اليد العليا
لم يُطق سبارجو صبرًا على بلوغ غايته من رحلته الطويلة، فنفَض عن كتفه يدَ بريتون وزمجر ممتعضًا.
وقال منفعلًا: «كيف تتصوَّر أن أكون مستعدًّا لإهدار الوقت في التخمين؟ مَن يكون؟»
ضحك بريتون بصوتٍ هادئ.
وقال: «اهدأ يا سبارجو، اهدأ! إنه مايرست … مسئول شركة صناديق الإيداع الآمنة، مايرست!»
جفَلَ سبارجو كما لو أن شيئًا لدغه.
وقال فيما يُشبه الصياح: «مايرست! مايرست! يا إلهي! كيف لم يخطر ببالي؟ مايرست، إذن …»
قال بريتون: «وكيف يُمكِن أن يخطر ببالك؟ ومع ذلك ها هو هنا.»
خطا سبارجو خطوةً نحو الكوخ، فأمسك به بريتون يستوقفه.
وقال: «انتظر! علينا أن نُناقِش الأمر. الأفضلُ أن أخبرك بما يفعلون.»
سأل سبارجو في نفاد صبر: «ماذا يفعلون إذن؟»
أجاب بريتون: «إنهم يُراجِعون عددًا من الوثائق، يبدو العجوزان مُتعبَين جدًّا وهيئتهما مُزْرية. ويبدو أن مايرست يشرح لهما القانونَ بطريقة أو بأخرى. لقد تكوَّنتْ لديَّ فكرةٌ يا سبارجو.»
سأل سبارجو: «أي فكرة؟»
قال بريتون: «يعلم مايرست سرَّهما أيًّا كان، وقد تبعهما إلى هنا لابتزازهما. هذا ما أتصوَّره.»
فكَّر سبارجو قليلًا، وأخذ يتحرك جَيئةً وذَهابًا على ضفة النهر.
ثم قال: «أظنك مُحقًّا. والآن ما العمل؟»
فكَّر بريتون.
وأخيرًا قال: «ليتنا نستطيع الدخولَ والاستماع لما يحدث. لكن هذا مستحيل، فأنا أعرف الكوخ. الشيء الوحيد الذي يُمكِننا فعله هو الإيقاع بمايرست. لم يأتِ إلى هنا لخير. انظر!»
مدَّ بريتون يدَه نحو جيب بنطاله وسحب مسدسًا من نوع براوننج، وهزَّه في يده مبتسمًا.
وقال: «وهنا تأتي فائدةُ حملِ هذا. لقد أخذتُه ووضعتُه في جيبي منذ عدة أيام لا أعلم لماذا. وها قد ظهرتْ له فائدة. فقد يكون مايرست مسلَّحًا.»
قال سبارجو: «وماذا بعد؟»
رد بريتون: «اقترِبْ من الكوخ. وإذا تبيَّن أن الأمر كما أتوقَّع، فسيخرج مايرست بعد أن يأخذ ما يريد. وستذهب أنت إلى خلف هذه الشجيرة حيث كنتُ أنا منذ لحظات، وسأقف أنا عند المدخل. يُمكِنك أن تُومِئ إليَّ عندما يخرج مايرست وسأستوقفه أنا تحت تهديد السلاح. هيا يا سبارجو، فقد بدأ الفجر يبزغ.»
تقدَّم بريتون سبارجو وسارا مع ضفة النهر مختبئَين وراء الصفصاف وأشجار الألدر. وقطعا معًا المسافة إلى مقدمة الكوخ. ولما وصل بريتون إلى الباب توقَّف على الشرفة، وأشار إلى سبارجو أن يختبئ خلف الشجيرات وينظر من النافذة. نفَّذ سبارجو التعليمات في سكونٍ وأزاح الأغصانَ التي اختبأ وراءَها لينظر من زجاج النافذة التي لم يكُن عليها ستار.
