الأم جاتش
همَّ سبارجو بترك الآنسة بيليس والانصرافِ بعد أن فرَغ من طرح قائمة الأسئلة التي كان قد وضعها في طريقه إلى بيزووتر، لكنَّ فكرةً جديدة قفزت إلى عقله عندئذٍ، فاستدار وعاد إلى تلك السيدة المهيبة.
وقال لها: «لقد فكَّرتُ في شيءٍ آخَر لتوِّي. قلتُ لكِ إني متأكِّدٌ من أن ماربري هو ميتلاند، وإن نهايته كانت مؤسفة، وهي القتل.»
ردَّت في ازدراء: «وقلتُ أنا لكَ إن رأيي أنه يستحقُّ أسوأ نهاية.»
قال سبارجو: «صحيح تمامًا، أفهمك. لكني لم أقُل لكِ إنه لم يُقتَل فحسب، لكنه أيضًا تعرَّض للسرقة، سُرِق منه الكثير على الأرجح. وهناك سببٌ قوي للاعتقاد أنه كان يمتلك أوراقًا مالية ونقدية وماساتٍ وأشياءَ أخرى قيمتُها كبيرة. كان معه عدة آلاف من الجنيهات عندما ترك كولومبيدجي في نيو ساوث ويلز، التي عاش فيها في هدوءٍ عدةَ أعوام.»
ابتسمت الآنسة بيليس في مرارة.
وقالت: «وما شأني بهذا كله؟»
رد سبارجو: «لا شأنَ لكِ على الأرجح، لكن هذه الأموال والأوراق المالية ربما تُسترَد. ونظرًا إلى أن الفتى الذي تحدَّثتِ عنه قد مات، لا بد أن هناك مَن له حقٌّ في التركة. وهي تركة لا يُستهان بها يا آنسة بيليس، وهناك اعتقاد قوي لدى الشرطة أن هذه التركة ستظهر.»
كانت هذه خدعةً ذكية من سبارجو، أخذ بعدها يُراقِب وقْعَها بعينَين ثاقبتَين. لكن الآنسة بيليس ظلت على موقفها، وبدَت أكثرَ ازدراءً من ذي قبل.
قالت في انفعال: «أقول لك مجدَّدًا ما شأني بهذا كلِّه؟»
سأل سبارجو: «ألم يكن للفتى الميت أيُّ أقارب من عائلة أبيه؟ أعلم أنكِ خالته؛ ونظرًا إلى أنكِ لستِ مهتمةً على ما يبدو، يُمكِنني البحث عن شخصٍ من عائلة أبيه. هذه الأمور يَسهل التوصُّل إليها كما تعرفين.»
كانت الآنسة بيليس قد تحرَّكت في اتجاه المنزل على نحوٍ تبدو فيه الكآبة والجدية؛ إذ حاولَت بذلك أن تُبيِّن لسبارجو بجِلاء أن هذا الجزء من الحوار كان مُهينًا لها، لكنها توقَّفتْ فجأةً وحدَّقت في الصحفي الشاب.
وكرَّرَت كلامَه: «يَسهل التوصُّل إليها؟»
أحسَّ سبارجو — أو ربما تخيَّلَ فحسب — نبرةَ قلقٍ في صوتها. فأسرع يُحاوِل استكشافَ ما قد تقود إليه تلك النبرة.
قال لها: «نعم، سهلٌ جدًّا. يُمكِنني معرفةُ كل شيء عن عائلة ميتلاند من خلال ذلك الفتى. بسهولة كبيرة.»
كانت الآنسة بيليس واقفةً الآن وهي تحدِّق فيه. ثم سألته: «كيف؟»
قال سبارجو في ابتهاج: «سأُخبرك؛ لا شكَّ أن أسهلَ شيءٍ على الإطلاق هو معرفة كل شيء عن حياته القصيرة. أفترِضُ أنَّ باستطاعتي العثورَ على سجلِّ مولده في ماركت ميلكاستر، ويُمكِنكِ أنتِ بالتأكيد أن تُخبريني أين مات. بالمناسبة، متى مات يا آنسة بيليس؟»
لكن الآنسة بيليس كانت قد استأنفتْ سيرَها نحو المنزل.
