سبارجو يقرِّر التخصُّص
تُرِك المحامي والصحفي بفظاظة على الرصيف المزدحم، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر. وضحك بريتون.
وقال: «لا يبدو أننا حصلنا على الكثير من المعلومات. لم أتوصَّل إلى جديد يُذكَر.»
قال سبارجو: «بل توصَّلتَ إلى جديد. أنا على الأقل فعلت. فالآن أعرف أن الرجل الميت يُدعى جون ماربري، وجاء من أستراليا، ولم يصل إلى ساوثهامبتون إلا صباحَ أمس، وأنه كان الليلةَ الماضية برفقةِ رجلٍ لدينا أوصافُه؛ وهو رجلٌ طويلُ القامة، ذو لحية بيضاء، مُهندَمُ الملبس، يُفترض أنه رجلٌ نبيلُ المَحتِد.»
رفع بريتون كتفَيه.
وقال: «هذه الأوصاف تنطبق على مائةِ ألفِ رجلٍ في لندن.»
رد سبارجو: «بالضبط، هذا صحيح. لكننا نعرف أنه كان أحدَ هؤلاء المائة ألف، أو نصف المليون حتى. المهم أن نجد ذلك الرجل بالتحديد … الرجل الصحيح.»
قال بريتون: «وتعتقد أنه يُمكِنك ذلك؟»
رد سبارجو: «أعتقد أني سأبذل قُصارى جهدي.»
هز بريتون كتفَيه مجددًا.
وقال: «ماذا عساك ستفعل؟ أستذهب إلى كلِّ رجلٍ تنطبق عليه الأوصاف وتقول له: «سيدي، هل أنت مَن كان برفقة جون ماربري في فندق أنجلو …»؟»
قاطَعه سبارجو فجأةً قائلًا:
«اسمع! ألم تقُل إنك تعرف رجلًا يعيش في ذلك الشارع الذي وُجِد ماربري في مدخله؟»
أجاب بريتون: «نعم، لم أقل ذلك. السيد إيلفيك هو مَن قال ذلك. ولكن على أي حال أنا أعرف الرجلَ المقصود، إنه السيد كاردلستون، مُحامٍ آخَر. هو والسيد إيلفيك صديقان، ويهوَيان جمعَ الطوابع … وأنا أكاد أجزمُ أن السيد إيلفيك كان هناك الليلةَ الماضية يتفحَّص غنيمةً جديدة حصل عليها كاردلستون. لماذا تسأل؟»
رد سبارجو: «أودُّ أن آخذَ جولةً وأطرحَ بعض الأسئلة، هلا تكرَّمتَ ﺑ…»
أجاب بريتون في حماس: «سآتي معك! فأنا مهتمٌّ بهذه القضية مثلك تمامًا يا سبارجو! أودُّ أن أعرف مَن يكون السيد ماربري هذا، وكيف وصلَتِ القُصاصةُ التي تحمل اسمي وعُنواني إليه. لو كنتُ ذائعَ الصيت في مهنتي لَكان …»
قاطَعه سبارجو وهما يركبان سيارةَ أجرة: «نعم، لَفسَّرَ ذلك الكثيرَ. يبدو لي أننا سنُوقِع بالقاتل من خلال قصاصةِ الورق أسرعَ بكثير من المسار الذي يسلكه راثبري. نعم، هذا ما أعتقده.»
نظر بريتون إلى رفيقه في اهتمام.
وقال: «لكنك لا تعرف مسار راثبري.»
قال سبارجو: «بل أعرف. ذهب راثبري يتحرَّى عن هُوِية الرجل الذي غادَر ماربري فندقَ أنجلو أورينت برفقته. هذا هو مساره.»
سأل بريتون: «وخُطتُك أنت هي …؟»
قال سبارجو: «أريد أن أتعرَّف على دلالة قصاصة الورق بالكامل، وهُوِيَّة مَن كتبها. أريد أن أعرف لماذا كان ذلك العجوز في طريقه إليك عندما قُتِل.»
جفَلَ بريتون.
