محتويات التابوت
قُرْبَ انتهاء ذلك النهار، سافَر إلى ماركت ميلكاستر سبارجو وبريتون ومسئولو وزارة الداخلية المكلَّفون بفتح قبر تشامبرلين ومحامي إجراءات يُمثِّل مالكَ صحيفة «ووتشمان». وصلوا إلى البلدة الصغيرة في وقتٍ متأخر من المساء، وبالرغم من تأخُّر الوقت تفقَّدَ سبارجو رَدْهةَ فندق يلو دراجون وتأكَّدَ من أن السيد كوارتربيدج قد غادَرها لتوِّه عائدًا إلى منزله، ولما اطمأنَّ لذلك اصطحب بريتون وقطعا الشارعَ في طريقهما إلى منزل السيد العجوز. خرج السيد كوارتربيدج بنفسه إلى الباب وتعرَّفَ على سبارجو على الفور. وأبى إلَّا أن يُضيِّفهما؛ إذ قال إن أسرته قد هجعَت لكنه أراد أن يحتسيَ مشروبًا ليليًّا أخيرًا ويُدخِّن سيجارًا، وأصرَّ على أن يُشارِكاه في ذلك.
قال سبارجو وهما يتبعان العجوز إلى غرفة الطعام: «إذن سنمكث دقائقَ قليلةً فقط يا سيد كوارتربيدج. علينا الاستيقاظ عند الفجر. وقد تريد أنت أيضًا الاستيقاظَ في الوقت المبكر نفسِه.»
نظر السيد كوارتربيدج في استفهامٍ وهو يُمسِك بقنينة الشراب.
وقال مستغربًا: «عند الفجر؟»
قال سبارجو: «الأمر أن قبرَ تشامبرلين سيُفتَح عند الفجر. تمكَّنَّا من استصدارِ أمرٍ من وزير الداخلية لنبْشِ القبر ومعايَنة جثمان تشامبرلين، جاء المسئولون المكلَّفون بذلك معنا على متن القطار نفسه، وسنَبِيت كلنا في فندق يلو دراجون معًا. لقد ذهب المسئولون للقيام بالترتيبات اللازمة مع السلطات. وسيُفتَح القبر عند الفجر أو بعده بأقصرِ وقتٍ ممكن. أفترِض أنك بعد أن علمتَ بذلك الآن قد تود المجيء، أليس كذلك؟»
قال كوارتربيدج: «ليُبارِكَّ الرب! أحقًّا تمكَّنتَ من الترتيب لذلك؟! حسنًا، إذن سنعرف الحقيقةَ أخيرًا بعد كل هذه السنوات. أنت شاب رائع حقًّا يا سيد سبارجو. وماذا عن رفيقك هذا؟»
نظر سبارجو إلى بريتون، وكان بريتون قد وكَّله بالحديث، ثم قال سبارجو: «سيد كوارتربيدج، هذا الشابُّ هو بلا شكٍّ ابنُ جون ميتلاند. إنه المحامي الشاب رونالد بريتون الذي أخبرتُكَ عنه، لكن لا شكَّ في هُوِية والِدَيْه. تفضَّلْ بمصافَحته وتمنَّ له التوفيق.»
وضع السيد كوارتربيدج القنينة والكأس، وأسرعَ بمدِّ يده لمصافَحة بريتون.
وقال: «أيها الشاب العزيز! تُسعِدني مصافَحتك بالتأكيد. وأتمنى لك التوفيق، كما لم أتمنَّ إلا التوفيق والسداد لأبيك المسكين. لقد غرَّر به تشامبرلين. يا لها من ليلة حافلة بالمفاجآت! لكن ماذا إن تبيَّنَ أن التابوت خالٍ يا سيد سبارجو؟»
أجاب سبارجو: «في هذه الحالة أتوقَّع أن أتمكَّنَ من الإيقاع بالرجل الذي كان من المفترَض أن يكون جثمانُه فيه.»
