فندق أنجلو-أورينت
كان المبنى الذي توقَّف عنده سبارجو ورفيقاه بعد قليل مبنًى قديمَ الطراز مجاورًا لمحطة قطارات ووترلو، وهو صرْحٌ غُفْل لا سِمةَ مميزة لواجهته، يعود مظهره إلى منتصف العصر الفكتوري، ويُذكِّر الناظرَ إليه بالعصور المبكرة للسفر على السكك الحديدية. يصعب أن يجد المرءُ في لندن مبنًى أكثرَ منه تنافُرًا مع فكرة الفنادق الحديثة، قال رونالد بريتون ذلك وهو يقطع الطريقَ مع رفيقَيه.
قال راثبري: «ومع ذلك كان الكثيرون قديمًا يُفضِّلون هذا الفندق عند سفرهم إلى ساوثهامبتون أو عودتِهم منها. وأكاد أجزمُ أن المسافرين القدامى العائدين من الشرق بعد غيابٍ لعدة سنوات لا يزالون يَفِدون إلى هذا الفندق. لاحِظا أنه قريبٌ من المحطة، والمسافرون يميلون لحطِّ رِحالهم في أقربِ مكانٍ بعد قطعهم آلافَ الأميال بالسُّفن البخارية والقطارات. انظرا هنا!» كانوا قد عبَروا عتبةَ الفندق أثناء حديث المحقِّق، وعندما دخلوا قاعةً مربعة كثيرة الأثاث أومأ برأسه مشيرًا إلى مَشربٍ على اليسار فيه عددٌ من الرجال، منهم الواقفون ومنهم الجالسون، يبدو من مظهرهم العامِّ وقبعاتهم المائلة ووجوههم التي لفحتها الشمس فأكسبَتها اللونَ البرونزي، أنهم كانوا في المستعمَرات، أو ممَّن قضَوا مدةً طويلة في حياتهم تحت سماء الشرق. فضلًا عن أن لكنة المستعمرين بدَت في أصوات الأحاديث المتداخِلة بينهم، وفاحت في جوِّ المكان رائحةُ تبغٍ تدل على سومطرة أو تيروشينابيلي، وهز راثبري رأسه في ثقة وقال: «أراهِنُك على أي شيء أن الرجل كان من المستعمرين يا سيد سبارجو. حسنًا، والآن، أظن أن هذا هو صاحب المكان وزوجته.»
كان في مواجَهتهم مكتبٌ في مؤخرة القاعة، وكان رجلٌ وامرأة يُتابعانهم من نافذةٍ مفتوحة فوق منضدة كان عليها سجلُّ النزلاء. كانا في منتصف العمر؛ الرجلُ لحيمٌ ذو وجهٍ مستدير يبدو عليه بعض الاعتداد بنفسه، ربما كان رئيسًا للخَدَم يومًا ما؛ والمرأةُ طويلةُ القامة، نحيفةُ القَوام، دقيقةُ الملامح، عيناها حادَّتان تَحدِج بهما الوافِدين بنظراتٍ متفحصة تَسبُر أغوارَهم. توجَّه راثبري إليهما في ثقةٍ وأريحية.
وسأل: «هل أنت صاحبُ هذا المبنى يا سيدي؛ السيد وولترز؟ وأنتِ السيدة وولترز على ما أعتقد؟»
انحنى صاحب المبنى انحناءةً متصلبة ورمقَه بحدة.
ثم سأله: «كيف يُمكِنني مساعدتُك سيدي؟»
رد السيد راثبري وهو يسحب بطاقةَ عمل: «مسألة عمل بسيطة يا سيد وولترز. يمكنك أن تعرف مَن أنا مِن هذه البطاقة … المحقِّق الرقيب راثبري من سكوتلاند يارد. وهذا السيد فرانك سبارجو، صحفي، وثالثُنا السيد رونالد بريتون، محامٍ.»
لما سمعتِ السيدةُ أسماءَهم وصفاتهم أشارتْ إلى بابٍ جانبي وأومأت لراثبري ورفيقَيه بالدخول. تبعوا إشارةَ إصبَعِها إلى غرفة خاصة صغيرة. أغلق وولترز بابَي الغرفة ونظر إلى زائره الرئيسي.
سأل وولترز: «ما الأمر يا سيد راثبري؟ هل مِن خطب؟»
أجاب راثبري فيما يُشبه اللامبالاة: «نريد بعض المعلومات.»
