البرقية الأخيرة
توقَّف مايرست ليأخذ رشفةً من كأسه، ولينظر إلى مُستمِعَيه المندهشَين وقد ارتسمت على وجهه ابتسامةُ النصر.
ثم كرر: «تبيَّن لي أنها بحوزة كاردلستون. وماذا عساي أستنتج من ذلك؟ بالطبع استنتجتُ أن ميتلاند كان في مسكن كاردلستون تلك الليلة. أوَلم يُعثَر عليه ميتًا أسفلَ دَرَج كاردلستون؟ ولكن مَن الذي عثر عليه؟ ليس الحارس، ولا الشرطة، ولا أنت يا سيد سبارجو بكل ألمعيتك هذه. الرجل الذي عثَر على ميتلاند ميتًا تلك الليلة هو أنا!»
بعدئذٍ ساد الصمت، وأسقَطَ سبارجو — الذي كان يُدوِّن ما يقول مايرست — قلمَه الرصاص فجأةً ودسَّ يدَيه في جيبَيه وانتصبَت جلسته وحدج بريتون بنظرة لم يفهمها. كانت نظرةَ رجلٍ يشهد انهيارَ أفكاره وتصوُّراته. لاحَظ مايرست ذلك، فضحك وبلغ الازدراءُ في نظرته منتهاه.
وقال مايرست: «هذا موجَّه لك يا سبارجو! لعلك فُوجِئتَ به، لكن لا بد أن يجعلك ذلك تُفكِّر. والآن ما رأيك؟ إن جاز لي السؤال.»
قال سبارجو: «رأيي أنك إمَّا أن تكون كذَّابًا أشِرًا، أو أنَّ اللغز زاد تعقيدًا عن ذي قبل.»
رد مايرست: «يُمكِنني الكذب عند الضرورة. لكني لستُ مضطرًّا الآن. ما أقوله لك هو الحقيقة العارية، وما من سببٍ يدعوني لإخفائها عنك. وكما قلت سابقًا: على الرغم من أنكما أيها الشابان المتبجِّحان قد قيَّدتماني هكذا، فلا يُمكِنكما النيلُ مني بأي شكل. لديَّ توكيل رسمي من العجوزَين النائمَين في الداخل، وهذا وحده يكفي لتبرير حيازتي لشيكَيْهما وأوراقهما المالية. أنا صاحبُ اليدِ العليا عليكما أيها الفَتَيان، مهما قلَّبتما الأمرَ على أَوجُهِه. لذا أخبرتكما بالحقيقة، لا لشيءٍ إلا لأُسلي نفسي في هذا الانتظار. هذه هي الحقيقة العارية أيها الفَتَيان!»
قال بريتون في جفاء: «على ذِكر الحقيقة، أظنُّك ذكرتَ أنك كنتَ أولَ مَن عثر على أبي ميتًا، صحيح؟»
رد مايرست: «نعم. هذا صحيحٌ حسَبما أظن. سأخبركما بالأمر كله. قلتُ لكما إني أسكن فوق مسكن كاردلستون. تلك الليلة عدت إلى مسكني في وقتٍ متأخر جدًّا، كانت الساعة قد تخطَّت الواحدة بكثير. ولم يكن أحدٌ في الجوار، الحقيقة أنْ ليس ثَمةَ أحدٌ يتخذ في ذلك المبنى مسكنًا سِواي أنا وكاردلستون. لقد وجدتُ جثةَ رجلٍ مسجاةً في المدخل. فأشعلتُ عودَ ثقاب وعرَفت أنه مَن زارني بعد الظهر؛ جون ماربري. وعلى الرغم من تأخُّري في العودة إلى مسكني كنتُ متيقظًا تمامًا، وأنا سريع البديهة بوجهٍ عام. وحينها فكَّرت بسرعة فائقة. وكان أول ما خطر ببالي أن أُجرِّد جثةَ الرجل من كلِّ ما يحمله معه من أموال وأوراق … وكل شيء. وهذه الأغراض محفوظةٌ الآن في أمان ولم يهتدِ إليها أحد. وفي اليوم التالي، استخدمتُ إمكانياتي بوصفي سكرتيرًا لشركة صناديق الإيداع، وأخذتُ الأغراض التي كانت في تلك العُلْبة. وعندئذٍ عرَفتُ مَن كان الرجل الميت في واقع الأمر. ثم بدأت العملَ على ذَرِّ الرماد في عيون الشرطة والصحف، ولا سيما عينَي الشاب سبارجو هذا. كان لديَّ هدف.»