لما نظر سبارجو إلى داخل الكوخ وجده خشنًا وغيرَ مريح على الإطلاق. لم يكُن فيه إلا أقل القليل من احتياجاتِ كوخٍ يقع بين المستنقعات؛ إذ رأى كراسي وطاولات صلبة، وجدرانًا مكسوَّة بالجص، وصنارة أو اثنتَين في أحد الأركان، وبقايا طعام على طاولة جانبية. جلس الرجال الثلاثة عند طاولة توسَّطت الغرفة. أخفى الظلامُ وجْهَ كاردلستون، وكان ظَهرُ مايرست موجَّهًا نحو النافذة، في حين كان العجوز إيلفيك يميل على الطاولة ويكتب مُتعَبًا بأصابعَ مرتعشة. التفت سبارجو إلى رفيقه.
وقال: «إيلفيك يُحرِّر شيكًا. ومايرست يُمسِك بشيك آخَر. استعِد! … أعتقد أنه سيخرج بعد أن يأخذ هذا الشيكَ الآخَر.»
ابتسم بريتون بوجهٍ تعلوه الصرامة وأومأ برأسه. وبعد لحظةٍ همس سبارجو مجددًا.
«انتبه يا بريتون! ها هو يخرج!»
تراجَعَ بريتون إلى زاوية الشرفة، وترك سبارجو الشجيرةَ التي كان يحتمي بها ووقف عند الزاوية الأخرى. فُتِح الباب. وسمعا صوتَ مايرست يقول بنبرةٍ آمِرة مهدِّدة.
«تذكَّرا كلَّ ما قلتُ! ولا تنسيا … لي اليدُ العليا عليكما … اليد العليا!»
بعد ذلك التفت مايرست وخرج إلى غُبْشة الفجر، فوجد أمامَه شابًّا قويَّ البِنية يُصوِّب فوهةَ مسدسٍ مخيف إلى أرنبةِ أنفه من مسافةٍ لا تتجاوز بوصتَين في حزمٍ وثباتٍ شديدَين. وبنظرةٍ أخرى لمح شابًّا آخَر تبدو عليه الجديةُ والتحفز للانقضاض عليه.
قال بريتون بنبرة باردة وتهذيب مصطنع: «طاب صباحُك يا سيد مايرست. تُسعِدنا مقابَلتُك غيرُ المتوقَّعة هذه. أنا مضطرٌّ إلى أن أطلب منك رفْعَ يدَيك إلى الأعلى. أسرِع!»
حرَّك مايرست يدَه اليمنى بسرعةٍ نحو جانبه، لكن بريتون زمجر فجأةً فجعله يرفعها فوق رأسه بالسرعة نفسِها، ثم رفع يدَه اليسرى. وضحك بريتون بنعومة.
وقال ومسدسه لم يزل مصوَّبًا إلى أنف مايرست: «تصرُّفٌ حكيم يا سيد مايرست. سيكون الحذَر أفضلَ من الشجاعة بالنسبة إليك في هذا الموقف.» وخاطَب سبارجو: «سبارجو! هلَّا تفقَّدتَ ما يحمل السيد مايرست في جيوبه؟ فتِّشْها جيدًا. لا تبحث عن الأوراق والوثائق الآن، يُمكِننا تأجيل ذلك، فلدينا مُتَّسَع من الوقت. ابحثْ عن أي سلاحٍ من أي نوعٍ يا سبارجو، هذا هو الأهمُّ الآن.»
تفقَّدَ سبارجو ما يحمل الرجل بعناية وإتقان قلَّما يتأتيان لرجلٍ لم يسبق له تفتيشُ رجلٍ آخَر من قبل. وعلى الفور سحب منه مسدسًا، في حين صبَّ مايرست لَعناتِه بمرارةٍ وغزارة عليهما عندما تمكَّنَ من النطق.
