شخص يسبقنا
بعد أن أمضى سبارجو وبريتون يومًا صيفيًّا طويلًا في السفر من جنوبي غرب إنجلترا إلى وسطها، ثم من الوسط إلى الشمال، وصلا في وقت متأخرٍ من الليل إلى محطة هوز التي تقع على حدودِ يوركشاير مع ويستمورلاند، فوجَدا حولهما من كل اتجاهٍ مرتفعاتٍ كبيرةً تتطاول في الظلام، وتميِّز هذا الامتدادَ الموحش من الأرض. في هذه الساعة من الليل التي عمَّ فيها سكونٌ غريب لم يَقْطعه إلا هديرُ شلالٍ قريب كان المشهد مهيبًا وموحيًا؛ شعر سبارجو كما لو أنهما ابتعدا عن لندن بملايين الأميال، وأنَّ صخبَ حياة البشر والتدافُعَ الذي يَسِمُها إنما هما في كوكب آخَر. كانت عيناه تقع بين الفينة والأخرى على أضواء قليلة متباعِدة بين الوديان، بعضها كان يرتعش ثم ينطفئ وهو يُراقِبها. كان من الواضح أنه هو وبريتون سرعان ما سيكونان وحدهما لا ثالثَ لهما إلا سواد الليل البهيم.
بينما كانا يخرجان من المحطة سأل سبارجو: «كم نبعد عن وِجهتنا؟»
فأجاب بريتون: «يُفضَّل أن نناقِش الوضع. المكان في وادٍ ضيِّق يُسمى فوسديل، يبعد عن هنا نحو ستة أو سبعة أميال عبر هذه المرتفعات، والطريق إلى هناك وعرٌ ومُوحش لا يجد مُحبٌّ للمغامَرة أفضلَ منه. الساعة الآن التاسعة والنصف يا سبارجو، وأعتقد أن الطريق سيستغرق منا ساعتَين ونصفَ الساعة على الأقل. السؤال الآن هو: هل نتوجَّه إلى هناك مباشَرةً أم نبيت هنا الليلة؟ هناك فندق صغير في هذه المحطة، فندق مور كوك الذي يبعد عن هنا ميلًا تقريبًا على الطريق الذي ينبغي أن نسلكَه قبل أن ننعطف نحو المستنقَعات والمرتفعات. سيكون الظلامُ حالكًا الليلةَ … انظر إلى هذه السُّحُب الداكنة الآخِذةِ في التجمُّع هناك! وربما يسقط المطر، وليست معنا ملابسُ تَقِينا المطر. لكني سأدَعُ القرارَ لك … لن أُمانِع أيَّ شيءٍ تريد.»
سأل سبارجو: «هل تعرف الطريق؟»
رد بريتون: «لقد قطعتُه من قبل. لو كنا في النهار لَأمكنَني الذَّهاب مباشَرة. أتذكَّر كلَّ مَعالم الطريق. وحتى في الظلام أعتقد أنَّ بإمكاني الاهتداءَ إلى الطريق الصحيح. لكن المشي في هذا الطريق مُتعِب.»
قال سبارجو: «لنذهب إلى هناك مباشَرة. كل دقيقة لها قيمتها. لكن … هلا تناوَلْنا بعضَ الخبز والجبن وكوبًا من الجِعَة أولًا!»
قال بريتون: «فكرة جيدة! لنذهب إلى فندق مور كوك. ولنحثَّ الخُطى إليه.»
كان فندق مور كوك مهجورًا تقريبًا في تلك الساعة؛ فقد ندر شاغِلوه أو انعدموا عندما وصل المسافران إلى الرَّدْهة ذات الإضاءة الخافتة. ولما جاءهما صاحبُ الفندق بالمشروب المطلوب أنعم النظرَ في بريتون.
ابتسم الرجل فجأةً لما عرف بريتون وقال له: «جئتَ لزيارتنا مجدَّدًا سيدي؟»
رد بريتون: «تتذكَّرني إذن؟»
رد صاحب الفندق: «أتذكَّر مجيئك إلى هنا مع الرجلَين الكبيرَين العامَ الماضي. سمعتُ أنهما عادا إلى هنا … كان توم سامرز قادمًا من ذلك الطريق صباحَ اليوم وقال إنه رآهما في الكوخ الصغير. هل ستلحق بهما هناك يا سيدي؟»
ركل بريتون سبارجو من تحت الطاولة.