وقال باندهاش: «يا إلهي! لم يخطر ذلك ببالي، هل تظنُّه فعلًا كان قادمًا إليَّ عندما تعرَّض للاعتداء؟»
رد سبارجو: «بالتأكيد. ألم يكن معه عُنوان في زقاق تمبل؟ ألم يكن هناك في تمبل؟ بالطبع كان يُحاوِل العثورَ عليك.»
قال بريتون: «لكن، في تلك الساعة المتأخرة؟»
قال سبارجو: «بصرف النظر عن الساعة. كيف تُفسِّر إذن وجودَه في تمبل إن لم يكن قادمًا إليك؟ أعتقد أنه كان يسأل عن الطريق. لهذا أريد أن أطرح بعضَ الأسئلة في ذلك الشارع.»
بدا لسبارجو أن عددًا كبيرًا من الناس — الكثير منهم من السُّعاة — كانوا يُريدون طرْحَ الأسئلة عن الرجل الميت. وكان الوقت وقتَ الغداء، فاكتظَّ الجزء من زقاق ميدل تمبل الذي عُثِر فيه على الجثة بالفضوليِّين والباحثين عن الإثارة، فقد كان نبأ الجريمة قد ذاع، وبالرغم من أنه لم يكن هناك شيءٌ ليراه أحدٌ سِوى الأرضيةِ الصمَّاء التي كانت الجثة مُسجاةً عليها، فقد كان حولَ المدخل عددٌ من الأفواهِ الفاغرة والأعينِ المحدِّقة يَفُوق أيَّ عددٍ منها رآه سبارجو لأيام عديدة. وزاد الإزعاج لدرجةٍ اضطُر معها شاغِلو المساكن المجاورة إلى طلبِ شرطيٍّ لإبعاد الفضوليِّين، وعندما قَدِم سبارجو ورفيقُه أنفسُهما عند المدخل كان الشرطي يتلقَّى تقريعًا وتذكيرًا بواجباته على لسانِ رجلٍ ذي وجهٍ ناحل يرتدي ملابسَ مهترئةً قديمةَ الطِّراز، ويعتمر قبعةً حريرية عتيقة، وبدا أن الرجل قد انزعج للغاية من الضجيج غيرِ المرغوب فيه.
قال الرجل: «اطرُدهم جميعًا إلى الشارع! أبعِدْهم عن هنا أيها الشرطي، أخرِجْهم إلى شارع فليت أو إلى إمبانكمنت أو إلى أيِّ مكان، المهم أن تُخلِّص هذا المكانَ منهم. هذه مَهْزلة، إزعاج، وضجيج …»
همس بريتون: «هذا هو العجوز كاردلستون. دائمًا غاضِب، ولا أعتقد أننا سنعرف منه شيئًا.» كان العجوز يتراجع صاعدًا الدَّرَجَ الحجري ويلوح بمظلة قديمة مثله. واصَل بريتون وهو يتجه نحوه: «السيد كاردلستون، كنتُ قادمًا لمقابَلتك يا سيدي. هذا هو السيد سبارجو، صحفي، وهو مهتمٌّ كثيرًا بجريمة القتل. إنه …»
قال السيد كاردلستون: «لا أعرف شيئًا عن جريمة القتل هذه يا سيدي! ولا أتحدَّث إلى الصحفيِّين أبدًا … إنهم ثُلَّة من المتطفِّلين يا سيدي، مع احترامي. لكني لم أعلم أن جريمةَ قتلٍ ارتُكِبت، وأعترض على احتشادِ ثُلةٍ من السُّعاة والمتسكعين في الشارع أمام بابي. هي جريمةُ قتلٍ إذن! أغلب الظن أن الرجل تعثَّر على هذا الدَّرَج وسقط وانكسرَت رقبته، مخمور، على الأغلب.»
فتح بابه الخارجي وهو يتكلم، وتبعه بريتون بابتسامة مطمئنة وإيماءة لسبارجو، إلى داخل مسكنه في الطابق الأول، وأشار بريتون لسبارجو ليتبعَهما.
