مايرست يشرح
لاحَظَ سبارجو بجِلاءٍ صدمةَ العجوزَين ورعبَهما منذ دخوله الكوخ؛ فقد جلس كاردلستون في ركنه يرتعش وترتعد فرائصه، وبدا عاجزًا عن شرحِ أيِّ شيء، ولم يكن إيلفيك أكثرَ من صاحبه قدرةً على الكلام. وعندما حثَّ بريتون وَصِيَّه بحزمٍ على الإفصاح عن الحقيقة، تدخَّل سبارجو.
وقال بصوت خفيض: «الأفضلُ أن نتركه وشأنه يا بريتون. أَلَا ترى توتُّر العجوز؟ وصاحبه أيضًا. لا نعلم ما فعله بهما هذا الرجل قبل أن نأتي، ولا شكَّ أنهما لم ينالا أيَّ قسطٍ من النوم. لنؤجِّل الأمرَ كله إلى وقتٍ لاحق، فالمهم أننا وجدناهما ووجدناه.» وأشار بإبهامه في اتجاه مايرست، فتبع بريتون إشارتَه عفويًّا. والتقت عيناه بعينَي مايرست الذي ضحك.
وقال بازدراء: «أظنكما تحسبان نفسَيكما شديدَي الذكاء. أليس كذلك؟»
رد بريتون: «كان ذكاؤنا كافيًا للإيقاع بك. والآن بعد أن أصبحتَ بين أيدينا سنُبقي عليك حتى تأتيَ الشرطة وتتسلَّمك منا.»
قال مايرست وهو يضحك في ازدراء مجددًا: «حقًّا. وبأي تهمةٍ تقترح تسليمي للشرطة؟ يبدو لي أنك ستجد صعوبةً في العثور لي على أيِّ تهمةٍ يا سيد بريتون.»
قال بريتون: «سنتدبَّر ذلك لاحقًا. وقد أخذتَ من هذَين الرجلَين مالًا بالإجبار والتهديد على أي حال.»
قال مايرست منفعلًا: «أهذا ما حدث حقًّا؟ كيف لك أن تعلم إن كانا قد ائتمناني على هذه الأموال واتخذاني وكيلًا لهما عليها؟ أجِبْني! أو دَعْهما يُجيبا إن كانا يجرُؤان. كاردلستون، إيلفيك … ألم تعهدا إليَّ بهذه الأموال وتتَّخذاني وكيلًا لكما عليها؟ تحدَّثا الآن وبسرعة!»
راقَبَ سبارجو العجوزَين فوجدهما يرتعشان بفعل صوت مايرست، بل أخذ كاردلستون يَئِن.
قال سبارجو: «اسمع يا بريتون، هذا المجرم لديه ما يُهدِّد به هذين العجوزَين، إنهما يخشَيانه بشدة. اتركهما وشأنَهما. الأفضل أن يحظيَا ببعض الراحة.» والتفت إلى مايرست وقال: «أغلِق فمَك. سنُخبِرك عندما نريدك أن تتكلَّم.»
ضحك مايرست مجددًا.
وقال بنبرة الازدراء نفسِها: «السيد سبارجو الصحفي النابه الهُمام في صحيفة «ووتشمان»، ما أنت إلا شخصٌ آخَرُ من المُعتَدِّين برأيهم. وأنت ذكي جدًّا، لكن ليس بما يكفي. اسمع! بافتراض أن …»
أولاه سبارجو ظهرَه. ثم توجَّه إلى العجوز كاردلستون وتحسَّسَ يدَيه. ثم نظر إلى بريتون في قلق.
وقال في انفعال: «اسمع. ليس خائفًا فحسب، بل مريضٌ أيضًا! ماذا نفعل؟»
رد بريتون: «لقد طلبتُ من الشرطة أن يُحضِروا معهم طبيبًا. وإلى أن يأتوا، فَلْنضعه في سريره … هناك أَسِرَّة في الغرفة الداخلية. لنضعه في السرير ونعطِه مشروبًا ساخنًا يتناوله … هذا كل ما أظننا نستطيع فعله الآن.»
تمكَّنَّا من أخذ كاردلستون إلى سريره، وغلى سبارجو بعضَ الماء على مَوقدٍ صَدِئ، ووضع على قدمَيه كمادات الماء الساخن متفائلًا. ولما فرغا من أمر كاردلستون أقنعا إيلفيك أن يستلقيَ في الغرفة الداخلية. غطَّ الرجلان في النوم على الفور، ثم أحسَّ بريتون وسبارجو فجأةً بجوعهما وبلَلِهما وتعبهما.