وقال: «نعم، سنُمضِي معهما يومًا أو يومَين. لنتنسَّم هواء الأراضي العشبية.»
قال الرجل: «أمامكما تمشية ليست بالهيِّنة الليلةَ أيها السيدان. ستهبُّ عاصفة. ومن الصعب قطْعُ ذلك الطريق في هذا الوقت الليلة.»
قال بريتون في عدم اكتراث: «سنتدبَّر أمورَنا. أعرف الطريق، ولا نخشى البلل.»
ضحك صاحبُ الفندق، ثم جلس على مقعدٍ عريض وثَنى ذِراعَيه وحكَّ كوعَيه.
وقال: «لقد جاء إلى هنا بعد ظُهر اليوم رجلٌ … يبدو من لكنته أنه من لندن … وسأل عن الطريق إلى فوسديل. لا بدَّ أنه الآن قد وصل إلى هناك منذ وقتٍ طويل، فقد اهتدى في مشيه بنور النهار. أيُصادِف أن يكون من جماعتكم؟ سأل عن مكانِ كوخ السيدَين العجوزَين.»
سرَت القُشَعريرةُ في جلد سبارجو مجددًا، لكنه لم يُبدِ تأثُّرًا. وأجاب بريتون: «قد يكون أحد أصدقائهما. كيف كان شكله؟»
فكَّر صاحب الفندق مليًّا. لم يكن بارعًا في الوصف، وكان يَعِي هذه الحقيقة.
ثم قال: «كان رجلًا مائلًا للسُّمرة تبدو على وجهه الجدية. إنه غريب عن هذه الأرجاء على كل حال. كان يرتدي بِذلةً رمادية تُشبه بذلةَ صديقك هذا. أخذ معه بعضَ الخبز والجُبن عندما علم بطول الطريق.»
قال بريتون: «تصرُّفٌ حكيم.» وأنهى خبزَه وجبنتَه وشرب ما تبقَّى معه من مشروب الجعة، ثم خاطَب سبارجو: «هيا، لنتحرَّكْ.»
ولما خرجا إلى الظلام الحالك، أمسك بريتون بذراع سبارجو. وقال: «مَن يكون ذلك الرجل؟ هل لديك فكرةٌ يا سبارجو؟»
أجاب سبارجو: «كلا. كنتُ أفكِّر في ذلك حينما كان ذلك الرجل يتحدَّث. لكنه شخصٌ سبقنا إلى وجهتنا. ليس راثبري على أي حال؛ إذ لا تبدو الجديةُ على وجه راثبري. يا إلهي! كيف سترى الطريقَ في هذا الظلام يا بريتون؟»
رد بريتون: «سترى بعد قليل. سنمشي مع الطريق بعضَ الوقت. ثم نصعد من جانب المرتفع هناك. وإذا بلَغنا قِمتَه وصَفَتْ سماءُ الليل قليلًا، فمن المفترَض أن نرى مرتفعَ جريت شانور ومرتفعَ لافلي سيت. يبلغ ارتفاعُ كلٍّ منهما أكثرَ من ألفَي قدمٍ ويظهران في الأفق بوضوح. عندئذٍ علينا أن نتَّجِه إلى نقطةٍ بينهما. لكن حذارِ يا سبارجو، فهذه الطريق وعرة!»
قال سبارجو: «امضِ قُدمًا. لم أُقدِم على شيء مثل هذا من قبل، لكننا سنمضي فيه ولو استغرق منَّا الليل كلَّه. لا يُمكِنني النومُ الآن وقد علمتُ أن شخصًا ما سبقَنا. تقدَّم أيها الشاب وأنا سأتبعك.»
انطلق بريتون في الطريق لا يلوي على شيء. كان الأمر سهلًا في البداية، غير أنه عندما انعطف وبدأ يَصعد المرتفعَ عبر مسار يبدو أنه للأغنام، بدأَت متاعبُ سبارجو. فقد بدا له أنه يمشي وسط كابوسٍ متجسد، كان كل ما يراه أكبرَ حجمًا وأثقلَ وطأةً؛ السماء الداكنة، والخطوط التي ترسمها قِممُ المرتفعات العالية، وأشجار التنوب والصنوبر التي بدَت كأشباحٍ هزيلة، وشبح بريتون وهو يمضي إلى الأمام في ثباتٍ وثقة. تارةً يَطأ أرضًا ليِّنة كالإسفنج، وتارةً يَطأ أرضًا حجرية وعرة؛ تعثَّر عدةَ مرات في نباتات الخلَنْج الممتدة كالأسلاك فسقط وأصاب ركبتَيْه. وفي النهاية اكتفى بتعليقِ عينَيه ببريتون الذي ارتسمت قامتُه على أديم السماء، وتبع خُطاه في إصرار.
