الآنسة بيليس
قبل ظُهْر اليوم التالي، وجد سبارجو نفسَه في أحد ميادين بيزووتر المبهرجة المظهر، الكئيبة الجوهر، المخصَّصة بالكامل تقريبًا للتجارة والنداءات وأماكنِ السكن والطعام. هذه الميادين شديدة البهرجة، بمبانيها المتعددة الطوابق، وواجِهاتها المكسوَّة بالجص، ومداخلها ذات الأعمدة والشرفات، والريفيِّين الأبرياء الذين يأتون إليها من محطة بادنجتون القريبة، فيحسبونها مساكنَ الدوقات والإيرلات الذين لا يعيشون إلا في لندن بطبيعة الحال. وتؤيِّد اعتقادَهم رؤيتُهم المتكررة للشباب المرتدين ملابسَ المساءِ في مداخل الأبنية في مَظهرٍ يَتباينُ في درجة الأناقة. فيحسبهم الريفيُّون لوردات يستمتعون بتنسُّمِ هواءِ بيزووتر، لكنَّ الأشخاص الأكثر علمًا يعرفون أنَّ هؤلاء ما هم إلا نُدُل سويسريون أو ألمان ربما فاقوا غيرَهم في نظافة زيهم الرسمي.
خمَّن سبارجو الطابَعَ الغالب على النُّزُل الذي جاء لزيارته ما إن فُتِح له الباب. فاحت منه الروائح المألوفة للبيض واللحم المقدد، والسمك والبطاطس؛ ورأى المجموعةَ المتنوعة القديمة نفسَها من المعاطف الطويلة والأوشحة والعِصيِّ في منطقة الاستقبال؛ والعاملةَ ذات الهيئة المعتادة التي تُسرِع بإجابة قَرْع الجرس. ولما بدأ في طرح الأسئلة، جاءته الإجاباتُ من صاحبةِ النُّزُل ذاتِ الهيئة المألوفة أيضًا التي جاءت لمقابَلته، كانت ممَّن تخطَّين منتصف العمر اللاتي يُحاوِلْنَ — كالمعتاد أيضًا — أن يَظهرْنَ بسنٍّ أصغر، وفي سبيلها إلى ذلك استعانت بالشعر المستعار، وطاقم الأسنان، وبعض أحمر الشِّفاه، وبدَت منها اللفتاتُ والابتسامات التي لا تَعْني في مثلِ هذه الظروف إلا أنها تُسائِل نفسَها ما إذا كنتَ ستنجح في خداعها أم أنها ستكشف أمرَك.
قالت السيدة وهي تتفحَّص سبارجو بدقة: «تريد مقابَلةَ الآنسة بيليس؟ إنها لا تُقابِل أحدًا كثيرًا.»
قال سبارجو بأدب: «أرجو ألَّا تكونَ الآنسة بيليس عليلة.»
ردَّت صاحبة النُّزل: «كلا، ليست كذلك، لكنها لم تَعُد صغيرة، وهي لا تحب الغرباء. هل يُمكِنني إخبارُها بما تريد؟»
قال سبارجو: «كلا. لكن يُمكِنكِ — إذا تفضَّلتِ — أن تُبلِغيها رسالةً مني. هلا تكرَّمتِ بإعطائها بطاقتي، وإخبارِها أني أودُّ أن أطرحَ عليها سؤالًا عن جون ميتلاند، المنتمي إلى ماركت ميلكاستر، وأني سأكون ممتنًّا بشدة إن منحَتْني دقائقَ قليلة.»
قالت صاحبة النُّزل: «لعلك تتفضَّل بالجلوس.» وقادتْ صاحبةُ النُّزل سبارجو إلى غرفةٍ مفتوحة على حديقةٍ تجلس بها سيدتان أو ثلاثٌ بدا أنهن نزيلاتٌ في هذا المكان. تركَتْه معهن يُسلي نفسَه بمراقَبتهن يَحِكْن أو يَخِطْن أو يقرَأْن الصحف، وتساءَلَ ما إذا كان هذا هو كلَّ ما يفعلْنَه كل يوم، وما إذا كنَّ سيُواصِلْن فعلَه حتى يأتيَ يومٌ يتوقَّفْن فيه عنه، وكان الضجر قد بدأ يتسلَّل إلى نفسه عندما فُتِح الباب ودخلت امرأةٌ لاحَظَ سبارجو بنظرةٍ واحدة لها أنها مخالِفة للمألوف. وبينما أخذت تمشي بخُطًى وئيدة من أحد طرفَي الغرفة إلى الآخَر الذي هو فيه، ثبَّت نظرَه عليها ليتفحَّصها.