سأل بريتون: «وما هو؟»
رد مايرست: «بعدما علمتُ كلَّ ما علمت، تكوَّنَ لديَّ اعتقادٌ راسخ أن قاتل ماربري — أو بالأحرى ميتلاند — لم يكن سوى كاردلستون أو إيلفيك. كان ذلك ما اقنعتُ به، وترسَّخ اقتناعي هذا عندما بدأتَ أنت يا سبارجو في كتابةِ الأخبار في صحيفتك … لما وجد ميتلاند نفسَه بالقرب من كاردلستون بعد مغادَرة مسكن إيلمور تلك الليلة، توجَّه إلى مبنانا، ربما ليعرف أين يسكن كاردلستون. والتقى بكاردلستون صدفة، أو التقى بكاردلستون وإيلفيك معًا، وتعرَّف كلٌّ منهما على الآخَر. ومن المرجَّح أن يكون ميتلاند قد هدَّد حينها بفضح أمر كاردلستون — أو بالأحرى تشامبرلين — ولا سبيلَ لأحدٍ ليعرف ما حدث عندئذٍ، لكن فرضيتي كانت أن تشامبرلين قتلَه. فعلى أيِّ حال، عُثِر على ميتلاند مقتولًا على عتبة مسكن تشامبرلين. وتمكَّنتُ بعد أيام قليلة من أن أتأكَّد — إرضاءً لفضولي — أن ميتلاند قد زار مسكن تشامبرلين، فقد دخلتُ مسكن تشامبرلين في غيابه، ووجدتُ في مكتبه الطوابعَ الأسترالية النادرة التي ذكرها كريديه في استجوابه. كان هذا دليلًا لا لَبْسَ فيه.»
نظر سبارجو إلى بريتون. فقد كانا يعلمان ما لا يعلمه مايرست، وهو أن الطوابع التي يتحدَّث عنها تقبع الآن في جيب قميص سبارجو منذ أن وجدها وسط الفوضى في غرفة تشامبرلين.
وبعد فترةِ صمتٍ سأل بريتون: «لِمَ لَم تتَّهم كاردلستون — أعني تشامبرلين — بالقتل؟»
رد مايرست مؤكدًا: «بل فعلتُ مراتٍ عديدة، واتهمتُ إيلفيك كذلك. لكن ليس في بداية الأمر … فقد أخفيتُ عن تشامبرلين اشتباهي به مدةً. كنتُ ألعب لُعبتي الخاصة. لكني أخبرته في نهاية الأمر، منذ أيام قليلة فقط. اتَّهمتُ كِلَيْهما. وهكذا أصبحَتْ لديَّ اليدُ العليا عليهما. وبدأ الخوف يتملَّك منهما، بحلول ذلك الوقت كان إيلفيك قد عرَف كلَّ شيء عن ماضي كاردلستون الذي كان يحملُ فيه اسم تشامبرلين. وكما قلتُ لكما، إيلفيك يُحب كاردلستون. وهذا غريب، لكنه صحيح. لذا حاوَل إيلفيك التستُّرَ عليه.»
سأل بريتون: «وماذا كان ردُّهما عندما اتهمتَهما؟ لنتجنَّب الخروجَ عن لُب الموضوع، لا تهتم بمشاعر كلٍّ منهما تجاهَ الآخر.»
قال مايرست: «حسنًا، لكن هذه المشاعر أوثقُ صلةً باللغز مما تعتقد يا صديقي الشاب. أمَّا ردهما الذي سألتَني عنه فقد كان الإنكار التام. أقسم كاردلستون لي بأغلظِ الأيمان إنه لم يكن ضالعًا في مقتل ميتلاند البتة. وكذلك فعل إيلفيك. لكنهما يعلمان شيئًا ما عن الجريمة. إن لم يتمكَّن هذان العجوزان من أن يُعطِياك الخبرَ اليقين عمَّن ضرب ميتلاند وصرعه، فلا شكَّ لديَّ أن لديهما فكرةً واضحة عمَّن فعلها! إنهما …»
قطعَت كلامَ مايرست صرخةٌ حادة مفاجئة من الغرفة الداخلية. فهبَّ بريتون وسبارجو واقفَين على أقدامهما وتوجَّها نحو باب الغرفة. لكن إيلفيك خرج إليهما شاحبًا مرتعشًا قبل أن يبلغا الباب.