وقالت غاضبةً: «لن أخبرك بشيءٍ آخَر. أخبرتُك بأكثرَ مما يلزمُ بالفعل، وأظنك لم تأتِ إلى هنا إلا لجمع بعض الأخبار لصحيفتك. لكني على أي حال سأخبرك بالآتي: عندما دخل ميتلاند السجن، لم يكن لطفله سَندٌ غيري؛ كان سيُودَع في إصلاحيةٍ للأحداث لولاي، لم يكن له أحدٌ في العالم سواي، لا من ناحيةِ أبيه ولا من ناحيةِ أمِّه. وحتى الآن في سِنِّي هذه، أُفضِّل التسوُّلَ في الشوارع للحصول على كِسرةِ خبزٍ أو الموت جوعًا، على أن ألمس بنسًا واحدًا مصدرُه جون ميتلاند. هذا ما لديَّ.»
بعد ذلك مضت الآنسة بيليس نحو الباب المفتوح واختفَت دون أن تنبس بكلمة أخرى، أو تُصاحِب سبارجو إلى طريق الخروج. ولم يعرف سبارجو طريقًا آخَر فهَمَّ بتتبُّعِها، لكنه سمع صوتَ حفيفٍ مفاجئ بجانب المنطقة الظليلة التي كانا يقفان عندها، بعدها بلحظةٍ انطلق صوتٌ غريب مرعب فيه بحَّة تَشِي بالكثير، ونادى بصوت هامس لكنه واضح:
«أيها الشاب!»
التفت سبارجو وحدَّق في السِّياج الشجري من خلفه. كان السياج كثيفًا ويانعَ الخُضْرة، ولكنه تصوَّر أنه رأى شبحًا غيرَ محدَّد المعالم من ورائه. فسأل: «مَن هناك؟ هل يسمعني أحد؟»
انطلق صوتُ ضحكٍ مفاجئ من وراء السياج الشجري، ثم نطق الصوتُ المبحوح المتقطِّع مجددًا.
«أيها الشاب، لا تتحرَّك أو تلتفت بطريقةٍ تُظهِر أنك تتحدَّث إلى أي شخص. هل تعلم أين توجد حانة «كينج أوف ماداجاسكار» في هذا الجزء من البلدة؟»
رد سبارجو: «كلا! لا أعرفُها بالطبع.»
واصَل الشخص الخفي بصوته الغريب: «يُمكِن لأي شخصٍ إخبارُك عندما تخرج أيها الشاب. اذهب إلى هناك وانتظر عند الزاوية بجوار حانة كينج أوف ماداجاسكار، وسآتي إليك هناك بعد نصف الساعة. وعندئذٍ سأخبرك شيئًا أيها الشاب، سأخبرك شيئًا. الآن انصرِف أيها الشاب، اذهب إلى كينج أوف ماداجاسكار … سألحق بك!»
ختم صاحبُ الصوت حديثَه بضحكةٍ خفيضة مرعبة جعلت سبارجو يشعر بالغرابة. لكنه كان مُقبِلًا على المغامَرة لصِغَر سنِّه، فانطلق على الفور دون أن يُلقِيَ ولو نظرةً خاطفة على السياج الكثيف، وعبَر الحديقة ودخل المنزل وخرج من الباب. وعند أول منعطفٍ صادَفَه في الميدان وجد شرطيًّا فسأله عن مكانِ حانة كينج أوف ماداجاسكار.
أجاب الشرطيُّ باقتضاب: «انعطِفْ يمينًا أولًا، ثم يسارًا. لا يُمكِن أن تفوتك، إنها مَعلَمٌ بارز.»
وجد سبارجو ذلك المعْلمَ البارزَ بسهولة، كانت حانةً ضخمةً ذات بناءٍ عريض، انتظر عند المنعطف يتساءل عما ينتظرُه، وثار فضوله بشدة حول صاحب الصوت الغريب الذي يَشِي بأمورٍ كثيرة لا عِلمَ له بها. وفجأةً جاءت إليه امرأةٌ عجوز وحدجَته بنظرةٍ غريبة جعلَته يُدرِك فظاعةَ التقدُّم في العمر.