وبعد صمتٍ طويل سأل سبارجو: «ألم يكن هناك طريقٌ غيرُ هذا؟ هل تريد أن تخبرني أن إيلفيك وكاردلستون سلَكا هذا الطريق؟»
رد بريتون: «هناك طريقٌ آخَر على طرف الوادي، عبر جسر ثوايت وهاردرو، لكنه يمتدُّ لأميال كثيرة. أمَّا هذا الطريق فهو طريق مستقيم يقطع البلدة، والمشي فيه ممتعٌ في النهار. أما في الليل فهذا شأن آخَر … يا إلهي … ها قد بدأ المطر يا سبارجو!»
هطل المطر فجأةً وبغزارةٍ شديدة وعنفٍ كالمعتاد في هذا الجزء من العالم. وتغيَّرَ لون الليل الرمادي، ولم يُفكِّر سبارجو إلا في وقفته وحيدًا في البراح الموحش تكاد غزارةُ المطر تُغرِقه. أمَّا بريتون فقد كان نظره أكثرَ حدةً، ووعيه بالموقف أكبر، فسحَبَ رفيقه لِيَأويا إلى مجموعة من الصخور. وضحك بخفةٍ وهما يتقاربان في مأواهما المؤقت.
وقال: «هذا يختلف عن إجراء أعمال التحقيقات في شارع فليت يا سبارجو. أظنك كنتَ تُفضِّل مواصَلةَ السير.»
أجاب سبارجو: «سأواصِل ولو اضطُرِرنا إلى اجتيازِ الشلالات والفيضانات. لولا أن علمنا بأمرِ ذلك الرجل الذي سبقنا لَمِلتُ إلى المبيت في فندق مور كوك. إذا كان يسعى للوصول إلى الرجلَين فلا بدَّ أنه يعرف شيئًا ما، ما لا أفهمه هو … مَن عساه يكون؟»
رد بريتون: «أنا أيضًا لا أعرف. ولا أتذكَّر أيَّ شخصٍ يعلم بأمر ذلك المكان المنعزل. لكن، هل خطر ببالك يا سبارجو احتمالُ أن يكون هناك شخصٌ غيرك يُحقِّق في الأمر؟»
رد سبارجو: «هذا محتمل. مَن يدري؟! ليتنا انطلقنا مبكرًا ببضع ساعات. فقد كنت أريد أن أكون أولَ مَن يتحدَّث مع ذَينِك الرجلَين.»
توقَّف المطر فجأةً كما بدأ هطوله فجأة. ولم تلبث السماء أن صَفَت. فتقدَّم الرجلان إلى قمة الامتداد الصخري الذي كانا يعبرانه قبل هطول المطر، ومدَّ بريتون ذراعَه يشير إلى شيءٍ يلمع في الأسفل على مَبْعَدة منهما.
وقال: «أترى ذلك؟ إنه مسطَّح مائي يفصل بيننا وبين كوترديل. نسير بحيث يكون على يميننا، ثم نصعد المرتفعَ الذي وراءه، وننزل منه إلى كوترديل، ثم نعبر سلسلتَين أخريَين من المرتفعات، ثم ننزل منها إلى فوسديل أسفل مرتفع لافلي سيت. لم تزل أمامَنا ساعتان ونصفُ الساعة من السير المرهِق يا سبارجو. أتعتقد أن بإمكانك المواصَلة؟»
صرَّ سبارجو أسنانه.
وقال: «هيا بنا!»
صعد سبارجو تلالًا، ونزل منها إلى وديان، وخاض في مستنقَعات حتى غمرت كاحلَيه، وجرح ساقَيه، وأصاب ركبتَيه، فتاق لأضواء لندن، وشوارعها الممهَّدة، وسيارات الأجرة المريحة، وحتى الحافلات العامة المتواضِعة، لكنه تبع دليلَه على أي حال. شعر أنهما سارا وقتًا طويلًا جدًّا، واجتازا جبالَ قارةٍ كاملة ووديانها، وأخيرًا توقَّف بريتون على قمة مرتفع صخري تهبُّ عليه رياحٌ شديدة، ووضع إحدى يديه على كتف رفيقه وأشار بالأخرى إلى الأسفل.