ضحك بريتون مجددًا وقال: «رائع! هل أنت متأكِّد أنه لا يحمل أيَّ شيءٍ خطير آخَر يا سبارجو؟ حسنًا. والآن يا سيد مايرست، للخلف دُر! وسِر إلى داخل الكوخ رافِعًا يدَيك إلى الأعلى، تذكَّرْ أن هناك مسدسَين مصوَّبَين إلى ظهرك. هيا!»
أطاع مايرست هذا الأمر الحازم ولسانه لا يكفُّ عن السِّباب. ومضى الثلاثة إلى داخل الكوخ. في حين علق بريتون عينَيْه على أسيره، ألقى سبارجو نظرةً على العجوزَين. فوجد كاردلستون يستلقي في كرسيه شاحبًا ومرتعشًا؛ أمَّا إيلفيك الذي لم يقِلَّ عن صاحبه توترًا فقد نهض وتقدَّم بفرائصَ مرتعدة.
قال بريتون في هدوء: «انتظر لحظة. ولا تقلق. سنتعامل مع السيد مايرست هنا أولًا. والآن يا عزيزي مايرست، اجلس في هذا الكرسي، فهو الأثقل في هذا المكان. هيا، الآن! سبارجو! أترى هذه اللفةَ من الحبال؟ قيِّدْ مايرست بها … اربطْ يدَيه وقدمَيه بهذا الكرسي بإحكام. واربطه جيدًا. اجعل العُقَد مزدوجةً يا سبارجو، وفي الخلف أيضًا.»
ضحك مايرست فجأة. وقال: «أيها الشابُّ المزعِج اللعين! إذا ربطتَني بالحبال فستلتفُّ حبالٌ أخرى حول رقبتَي هذَين العجوزَين المجرمَين. تذكَّروا ما أقول أيها الرفاق!»
رد بريتون ومسدَّسه لم يزل مصوَّبًا على مايرست في حين كان سبارجو يُمسِك الحبال: «سنُناقِش ذلك فيما بعد. لا تخشَ إيذاءَه يا سبارجو. اربطه جيدًا وبإحكام. لن يُحرك هذا الكرسي قبل مرور بعض الوقت.»
ربط سبارجو الرجلَ في الكرسي ربطةَ بحَّار. فترك مايرست عاجزًا عن تحريك يدَيه أو قدمَيه، ورد مايرست بإفراغِ قاموسِ مَسبَّاته كله عليه لما فعل به. وأخيرًا قال بريتون: «هذا يكفي.» ووضع مسدسَه في جيبه والتفت إلى العجوزَين. أشاح إيلفيك بنظره وجلس في كرسيٍّ في أكثر أركانِ الغرفة ظلامًا، أمَّا كاردلستون فقد ارتعش كالممسوس ولفظ بكلماتٍ لم يتبيَّنها الشابَّان. قال بريتون: «لا تخَفْ يا وَصِيِّي! ولا تقلقْ أنت أيضًا يا سيد كاردلستون. لا داعِيَ للخوف حتى الآن، أمَّا فيما بعدُ فلا عِلمَ لي بذلك. يبدو لي أني أنا والسيد سبارجو جئنا في الوقت المناسب. والآن يا وَصِيي، أخبِرنا بما جاء هذا الرجلُ في طلبه.»
رفع العجوز إيلفيك رأسَه وهزها، وبدا مُوشِكًا على البكاء، أمَّا كاردلستون، فقد كان واضحًا أن أعصابه قد انهارت. أشار بريتون إلى خِزانةٍ قديمة في زاوية الغرفة.
وقال: «سبارجو، أنا متأكِّد من أنك ستجد شرابَ الويسكي هناك. صبَّ لكلٍّ منهما كأسًا، فكلاهما منهار.» وعندما نفَّذ سبارجو ذلك التفت إلى إيلفيك قائلًا: «والآن يا وَصِيِّي، ما الذي جاء هذا الرجلُ في طلبه؟ هل اقترح شيئًا؟ أكان الأمر ابتزازًا؟»
أخذ كاردلستون يُتمتم، وأومأ إلفيك بالموافَقة. وقال: «نعم، نعم! ابتزاز! هذا ما حدث … ابتزاز. لقد أخذ منا وثائقَ مالية، إنها معه الآن.»
