستر، كما امتلأت الأماكن المخصَّصة في المحكمة بكبارِ الشخصيات من البلدة والجوار، وكان من بينهم عددٌ كبير من السيدات اللاتي أظهرْنَ اهتمامًا كبيرًا بإجراءات المحاكَمة.
وعندما شرع القاضي في توجيه تعليماته للمحلَّفين، أعرَبَ عن أسفه لاختلاف أجواء زيارته لماركت ميلكاستر هذه المرةَ عن المرتَين السابقتَين اللتين كانتا مُبهِجتَين ومُرضِيتَين، وأولاه فيهما صديقه الحاكم الموقَّر عنايةً فائقة. فهذه المرة من المُحزِن والمؤسِف للمحلَّفين أن يَمثُل أمامَهم ابنٌ من أبناء البلدة تحتلُّ عائلتُه منذ عدة أجيال مكانةً مرموقة في الحياة العامة في المقاطَعة. إلا أن ابن المقاطَعة هذا اتُّهِم بإحدى أخطر الجرائم المعروفة لأُمة تِجارية كأُمتنا؛ جريمةِ اختلاسِ أموال المصرف الذي كان مديرَه المؤتمنَ عليه لسنواتٍ عديدة، المصرف الذي كان مرتبطًا به طوالَ حياته منذ أيام دراسته. لقد فهم القاضي أن المحتجَزَ الذي كان سيَمثُل أمام هيئة المحكمة بعد مدةٍ قصيرة سيُقِر بجُرْمه؛ ومن ثَم لن تكون هناك حاجةٌ إلى توجيهِ عنايةِ المحلَّفين في هذا الشأن … لذا قرَّر ألَّا يقول ما هَمَّ بقوله عن خطورةِ هذه الجريمة وفداحتها. خاطَب القاضي بعد ذلك المحلَّفين وحدَّثهم عن تَبِعات قضيتَين بسيطتَين عُرِضتا على المحكمة في وقتٍ لاحق من ذلك الصباح، وبعد ذلك انصرف المحلَّفون، وصدر قرارٌ رسمي بإحالة المتهم للمحاكَمة، وتألَّفت هيئةُ محلَّفين مصغرةٌ من وجهاء القرية المعروفين، وحلف أعضاؤها القسَمَ حسب القواعد.
جون ميتلاند، ٤٢ سنة، مدير مصرف، بانك هاوس، جادَّة هاي ستريت، ماركت ميلكاستر، اتُّهم رسميًّا باختلاسِ مبلغ ٤٨٧٥ جينهًا إسترلينيًّا وعشرة شلنات وستة بنسات، في الثالث والعشرين من أبريل عام ١٨٩١، وهي أموالُ محلِّ عمله: شركة ماركت ميلكاستر المصرفية المحدودة، وتوجيهِ الأموالِ لاستخدامه الشخصي. بدا المحتجَز مُدرِكًا لوضعه بشدة، وبدا شاحبًا ومُتعبًا للغاية، ومثَّله السيدُ تشارلز دوليتل، محامي المرافَعات المعروف، في حين مثَّل المستشارُ الملكي السيدُ ستيفنز الادِّعاءَ.
عندما وُجِّهت التهمة إلى ميتلاند أقَرَّ بالذنب.
وخاطَب المستشارُ الملكي السيدُ ستيفنز، القاضيَ، قائلًا إنه بالرغم من عدم رغبته في توجيهِ أي ضغطٍ لا داعيَ له للسجين الذي اتخذ القرارَ الحكيم — من رأيه — بالإقرار بالتهمة الأولى في لائحة الاتهام، يرى أن العدالة تُلزِمه أن يوضِّح لهيئة المحكمة بعضَ تفاصيلِ الاختلاس التي نتجتْ عن خيانةِ المتهم المستهجَنة، واقترح أن يُقدِّم روايةً مقتضبة لما جرى. كان السجين جون ميتلاند آخِرَ سليلٍ لعائلة عريقة في ماركت ميلكاستر، وكان يدرك أنه آخِرُ أبناء العائلة باستثناءِ ابنِه الرضيع. كان أبوه مديرًا للمصرف قبله. وبدأ هو العملَ فيه في الثامنة عشرة من عمره بعدما ترك المدرسةَ المحلية، خلف أباه في إدارة المصرف في عمر الثانية والثلاثين؛ أيْ إنه تبوَّأ هذا المنصبَ الرفيع لعشر سنوات. وكان مديروه يضَعون فيه ثقتَهم الكاملة، وعوَّلوا على أمانته وشَرَفه، ومنحوه سلطاتٍ تقديريةً من المرجَّح ألَّا يكون أيُّ مديرِ مصرفٍ قد حظي بها من قبلُ. لقد كان في واقع الأمر محلَّ ثقة لدرجةِ أنه كان بمثابةِ تجسيدٍ لشركة ماركت ميلكاستر المصرفية؛ أيْ إنه سُمِح له بالسيطرة على الأمور كافة، ومُنِح ترخيصًا كاملًا بأن يفعل ما يحلو له. ولم يكن من شأن السيد ستيفنز أن يُدلِيَ برأيه حول مدى الحكمة في