إفشاء السر
عمَّت زقاقَ ميدل تمبل ذلك الصباحَ أشعةُ شمس بلغ سطوعُها أقصى الحدود، وسقط بعضٌ منها على المدخل الذي دخل منه سبارجو وبريتون متعجِّلَين. وبالرغم من عجَلة بريتون الشديدة توقَّفَ أسفل الدَّرَج. ونظر إلى الأرضية والجدار.
وقال بصوتٍ خفيض وهو يشير إلى موضعِ نظره: «ألم يكن هنا؟ أعني ماربري أو على الأحرى ميتلاند، ألم يُعثَر على جثتِه هنا بالتحديد؟»
أجاب سبارجو: «كانت هنا بالتحديد.»
سأل بريتون: «رأيتَه؟»
رد سبارجو: «نعم رأيتُه.»
قال بريتون: «رأيتَه بعد ما حدث بوقتٍ قصير؟»
رد سبارجو: «فورَ أن عُثِر عليه. أنت تعلم ذلك كله يا بريتون. فلِمَ السؤال الآن؟»
هز بريتون رأسَه دون أن يرفع عينَيه عن المكان الذي ثبَّتهما عليه وهو يدخل.
وقال: «لا أعلم. أنا … لكن تعالَ … لنرَ إن كان العجوز كاردلستون سيتمكَّن من إخبارنا بأي شيء.»
كانت أمام باب كاردلستون عاملةُ تنظيفٍ أخرى تحمل عدةَ دِلَاء، وتُدخِل مِفتاحًا في الباب. بدا جليًّا لسبارجو أنها كانت تعرف بريتون، فقد ابتسمتْ له وهي تفتح الباب.
قالت: «لا أعتقد أنك ستجد السيدَ كاردلستون في الداخل سيدي. يكون في هذا الوقت قد خرج لتناوُل الفطور مع السيد إيلفيك.»
قال بريتون: «تأكَّدي فحسب. أريد أن أُقابِلَه إن كان في الداخل.» ودخلتْ عاملةُ التنظيف المسكن، وما إنْ فعلَت حتى صرخَت.
قال سبارجو: «بالضبط. كما توقَّعتُ. لقد غادَر كاردلستون أيضًا يا بريتون!»
لم يردَّ بريتون. لكنه أسرَعَ في أثر عاملة التنظيف، وتبعهما سبارجو.
صاح بريتون في انفعال: «يا إلهي! هنا أيضًا؟!»
فاقَت فوضى مسكنِ كاردلستون فوضى مسكنِ إيلفيك. كان المشهد مُشابهًا لسابقِه؛ أدراج مفتوحة، وأوراق مبعثَرة، ورمادٌ مبعثَر على الأرضية أمام المدفأة، وكل شيء في فوضى عارمة. ظهر من وراءِ بابٍ مفتوح مُفضٍ إلى غرفة داخلية مَشهدٌ آخَرُ مشابهٌ لما وجداه عند إيلفيك؛ لقد حزمَ كاردلستون أغراضَه في حقيبةٍ متعجلًا، وبدَّلَ ملابسه، وألقى بما كان يرتديه منها في أي ركن في المكان. بدأ سبارجو يُدرِك ما جرى؛ فبعد أن أعدَّ إيلفيك عُدَّتَه للهروب، قصد كاردلستون، واستعجَله، ولاذا بالفرار معًا. لكن … لماذا؟
جلستْ عاملةُ التنظيف على أقرب كرسي وأخذت تبكي وتنوح، وتقدَّمَ بريتون وتجاوَزَ أكوامَ الورق والأغراض المتنوعة المبعثَرة في فورة البحث عن أشياء والتخلُّص من أخرى، حتى وصل إلى الغرفة الداخلية. نظر سبارجو حوله، وفجأةً وجد شيئًا مُلقًى على الأرض فأمسك به بشدة. ولم يَكَد يطمئنُّ لاستقرار لُقْيتِه في جيبه حتى عاد بريتون.