واستأنف حديثه قائلًا: «هل نزَلَ لديكم أمسِ شخصٌ يُدعى ماربري … رجلٌ مُسِن، حليقُ الوجه، ذو شعر رمادي؟»
جفَلَتِ السيدة وولترز ونظرتْ إلى زوجها.
قالت: «ألم أقُلْ لك؟ كنتُ أعلم أنهم سيُجْرون تحقيقًا. نعم، هناك سيد يُدعى ماربري استأجر غرفةً هنا صباحَ أمسِ، بعد وصول قطار الظهيرة من ساوثهامبتون مباشَرةً. استأجر الغرفةَ رقم ٢٠. لكنه لم يستخدمها الليلةَ الماضية، بل خرج في وقتٍ متأخر جدًّا ولم يَعُد منذ ذلك الحين.»
أومأ راثبري برأسه. واستجابةً لإشارةٍ من مالك الفندق، سحب كرسيًّا وجلس، ثم نظر إلى السيدة وولترز.
وسألها: «ما الذي جعلك تظنين أنَّ تحقيقًا سيُجرى يا سيدتي؟ هل لاحظتِ شيئًا ما؟»
بدا على السيدة وولترز بعضُ الارتباك لهذا السؤال المباشِر. ونفخ زوجُها مزمجرًا.
ثم تمتم: «لم يكن هناك شيءٌ جديرٌ بالملاحظة. لكن هذه طريقتها في الحديث، هذا كل ما هنالك.»
وقالت صاحبة الفندق: «سبب قولي ذلك أن السيد ماربري أخبرنا أنه لم يَزُر لندن منذ أكثرَ من عشرين عامًا، وأنه لا يتذكَّر أيَّ شيء عنها، بل لم يعرف الكثيرَ عنها يومًا. وبالطبع عندما خرج في ذلك الوقت المتأخر ولم يَعُد خمَّنتُ أنَّ مكروهًا أصابه، وأن أسئلةً ستُثار حول الأمر.»
قال راثبري: «أصبتِ يا سيدتي، تفكيرٌ سليم. الأمر أن مكروهًا أصابه بالفعل. لقد مات. ليس ذلك فحسب، بل هناك سببٌ قوي للاعتقاد أنه قُتِل.»
تلقَّى السيد وولترز وقرينتُه الخبرَ بذهول وذعر طبيعيَّين، وعرض مالكُ الفندق على زوَّاره بعض المرطبات. فرفض سبارجو وبريتون متعلِّلَين باضطرارهما إلى العمل بعد الظهيرة، أمَّا راثبري فقد قَبِل العرضَ بتلقائية.
قال وهو يرفع كأسه: «خالص احترامي لكما. والآن، لِمَ لا تُخبراني إذن بما تعرفانه عن هذا الرجل؟ يجدر بي أن أُخبركما أيضًا يا سيد وولترز ويا سيدتي أن السيد ماربري عُثِر عليه ميتًا في زقاق ميدل تمبل في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقةً من صباح اليوم، ولم يُعثَر معه على أيِّ شيء غير ملابسه وقُصاصةٍ ورقية رماديةِ اللون تحمل اسمَ هذا الرجل وعنوانَه، وهذا الرجل لا يعرف عنه شيئًا على الإطلاق، وقد تتبَّعتُ أثرَه إلى هنا لأنه اشترى قبعةً من صانع قبعاتٍ في الطرَف الغربي من المدينة أمس، وطلب إرسالَها إلى فندقكما.»
قالت السيدة وولترز بسرعة: «هذا صحيح، وخرج معتمرًا تلك القبعةَ ليلة أمس. لا نعلم الكثير عنه. فكما قلت لك، جاء إلى هنا قرابةَ الثانيةَ عشرة والربع من صباح أمس، وحجز الغرفة رقم ٢٠. كان معه حمَّال يحمل صندوقًا وحقيبة … موجودان في الغرفة ٢٠ الآن بالطبع. أخبرني أنه كان قد نزل في هذا الفندق منذ أكثرَ من عشرين عامًا وهو في طريقه إلى أستراليا … كان ذلك بالطبع قبل أن نتولَّى إدارتَه بوقتٍ طويل. ووقَّع في السجلِّ باسم جون ماربري.»
قال راثبري: «هلا سمحتِ لنا بإلقاء نظرة!»