لم يكن سبارجو قد رأى امرأةً متقدِّمة في العمر إلى هذا الحدِّ في حياته قط. كان في ملابسها وقارٌ وشيء من الأناقة. كان فستانها جيدًا، وقبعتها أنيقة، ومتعلقاتها الصغيرة جيدة أيضًا. لكنَّ وجهَها كان قميئًا، وظهرَت عليه علاماتٌ لا يُخطِئها الناظرُ تدلُّ على طيلةِ مُعاقَرتها للخمر، وظلت عيناها العجوزان تجوسان وتحدِّقان، ولم يستثنِ التقدمُ في العمر شفتَيها، فتركهما في شكلٍ مرعب. شعر سبارجو بتقزُّزٍ كاد يصل إلى حدِّ الغثيان، لكنه أخفى مشاعرَه وركَّز اهتمامَه على الاستماع لما أرادت العجوز أن تُخبره به.
قال في بعض الحِدة: «حسنًا، ما الأمر؟»
ردَّت: «حسنًا، لندخل أيها الشاب، هناك مكانٌ هادئ يُمكِن لسيدة مثلي أن تجلس فيه لاحتساء شراب الجِن، سأريك إياه. وإذا أحسنتَ مُعامَلتي فسأخبرك بشيء عن تلك السيدة التي كنتَ تتحدَّث معها منذ قليل. لكنك ستُعطيني بعضَ النقود أيها الشاب، أليس كذلك؟ فالسيدات العجائز أمثالي لهنَّ الحقُّ في شراء بعض وسائل الراحة، كما تعلم.»
تبع سبارجو هذه السيدةَ الاستثنائية إلى داخل غرفة صغيرة، لم يُبدِ العامل الذي استجاب سريعًا لقرع الجرس اندهاشًا لرؤيتها، وبدا أنه يعرف طلبَها جيدًا، وهو نوعٌ محدَّد من مشروب الجِن، مُحلًّى ودافئ. راقَبَها سبارجو في فضولٍ وهي ترفع الحجابَ الذي كان يُخفِي القليلَ من وجهها العجوز المتغضِّن، ثم ترفع الكأسَ إلى فمها بحماس لم يكن دافِعُه العطشَ بقدر ما كان نهَمها المحض للخمر. ولم تلبث أن احتسَتْ تلك الرشفةَ الأولى حتى ظهرت في عينَيها لمعةٌ جديدة، وضحكت بصوتٍ زاد وضوحُه تدريجيًّا.
وقالت وهي تلكز سبارجو بكوعها لكزةً خفيفة جعلته يَتوقُ إلى تركها والهروب: «أوه، أيها الشاب! هذا ما أردت! فهو يُفيدني. وعندما أنتهي منه ستطلب لي واحدًا آخرَ وتدفع ثمنَه، وربما تطلب ثالثًا! ستفيدني هذه الكئوس. وستُعطيني بعضَ المال أيضًا، أليس كذلك أيها الشاب؟»
قال سبارجو: «ليس قبل أن أعرفَ ما سأدفع مقابله.»
قالت: «ستدفع لأني إذا علمتُ أني سأحصل على مقابل مناسب منك أو ممَّن أرسلك، فسأخبرك عن جين بيليس أكثرَ مما يُمكِن لأيِّ شخصٍ في العالم إخبارك به. لن أخبرك كلَّ شيء الآن أيها الشاب، فأنا متأكدةٌ أنك لا تحمل في جيبك ما أعتبره مقابلًا مناسبًا للسرِّ الذي لدي، لا يبدو على مظهرك ذلك! لكني فقط سأُبيِّن لك أني أعرف السر. اتفقنا؟»
سأل سبارجو: «مَن أنتِ؟»
رمقته السيدة بنظرة ثم ضحكت. وسألت: «ماذا ستُعطيني أيها الشاب؟»
دسَّ سبارجو أصابعه في جيبه وأخرج عملتَين من فئة نصف سوفرن.
وقال وهو يُريها العملتَين: «انظري، إذا قلتِ لي أيَّ شيء مهمٍّ يُمكِنك الحصول على هاتين. لكن دَعِي العبث. ولا تُهدِري الوقت. وإذا كان لديكِ ما يُمكِنكِ إخباري به فأفصِحي عنه!»
مدَّت المرأة يدَها المرتعشة الشبيهة بالمخلب.
