القضية الأولى
رفع سبارجو رأسه إلى المفتش بحركةٍ سريعة. وقال: «أعرف هذا الرجل.»
بدا على المفتش الاهتمام.
وسأل: «مَن؟ السيد بريتون؟»
«نعم، أعمل في صحيفة «ووتشمان»، كما تعلم، مساعدًا لرئيس التحرير. أخذتُ من هذا الرجل مقالًا منذ عدة أيام … مقالًا عن «الوجهات المثالية لهُوَاة التخييم». جاء إلى المكتب ومعه المقال. إذن قلتَ إن هذه كانت في جيب القتيل؟»
رد المفتش: «وُجِدت في ثقب في جيبه، حسبما فهمت؛ إذ لم أكن موجودًا بنفسي. ليست شيئًا ذا أهمية، لكنها قد تساعد في الاستدلال على هُوِيته.»
أخذ سبارجو قُصاصة الورق الرمادية وتفحَّصها عن قُرب. بدَت له من نوعية الورق الذي يكون عادةً في الفنادق والنوادي؛ وقد قُطِعت بلا اعتناء من ورقةٍ أكبر.
سأل في تأمُّل: «ماذا ستفعلون للتعرُّف على هُوِية هذا الرجل؟»
هز المفتش كتفَيه.
وقال: «المعتاد على ما أظن. سيُذاع الخبر كما تعلم. أظنُّك سترويه بأسلوبك كذلك، في صحيفتك، صحيح؟ وسينقله آخَرون. وسنضعُ الإعلانَ المعتاد. ثم سيأتي شخصٌ للتعرُّف على هُوِية الرجل. و…»
دلف إلى المكتب رجلٌ هادئ يخلو وجهُه من أيِّ تعبير، يرتدي ملابسَ غير لافتة، ربما يبدو تاجرًا خرج يتمشَّى، وأومأ إلى المفتش وهو يقترب من مكتبه، بينما كان يمدُّ يدَه نحو قُصاصة الورق التي وضعها سبارجو من يده للتو.
قال الرجل بينما ينظر إلى ساعته: «سأتوجَّه إلى كينجز بنش ووك لمقابلة السيد بريتون. الساعة قارَبت العاشرة … أظنه سيكون هناك الآن.»
فقال سبارجو كأنما يُحدِّث نفسه: «أنا أيضًا ذاهبٌ إلى هناك. نعم سأذهب إلى هناك.»
نظر الوافدُ الجديد إلى سبارجو ثم إلى المفتش. وأومأ المفتشُ نحو سبارجو.
وقال: «السيد سبارجو، صحفي في صحيفة «ووتشمان»، كان موجودًا عند العثور على الجثة. وهو يعرف السيد بريتون.» ثم أومأ مشيرًا إلى الشخص ذي الوجه الخالي من التعبير. وقال لسبارجو: «هذا المحقِّق راثبري من سكوتلاند يارد. وقد جاء ليتولَّى هذه القضية.»
قال سبارجو بنبرةٍ رتيبة: «حقًّا؟ حسنًا.» وواصَلَ باقتضابٍ مفاجئ: «ماذا ستفعل حيال بريتون؟»
رد راثبري: «سأستدعيه لمعايَنة الجثة. ربما يعرف الرجل، وربما لا يعرفه. على أي حال، وجدنا اسمَه وعُنوانه، أليس كذلك؟»
قال سبارجو: «تفضَّل معي. سأمشي معك إلى هناك.»
استغرق سبارجو في تفكيرٍ عميق طوالَ مشيه في شارع تيودور، والتزم مُرافِقُه أيضًا الصمتَ على نحوٍ يَشِي بأن قلة الكلام عادتُه ودأبه. لم يَنْبِس سبارجو بكلمة إلا عندما كان الاثنان يصعدان درَجًا قديمًا ذا درابزين في مقدمة المنزل المقصود في كينجز بنش ووك الذي يوجد فيه مكتب رونالد بريتون في مكانٍ ما.
التفت سبارجو للمحقِّق فجأةً وقال: «هل تعتقد أن ذلك العجوزَ قد قُتِل من أجل ما كان يحمله؟»
رد راثبري مبتسمًا: «أريد أولًا أن أعرف ما كان يحمله قبل أن أُجيبك عن هذا السؤال يا سيد سبارجو.»