وجد سبارجو مظهرَها لافتًا للغاية. فقد كان لها مظهرٌ أشبهُ بالذكور، طولها ستُّ أقدام، لمشيتها ووطْءِ قدمها طابَعٌ ذُكوري، رفيعة مفتولة العضلات كالرياضيين. جذب انتباهَ سبارجو في وجهها تبايُنٌ بين سوادِ عينَيها وبياض شعرها. التفَّ شعرُها في تجعداتٍ كثيرة ناصعةِ البياض تُحيط برأسها، وكان سوادُ عينَيها حالكًا كالفحم، وكذلك كان حاجِباها اللذان يعلوانهما. كانت ملامحُ وجهها حادةً صارمة، وفكُّها مربعًا يُوحي بالحزم. كان أول ما جال بخاطر سبارجو وهو يتفرَّس في مظهر الآنسة بيليس أنها فُطِرت وهيَّأتها الطبيعة لتكون حارسةَ سجن، أو مديرةَ مشفًى، أو مربيةً لفتاةٍ جامحة، وأخَذَ يتساءل إن كان سيتمكَّن من استخلاص أيِّ معلومات مفيدة من بين شفتَيها المُطبقتَين.
وأخذَت السيدة بيليس بدورها تتفحَّص سبارجو كما لو كانت مُوشِكةً على الأمر بإعدامه فورًا. كان سبارجو متهيِّبًا منها لدرجةٍ دفعَتْه للانحناء لها وعقدَتْ لسانَه.
قالت بصوت عميق بدا مناسبًا لمظهرها: «السيد سبارجو؟ مِن صحيفة «ووتشمان»؟ هل أردتَ الحديثَ معي؟»
انحنى السيد سبارجو من جديد في صمت. وأشارت إليه أن يتوجَّه إلى باب قريب.
وقالت: «افتح البابَ من فضلك. سنتمشَّى في الحديقة. فهذا المكان لا يوفر خصوصيةً كافية.»
أطاعها سبارجو فيما أمرت، فخرجَت من الباب المفتوح وتبعها هو. ولم تنبس بكلمةٍ بعد ذلك حتى وصلا إلى أبعدِ نقطةٍ في الحديقة.
عندئذٍ قالت: «أفهم أنك تريد أن تسألني عن جون ميتلاند، المنتمي إلى ماركت ميلكاستر، أهذا صحيح؟ لكن قبل أن تطرح سؤالَك، يجب أن أسألك أنا سؤالًا. هل ستنشر أيَّ إجابة أُقدِّمها لك؟»
رد سبارجو: «لن أنشر إلا بإذنك. لن أفكِّر في نشرِ أيِّ شيءٍ تقولينه لي إلا بعد إذنٍ مباشِر منك.»
نظرَت إليه في تجهُّم، وبدا أنها بدأت تثق في نواياه، ثم أومأَت برأسها.
وقالت: «في هذه الحالة، عَمَّ تريد أن تسأل؟»
رد سبارجو: «ظهَر لي في الآونة الأخيرة سببٌ دعاني للبحث في شأنِ جون ميتلاند. أظنُّكِ قرأتِ الصحف، وربما صحيفة «ووتشمان» أيضًا يا آنسة بيليس، صحيح؟»
لكن الآنسة بيليس هزت رأسَها نافيةً.
وقالت: «لا أقرأ الصحف. لا أهتم بشئون العالم. عملي يَشغَل كلَّ وقتي، أكرِّس نفسي له تمامًا.»
سأل سبارجو: «إذن فأنتِ لم تسمعي بما يُعرَف بقضية ماربري، التي تخص العثور على هذا الرجلِ مقتولًا؟»
أجابت: «لم أسمع بها. ليس من المحتمَل أن أسمع بهذه الأشياء.»
أدرك سبارجو فجأةً أن الصحافة ليس لها من القوة والانتشار ما يتصوَّره شبابُ الصحفيين، وأن هناك أناسًا يعيشون هانِئي البال دون الصحف، حتى في لندن. أخفى سبارجو اندهاشَه وواصَل حديثه.
قال: «الأمر أني أعتقد أن القتيل الذي تعرفه الشرطة باسم جون ماربري هو في الحقيقة صِهرُكِ جون ميتلاند. بل إني متأكِّد من ذلك تمامًا يا آنسة بيليس!»
أعلن ذلك بنبرةِ تأكيد، وراقَبَ وقْعَ النبأ على محدِّثتِه الصارمةِ ليرى تأثيرَه عليها. لكن الآنسة بيليس لم تُبدِ أيَّ انطباع.