قرار المديرين بمنح هذه السلطات حتى لأكثرِ مَن يثقون فيهم من الموظفين، وفي ظل هذه الظروف، كان في تحمُّل المديرين للخسائر نوعٌ من التعزية، فقد كانوا يستحوذون على كل الأسهم تقريبًا. لكنه كان مضطرًّا إلى الحديث عن الخسائر، وعن الاختلاسات الكبيرة التي ارتكبها ميتلاند. كان المتهمُ حكيمًا في إقراره بالذنب في التهمة الأولى في لائحة الاتهام، لكنَّ لائحةَ الاتهام كانت تشمل سبعَ عشرةَ تُهمة. لقد أقَرَّ بجُرْمه في اختلاسِ أكثر من ٤٨٧٥ جنيهًا إسترلينيًّا. لكن إجمالي المبالغ المُختلَسة في التُّهَم السبعَ عشرةَ مجتمعةً لم يكن أقلَّ من ٢٢١٥٧٣ جنيهًا و٨ شلنات و٦ بنسات، وهو مبلغٌ ضخامتُه صادمة! كانت الحقيقة كالتالي: سرق المتهم الماثِل في قفص الاتهام من الشركة المصرفية أكثرَ من مائتَي ألف جنيه قبل أن تؤدي حادثةٌ بسيطة، وصدفةٌ عابرة، إلى اكتشافِ المديرين المذهولين أنه كان يسرق منهم. كان أخطرُ ما في القضية كلِّها عدمَ استعادة ولو بنسًا واحدًا من هذه الأموال، وعدمَ القدرة على استعادتها في أي وقت في المستقبل. اعتقد المستشار أن المحاميَ الخبير الموكل للدفاع عن المتهم همَّ بإقناع هيئة المحكمة أن المتهمَ نفسَه تعرَّضَ للخداع والتغرير من رجلٍ آخَر، وأنه من المؤسِف ألَّا يكون ذلك الرجل الآخَر ماثلًا للمحاكَمة، رجل فهم المحامي أنه هو الآخَر مشهورٌ في ماركت ميلكاستر، لكن ذلك الرجل قد مات؛ لذا لا يُمكِن استدعاؤه، ومع ذلك لا يُعدُّ تعرُّضُ ميتلاند للخداع أو التغرير عُذرًا لسرقة هذه المبالغ الكبيرة من محلِّ عمله. رأى المستشار أنه من الضروري أن يَعرض هذه الوقائعَ التي لا يُمكِن إنكارها على مَسامع المحكمة؛ لتكون ضخامةُ المبالغ المختَلَسة معروفة، وليُراعى ذلك في الحُكم على المتهم.
سأل القاضي ما إذا كان هناك أيُّ احتمالٍ لاسترداد أيِّ جزءٍ من ذلك المبلغ الضخم.
رد السيد ستيفنز قائلًا إنه أُحيط علمًا بعدم وجود أيِّ فرصةٍ لذلك؛ فقد قال المتهَم وممثِّلوه إن الأموال اختفت تمامًا بوفاة الرجل الذي تحدَّث عنه للتو.
أعرَبَ السيد دوليتل عن رغبته في توجيهِ بضع كلمات لهيئة المحكمة بالنيابة عن المتهم تدفعها لتخفيفِ الحكم. بدأ بشُكر السيد ستيفنز على عرضه للوقائع الأساسية للقضية عرضًا دقيقًا لم يُخالِطه الهوى. ولم يُحاوِل التقليلَ من ذنب المتهم. لكنه أراد بالنيابة عن المتهم أن يرويَ القصةَ الحقيقية لكيفيةِ حدوثِ هذه الأمور. فحتى السنوات الثلاث الأخيرة لم يَحِد المتهمُ عن طريق الصواب قيدَ أنملة. ثم شاء سوءُ حظه — وسوءُ حظِّ أناسٍ آخَرين في ماركت ميلكاستر حسب رأيه — أن يَفِد إلى البلدة قبل ثلاثة أعوام من الوقائع الجاري النظر فيها رجلٌ يُدعى تشامبرلين بدأ يُزاوِل أعمالَه في جادَّة هاي ستريت سمسارًا للأسهم. ولما كان تشامبرلين رجلًا لَبِقًا يتحلى بأخلاقٍ حميدة، فقد جذب الكثيرَ من الناس، وكان موكِّله ذو الحظِّ العاثر مِن هؤلاء. كان معروفًا لدى العامة أن تشامبرلين جذَبَ العديدَ من الأشخاص في ماركت ميلكاستر لإبرام صفقاتٍ مالية معه، وكان معروفًا أيضًا أن هذه الصفقات لم تكن دائمًا مُربِحة لعملاء تشامبرلين. ومن سوء حظِّ ميتلاند أنه أودَعَ في تشامبرلين ثقةً كبيرة، فأخذ يُبرِم معه صفقاتٍ كبيرة، واستمرت هذه الصفقاتُ وكبرت حتى تورَّطَ ميتلاند معه في مبالغَ ماليةٍ كبيرة. فقد حدته ثقته في تشامبرلين وأساليبه إلى أن يَعهد إليه بمبالغَ ماليةٍ كبيرة جدًّا.