جلسوا جميعًا حول مدفأة السيد كوارتربيدج في حميميَّة، وبعد ذلك بدقائقَ قليلةٍ قال بريتون: «أتعتقد أنَّ أبي وقع ضحيةً لاحتيال ذلك المدعو تشامبرلين، يا سيدي؟ أتعتقد أن ذلك الرجل خدَعَه؟»
هزَّ السيد كوارتربيدج رأسَه في وجوم.
وأجاب: «لقد كان تشامبرلين أيها الشاب العزيز رجلًا جادًّا ذكيًّا. لم يعرف أحدٌ عنه شيئًا قبل أن يَفِد إلى هذه البلدة، ولم يَمضِ على وجوده بين ظَهْرانَيْنا وقتٌ طويل حتى تمكَّنَ من كسب ودِّ الجميع، كان ذلك لغرضٍ في نفسه بالطبع. أنا متيقِّن تمامًا من أنه تمكَّن من التلاعُب بأبيك كخاتَمٍ في إصبعه الصغير. وكما قلت للسيد سبارجو وهو يُجرِي تحرِّياته منذ مدة، ما كنتُ لأُفاجَأ البتة إن سمعتُ أن كل الأموال التي كانت محلَّ النزاع ذلك الحينَ انتهى بها المطاف في جيبه. يا إلهي! أتعتقد بالفعل أن تشامبرلين على قيد الحياة يا سيد سبارجو؟»
أخرج سبارجو ساعته. وقال: «سنعرف ما إذا كان مدفونًا في ذلك القبر أم لا قبل ستِّ ساعات من الآن يا سيد كوارتربيدج.»
لو كان سبارجو قد تحدَّث عن أربعِ ساعات بدلًا من ستٍّ لَما جانَبَه الصواب، فقد كان الليل قد قارَب منتصفه في ذلك الوقت، وقبل الثالثة خرَج من فندق يلو دراجون سبارجو وبريتون والرجال الآخرون الذين جاءوا معهم من لندن وانطلقوا في طريقهم إلى المقابر التي ما إنْ يخرج قاصِدوها من البلدة حتى يبلغوا وجهتَهم. كانت تباشيرُ الفجر الوليد تَظهر على استحياءٍ فوق التلال من جهة الشرق، وانتشر ضبابٌ أبيضُ فوق المستنقعات الممتدة بين ماركت ميلكاستر والبحر، وتدلَّت فوق أشجار السرو والأكاسيا التي انتشرت في المقابر شِباكُ العنكبوت. عمَّ من حولهم سكونٌ كسكونِ سُكانِ القبور من تحتهم. والتفت المسئولون عن الترتيبات لعملهم في هدوء، في حين تحلَّقَ حولهم في سكونٍ مَن لم يجدوا شيئًا يفعلونه.
قابَلهم العجوز كوارتربيدج عند بوابة المقابر مبتهجًا نشيطًا على الرغم من أنه لم يحظَ بكفايته من الراحة، وهمس قائلًا: «في سنين عمري الطويلة التي تجاوَزت التسعين لم أشهد هذا الذي نحن بصدده من قبلُ. يبدو اقتحامُ المثوى الأخير لرجلٍ ميت أمرًا بالغَ الغرابة من رأيي.»
قال سبارجو: «هذا إن وُجِد الرجل الميت في مَثْواه الأخير بالفعل.»
كان سبارجو نفسه مهتمًّا بتفاصيلِ عمليةِ فتح القبر هذه، لم يُؤنِّبه ضميرُه ولا ثارت عواطفُه ولا خالجَته أيُّ مشاعرَ من ذلك القَبيل حيالَ التطفُّل على الموتى. وقف يُراقِب كل شيء. طوَّق الرجالُ المكلَّفون من السلطات المحلية محيطَ القبر بقماشٍ حاجب، وتمت الإجراءات في خصوصية تامة؛ إذ كُلِّف رجلٌ بالمرابَطة في المكان لإبعاد أيِّ مارة مبكرين قد تجذب انتباهَهم الإجراءاتُ الاستثنائية. في بداية الأمر لم يسَع أحدًا سوى الانتظار، وشُغِل سبارجو نفسه بالتفكير في أن كل حفنةٍ من التراب ترفعها الجواريف من القبر تُقرِّبه من الحقيقة، وانتابه حَدْسٌ قويٌّ بأن حقيقةَ قضية ماربري ستنكشف له في مرحلة أو أخرى. إذا احتوى التابوت الذي يحفرون لاستخراجه على جثمانِ سمسارِ الأسهم تشامبرلين، فسيتبدَّد معظمُ فرضيته الأخيرة. أما إذا تبيَّنَ خلوُّ التابوت، فتلك نقرةٌ أخرى.
