القبعة
لم يعرف سبارجو بالتحديد ما قاده إلى مشهد المحاكمة هذا، فراح يتجوَّل بلا هدفٍ في القاعة الكبيرة والممرات المجاورة حتى ظنه أحدُ الموظفين تائهًا، فسأله عما إذا كان يقصد مكانًا بعينه في المبنى. حدَّق سبارجو في الرجل لحظةً كمَن لا يفهم السؤال. ثم استُنفِرَت قُواه العقلية من جديد.
وسأل فجأةً: «أَلَا يترأَّس السيد جاستيس بورو إحدى المحاكم هذا الصباح؟»
رد الموظَّف: «رقم سبعة. أيُّ قضية قضيتك؟ متى دورها؟»
أجابه سبارجو: «ليست لديَّ قضية. أنا صحفي.»
أشار الموظف بإصبعه.
وقال بتلقائية: «بعد هذا المنعطف … اسلك أولَ ممرٍّ يمينًا ثم الثانيَ يسارًا. ستجد أماكنَ متاحة كثيرة … ليس هناك أحداثٌ مهمة هذا الصباح.»
استدار الرجل ومضى في طريقه، واستأنفَ سبارجو تَجْوالَه الذي بدا بلا هدفٍ في الممرات الكئيبة الرتيبة.
وتمتم: «أُقسِم بشرفي إني لا أعرف حقًّا ما الذي أتى بي إلى هنا. لا شأنَ لي هنا.»
عندئذٍ سلك منعطَفًا فوجد رونالد بريتون أمامه مباشَرة. كان المحامي الشابُّ الآن يضعُ على رأسه الشَّعرَ المستعار ويرتدي ثوبَ المحاماة، ويحمل حُزمةً من الورق مربوطةً بشريط وردي، ويُرافِق شابتَين كانتا تضحكان وتتحدثان وهما معه. رمَقهم سبارجو في تأمُّل، وحدَّد بقريحته أي الشابتَين كانت مَن سمعها هو وراثبري تَجْأر بخُطبتها الهَزْلية؛ ليست الكُبرى التي تمشي بجوار رونالد بريتون ويبدو عليها ما يُشبه إحساسَ التملُّك، بل إنها الصُّغرى ذاتُ العينَين الضاحكتَين والابتسامةِ المفعَمة بالحيوية، أدركَ فجأةً أن فكرةً كانت في أعماقه، بل أملٌ يَحْدوه أن يراها مجددًا … لكن لماذا؟ لم يكن وقتَها يستطيع أن يُخمِّن السبب.
واجَه سبارجو ثلاثتَهم، فرفع قبعته على نحوٍ تلقائي. وتوقَّف بريتون في بعض الفضول. ولاح في عينَيه سؤال.
قال سبارجو: «نعم. أنا … في الحقيقة … تذكَّرتُ أنك قلتَ إنك قادمٌ إلى هنا، فجئتُ في أثَرِك. أريد أن أتحدَّث معك … عندما يَسمح وقتُك … أريد أن أسألك بعض الأسئلة. أسئلة لها علاقة بالقتيل.»
أومأ بريتون بالموافَقة. وربَّتَ على ذراع سبارجو.
وقال: «اسمع. عندما أفرغ من قضيتي هذه يُمكِنني أن أمنحك كلَّ ما يكفيك من الوقت. هل يُمكِنك الانتظارُ قليلًا؟ هل يُمكِنك؟ حسنًا، هلا أسديتَ لي معروفًا! كنت أصطحب هاتين الفتاتَين إلى الشُّرفة ليُشاهِدا المحاكَمة، هناك، أعلى الدَّرَج، ليس لديَّ الكثيرُ من الوقت، هناك محامي إجراءاتٍ في انتظاري. فَلْتَصْحبهما أنت … يا لك من رجل طيب! وعندما تنتهي القضية عُدْ بهما إلى هنا، وسنتحدث معًا. سأُعرِّفك بهما، بلا رسميَّات. الآنسة إيلمور … جيسي إيلمور. السيد سبارجو … من صحيفة «ووتشمان». سأنصرف الآن!» وانعطف بريتون على الفور، وأصدر ثوبُه حفيفًا وهو يسلك المنعطَف، ووجد سبارجو نفسَه يُحدِّق في الفتاتَين المبتسمتَين. وجد حينها أنهما جميلتان وجذَّابتان، وأن إحداهما تبدو أكبرَ من الأخرى بثلاث أو أربع سنوات.