وقال إليفيك منفعلًا وبنبرة مهتزة: «لقد مات! مات صديقي القديم! كنتُ نائمًا، ونهضتُ فجأةً ونظرتُ إليه. وكان …»
أجلَسَ سبارجو العجوزَ على كرسيٍّ وقدَّم له بعض الويسكي، ودخل بريتون إلى الغرفة الداخلية بسرعة، ثم خرج يهزُّ رأسَه.
وقال: «لقد مات. من الواضح أنه مات في نومه.»
قال مايرست في هدوء: «إذن فقد مات السرُّ معه. ولن نعرف أبدًا ما إذا كان قد قتل جون ميتلاند بالفعل أم لا. قُضِي الأمر!»
اعتدل إيلفيك في كرسيِّه فجأةً ودفع سبارجو بعيدًا عنه فجأة.
وصاح في غضب ملوِّحًا بقبضته نحو مايرست: «لم يقتل جون ميتلاند. كلُّ مَن يقول إنه قتل جون ميتلاند يكذب. لقد كان بريئًا من قتله مثلي. لقد عذَّبتموه بهذه التهمة ونكَّلتم به حتى الموت، كما تفعلون بي الآن. أقول لكم إنه لم يكن ضالعًا في قتل جون ميتلاند البتة!»
ضحك مايرست.
وقال: «مَن قتله إذن؟»
التفت إليه بريتون في غضب وقال: «أغلِقْ فمك!» وجلس إلى جانب إيلفيك ووضع يدَه على ذراعه في حنو.
وقال: «يا وَصِيِّي، لِم لا تُخبِرني بما تعرف؟ لا تخشَ ذلك الرجل، فلا خطرَ منه. أخبِرني وأخبِر سبارجو بما تعرف عن هذا الأمر. وتذكَّر أنه لم يَعُد هناك شيء يُمكِن أن يضرَّ كاردلستون، أو تشامبرلين، أو أيًّا كان اسمه، الآن.»
جلس إيلفيك لحظةً يهز رأسَه. وشرع سبارجو يُقدِّم له مشروبًا آخر، ثم رفع رأسه ونظر إلى الشابَّين في شيء من الاستعطاف.
وقال: «لقد بلغ مني التعبُ مبلغَه. وعانَيت كثيرًا في الآونة الأخيرة، وعلمتُ أشياءَ لم أكن أعلمها. ربما كان عليَّ الإفصاحُ قبل الآن، لكني كنتُ خائفًا عليه. فقد كان كاردلستون صديقًا مخلصًا، بصرف النظر عما كان الرجل غيرَ ذلك، كان صديقًا مخلصًا حقًّا. ولا أعرف شيئًا سوى ما حدث تلك الليلة.»
قال بريتون: «أخبرنا بما حدث تلك الليلة.»
قال إيلفيك: «خرجتُ تلك الليلة لألعب بأوراق اللعب مع كاردلستون كعادتي. كانت الساعة العاشرة تقريبًا. وفي حدودِ الحاديةَ عشرةَ جاءت جين بيليس إلى كاردلستون، وكانت قبل ذلك قد قصدَتْ مسكني بحثًا عني، أرادتْ أن تلتقيَ بي تحديدًا؛ لذا توجَّهَت إلى مسكن كاردلستون حيث توقَّعَت أن أكون. وحضَّرَ لها كاردلستون كأسًا من النبيذ وبسكوتًا، وجلسَت، وأخذنا نتحدَّث جميعًا. وبعد ذلك عندما كانت الساعة الثانية عشرة إلا الربع تقريبًا، طُرِق باب كاردلستون، وكان الباب الخارجيُّ مفتوحًا، وبالطبع كان بإمكانِ أيِّ شخص في الخارج أن يرى الأضواءَ التي في الداخل. خرج كاردلستون إلى الباب، وسمعنا صوتَ رجلٍ يسأل عنه بالاسم، ثم أضاف الصوت أن تاجرَ الطوابع كريديه نصَحَه بزيارة السيد كاردلستون ليعرضَ عليه بعضَ الطوابع الأسترالية النادرة، وأنه لما رأى الضوءَ يَنفذُ من تحت بابه طرق الباب. دعاه كاردلستون للدخول فدخل. وكان ذلك الرجل الذي رأيناه اليومَ التاليَ في مشرحة الموتى. أُقسِم بشرفي إننا لم نعرفه لا تلك الليلة، ولا في اليوم التالي!»