قال بريتون وهو يُفتِّش عن الطعام: «من المفترَض أن يكون في الخِزانة طعام. كان مِن عادتهما الاحتفاظُ بمخزونٍ من الأطعمة المعلَّبة. ها هي يا سبارجو … هذه عُلَب من لحم اللسان والسردين. حضِّرْ بعضَ القهوة الساخنة ريثما أفتح أنا عُلبةً من هذه العُلَب.»
راقَب الأسير تحضيرات الإفطار البسيط بعينَين توَّاقتَين.
وقال بينما كان سبارجو يضع القهوةَ على الطاولة: «هل لي أن أُذكِّركما بأني جائع. وليس من حقكما تجويعي، يكفي أنكما تمكَّنتما من تقييدي. أعطياني شيئًا لآكله رجاءً.»
قال بريتون بلا اكتراث: «لن تموت جوعًا.» وقطع قطعتَين كبيرتَين من الخبز واللحم ووضعهما في طبق، وصبَّ فنجانًا من القهوة، ثم قرَّبَ الطبق والفنجان من مايرست. وقال لسبارجو: «فُكَّ ذراعَه اليمنى يا سبارجو. أعتقد أن بإمكاننا السماحَ له بذلك. معنا مسدسه على أي حال.»
جلس الرجال الثلاثة بعضَ الوقت يأكلون ويشربون في صمت. وأخيرًا أبعَدَ مايرست طبقه. ونظر إلى سبارجو وبريتون متفحِّصًا. وقال: «اسمع! أنت تظن أنك تعرف الكثيرَ عن هذه القضية يا سبارجو، لكنَّ هناك شخصًا واحدًا يعرف كلَّ شيء عنها. وهذا الشخص هو أنا!»
قال سبارجو: «نُقِرُّ لك بذلك. فقد أدركنا ذلك عندما وجَدناك هنا. ستحظى بفرصةٍ كافية للشرح لاحقًا.»
قال مايرست وهو يضحك بسخرية مجددًا: «سأشرح الآن إذا أردتما الإنصات. وسأخبركما الحقيقة. أعرف أن في ذهنكما فكرةً سيئةً عني، لكنكما مخطئان تمامًا، مهما كان ما تظنان. اسمعا … سأعرض عليكما عرضًا عادلًا. هناك بعضُ أعواد السيجار في علبتي هذه، أعطياني واحدًا منها، وصبَّا لي كأسًا كبيرةً من هذا الويسكي، وسأُخبركما بما أعرف عن هذه القضية. هيا! أُفضِّل أيَّ شيء على الجلوس هنا لا أفعل شيئًا.»
تبادَل الشابَّان النظرات. ثم أومأ بريتون بالموافَقة. وقال: «لِندَعْه يتحدَّث إن أراد. ليس بالضرورة أن نُصدِّقه. ربما نسمع شيئًا حقيقيًّا. أَعْطِه السيجار والمشروب.»
أخذ مايرست رشفةً من الكأس التي وضعها سبارجو أمامه. وضحك وهو يسحب الأنفاسَ الأولى من سيجاره.
وقال: «لن أقول لكما سوى الحقيقة. بعد أن وصلَتِ الأمور إلى هذا الحال، ليس لديَّ سببٌ لإخفاء الحقيقة. وليس لديَّ شيءٌ أخشاه. لا يُمكِنكما اتهامي بشيء، فالأمر أن لديَّ توكيلًا من ذَيْنِكما العجوزَين النائمَين في الداخل لأتصرَّف بالنيابة عنهما في الأموال التي عهِدا إليَّ بها. التوكيلُ في الجيب الداخلي لعُلْبة الخطابات هذه. إذا اطَّلعتَ عليه يا بريتون فستعلم أنه سارٍ. لا أخشى حتى أن تُمزِّقه أو تعبث به، فأنت محامٍ، وستحترم القانون. وإذا كان لدى أيِّ شخصٍ أساسٌ للادِّعاء على الآخر، فأنا مَن يُمكِنني الادِّعاء عليكما بتهمتَي الاعتداء والاحتجاز غير القانوني. لكني لستُ انتقاميًّا، و…»
نظر بريتون إلى عُلبة خطابات مايرست وفحص محتوياتها. ثم التفت إلى سبارجو سريعًا.
وهمس: «إنه محق! هذا التوكيلُ سارٍ.» والتفت إلى مايرست وقال: «على أي حال، لن نُطلِق سراحَك؛ لأننا نعتقد أنك ضالعٌ في قتل جون ماربري. لذا فإن لنا عُذرَنا في احتجازك لهذا السبب.»