قالت الكبرى: «هذه قلةُ مبالاةٍ من رونالد. ربما لا تُناسِب خُطتُه خطتَك يا سيد سبارجو؟ أرجو ألَّا …»
قال سبارجو: «أوه، لا مشكلةَ على الإطلاق!» وشعر بغباءٍ لم يعهده. ثم واصَل: «ليس لديَّ شيءٌ آخَر أفعله. لكن إلى أين قال السيد بريتون أنكما تُريدان الذَّهاب؟»
قالت الصغرى بحماس: «إلى شُرفة قاعة المحكمة السابعة. من هذا المنعطف … أعتقد أني أعرف الطريق.»
تعجَّبَ سبارجو من سرعةِ تطوُّر الأمور هذا الصباحَ واستحثَّ نفسه لتولِّي دور المرشد، فقاد الشابتَين إلى مقدمة إحدى الشرفات العامة التي يُمكِن من خلالها للمتفرِّغين والمهتمين مُشاهَدة وسماع أحداث المحاكمة التي تجري في قاعات المحكمة السيئة التهوية والإضاءة، التي تأخذ فيها العدالةُ مجراها. لم يكن في تلك الشرفةِ بعينها غيرُهم، استغرب الحارسُ المرابط خارِجَها أن يودَّ أيُّ شخصٍ دخولها، وفتح البابَ من فوره، ونادى سبارجو، وهبط الدَّرَجَ حتى قابَله في منتصفه.
وهمس من وراء يدِه المرفوعة: «لا شيءَ يجري هنا هذا الصباح. لكن هناك قضية مُخالفة مثيرة في القاعة الخامسة … يُمكِنني تدبُّر ثلاثة مقاعدَ جيدة لكم إذا أردتَ.»
رفَض سبارجو العرضَ المُغرِي، وعاد إلى رفيقتَيه. كان قد قدَّر في ذلك الوقت أن الآنسة إيلمور في نحو الثالثة والعشرين، وأختها في نحو الثامنةَ عشرة؛ واستقرَّ رأيه أن بريتون شابٌّ محظوظ بصُحْبة هذه الزوجةِ المستقبَلية الساحرة الجمال، وأختِها التي لا تقلُّ عنها حُسنًا. وجلس في مقعدٍ بجوار الآنسة جيسي إيلمور، وأخذ يتلفَّت في انبهارٍ ظاهر مما حوله.
همس قائلًا: «أفترض أن الكلام مسموحٌ إلى حين دخول القاضي، صحيح؟ هل هذه القضية الأولى للسيد بريتون حقًّا؟»
ابتسمَت رفيقة سبارجو قائلة: «الأولى على الإطلاق … وهو مسئولٌ عنها بالكامل. وهو متوتِّر للغاية … وكذلك أختي متوترة. ألستِ كذلك يا إيفيلين؟»
نظرت إيفيلين إيلمور إلى سبارجو، وابتسمَت في هدوء.
وقالت: «أعتقد أنه من الطبيعي أن يتوتر أيُّ شخص عند ظهوره الأول في أيِّ مكان. ومع ذلك، أظن أن رونالد مُفعمٌ بالثقة، والقضية ليست بالكبيرة كما يقول، إنها دونَ هيئة محلَّفين حتى. أخشى أنك ستجدُها رتيبةً يا سيد سبارجو … تتعلَّق بسندٍ إذني.»
رد سبارجو: «لا بأس، شكرًا لك.» ووجد نفسه بلا وعي يلجأ إلى إحدى طرقه المفضَّلة في رفع الحرج. «أحبُّ الاستماعَ للمحامين دائمًا، جَعْبتُهم لا تخلو أبدًا مما يُمكِن قوله عن … عن …»
قالت جيسي إيلمور: «عن لا شيء. ولكن مهلًا … هذا حال الصحفيين أيضًا، أليس كذلك؟»
همَّ سبارجو بأن يقول إن الكثير يُمكِن أن يُقال ردًّا على ذلك، لكن الآنسة إيلمور لفتَت انتباهَ أختِها فجأةً إلى رجلٍ دخل قاعة المحكمة للتو.
وقالت: «انظري يا جيسي! ها هو السيد إيلفيك!»