قال سبارجو شاردَ الذهن: «نعم. أظن ذلك. ربما لم يكن معه شيء، صحيح؟»
ضحك المفتش، وأشار إلى لوحٍ طُبِعت عليه عدةُ أسماء.
وقال: «لا نعرف أيَّ شيءٍ بعدُ يا سيدي، باستثناء أن السيد بريتون في الطابَق الرابع. أستنتج من ذلك أنه لم يمضِ وقتٌ طويل منذ تناوُله عَشاءَه.»
قال سبارجو: «أوه، إنه شاب … شابٌّ يافع. أعتقد أنه في الرابعة والعشرين تقريبًا. التقيتُ به منذ …»
وفي هذه اللحظة قطع حديثَهما صوتٌ واضح لضحكِ فتياتٍ جاء من أعلى الدَّرَج. بدا أن فتاتَين تضحكان، ثم تداخَلَ مع صوتِ ضحكِهما الأنثويِّ الرقيق صوتُ ضحكٍ ذكوري.
قال راثبري: «يبدو أن دراسةَ القانون أمرٌ مبهج للغاية هنا. وها هو مكتب السيد بريتون. والباب مفتوح.»
كان الباب الخارجي البلوطي المُفضِي إلى مكتب رونالد بريتون مفتوحًا على اتساعه، وكان الباب الداخلي مُوارَبًا، فتمكَّنَ سبارجو والمفتشُ من إرسالِ نظرِهما من فُرجته إلى داخل مكتب السيد رونالد بريتون ورؤيته بالكامل. كانت خلفيةُ الغرفة تتكوَّن من كتبِ القانون، وحُزَمِ الأوراق المربوطة معًا بشرائطَ ورديةِ اللون، وصورٍ لقانونيِّين بارزين مُؤطَّرة بأُطُر سوداء، ورأَيَا أمامهما فتاةً جميلة عيناها تُشِعان حيويةً، تجلس على كرسيٍّ وترتدي شَعرًا مستعارًا وثوبَ المحاماة، تلوِّح بكتلةٍ من الورق المكرمش، وتُلقِي خُطبةً عصماءَ على قاضٍ خيالي ومحلَّفين خياليين، في حين كان شابٌّ ظهرُه موجَّهٌ نحو الباب، وفتاةٌ أخرى تستند بأريحية إلى كتفه، يُتابِعان الأولى في استمتاع.
كانت تقول: «أقولها لكم أيُّها المحلَّفون الموقَّرون، أقولها لكم بثقة، وأغلبُ ظني أن بينكم بلا شك مَن هو أخٌ أو زوج أو أب، هل يُمكِنكم أن تُقدِموا — وضمائرُكم قريرة — على الحكم على موكِّلي بظلمٍ بيِّن وأذًى لا جبرَ له و… و…»
قال الشاب: «فكِّري في المزيد من الصفات، بكل قوة وعُنفوان، أَمطِريهم بها. يُعجِبهم ذلك، إنهم … انتبهي!»
كان المحقِّق حينئذٍ يَطرق الباب الداخلي، ثم مدَّ رأسه من ورائه. فانتفضتِ الشابةُ التي كانت تخطب قافزةً من كرسيِّها على عجَل، وتركتِ الأخرى ذراعَ الشاب الموحِيةَ بالأمان، وانطلقتْ ضحكةٌ أنثوية خفيفة، وصدر حفيفٌ من قماش التنُّورة، وانطلقتا إلى غرفة داخلية، في حين تقدَّمَ السيد رونالد بريتون في بعض الحرَج لتحيةِ الضيف الذي قاطَعَهم.
وقال بسرعة: «تفضَّل، تفضَّل! لقد كنتُ …»
بتَر جملتَه ما إن رأى سبارجو، ومدَّ يدَه وهو ينظر إليه مندهشًا.
وقال: «أوه! … السيد سبارجو؟ كيف حالك؟ كنا … كنتُ … كنا نتسلَّى فحسب، سأذهب إلى المحكمة بعدَ بِضع دقائق. كيف يُمكِنني مساعدتُك سيد سبارجو؟»
تراجَعَ إلى الباب الداخلي وهو يتحدَّث، ثم أغلقه والتفتَ إلى الرجلَين ثانيةً يُنقِّل نظره بينهما. كان المحقِّق، بدوره، ينظر إلى المحامي الشاب. كان شابًّا طويلَ القامة، نحيفَ الجسم، حسَنَ الملامح، له حضورٌ طاغٍ، مُهندمًا تمامًا لا تَشُوب ملابسَه شائبةٌ، يبدو عليه يُسْر الحال، فاستنتج المحقِّقُ من هذه الأمور أن السيد بريتون من الشباب الموفوري الحظِّ الذين يمتهنون مهنةً، لكنهم لا يعتمدون عليها كمصدرٍ أساسي لكسْبِ القُوت. ثم التفتَ إلى الصحفيِّ ونظر إليه.