همس بريتون: «وصَلوا إلى التابوت.»
ابتعد سبارجو في حين بدأ الرجال في رفع التابوت من القبر.
وهمس لبريتون: «سنعرف الآن! ولكن ماذا سنعرف إن كان …»
قال بريتون: «إن كان ماذا؟ إن كان … ماذا؟»
اكتفى سبارجو بهزِّ رأسه. كانت هذه اللحظة من أعظم اللحظات التي كان يعمل من أجلها مؤخرًا، وكانت تَبِعاتها هائلة.
همس محامي صحيفة «ووتشمان»: «والآن حان الوقت. تعالَ يا سيد سبارجو، سنرى الآن.»
تحلَّقوا جميعًا حول التابوت الموضوع على حامِلَين منخفِضَين بجانب القبر، في حين بدأ العمَّال يفكُّون المسامير. كان الصدأ قد طال المسامير في الفتحات التي استقرَّت فيها، فاحتكَّت بشدة بينما ظل الرجال يُحاولون فكَّها بصعوبة. وبدا لسبارجو أن حركة الرجال كانت تتباطأ كلما مرَّ الوقت، فبدأ يتململ. وأخيرًا سمع صوتًا آمِرًا.
«ارفعوا الغِطاء!»
تولَّى رجلان يقف كلٌّ منهما عند أحد طرَفَي التابوت رفْعَ الغطاء؛ رفعاه بحركة مفاجئة سريعة، ومدَّ المتحلِّقون حول التابوت أعناقَهم في حركة سريعة.
نُشَارة خشب!
كان التابوت مليئًا حتى حافته بنُشارة الخشب المضغوطة بإحكام. كان سطحها ناعمًا لا انبعاجَ به، فقد تولَّت يدُ شخصٍ ما تسويتَها منذ سنوات طوال. لم يَجِدوا أنفسَهم بمعية الموت، بل بمعية الخداع.
انطلقت ضحكة خافتة. فكسر صوتَها جلالُ الموقف. والتفت كبيرُ المكلَّفين بفتح التابوت مبتسمًا.
وقال الرجل: «من الواضح أن أسبابَ الشكِّ كانت قوية. ليس هناك جثمانٌ أيها السادة.» والتفت إلى العمال وأضاف: «لنفتِّش النُّشَارة ونتأكد ألَّا شيء تحتها. أفرِغوها!»
بدأ الرجال يغترفون من النشارة بأيديهم، وأراد أحدهم أن يتأكَّدَ من خلوِّ التابوت، فدَسَّ أصابعَه في أماكن عديدة على امتداده. وبعد ذلك ضحك هو الآخَر.
وقال: «التابوت معبَّأ بالرَّصاص لتثقيل وزنه. انظروا!»
أزاح النُّشَارةَ جانبًا، وأرى المحيطين به أن قضبانًا من الرصاص كانت مثبَّتةً عند طرَفَي التابوت ومنتصفِه بدلًا من الجثمان.
وقال: «لقد جُهِّزت الخدعة بإتقان. أترَون كيف وُزِّعت هذه الأوزان. عندما يُوضَع جثمان في تابوت يكون معظمُ وزنه في الطرف الذي تستقرُّ فيه الرأس والجذع. وكما ترون هنا: قضيبُ الرصاص الأثقلُ في المنتصف، والأخفُّ عند القدمَين. ذكي!»
قال أحد المجتمعين: «أفرِغوا كلَّ النشارة. لنتأكَّد من أنْ لا شيءَ آخَر في التابوت.»