نظر سبارجو إلى الشخص الذي أشارت إليه فوجَده عجوزًا ذا وجهٍ كبير حليق، بِنْيته ممتلئة بعضَ الشيء، يضع الشعرَ المستعار وثَوبَ المحاماة ويمشي مشيًا وئيدًا نحو مقعدٍ في ركنٍ خارجَ المكان المهيب الذي لا يُسمَح لأحدٍ غير مستشار الملك بالجلوس فيه. جلس في الكرسي على نحوٍ يَشِي بحرصه على راحته، وعدَّل مِن وضع جِلسته إلى الزاوية التي تمنحه أكبرَ قدرٍ من الراحة، ووضع على عينه اليمنى نظارةً أحاديةَ العدسة وتلفَّتَ حوله. كان بالقرب منه القليلُ من زملائه في العمل، فضلًا عن ستةٍ من محامِي الإجراءات والكَتَبة يتحاوَرون بعضهم مع بعض، وكذلك بعض موظَّفي المحكمة. لكن صاحب النظارة الأحادية لم يهتمَّ بأحدٍ من هؤلاء وعلَّق عينَيْه بالفتاتَين ما إن لمحَهما. ثم انحنى في أدبٍ جمٍّ نحوهما، ورسم على وجهه العريضِ ابتسامةً ودودة، ولوَّح بيده البيضاء.
سألت الآنسة إيلمور الصغرى: «هل تعرف السيد إيلفيك يا سيد سبارجو؟»
أجاب سبارجو: «أظنني رأيتُه في مكانٍ ما بالقرب من تمبل. بل متأكدٌ أني رأيته.»
قالت جيسي: «مسكنه في بيبر بلدنجز، يُقيم فيه حفلاتِ شاي في بعض الأحيان، هو وصيُّ رونالد ومعلِّمه ومُرشِده وكلُّ شيء بالنسبة إليه، أظنه جاء إلى هذه المحكمة ليسمع تلميذه.»
همست الآنسة إيلمور: «ها هو رونالد.»
وقالت أختها: «ها قد أتى سيادته شديدَ التجهُّم. الآن يا سيد سبارجو يبدأ العمل.»
الحقيقة أن السيد سبارجو لم يولِ اهتمامًا كبيرًا لما كان يجري في الأسفل. كانت القضية التي بدأ الشابُّ بريتون العمل عليها تِجارية تتضمَّن بعض الحديث عن الحقوق والممتلَكات المرتبطة بسندٍ إذني، بدا للصحفي أن بريتون أبلى فيها بلاءً ممتازًا، وأظهر إلمامًا بالتفاصيل الماليَّة، واستعدادًا وثقةً كبيرَين في حديثه. لكن اهتمام سبارجو برفيقتَيه، لا سيما الصغرى، كان أكبرَ من اهتمامه به بكثير، وكان يُفكر في كيفية توطيد العلاقة بهما فورَ علمه بأن ممثِّل الدفاع وافقَ على الانسحاب لإدراكه انعدامَ فرصه في الفوز، وأن السيد جاستيس بورو كان بالفعل يُصدِر حكمه في صالح رونالد بريتون.
بعد ذلك بدقيقة كان يخرج من الشُّرفة وراء الأختَين.
وقال في شرودِ ذهن: «جيد جدًّا، جيد جدًّا بالفعل. أعتقد أنه سرد الحقائق في وضوحٍ وإيجاز بالِغَين.»
وفي هذه الأثناء، كان رونالد بريتون في الطابق السفلي يتحدث مع السيد إيلفيك في الممر. وأشار بإصبعه إلى سبارجو وهو قادمٌ برفقة الفتاتَين؛ فخمَّن سبارجو أن بريتون كان يتحدث عن جريمة القتل وعن صلة سبارجو بها. ولما اقترب الثلاثة منه تحدَّث بريتون.
قال: «السيد سبارجو، مساعد تحرير في صحيفة «ووتشمان». وهذا السيد إيلفيك يا سيد سبارجو. كنتُ أخبره للتو أنك رأيت المجنيَّ عليه بعد العثور عليه بقليل.»
رمَق سبارجو السيد إيلفيك بنظرة سريعة، ولاحظ الاهتمامَ الشديدَ الباديَ عليه. أولاه المحامي العجوز كاملَ اهتمامه.
وقال: «سيدي! أرأيتَ ذلك المسكين؟ صريعًا على الأرض … في المدخل الثالث في زقاق ميدل تمبل؟ المدخل الثالث، صحيح؟»
أجابه سبارجو ببساطة: «نعم، رأيته، كان المدخل الثالث.»