قال بريتون مُتعبًا: «لا أعرف معنى ذلك كلِّه يا سبارجو. أفترض أنك تعرف. انظر هنا.» وواصَل ملتفتًا إلى عاملة التنظيف: «كفِّي عن الضجيج؛ فلن يفيدَ بشيء. أعتقد أن السيد كاردلستون رحَل متعجِّلًا. عليكِ أن …» والتفت إلى سبارجو مجددًا وسأله: «ماذا عليها أن تفعل يا سبارجو؟»
رد سبارجو وهو ينظر نظرةً ذات مغزًى: «عليها أن تترك كلَّ شيء على حاله بالضبط، وأن تغلق المسكن، وأن تُعطِيك المِفتاح لأنك صديقٌ للسيد كاردلستون.» وخاطَب عاملةَ التنظيف: «افعلي ذلك الآن.» ثم خاطَب بريتون مجددًا: «وَلْنذهب نحن؛ فهناك مهمة عليَّ إنجازها.» ولما خرجا وانصرفت عاملةُ التنظيف الذاهلة، التفت سبارجو إلى بريتون.
وقال: «سأُخبرك بكل ما أعرف بعد قليلٍ يا بريتون. أمَّا الآن فأُريد منك أن تعرف ما إذا كان حارس المبنى قد رأى السيدَ إيلفيك أو السيدَ كاردلستون يرحل. أريد أن أعرف إلى أين ذهبا إن أمكن. لا أعتقد أنهما انصرفا سيرًا على أقدامهما.»
قال بريتون في تجهُّم: «حسنًا. سنذهب ونسأل. لكني لا أفهم هذا كلَّه. هل تعني أن …»
قال سبارجو: «انتظر قليلًا. لننجز الشيءَ تِلْوَ الآخر.» وبينما سارا في زقاق ميدل تمبل، واصَل سبارجو: «أول شيء يجب فعله أن تسأل الحارسَ ما إذا كان قد رأى لأيٍّ منهما أثرًا؛ فهو يعرفك.»
ولما سأل بريتون الحارسَ أجاب في حماس.
وقال: «تسألني إن كنتُ قد رأيت السيد إيلفيك صباحَ اليوم يا سيد بريتون؟ بالتأكيد سيدي. فقد استوقفتُ له هو والسيد كاردلستون سيارة أجرة في وقتٍ مبكر من صباح اليوم، بعد السابعة بقليل. قال السيد إيلفيك إنهما سيذهبان إلى باريس، وإنهما سيتناولان الفطور في محطة تشيرينج كروس قبل انطلاق القطار.»
سأل بريتون متظاهِرًا بعدم الاكتراث: «هل قالا متى سيعودان؟»
أجاب الحارس: «كلا يا سيدي، لم يقل السيد إيلفيك. لكني أظنُّهما لن يتأخَّرا؛ لأنهما كانا يحملان حقيبتَين صغيرتَين أعتقد أنها تسَعُ احتياجاتِ يومٍ أو يومَين فقط سيدي.»
قال بريتون: «حسنًا.» والتفت نحو سبارجو الذي كان قد تحرَّك بالفعل. وقال: «ماذا بعد؟ أعتقد أننا سنتوجَّه إلى تشيرينج كروس، صحيح؟»
ابتسم سبارجو وهز رأسه نافيًا.
وقال: «كلا. لن نستفيد شيئًا إذا ذهبنا إلى هناك. لم يذهبا إلى باريس. كان هذا كلُّه تمويهًا. لنذهب إلى مكتبك أنت الآن. وهناك سأتحدَّث إليك.»
ولما وصلا إلى الغرفة الداخلية بمكتب بريتون، وأُغلِق البابُ عليهما، جلس سبارجو في كرسيٍّ وثير وحدج المحامي الشابَّ في اهتمام بالغ.
وقال: «بريتون! أعتقد أننا أوشكنا على حلِّ اللغز، تريد أن تُنقذ حماك المستقبلي، صحيح؟»
زمجر بريتون قائلًا: «بالطبع. لا شكَّ في ذلك. لكن …»
قال سبارجو: «لكنك قد تُضطرُّ إلى تقديم بعض التضحيات لتفعل ذلك. الأمر أن …»
قال بريتون منفعلًا: «تضحيات! ماذا …؟»
رد سبارجو: «قد تُضطرُّ إلى التضحية ببعض الأفكار … من المحتمَل أن تتغيَّر فكرتُك الطيبة عن بعض الأشخاص في المستقبل. ومنهم السيدُ إيلفيك على سبيل المثال.»
اكفهرَّ وجهُ بريتون.
وقال: «أوضِحْ ما تقصد يا سبارجو! أُفضِّل ذلك.»
رد سبارجو: «حسنًا إذن. الأمر أن السيد إيلفيك ضالعٌ فيما حدث بشكلٍ ما.»