وقالت في ضراعة: «لكن أعْطِني واحدةً من هاتين أيها الشاب. دَعْني أُمسِك بواحدة من هاتين القطعتَين الذهبيتَين الجميلتَين. سأخبرك بما تريد إذا تركتَني أمسك بواحدةٍ منهما. هات … الآن أنت شابٌّ مهذَّب.»
أعطاها سبارجو إحدى العملتَين، وهيَّأ نفسَه لتقبُّلِ النتيجة مهما كانت.
وقال: «لن أعطيَكِ الأخرى حتى تقولي لي شيئًا. مَن أنتِ على أيِّ حال؟»
بدأت المرأة تُتمتم وتضحك وهي مُمسِكة بالعملة الذهبية، ثم ابتسمت ابتسامةً مخيفة.
وردت: «يدعونني الأم جاتش في النُّزُل الذي كنتَ فيه الآن، لكنَّ اسمي الفعلي هو السيدة سابينا جاتش، كنتُ شابةً جميلة يومًا ما. وعندما مات زوجي انتقلتُ لأعمل مدبِّرةً لمنزل جين بيليس، وعندما تركَتْ منزلَها وجاءت لتعيش في النُّزُل الذي نسكنه الآن، اضطُرَّت إلى اصطحابي معها والإبقاء عليَّ. أتعلم لماذا اضطُرت إلى ذلك أيها الشاب؟»
أجاب سبارجو: «الربُّ وحده يعلم!»
واصلَت الأم جاتش: «لأني أسيطر عليها أيها الشاب، أعرف سرًّا عنها. لو علمَتْ أني كنتُ خلف السياج الشجري وسمعتُ ما قالَتْه لك لَارتعدَت من الخوف. ولو علمَتْ أني قابَلتُك هنا وتحدَّثنا لزاد رعبها. لكنها بدأت تُعامِلني بغِلظة وترفض إعطائي ولو بنسًا لأحتسيَ أيَّ مشروب، وعجوز مثلي لها الحقُّ في الحصول على بعض وسائل الراحة، إذا أردتَ شراءَ السرِّ أيها الشاب، فسأُفصِح عنه فورَ أن تدفع المال.»
قال سبارجو: «قبل أن نتحدَّث عن شرائي لأيِّ سر، عليك أن تُثبِتي لي أن لديكِ سرًّا يستحق أن أشتريَه.»
احتدَّت الأم جاتش فجأةً وقالت: «سأثبت ذلك. اقرع الجرس واطلب لي كأسًا أخرى، وعندئذٍ سأُخبرك.» لاحَظ سبارجو أنها كلما شربت زادت تعقُّلًا وتماسَكَت أعصابُها وتحسَّنَ مَظهرُها كله. أخفضَت صوتها وواصَلت: «اسمع، أنت جئتَ إلى هنا لتجمعَ معلوماتٍ عن صِهرها ميتلاند الذي زُجَّ به في السجن، أليس كذلك؟»
قال سبارجو: «بلى.»
واصلت: «وعن ابنه أيضًا، أليس كذلك؟»
قال سبارجو: «لقد سمعتِ كلَّ ما دار بيننا. وأنا في انتظار سماع ما لديك.»
لكن الأم جاتش أصرَّت على أن تحكيَ القصةَ بطريقتها الخاصة. فواصَلتْ أسئلتَها:
«وأخبرَتْك أن ميتلاند جاء يطلب الفتى، وأنها أخبرَته أن الفتى قد مات، أليس كذلك؟»
قال سبارجو في امتعاض: «بلى، فعلَتْ. ماذا إذن؟»
رشفَت الأم جاتش رشفةً من كأسها على مهلٍ وابتسمت ابتسامةَ مَن يعلم بواطنَ الأمور. وقالت: «تسألني ماذا إذن؟! كلُّ هذه أكاذيبُ أيها الشاب، الفتى لم يَمُت، هو حيٌّ مثلي بالضبط. وسرِّي هو …»
قال سبارجو في نفاد صبر: «ماذا هو؟»
ردَّت الأم جاتش: «سري هو الآتي!» ولكَزَت سبارجو في ضلوعه، وقالت: «أعلم ما فعلَتْ به!»