قالت في برود: «أُصدِّقك في ذلك يا سيد سبارجو. لا يُفاجِئني أن تكون هذه نهاية جون ميتلاند. لقد كان رجلًا فاسدًا معدومَ المبادئ، وألحق العارَ بمَن شاء حظُّهم العاثر أن تكون لهم صلةٌ به. كان من المتوقَّع أن يَلْقى ميتة سيئة.»
قال سبارجو في نبرة مقنعة: «هل لي أن أسألك بعضَ الأسئلة عنه؟»
ردَّت: «يُمكِنك ذلك، ما دمتَ لن تنشر اسمي في الصحف. لكن، كيف علمتَ بعار مُصاهَرتي المؤسِفة لجون ميتلاند؟»
قال سبارجو: «اكتشفتُ ذلك في ماركت ميلكاستر. أخبرني المصوِّر كوبر بذلك.»
قالت: «حسنًا.»
قال سبارجو: «الأسئلة التي أريد طرْحَها عليك بسيطة جدًّا. لكن إجاباتك قد تُساعِدني كثيرًا. تتذكَّرين أن ميتلاند دخل السجن، صحيح؟»
ضحكت الآنسة بيليس في ازدراء.
وقالت: «وهل يُمكِنني أن أنسى ذلك ما حييت؟»
سأل سبارجو: «هل سبَقَ لكِ أن زُرتِه في السجن؟»
قالت في سخط: «أزوره في السجن! زيارات السجن لمن يستحقُّونها من التائبين، وليست للمجرمين المتمادين في جُرْمهم!»
قال سبارجو: «حسنًا. هل سبَقَ لكِ أن الْتَقيتِ به بعد مغادَرته السجن؟»
ردَّت: «نعم قابَلتُه، فقد فرض نفسَه عليَّ، ولم يسَعْني تجنُّبُه. جاء إليَّ قبل حتى أن أعرف أنه خرَج من السجن.»
سأل سبارجو: «لماذا جاء لمقابَلتك؟»
ردَّت: «جاء يطلب ابنَه الذي كان في رعايتي.»
قال سبارجو: «هذا من الأشياء التي أريد أن أسأل عنها. أتعرفين ماذا يقول الكثيرون في ماركت ميلكاستر حتى يومِنا هذا يا آنسة بيليس؟ يقولون إنكِ كنتِ ضالعةً في مخطَّط ميتلاند، وإن جزءًا كبيرًا من الأموال عُهِد إليكِ به، وإنه عندما دخل ميتلاند السجن، أخذتِ الطفلَ إلى برايتون أولًا ثم إلى خارج البلاد، واختفيتِ به، وإنك جهَّزتِ مسكنًا لميتلاند ليكون جاهزًا له عند إطلاق سراحه. هذا ما يقوله بعضُ الناس في ماركت ميلكاستر.»
زمَّت الآنسة بيليس شفَتَيها الحازمتَين.
وقالت في انفعال: «الناس في ماركت ميلكاستر! كلُّ مَن عرَفتُهم في ماركت ميلكاستر لا يَفُوق ذكاؤهم مجتمعين ذكاءَ تلك القطةِ التي تمشي على ذلك الحائط هناك. أمَّا عن تجهيز مسكنٍ لجون ميتلاند، فقد كنتُ أُفضِّل ترْكَه في الحضيض ليموت من العَوَز قبل أن أُلقِي له بكِسرةِ خبزٍ جافة!»
قال سبارجو في اندهاش من انفعالها: «يبدو أنكِ تمقتين ذلك الرجلَ بشدة.»
قالت: «كنتُ أمقته، ولم أزل. فقد خدع أختي لتتزوَّج به وهو يعرف أنها كانت تُفضِّل الزواجَ برجلٍ شريف كان يَهيم بحبها، وعامَلها بقسوة وجفاء بالِغَين، وسرق منها ومني الثروةَ البسيطة التي ورثناها عن أبينا.»
قال سبارجو: «حسنًا. إذن، تقولين إنه جاء إليكِ عندما خرج من السجن، ليطلب ابنه. فهل أخذه؟»
«كلا، فقد مات الفتى قبل ذلك.»
«مات؟ إذن لم يُطِل ميتلاند المكوثَ معك؟»
ضحكت الآنسة بيليس في ازدراء.
وقالت: «لقد طردتُه!»
سأل سبارجو: «هل أخبركِ بأنه كان سيُسافر إلى أستراليا؟»
أجابت: «لم أُنصِت لأي شيءٍ قاله لي يا سيد سبارجو.»
قال سبارجو: «إذن فأنتِ باختصار لم تسمعي عنه بعد ذلك الحين؟»
قالت في انفعال: «لم أسمع عنه بعد ذلك، وأتمنى أن يكون ما تقوله لي صحيحًا، وأن ماربري هو في الحقيقة ميتلاند!»