نظر بريتون إلى أسيره شَزرًا.
وقال: «هذا ما توقَّعت يا سيد مايرست.» وخاطَب سبارجو: «سبارجو، لنرَ ما معه من أوراق.»
بدأ سبارجو يفتِّش جيوبَ الأسير. ووضع على الطاولة كلَّ ما وجده معه كما وجده. كان واضحًا أن مايرست كان قد دبَّرَ للهروب أو لرحلة طويلة جدًّا. فقد كان معه عددٌ من القِطَع الذهبية، والأوراق النقدية من فئات صغيرة، وأوراق مالية أجنبية متنوِّعة قابلة للصرف في باريس. وكان معه أيضًا شيك مفتوح بقيمةِ عشرة آلاف جنيه ممهور بتوقيع كاردلستون، وآخَر مفتوح أيضًا وممهور بتوقيع إيلفيك بنصف قيمة الأول. تفقَّدَ بريتون كلَّ هذه الأشياء في حين كان سبارجو يُسلِّمها إياه. ثم التفت إلى العجوز إيلفيك.
وقال له: «لماذا أعطيتَ أنت أو السيد كاردلستون لهذا الرجل هذَين الشيكَين والأوراقَ المالية؟ ما سرُّ سطوته عليكما؟»
أخذ السيد كاردلستون يُتمتم مجددًا، ونظر إيلفيك بوجهٍ مكفهرٍّ إلى ربيبه.
وقال متلعثمًا: «لقد هدَّدَنا بأن يتهمنا بقتل ماربري! ولم نجد ما يدفع عنا التهمةَ إذا فعل.»
قال بريتون حازمًا: «ماذا يعلم عن مقتل ماربري وصِلتُكما به؟ أخبِرني بالحقيقة الآن.»
أجاب إيلفيك: «يقول إنه كان يُحقِّق في الأمر. إنه يسكن في ذلك المبنى في زقاق ميدل تمبل، في الطابق الأعلى، فوق سكن كاردلستون. ويقول إن لديه أدلةً دامغة تُدين كاردلستون … وتُظهِرني شريكًا في الجريمة.»
سأل بريتون: «وهل هذه كذبة؟»
رد إيلفيك: «كذبة! نعم، إنها كذبة بالطبع. لكنه كان بارعًا لدرجةِ أننا … أننا …»
قال بريتون: «لدرجةِ أنكما لم تجدا وسيلةً لإثبات كذبه. هذا الرجل يسكن فوق كاردلستون إذن، صحيح؟ هذا قد يُفسِّر الكثير. والآن لا بدَّ أن نستدعيَ الشرطة.» جلس بريتون إلى الطاولة وقرَّب موادَّ الكتابة وقال: «اسمع يا سبارجو. سأكتب إخطارًا لرئيس شرطة هوز … هناك مزرعة تبعد عن هنا نصفَ ميل يُمكِنني فيها تكليفُ رجلٍ بحَمْل الإخطار إليه. إذا أردتَ أن تكتب خطابًا لصحيفة «ووتشمان» فصُغْه الآن وسيحمله الرجلُ معه.»
بدأ إيلفيك يتحرَّك في ركنه.
وقال: «هل لا بد من حضور الشرطة؟ هل …؟»
رد بريتون بصرامة: «يجب أن تأتيَ الشرطة. اكتبْ خطابَك يا سبارجو، ريثما أكتب أنا الإخطار.»
وعندما عاد بريتون من المزرعة بعد ساعةٍ إلا الربع، جلس بجانب إيلفيك ووضع يدَه على يدِه.
وقال في هدوء: «والآن يا وَصِيي، لا بدَّ أن تُخبرنا بالحقيقة.»