وقال: «هناك! هناك!»
مدَّ سبارجو نظره وسطَ ظلام الليل. فرأى على مسافةٍ بدَتْ له كبيرة بصيصًا خافتًا من الضوء.
قال بريتون: «ها هو الكوخ، إنهما مستيقظان بالرغم من تأخُّر الوقت. والمسافة المتبقية هي الأصعب في الرحلة كلها. سيستغرق البحثُ عن المسار الذي يقطع هذا المستنقعَ وقتًا طويلًا يا سبارجو، اتبعني بحذر، فهناك حفرٌ ووحل في هذه الأرجاء.»
مرَّت ساعة أخرى قبل أن يصل الاثنان إلى الكوخ. كان الضوء الذي يقصدانه يختفي في بعض الأحيان أو تحجبه المرتفعات، وكلما عاد إلى مرمى نظرهما علما أنهما اقتربا قليلًا. والآن بعدما اقتربا منه كثيرًا وجد سبارجو نفسَه في مكانٍ لم يكن يتخيَّل لانعزاله مثيلًا. رأى في الضوء الخافت مجرًى مائيًّا ضيِّقًا يهبط بين صخور مرتفع جريت شانور. كانت قبالتهم أرض على شكل حدوة الحصان تُتاخم المستنقع، خلفَها حلقةٌ من أشجار التنوب والصنوبر، وكان وراء هذه الأشجار مبنًى صغيرٌ من صخور رمادية بدا كما لو أن راعيًا بناه ليكونَ حظيرةً لغنم المستنقع. لم يتجاوز ارتفاعُ المبنى طابقًا واحدًا، غير أنه كان طويلًا وحجبت الشجيراتُ والأغصان جزءًا كبيرًا منه. ونفَذ من نافذة لا يُغطِّيها أيُّ ستار ضوءُ مصباحٍ فبدَّد بعضًا من الظلام.
توقَّف بريتون عند حافة مياه المجرى المترقرقة.
وقال: «علينا أن نَعْبر من هنا يا سبارجو. لقد بلغ البلَلُ ركبتَي كلٍّ منا بالفعل، فلن يضرَّنا أن نبتلَّ مجددًا. هل تعلم منذ متى نمشي؟»
رد سبارجو: «ساعات … أيام … سنوات!»
قال بريتون: «أعتقد أننا تجاوَزنا أربعَ ساعات. وهكذا يكون الوقت قد تخطَّى الساعةَ الثانية بكثير، وسيبزغ الفجر بعد ساعة تقريبًا. والآن، ماذا نفعل بعد عبور هذا المجرى؟»
رد سبارجو: «ماذا جئنا لنفعل؟ سنذهب إلى الكوخ بالتأكيد!»
قال بريتون: «انتظر قليلًا. لا داعيَ لإفزاعهما. لا بد أنهما مستيقظان؛ إذ لا يزال الضوء مشتعلًا. انظر!»
وبينما كان يتحدَّث، عبَرَ شخص أمام النافذة وحجب الضوءَ أثناء مروره.
فقال سبارجو: «هذا ليس إيلفيك، ولا كاردلستون. فهما متوسِّطا القامة، لكن هذا الرجل طويلٌ إلى حدٍّ ما.»
قال بريتون: «إذن فهو الرجل الذي أخبرنا عنه صاحبُ فندق مور كوك. اسمع، أنا أعرف كلَّ شبرٍ في هذا المكان. عندما نعبر دَعْني أمضِ نحو الكوخ وأنظر من تلك النافذة لأعرف مَن في الداخل. هيا بنا.»
قاد بريتون سبارجو وعبَرا مجرى الماء على سلسلةٍ من الصخور تُكوِّن جسرًا طبيعيًّا، ثم طلب منه التزامَ الهدوء وتوجَّهَ إلى الكوخ. راقَبه سبارجو وهو يَعْبر الشجيرات والأعشابَ حتى وصل إلى شجيرةٍ كبيرة تفصل بين النافذة المضيئة والشرفة البارزة خارج الكوخ. لم يمكث بريتون عند تلك الشجيرة إلا لحظة، ثم عاد إلى رفيقه بسرعةٍ وهدوء. ووضع يدَه على ذراع سبارجو في إثارةٍ وتوتُّر.
وهمس: «سبارجو! مَن تتخيَّل أن يكون ذلك الرجل الآخَر؟»