رد سبارجو على بريتون ببطء: «كيف حالك؟ أنا … الأمرُ أنني جئتُ إلى هنا مع السيد راثبري. السيد راثبري يُريد لقاءَك. المحقِّق راثبري … من نيو سكوتلاند يارد.»
نطق سبارجو بجُمَل التعارُف الرسمية هذه كما لو كان يُكرِّر درسًا. لكنه كان يُراقِب وجهَ المحامي الشاب. والتفت بريتون إلى المحقِّق ورمَقَه بنظرةٍ مفاجئة.
وقال: «أوه! أنت تودُّ أن …»
كان راثبري يُفتِّش في جيبه عن قُصاصة الورق الرمادية التي كان قد أودَعَها بعنايةٍ في دفتر ملاحظاتٍ أكَل عليه الدهرُ وشَرِب. وقال: «أودُّ أن أسألك سؤالًا يا سيد بريتون. في الساعة الثانية وخمسٍ وأربعين دقيقةً من صباح اليوم، عُثِر على رجل … رجل مُسِن … ميتًا في زقاقِ ميدل تمبل، وأغلبُ الظنِّ أنه قُتِل. كان السيد سبارجو في المكان عندما عُثِر على الجثة.»
صحَّحه سبارجو قائلًا: «بل بعد العثور عليها بقليل، بدقائقَ قليلة.»
واصَلَ راثبري بلهجتِه الرسمية العملية: «عندما فُحِصت الجثةُ في المشرحة، لم يُعثَر على أي شيء يُستدَلُّ به على هُوِية الرجل. يبدو أن الرجل تعرَّضَ للسرقة. لم يكن معه أيُّ شيء إلا قصاصةَ الورق هذه … عُثِر عليها في ثقبٍ في بطانة الصديري الذي كان يرتديه. وهي تحمل اسمَك وعُنوانك يا سيد بريتون. أتودُّ إلقاء نظرة؟»
أخذ رونالد بريتون القصاصةَ ونظر إليها مقطِّبًا ما بين حاجبَيه.
وتمتم: «يا إلهي! هذا صحيح … وغريب. ما شكل هذا الرجل؟»
نظر راثبري إلى ساعةٍ على رف المدفأة.
وقال: «هلا جئتَ لإلقاءِ نظرةٍ عليه يا سيد بريتون! المكان قريب.»
رد بريتون وهو ينظر إلى الساعة هو الآخَر: «الأمر أن … في الحقيقة … لديَّ قضية منظورة، في محكمة السيد جاستيس بورو. لكن دورها لن يحينَ قبل الساعة الحاديةَ عشرة، هل …»
قال راثبري: «الوقتُ كافٍ يا سيدي؛ لن يستغرقَ الأمر أكثرَ من عشر دقائق للوصول إلى هناك وإتمام المهمة ثم العودة ثانيةً … نظرة واحدة تكفي. ألم تتعرَّف على خطِّ اليد؟»
لم يزَل بريتون ممسِكًا بالقصاصة بين أصابعه. نظر إليها مجددًا عن كثب.
وأجاب: «نعم. لا أعرف هذا الخطَّ على الإطلاق. لا يمكنني تخيُّل مَن قد يكون هذا الرجل الذي يحمل قُصاصةً عليها اسمي وعُنواني. ظننته قد يكون محاميًا ريفيًّا ما، يسعى للحصول على خدماتي المهنية …» وابتسم في خجلٍ إلى سبارجو، وواصَل: «لكن في الثالثة … الثالثة صباحًا؟!»
قال راثبري: «يظن الطبيب أنه مات قبل العثور عليه بنحو ساعتَين ونصف الساعة.»
التفت بريتون إلى الباب الداخلي.
وقال: «سوف … سوف أُخبر السيدتَين بأني سأُغادر ربعَ ساعة. سيذهبان إلى المحكمة معي … حصلتُ على قضيتي الأولى بالأمس.» وضحك بصبيانيَّة وأجالَ نظَره بين زائِرَيه يَمنةً ويَسرة. ثم واصَل: «ليستْ قضيةً كبيرة … بل بسيطةٌ … لكني وعدتُ خطيبتي وأختَها أنهما يُمكِنهما الحضور. لحظة واحدة.»