سأل بريتون: «وماذا حدث عندما دخل؟»
قال إيلفيك: «طلب منه كاردلستون الجلوس، وقدَّم له مشروبًا. قال الرجل إن كريديه أعطاه عُنوان كاردلستون، وإنه كان بصحبةِ صديقٍ في مسكنٍ في فاونتن كورت، وبينما كان يمر أمام مبنانا قرَّر أن يُلقِي نظرةً ليتأكَّد من مكانِ سكن كاردلستون، ولما لاحَظَ الضوءَ تجرَّأ على طرق الباب. وبدأ كاردلستون في فحص الطوابع. ودَّعَتْهما جين بيليس، وغادَرتُ أنا وهي وتركنا الرجلَين معًا.»
قال بريتون: «لم يتعرَّف عليه أحد؟»
رد إيلفيك: «لم يتعرَّف عليه أحد. تذكَّرْ أني لم أرَ ميتلاند في حياتي إلا مرة أو مرتَين. وبالتأكيد لم يتعرَّف عليه الآخَرون. أوْ لم أعرف أن أحدًا تعرَّف عليه.»
تدخَّل سبارجو للمرة الأولى قائلًا: «أخبرنا بما فعلتَ أنت والآنسة بيليس.»
قال إيلفيك: «عندما وصلنا إلى أسفل الدَّرَج قالت جين بيليس فجأةً إنها نسيتْ شيئًا في صالة مسكن كاردلستون. ونظرًا إلى أنها كانت تقصد شارع فليت، وكنتُ أنا أقصد مسكني في زقاق ميدل تمبل تبادَلْنا التحية. وصعدت هي الدَّرَج عائدةً. في حين توجَّهتُ أنا إلى مسكني. أقسم لكما بشرفي وبحياتي إن هذا كل ما أعرف!»
هبَّ سبارجو واقفًا على قدمَيْه فجأة. وأخذ قبعتَه المبتلَّة المهترئة التي كان قد خلعها عندما دخل الكوخ.
وقال فيما يُشبه الصياح: «هذا يكفي! لقد فهمتُ الأمرَ أخيرًا!» وخاطَب بريتون: «بريتون! أين أقربُ مكتبٍ للتلغراف من هنا؟ هوز؟ على امتداد هذا الوادي مباشَرةً؟ سأذهب إلى هناك! اعتنِ بكل شيء حتى أعود، أو الحقْ بي إلى هناك عندما تأتي الشرطة. سأستقلُّ أولَ قطار إلى البلدة على أيِّ حالٍ بعد أن أُرسِلَ برقية.»
قال بريتون: «ولكن، ماذا تريد أن تفعل يا سبارجو؟ توقَّف! ماذا أنت فاعل؟»
ثم جلس سبارجو على مقعد في المكتب، وبينما بدأ عامل التلغراف في إرسال البرقية، أخذ سبارجو يستجمع أنفاسَه في إنهاكٍ شديد من انطلاقه المحموم بين نباتات الخلَنْج. وبعدما أُرسِلت البرقية انطلق مجدَّدًا يقصد المحطة.
وبعد عدة أيام، شهِد سبارجو خروجَ ستيفن إيلمور من قفصِ الاتهام بريئًا من التُّهمة التي وُجِّهت إليه، وبريئًا من التهمة التي سُجِن بها منذ عشرين عامًا، وجلس في ركنٍ هادئ من المحكمة يُمسِك بيد جيسي إيلمور التي أدرك أنها كانت تقول كلامًا لم يكَد ينتبهُ لشيءٍ منه. ولم يكن بالقرب منهما أحد، فتحدَّثت الفتاةُ بحرية ودفء.
قالت: «لكنك ستأتي … ستأتي اليوم … لنُجزِلَ لك ما تستحقُّ من شكر. ستأتي، أليس كذلك؟»
سمح سبارجو لنفسه بالإبقاء على يدها. ونظر إلى عينَي جيسي إيلمور مباشَرةً.
وقال: «لا أريد الشكر. لقد حالَفني الحظ. وإذا أتيتُ اليوم، فلن آتيَ إلا لرؤيتك!»
نظرت جيسي إيلمور إلى اليدَين المتشابكتَين.
وهمست: «أعتقد أن هذا ما كنتُ أعنيه حقًّا.»