قال مايرست: «حسنًا يا صديقي الشاب. فَلْتَمضِ في غبائك. لكني قلت إني سأخبرك الحقيقةَ العارية. والحقيقةُ العارية هي أني لا أعرف عن قتل أبيك أكثرَ مما أعرف عما يجري الآن في تمبوكتو! لا أعرف مَن قتل جون ميتلاند. هذه حقيقة! ربما كان قاتِلُه هو العجوزَ النائم في الداخل الذي هو أيضًا في الرمَق الأخير الآن، وربما ليس هو. أقول لكما إني لا أعرف، بالرغم من أني، شأني شأنك يا سبارجو، حاوَلتُ اكتشافَ القاتل قدرَ ما استطعت. هذه هي الحقيقة، أنا لا أعرف.»
قال بريتون في انفعال وعدم تصديق: «أتتوقَّع منا تصديقَ ذلك؟»
رد مايرست: «إنها الحقيقةُ سواءٌ أصدَّقتماها أم لا. اسمع، لقد ذكرتُ أنْ ليس ثَمةَ أحدٌ يعرف أكثر مني عن هذه القضية، وهذه أيضًا حقيقة. إليكما ما أعرف. العجوز الذي في هذه الغرفة وتعرفانه باسم نيكولاس كاردلستون هو في الحقيقة تشامبرلين سمسار الأسهم ابن ماركت ميلكاستر، الذي ذُكِر اسمه عندما حُوكِمَ أبوك هناك. وهذه حقيقة أخرى!»
سأل بريتون في صرامة: «كيف ذلك؟ هل يُمكِنك أن تُثبِت ذلك؟ ما أدراك بذلك؟»
ردَّ مايرست وهو يرسم ابتسامة ماكرة: «لأني ساعَدتُ في إخراجِ تمثيليةِ وفاته ودفنه … كنتُ محاميًا تلك الأيامَ، وكان اسمي … اسمًا آخَر. كنا ثلاثةً نفَّذنا الأمرَ معًا: ابنَ أخي تشامبرلين، وطبيبًا مغمورًا، وأنا. نفَّذنا الأمرَ ببراعة شديدة، ودفع تشامبرلين خمسةَ آلاف جنيه لكلٍّ منا مقابل ذلك. لم تكن المرةَ الأولى التي أساعِده فيها ويدفع لي ثمنًا جيدًا نظيرَ مساعَدتي. كانت المرةُ الأولى في قضيةِ جمعية هيرث آند هوم للمساعَدة في حالات العجز والمرض بكلاودهامبتون، كان إيلمور — أو إينزوورث — بريئًا من أي جُرْم في هذا الشأن كبراءة الأطفال. غير أن حظَّ تشامبرلين العاثر منعه من تحقيقِ أي أرباح، بل خسر كلَّ ما جناه من الجمعية، وبسرعةٍ كبيرة؛ لذا نقل كلَّ ممتلكاته إلى ماركت ميلكاستر.»
قال سبارجو: «أظنك تستطيع إثباتَ كل هذا، صحيح؟»
قال مايرست: «كل كلمة وكل حرف! أمَّا في شأن ماركت ميلكاستر، فقد كان أبوك يا بريتون محقًّا فيما قاله عن سيطرة تشامبرلين على كل الأموال التي جناها — أعني أباك — من المصرف. لقد رتَّبَ لتمثيلية الوفاة والجنازة ليتمكَّن من الاختفاء، ودفَع لنا بسخاءٍ على مساعَدتنا له في ذلك كما قلتُ لك، وتم الأمر على أكمل وجه. وعندما انتهى الأمر، اختفى ابنُ أخيه، واختفى الطبيب، واختفى تشامبرلين. أمَّا أنا فقد كان حظِّي عاثرًا، وشُطِبتُ من نقابة المحامين نظرًا إلى خطأ مِهْني. فغيَّرتُ اسمي وأصبحتُ السيد مايرست، وأخيرًا أصبحت ما أصبحت عليه الآن، ولم أعثر على تشامبرلين إلا منذ ثلاثةِ أعوام. وإليك قصةَ عثوري عليه: بعد أن أصبحتُ سكرتيرًا لشركة صناديق الإيداع الآمِنة، سكَنتُ في تمبل فوق سكن كاردلستون. وسرعان ما اكتشفتُ هُوِيتَه الحقيقية. فبدلًا من أن يهرب ذلك الثعلب العجوز — بالرغم من أنه كان شابًّا حينذاك — إلى خارج البلاد، أزال لحيتَه واستقرَّ في تمبل وانغمس في هوايتَين له: جمع الأغراض النادرة وجمع الطوابع. عاش هناك في هدوءٍ كلَّ هذه السنوات، ولم يعرفه أحدٌ أو يشتبه فيه. وبالفعل لم أجد سببًا يدفعهم لذلك، فقد عاش حياةً هادئة منعزلة مع مجموعةِ مقتنياته، وفي مدينته الصغيرة، وانشغل بهواياته ونزواته الصغيرة. لكني عرَفتُه!»