قال بريتون: «أتعني … في جريمة القتل؟»
رد سبارجو: «أعني جريمة القتل. وكذلك كاردلستون. أنا متأكدٌ من ذلك تمامًا. ولهذا غادَرا. فقد أفزعتُ إيلفيك ليلةَ أمس. ومن الواضح تمامًا أنه تواصَل مع كاردلستون على الفور، ولاذا بالفرار متعجِّلَين. لماذا قد يفعلان ذلك؟»
قال بريتون: «لماذا؟ هذا ما أسألك عنه! لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»
رد سبارجو: «لأنهما يَخشَيان انكشافَ أمرٍ ما. لهذا كان أول ما خطر ببالهما هو الهرب. لقد هرَبا مع ظهورِ أولِ نذيرٍ بانكشاف السر. تصرُّفٌ أحمق … لكنه غريزي.»
قام بريتون من كرسيِّ مكتبه ذي الذراعَين الذي كان يجلس عليه، وطرق على لوح تجفيف الحبر.
وقال في انفعال: «سبارجو! أتقصد أنك تتَّهم وَصِيِّي وصديقَه السيد كاردلستون. تتَّهمهما ﺑ… بالقتل؟»
قال سبارجو: «لا أعني هذا مطلقًا. بل أتَّهم السيد إيلفيك والسيد كاردلستون بأنهما يعرفان عن جريمة القتل أكثرَ مما يُريدان الإفصاحَ عنه. وأتَّهمهما أيضًا — ولا سيَّما وَصِيك — بأنهما يعرفان كلَّ شيء عن ميتلاند أو ماربري. لقد حمَلتُه ليلةَ أمسِ على الاعتراف بأنه يعرف القتيلَ باسم جون ميتلاند.»
قال بريتون: «حقًّا؟!»
رد سبارجو: «هذا صحيح يا بريتون. ولأن الحقيقة ستظهر لا محالة؛ لا بد أن تعرفها الآن. تمالَكْ نفسَك يا بريتون، وتحكَّمْ في أعصابك، ستُضطر إلى تحمُّلِ صدمةٍ أو اثنتَين. لكني أعرف ما أقول، ويُمكِنني إثباتُ كلِّ كلمة سأقولها لك. دَعْني أولًا أسألك بضعة أسئلة. هل تعرف أيَّ شيء عن والدَيْك؟»
قال بريتون: «لا شيءَ أكثر مما أخبرني به السيد إيلفيك.»
سأل سبارجو: «وبِمَ أخبرك؟»
رد بريتون: «أخبرني أن والدَيَّ كانا صديقَين قديمَين له ماتا في صِغرهما وتركاني بلا عائل، فضمَّني هو إلى كنفه وشملَني برعايته.»
قال سبارجو: «ألم يُقدِّم لك أيَّ وثائقَ من أي نوعٍ تُثبِت صدقَ هذه القصة؟»
رد بريتون: «كلا! ولم أُشكِّك يومًا فيها. لِمَ عساي أن أفعل؟»
قال سبارجو: «ألَّا تتذكَّر أيَّ شيءٍ عن طفولتك؟ … أعني عن أي شخصٍ كان مقرَّبًا لك في طفولتك؟»
قال بريتون: «أتذكَّر الناس الذين تولَّوا تربيتي مُذْ كنتُ في الثالثة. ولم تَزَل لديَّ ذِكرى غيرُ واضحةٍ لامرأة طويلة مائلة للسُّمْرة قبل ذلك.»
خاطَب سبارجو نفسَه: «الآنسة بيليس.» ثم واصَل مخاطبًا بريتون بصوت عالٍ: «حسنًا يا بريتون. سأُخبرك بالحقيقة، سأخبرك بها مباشَرةً ثم أقدِّم لك كلَّ التفسيرات بعد ذلك. اسمُك الحقيقي ليس بريتون. بل ميتلاند، وأنت الابنُ الوحيد للرجل الذي عُثِر عليه مقتولًا أسفلَ دَرَج السيد كاردلستون!»
كان سبارجو يتساءل عن وقْعِ هذه الأنباء على بريتون، وحدَّقَ فيه في توتر وهو يلفظ بكلماته الأخيرة. ماذا سيفعل؟ وماذا سيقول؟ ماذا ﺳ…
جلس بريتون إلى مكتبه في هدوءٍ ونظر إلى عينَيْ سبارجو مليًّا.
وقال بنبرة عمَلية شديدة: «أثبِتْ لي ذلك يا سبارجو. أثبِتْ لي كلَّ كلمةٍ تقول. كل كلمة يا سبارجو!»