قاطَع القاضي السيدَ دوليتل عند هذه النقطة ليسأله عمَّا إذا كان المقصود هو أموالَ المتهم الخاصة.
رد السيد دوليتل مُعرِبًا عن أسفه لكون المبالغ الضخمة التي ذكَرها من أموال المصرف، ومُصرِّحًا بأن المتهم — مع ذلك — كان يَثِق في تشامبرلين لدرجةٍ جعلَته يظن أن كل شيء سيكون على ما يُرام، وأن هذه المبالغَ ستُرَد، وأن استثمارها سيُدِرُّ أرباحًا طائلة.
قال القاضي إنه يفترض أن المتهم كان ينوي الاحتفاظَ بهذه الأرباح لنفسه.
قال السيد دوليتل إن المتهم أكَّد له على أي حال أن مِن أصل المائتين والعشرين ألف جنيه المنظورِ في أمرها، كان تشامبرلين يتحكَّم تحكمًا مباشرًا في مائتَي ألفٍ على الأقل، وأن المتهم لم يكن لديه أدنى فكرة عما كان تشامبرلين يفعله بها. ومن سوء حظ الجميع — أيْ المصرف وبعض الأشخاص الآخَرين، وبخاصة موكِّلُه ذو الحظ العاثر — أنْ داهَمَ الموتُ تشامبرلين فجأة، كما بدأت إجراءاتُ هذه المحاكَمة فجأةً، ولم يزل تتبُّعُ أثرِ أيٍّ من الأموال المنظور في أمرها مستحيلًا حتى الآن. مات تشامبرلين في ظروف غامضة، وكانت أعماله على القَدْر نفسِه من الغموض.
قال القاضي إنه لم يزل ينتظر أن يسمع من السيد دوليتل ما قد يؤدِّي إلى تخفيفِ أيِّ حكمٍ قد يرى القاضي إصدارَه.
قال السيد دوليتل إنه لا يريد الإطالةَ على هيئة المحكمة. كل ما كان لديه ليقوله بالنيابة عن الرجل ذي الحظ العاثر الماثِلِ في قفص الاتهام هو أنه قبل ثلاثةِ أعوامٍ مضَت كانت شخصيةُ المتهم مِثالًا يُحتذى به، ولم يُقدِم على أي فَعلةٍ تتنافى مع الأمانة. لكن حظَّه العاثر وحماقتَه جعَلاه يسمح لرجلٍ بدَت عليه النزاهة بإقناعه بالإقدام على هذه الأفعال التي تتنافى مع الأمانة. وذلك الرجل يخضع الآن لحسابٍ آخَر، وتُرِك المتهم ليتحمَّل عواقبَ تورُّطه معه. بدا أن تشامبرلين هرب بالأموال لأغراضه الخاصة، وقد تُسترَدُّ تلك الأموال يومًا ما. كل ما يطلب من هيئة المحكمة هو أن يتذكَّروا ماضيَ المتهم وسلوكَه الحَسَن السابق، وأن يأخذوا في الحُسبان أنه مهما كان ما يحمله له المستقبل القريب، فقد انتهى أمرُه للأبد من الناحية التجارية.
عندما نطق القاضي بالحكم، قال إنه لم يَسمع كلمةً واحدة تُمثِّل مبرِّرًا منطقيًّا لسلوك ميتلاند. وإن عدم أمانته يجب أن يكون عقابُها أشدَّ ما يكون العقاب؛ أَلَا وهو السَّجن مع الأشغال الشاقة لعشر سنوات.
سمع ميتلاند الحكمَ دونَ أن يُحرِّك ساكنًا، وفي اليوم التالي نُقِل من البلدة إلى سجن المقاطَعة في ساكستشيستر.
قرأ سبارجو كل ذلك سريعًا، ثم كرَّرَ قراءتَه، ودقَّق في عددٍ من النقاط. وفي النهاية طوى الصحيفةَ والتفتَ نحو المنزل، فرأى العجوز كوارتربيدج يُنادِيه من نافذة المكتبة.