وبالفعل كان في التابوت شيءٌ آخر. رِزْمتان من الأوراق مستقرَّتان في قعره وملفوفتان بشريطٍ وردي. أبدى القانونيُّون الحاضرون اهتمامًا شديدًا بهذه الأوراق. وكذلك سبارجو الذي سحب معه بريتون وشقَّ طريقَه إلى حيث كان مسئولو وزارة الداخلية والمحامي الذي أرسلَتْه صحيفة «ووتشمان» يَفْحصون المُكتشَفات في تعجُّل.
كانت رِزْمة الأوراق الأولى على ما بدا ذاتَ صلةٍ بصفقات أُجرِيت في ماركت ميلكاستر؛ لمح سبارجو أسماء كان يألفها، منها اسم السيد كوارتربيدج. لم يندهش لذلك على الإطلاق. لكنه اندهش بشدةٍ عندما فُضَّت رِزْمةُ الأوراق الثانية فكشفت عن وثائقَ ذاتِ صلةٍ بكلاودهامبتون وجمعية هيرث آند هوم للمساعَدة في حالات المرض والموت. ألقى نظرةً سريعة عليها، ثم انتحى ببريتون جانبًا.
وقال متعجبًا: «يبدو لي أننا وجدنا أكثرَ مما توقَّعنا بكثير. ألم يقُل إيلمور إن المجرمَ الحقيقي في قصة كلاودهامبتون شخصٌ آخر، موظف لديه أو شيء من هذا القبيل؟»
وافَقه بريتون: «هذا صحيح. وأصرَّ على ذلك.»
قال سبارجو: «لا بد أن تشامبرلين هو ذلك الرجل إذن. جاء إلى ماركت ميلكاستر من الشمال.» والتفت إلى المسئولين وسأل: «ماذا سيُفعَل بهذه الأوراق؟»
رد كبيرهم: «سنحزمها على الفور ونأخذها إلى لندن. ستكون في مأمنٍ هناك، لا تقلق يا سيد سبارجو. لا نعرف ما قد تكشف عنه.»
قال سبارجو: «هذا صحيح تمامًا. لكن يجدر بي أن أخبرك أن لديَّ اعتقادًا قويًّا أنها ستكشف أكثرَ بكثير مما يخطر ببالِ أحد، فَلْتعتنوا بها للغاية.»
بعد ذلك أسرع سبارجو باصطحاب بريتون إلى خارج المقابر دون أن ينتظر أيَّ حديثٍ إضافي من أحد. وعند البوابة أمسك بذراعه.
وقال: «حان الوقت يا بريتون! أخبِرني بما لديك!»
قال بريتون: «أخبرك بماذا؟»
قال سبارجو: «لقد وعدتَ بأن تخبرني بشيءٍ ما … بل بالكثير … إذا وجدنا التابوت خاليًا. وها قد وجدناه خاليًا. أخبِرني بسرعة!»
قال بريتون: «حسنًا. أعتقد أني أعرف أين يُمكِن أن يكون إيلفيك وكاردلستون. هذا فقط ما لديَّ.»
قال سبارجو: «فقط؟ هذا يكفي. أين هما إذن؟»
رد بريتون: «يمتلك إيلفيك مكانًا صغيرًا غريبًا يَقصده هو وكاردلستون في بعض الأحيان للصيد، يقع في أحد أغرب أجزاء مستنقَعات يوركشاير. أتوقَّع أن يكونا هناك. فلا أحدَ هناك يعرف اسمَيْهما حتى … يُمكِنهما أن يتوارَيا عن الأنظار فيه لسنين.»
قال سبارجو: «أتعرف الطريقَ إليه؟»
ردَّ بريتون: «نعم، فقد زرته.»
أشار إليه سبارجو ليُسرِع.
وقال: «هيا بنا إذن. سنستقلُّ أولَ قطار يتوجَّه إلى هناك. أعرف القطار أيضًا. لا وقتَ لدينا إلا لتناوُلِ الإفطار وإرسالِ برقيةٍ إلى صحيفة «ووتشمان»، بعد ذلك ننطلق إلى هناك. يوركشاير! رباه! إنها تبعد عن هنا أكثرَ من ثلاثمائة ميل يا بريتون!»