أومأ سبارجو بالموافَقة.
وقال: «سأفعل ذلك، سأُثبِت لك كل كلمة. هذا هو الصواب. اسمع إذن …»
ألقى سبارجو نظرةً على الساعة الموجودة في الخارج في بداية قصته، فرأى أن الساعة الثانية عشرة إلا الربع، ولما اختتم كلامه كانت قد تخطَّت الواحدة. ظل بريتون طوالَ هذا الوقت يسمع في اهتمامٍ بالغ، ويُقاطِع سبارجو بسؤالٍ بين الفينة والأخرى، ويُدوِّن بعض الملاحظات من وقتٍ لآخر على ورقةٍ قرَّبها منه.
وأخيرًا قال سبارجو: «هذه هي القصة كلها.»
قال بريتون في اقتضاب: «ليست بالقصيرة.»
وجلس يُحدِّق في الملاحظات التي دوَّنها لحظاتٍ، ثم رفع نظره إلى سبارجو. وسأله: «ما رأيك حقًّا؟»
قال سبارجو: «فيمَ تطلب رأيي؟»
قال بريتون: «في هروب إيلفيك وكاردلستون.»
قال سبارجو: «كما قلتُ آنفًا، أعتقد أنهما يعرفان شيئًا يعتقدان أنهما سيُحمَلان على الإفصاح عنه. لم أرَ مثيلًا للخوف الذي بدا على إيلفيك ليلةَ أمسِ قط. ومن الواضح أن كاردلستون يُشاطِره ذلك الخوف، وإلا لما هربا معًا على هذا النحو.»
قال بريتون: «أتظنُّهما يعرفان شيئًا عن القاتل الحقيقي؟»
هزَّ سبارجو رأسه.
وقال: «لا أعلم. هذا مرجَّح. إنهما يعرفان شيئًا. و… انظر!»
وضع سبارجو يده في جيبه وأخرج شيئًا وأعطاه لبريتون، فحدَّق بريتون فيه في فضول.
ثم سأل: «ما هذا؟ أهي طوابع؟»
رد سبارجو: «حسب وصف كريديه تاجر الطوابع، هذه مجموعةٌ من الطوابع الأسترالية النادرة التي كانت مع ميتلاند. أخذتُها من مسكن كاردلستون عندما كنتَ أنت تفتِّش في غرفة نومه.»
قال بريتون: «لكن هذا لا يُثبِت شيئًا في نهاية المطاف. قد لا تكون هذه هي الطوابع نفسها. وحتى إن كانت ﻓ…»
قاطَعه سبارجو بحدة قائلًا: «ما الاحتمالات؟ أعتقد أن هذه هي الطوابع التي كانت مع ميتلاند … أبيك! وأريد أن أعرف كيف وصلَت إلى مسكن كاردلستون. وسأعرف ذلك.»
أعاد بريتون الطوابعَ إلى سبارجو.
وسأل: «لكن ما رأيك بوجهٍ عام يا سبارجو؟ إذا لم يكونا قد قتلا — يصعب عليَّ التلفُّظُ بهذه الكلمة حتى الآن! — أبي، فماذا إذن؟»
قال سبارجو منفعلًا: «إذا لم يكونا قد قتلاه، فإنهما يعلَمان مَن قتله! هيا، حان الوقت لنأخذ الخطوة التالية. والآن فَلْننسَ أمرَ إيلفيك وكاردلستون مؤقتًا، سيَسهل تتبُّعُ أثرهما. أريد أن أهتمَّ بأمرٍ آخَر الآن، كيف تَستصدِر تصريحًا من الحكومة لنبشِ قبر؟»
رد بريتون: «يتطلَّب ذلك أمرًا من وزارة الداخلية، ولا يُمكِن استصداره إلا بعد إظهارِ أسبابٍ بالغةِ القوة تدعو لذلك.»
قال سبارجو: «جيد! وسنُزوِّدهم بالأسباب. أريد نبْشَ قبر.»
رد بريتون: «نَبْش قبر! قبر مَن؟»
قال سبارجو: «قبر المدعو تشامبرلين ابن بلدة ماركت ميلكاستر.»
فُوجِئ بريتون.
وقال: «نبش قبره؟ لماذا؟»
ضحك سبارجو وهو يقوم.
وقال: «لأني أعتقد أن القبر فارغ. وأن تشامبرلين على قيد الحياة، وأن اسمه الآخَر هو كاردلستون!»