أحضر وولترز السجلَّ وفتحه على صفحة اليوم السابق، ومالوا جميعًا يتفقَّدون ما كتبه الرجل الميت.
قال راثبري: «جون ماربري، كولومبدجي، نيو ساوث ويلز. كنت أتساءل ما إذا كان الخطُّ مماثلًا للذي وُجد على قصاصة الورق تلك يا سيد بريتون. لكن يُمكنك أن ترى أنه غير مماثل، بل مختلفٌ تمامًا.»
وافَقه بريتون بقوله: «مختلف تمامًا.» كان هو الآخر يتفحَّص الخطَّ باهتمامٍ بالغ. ولاحظ راثبري فحصه الدقيق للخط، وسأل سؤالًا آخَر:
«هل رأيتَ هذا الخط من قبلُ؟»
أجاب بريتون: «كلا، لم أرَه قط. ومع ذلك يبدو مألوفًا جدًّا.»
قال راثبري: «إذن فالاحتمال الأرجحُ أنك رأيته من قبلُ بالفعل. والآن لنتعرَّف على المزيد عما كان يفعله ماربري هنا. فقط أخبراني بكل ما تعرفان، السيد والسيدة وولترز.»
قال وولترز: «زوجتي تعلم معظم التفاصيل. أما أنا فلم أرَ الرجل إلا لمامًا … ولا أتذكر أني تحدثتُ معه.»
قالت السيدة وولترز: «لا. لم تتحدَّث معه بالفعل، لم تلتقِ به كثيرًا.» وواصَلت: «أنا مَن صاحبته إلى غرفته. تحدث قليلًا … قال إنه وصل إلى ساوثهامبتون لتوِّه قادمًا من ملبورن.»
سأل راثبري: «هل ذكر اسم سفينته؟ لا مشكلة إن لم يكن قد ذكرها، هذا لا يهم؛ لأننا يمكننا الوصولُ إلى تلك المعلومة.»
قالت السيدة وولترز: «أعتقد أن الاسم مكتوب على أغراضه. هناك بعض الملصَقات من ذلك النوع. طلب طهي ريشةِ لحم له على الفور؛ لأنه كان ينتوي الخروج. تناول ريشة اللحم ثم خرج في تمام الواحدة، وقال لي إنه يتوقع أن يضلَّ طريقه لأنه لم يكن يومًا خبيرًا بدُروب لندن؛ لذا لم يتوقَّع أن يعرفها على الإطلاق الآن. خرج من هنا، رأيته، نظر حوله ثم مشى نحوَ طريق بلاكفرايرز. وبعد الظهيرة وصلت القبعة التي تحدَّثت عنها من متجر فيسكي. لذا استنتجت بطبيعة الحال أنه مرَّ بطريق بيكاديلي. لكنه لم يَعُد هو نفسه إلا في العاشرة. ثم إنه كان برفقة رجلٍ آخَر.»
قال راثبري: «حقًّا؟ رجل آخر؟ هل رأيتِه؟»
ردت السيدة وولترز: «لم أكَدْ أراه؛ فقد توجَّها إلى الغرفة ٢٠ على الفور، ولمحت الرجل لمحة سريعة وهما يصعدان الدَّرَج. كان رجلًا طويلَ القامة، قويَّ البِنية، لحيته بيضاء، مهندمَ الملبس حسَبما رأيت، يرتدي قبعةً ووشاحًا حريريًّا أبيضَ حول عنقه، ويحمل مظلة.»
قال راثبري: «وصعدا إلى غرفة ماربري، ثم ماذا؟»
قالت: «بعد ذلك طلب السيد ماربري ويسكي وصودا. وأكَّد على طلب قنينة من الويسكي، فحُمِلت إليه هي والصودا. ولم أسمع شيئًا آخرَ حتى منتصف الليل تقريبًا، ثم أخبرني الحارس أن نزيل الغرفة ٢٠ خرج، وسأله عما إذا كان هناك حارسٌ يعمل بالليل، وبالطبع يوجد حارس يعمل ليلًا. وخرج في الحاديةَ عشرةَ والنصف.»
سأل راثبري: «والرجل الآخَر؟»
أجابت صاحبة الفندق: «الرجل الآخر خرج معه، قال حارس البهو إنهما توجَّها نحو المحطة. وكان هذا آخِرَ ما رأى أيُّ شخص في هذا المبنى من السيد ماربري. وبالطبع لم يَعُد.»