قال بريتون: «ولا شكَّ أنك تربَّحتَ من تعرُّفك على هُوِيته.»
رد مايرست: «بالتأكيد. لم يُزعِجه أن يدفع لي مبلغًا مناسبًا كلَّ ثلاثة أشهر لأُمسِك لساني، وأخذتُ منه هذه المبالغ بكل سرور، وبالطبع جمعتُ عنه الكثيرَ من المعلومات. لم يكن له إلا صديقٌ واحد … السيد إيلفيك النائم في الداخل. وسأخبركم بشأنه الآن.»
قال بريتون في حزم: «يُمكِنك ذلك إذا كنتَ ستتحدَّث عنه باحترام.»
قال مايرست: «ليس لديَّ سببٌ لعدم احترامه. إيلفيك هو الرجل الذي كان من المفترَض أن يتزوَّج أمَّك. ولكن عندما جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، أخذك إيلفيك وربَّاك هنا حتى لا تعرف أبدًا بعار أبيك. لم يعرف إيلفيك إلا ليلةَ أمسِ أن كاردلستون هو تشامبرلين. فحتى عُتاةُ الإجرام لهم أصدقاء، وإيلفيك يُحِب تشامبرلين ويَهشُّ له. إنه …»
التفت سبارجو فجأةً إلى مايرست.
وقال منفعلًا: «أتقول إن إيلفيك لم يَعلم حتى ليلة أمس؟! لماذا هرب إذن؟ مِمَّ كانا يهربان؟»
رد مايرست: «لا يزيد علمي بذلك عن علمك يا سبارجو. أقول لك إنَّ واحدًا منهما يعلم شيئًا لا أعلمه أنا. ظني أن إيلفيك أصابه الذعر منك، وذهب إلى كاردلستون، ثم اختفى الاثنان. وربما قتل كاردلستون ميتلاند حقًّا، لا أعلم. لكني سأخبرك بما أعرفه عن الجريمة نفسِها؛ لأني أعلم الكثيرَ عنها، مع أني لا أعرف قاتلَ ميتلاند كما قلتُ لك. أولًا: ألستَ تعلم أن ميتلاند كان يحمل معه أوراقًا ومقتنياتٍ ثمينة؟ كل هذه الأشياء في حوزتي. كل هذه المقتنيات محفوظة في مكان مغلق، ويُمكِنني تسليمك إياها يا بريتون عندما نعود إلى البلدة ويُقدَّم الدليلُ الضروري على أنك ابنُ ميتلاند.»
توقَّف مايرست ليُلاحِظ تأثيرَ كلامه، وضحك عندما رأى الذهولَ على وجهَي الشابَّين.
ثم واصَل: «وإليك المزيد، لديَّ كلُّ محتويات العُلْبة الجلدية التي أودَعَها ميتلاند لدينا، هذه المحتويات محفوظة أيضًا، ويُمكِنك الحصول عليها. تحفَّظتُ عليها بعد وقوع الجريمة بيوم. ولأسباب خاصة بي توجَّهتُ إلى مقر الشرطة في سكوتلاند يارد، كما يعلم سبارجو. فقد كنتُ ألعب لُعْبةً تتطلَّب بعضَ الإبداع.»
قال بريتون منفعلًا: «لُعْبة؟! يا إلهي! أي لعبة؟»
ردَّ مايرست: «لم أعلم أن ماربري هو ميتلاند ابن بلدة ماركت ميلكاستر إلا بعد أصبحَتْ كلُّ تلك الأشياء في حوزتي. وعندما علمتُ بذلك بدأتُ في ربط الأمور بعضها ببعض، والمُضيِّ في مَسْعاي الخاص مستقلًّا عن الجميع. قلتُ لك إن أوراق ومقتنيات ميتلاند كانت في حوزتي، غير أن شيئًا واحدًا كان مفقودًا؛ حُزمة الطوابع الأسترالية. وتبيَّنَ لي أنها بحوزة كاردلستون!»