قال السيد إيلفيك متفكرًا: «هذا غريب! أعرف رجلًا يسكن هذا المنزل. بل إني زرتُه ليلة أمس، ولم أُغادر حتى قرب منتصف الليل. وكان اسم السيد رونالد بريتون وعُنوانه في جيب ذلك الرجل ذي الحظِّ العاثر؟»
أومأ سبارجو بالإيجاب. ونظر إلى بريتون، وأخرج ساعته. ثم خطر بباله ألا يلعبَ دور المخبر للسيد إيلفيك.
ردَّ بإيجاز: «هذا صحيح.» ثم رمق بريتون بنظرة ذات مغزًى وأضاف: «أتساءل إن كان بإمكانك منحي الآن بعضَ الدقائق القليلة كما طلبت؟»
أجاب رونالد بريتون وهو يُومئ بالموافَقة: «نعم، نعم! أفهمك.» وخاطب إيفيلين: «إيفيلين، سأتركك أنت وجيسي مع السيد إيلفيك، فأنا مضطرٌّ إلى الانصراف.»
استبقى السيد إيلفيك سبارجو مرةً أخرى.
وقال منفعلًا: «سيدي! أتعتقد أنه يُمكنني رؤية الجثة؟»
أجاب سبارجو: «إنها في المشرحة. لا أعرف قواعدَهم.»
ثم غادَر مع بريتون. ولم يتحدَّثا حتى عبَرا شارع فليت ووصلا إلى زقاق تمبل الأهدأ، وهناك نطق سبارجو أخيرًا.
وقال: «ما أردت أن أُخبرك به هو أني، منذ وقت طويل، بوصفي صحفيًّا، أردت أن أتولى جريمة قتل مهمة. وأعتقد أن هذه هي. أريد أن أخوضَ في تفاصيلها مباشَرةً وبعناية. وأعتقد أنه يُمكنك مساعدتي.»
سأل بريتون في هدوء: «وما أدراك أنها جريمةُ قتل؟»
أجاب سبارجو بلا انفعالٍ: «إنها جريمةُ قتلٍ بالفعل. أشعر بذلك. بغريزتي ربما. سأُفتِّش عن الحقيقة. ويبدو لي أن …»
بترَ جُملتَه ورمق رفيقه بنظرةٍ حادة.
وقال على الفور: «يبدو لي أن الدليل يكمن وراء تلك القُصاصة. تلك القُصاصةُ وذاك الرجلُ حلقتان في سلسلةٍ تربط بينك وبين … شخص آخَر.»
وافَقه بريتون قائلًا: «هذا محتمل. أتريد أن تصل إلى ذلك الشخص الآخَر؟»
أجاب سبارجو: «أريدك أن تُساعدني في العثور على الشخص الآخَر. أعتقد أن هذه القضية كبيرة، كبيرة جدًّا، وأريد أن أتولَّاها. ولا أثق في أساليب الشرطة كثيرًا. بالمناسبة، سأُقابل راثبري بعد قليل. ربما يكون قد سمع بشيء. أتودُّ مرافَقتي؟»
أسرع بريتون إلى مكتبه في كينجز بنش ووك، وترك ثوبَ المحاماة والشعر المستعار، ورافَق سبارجو إلى مخفر الشرطة. وبينما كانا على وشك الدخول وجَدا راثبري في طريقه للخروج.
قال راثبري: «أوه! لديَّ شيء قد يُفيد يا سيد سبارجو. قلت لك إني أرسلتُ رجلًا إلى متجر فيسكي صانعِ القبعات! حسنًا، لقد عاد الرجل. القبعة التي كان يرتديها المجنيُّ عليه اشتُرِيت بعد ظهر الأمس، وأرسلت إلى السيد ماربري، في الغرفة رقم ٢٠ بفندق أنجلو أورينت.»
سأل سبارجو: «أين يقع هذا الفندق؟»
أجاب راثبري: «حي ووترلو، مبنًى صغير على ما أعتقد. سأذهب إلى هناك. هل ستُرافِقني؟»
رد سبارجو: «نعم، بالطبع. والسيد بريتون أيضًا يريد المجيء.»
قال بريتون: «إن لم يكن في مجيئي ما يُعطِّلكما.»
ضحك راثبري.
وقال: «حسنًا، ربما نتمكَّن من معرفة شيء عن قصاصة الورق تلك.» وأشار إلى أقرب سائق سيارة أجرة.