دلف إلى الحجرة المجاوِرة ثم عاد بعد لحظة يَعتمرُ قبعةً حريرية جديدة أنيقة. بدأ سبارجو، الشابُّ الذي لم يَعتَدْ قطُّ التدقيقَ في تفاصيل مَلْبسه، يُقارِن ملابسَه بالهندام المفرِط الذي بدا على ذلك الشابِّ الصغير، ولم تَفُتْه ملاحظةُ أناقةِ ملابس الشابتَين اللتين دلفتا إلى الغرفة الداخلية على عجَل؛ أناقة تليق بحي مايفير الراقي لا شارع فليت. كان بريتون قد أثار فضولَه بالفعل، وكذلك الفتاتان اللتان سمعهما تتحدَّثان خلف الباب الداخلي.
قال بريتون: «حسنًا، هيا. لِنذهبْ إلى هناك مباشَرةً.»
كانت مَشْرحة الموتى التي قادهما راثبري إليها باردةً كئيبة تشذُّ عن الابتهاج العامِّ الذي يحمله ذلك الصباحُ الصيفي. ارتعدَ سبارجو رغمًا عنه وهو يدخلها ويُلقِي نظرتَه الأولى في أرجائها. لكنَّ المحاميَ الشاب لم يُبدِ أيَّ دلالة على التأثُّر أو الانشغال؛ نظر حوله بسرعة ووصل بحذرٍ إلى جانب الجثة التي كان المحقِّق يرفع عن وجهها الغِطاءَ القماشي. نظَر بريتون إلى الوجه بثباتٍ وجدية متأملًا ملامحَه الجامدة. ثم تراجَعَ وهزَّ رأسه.
وقال في حَسْم: «كلا. لا أعرفه … لم ألتقِ به قط، لم أرَه في حياتي.»
أعاد راثبري وضْعَ الغِطاء القماشي على وجه الرجل.
وقال: «لم أتوقَّع أن تعرفه. أعتقد إذن أننا سنُضطرُّ إلى اتباع الإجراءات المعتادة. وسيتعرَّف عليه أحدهم.»
قال بريتون: «تقول إنه قُتِل؟ هل هذا أكيد؟»
وكز راثبري الجثةَ بإبهامه.
وقال باقتضاب: «مؤخرةُ الجمجمة مهشَّمة. يقول الطبيب إنه ضُرِب من الخلف على الأغلب … ضربةً شديدة. أشكرك شكرًا جزيلًا يا سيد بريتون.»
قال بريتون: «أوه، لا عليك. حسنًا، تعرف أين يُمكِنك العثورُ عليَّ إن احتَجْتَ إليَّ. أثار الأمرُ فضولي. إلى اللقاء … إلى اللقاء يا سيد سبارجو.»
أسرع المحامي الشابُّ بالانصراف، والتفتَ راثبري إلى الصحفي.
وقال: «لم أتوقَّع أن يُثمِر ذلك عن أي نتيجة. ومع ذلك كان ينبغي فِعلُه. هل ستكتب عن ذلك للصحيفة؟»
أومأ سبارجو بالموافَقة.
واصَلَ راثبري: «لقد أرسلتُ رجلًا إلى متجر فيسكي صانع القبعات الذي اشتُرِيَت تلك القبعة منه. قد نصل إلى معلومةٍ ما من هناك … احتمال. إذا أردتَ مقابلتي هنا في الثانية عشرة فسأُخبرك بكلِّ ما أتوصَّل إليه. أمَّا الآن فسأذهب لتناوُلِ الإفطار.»
قال سبارجو: «سأقابلك هنا في الثانية عشرة.»
وراقَبَ راثبري يسلك منعطفًا، في حين سلكَ هو منعطفًا آخَرَ بسرعة. وذهب إلى مقر صحيفة «ووتشمان»، وكتب بعض السطور، ووضعَها في مظروفٍ لعناية محرِّر فترة النهار، ثم خرج ثانيةً. بطريقةٍ أو بأخرى قادَته قدَماه إلى شارع فليت، وقبل أن يُدرك ماهيَّةَ ما كان يفعله وجَدَ نفسَه في طريقه إلى المحكمة.