قال راثبري مبتسمًا في هدوء: «بالطبع سيدتي، إذن أفترِضُ أن علينا معايَنةَ الغرفة ٢٠ هذه، لنرى ما تركه فيها.»
قالت السيدة وولترز: «كل شيء تُرِك على حاله. لم يُلمَس شيء.»
بدا لاثنين من الزوَّار أنه لم يكن في الغرفة ما هو جديرٌ بأن يلمسه أحد؛ فعلى منضدة الزينة كانت هناك بعض أغراض الزينة العادية، ليس من بينها ما له جودةٌ أو قيمة تُذكَر، يبدو أن الرجل الميت كان يكتفي بالضروريات البسيطة. وكان في الغرفة معطفٌ معلَّق على مشجب، فتَّش راثبري جيوبَ المعطف في هدوء، وبالهدوء نفسِه فحص الصندوق والحقيبة اللذَين وَجَد قُفلَيهما مفتوحَين، وضع كل ما كان فيهما من أغراض على السرير، وفحص كلَّ غرض منها على حِدةٍ بعناية. لم يجد ما يُستدَل به على هُوِية مالك الأغراض الميت.
ثم قال مُنْهيًا مهمته: «ها نحن ذا! أترون، هذه الأغراض لا تختلف في قيمتها كدليلٍ عن الملابس التي كانت عليه. لا توجد أوراق، ولا يوجد شيء يُستدَل به على هُوِيته أو ما كان عازمًا على فعله أو من أين جاء، يُمكِننا التوصُّل لهذه المعلومات بطرقٍ أخرى، لكنه من النادر أن يُسافر رجلٌ دونَ أي شيء يُستدَل به على هُوِيته. فبخلاف أنَّ بعض هذه الملابس الداخلية اشتُرِيَت من ملبورن، لا نعرف شيئًا عنه. مع ذلك لا بد أنه كان يحمل معه أوراقًا وأموالًا.» والتفتَ إلى السيدة وولترز فجأةً وسألها: «هل أخرج حافظةَ نقوده في حضورك؟»
أجابت صاحبة الفندق فورًا: «نعم، جاء إلى الحانة ليتناولَ مشروبًا بعد أن كان في غرفته، وأخرج حفنةً من العملات الذهبية وهو يدفع ثمن المشروب، بل ملأ يده منها، لا بد أنها كانت بين الثلاثين والأربعين عملة من فئتَي السوفرن ونصف السوفرن.»
تمتم راثبري: «وبالرغم من ذلك لم يُعثَر معه على بنس واحد عندما عُثِر عليه.»
قالت صاحبة الفندق: «لاحظتُ شيئًا آخر. كان يرتدي ساعة وسلسلة ذهبيتَين فاخرتَين، وخاتَمًا رائعًا في خنصر يُسْراه، خاتمًا ذهبيًّا، مرصَّعًا بماسة كبيرة.»
قال المحقق متفكرًا: «نعم، لاحظتُ أنه كان يرتدي خاتمًا، وأنه كان ضيقًا عليه بعضَ الشيء. إذن لم يتبقَّ إلا شيءٌ واحد ينبغي أن أسأل عنه: هل لاحظَتْ عاملةُ تنظيف الغرف أيَّ أوراق ممزَّقة تركها، أو أنه مزَّق أيَّ خطابات، أيَّ شيء من هذا القبيل؟»
جاءت عاملةُ تنظيف الغرف، وأفادت بأنها لم تُلاحِظ شيئًا من هذا القبيل، بل على العكس، فقد ترك نزيل الغرفة رقم ٢٠ غرفتَه مرتَّبةً للغاية. وبعد ذلك قال راثبري إنه ليس لديه أسئلة ولا أقوال أخرى في ذلك الحين، وودَّع صاحبَ فندق أنجلو أورينت وزوجته، وانصرف يتبعه الشابان.
سأل سبارجو: «ماذا بعدُ؟» وهم يسيرون في الشارع.
أجاب راثبري: «المهمة التالية أن نجد الرجل الذي غادَر ماربري هذا الفندق برفقته الليلةَ الماضية.»
سأل سبارجو: «وكيف يُمكِننا ذلك؟»
رد راثبري: «لا أعرف في الوقت الراهن.»
ثم أومأ بلا اهتمام، ومضى في طريقه، وبدَت عليه رغبةٌ في البقاء بمفرده.