قال بريتون: «قال لي السيد إيلفيك إنه كان معك حتى ساعةٍ متأخرة من مساءِ أمسِ يا سيد كاردلستون. ألم يسمع أيٌّ منكما شيئًا مثيرًا للريبة؟»
سأل السيد كاردلستون غاضبًا: «وأي شيء مثير للريبة عسانا أن نسمع في تمبل يا سيدي؟ أتمنى أن يظل تمبل خاليًا من هذه الأشياء أيها الشاب بريتون. أمضيت مع معلمك الموقَّر أمسيةً هادئة نفعل أشياءَنا الهادئة المعتادة، وعندما انصرف كان كلُّ شيء ساكنًا كالقبور يا سيدي. لكني لا أعرف ما الذي ربما كان يجري في المساكن التي تعلو مسكني أو تُحيط به. لحُسْن الحظ أن الحوائط لدينا سميكة، متينة. رأيي يا سيدي أن الرجل سقط وانكسرَت رقبته على الأغلب. أمَّا ما كان يفعله هنا فلا علمَ لي به.»
قال بريتون وهو يغمز لسبارجو ثانيةً: «إنه مجردُ تخمينٍ يا سيد كاردلستون. لكن كل ما عُثِر عليه مع ذلك الرجل كان قُصاصةً من الورق مكتوبًا عليها اسمي وعُنواني. وهذا كل ما نعرف عنه تقريبًا، بالإضافة إلى أنه كان قد وصل لتوه من أستراليا.»
التفتَ السيد كاردلستون فجأةً إلى المحامي الشابِّ، ورمَقه بنظرة حادَّة ثاقبة.
قال متعجبًا: «حقًّا؟ ماذا تقول؟ أتقول إن هذا الرجل كان يحمل معه اسمَك وعُنوانك؟! اسمك وعنوانك أنت؟! وأنه جاء من … أستراليا؟»
قال بريتون: «هذا صحيح. هذا كل ما نعرف.»
نحَّى السيد كاردلستون مِظلتَه، وأخرج مِنديلًا ذا ألوانٍ فاقعة، وتمخَّط متفكرًا.
وقال: «هذا غريب. هل يعرف إيلفيك كل ذلك؟»
نظر بريتون إلى سبارجو كما لو كان يسأله عن التغيُّر الذي بدا على انفعالات السيد كاردلستون. فالتقط سبارجو طرَفَ خيط الحديث.
وقال: «كلا. كل ما يعرفه السيد إيلفيك هو أن اسمَ السيد رونالد بريتون وعنوانَه كانا على قصاصةِ ورق عُثِر عليها مع الجثة. السيد إيلفيك …» وهنا توقَّف سبارجو ونظر إلى بريتون، ثم واصَلَ وهو يُعيد اتجاهَ نظره ببطءٍ إلى المحامي العجوز: «السيد إيلفيك تحدَّث عن الذَّهاب لمعايَنة الجثة.»
قال السيد كاردلستون متحمسًا: «حقًّا! أيُمكن رؤيتُها؟ إذن سآتي لرؤيتها. أين هي؟»
فبادَره بريتون.
وقال: «لكن سيدي العزيز! لماذا؟»
أمسك السيد كاردلستون مظلتَه من جديد.
وقال: «لديَّ فضولٌ مبرَّر لحلِّ لغزِ ما حدث على بابي. كما أني أعرف عدةَ رجال زاروا أستراليا. وهناك احتمال — مجرد احتمال أيها الشابَّان — أن يكون الرجلُ واحدًا ممَّن لي معرفةٌ سابقة بهم. دُلَّاني على مكان هذه الجثة.»
نظر بريتون إلى سبارجو في حيرة، كان واضحًا أنه لا يفهم التحوُّلَ المفاجئ في سير الأمور. لكن سبارجو أسرعَ باغتنامِ الفرصة. وبعد ذلك بدقيقةٍ كان يقود السيد كاردلستون عبر دُروبِ تمبل متجهًا إلى بلاكفرايرز. وحين انعطفوا إلى شارع تيودور صادَفوا السيد إيلفيك.
قال السيد إيلفيك: «أنا ذاهبٌ إلى المشرحة. أظنك ذاهبًا إلى هناك كذلك يا كاردلستون، صحيح؟ هل اكتُشِف أيُّ جديد أيها الشاب؟»
رد سبارجو محاوِلًا إصابةَ هدفٍ لا علمَ له به: «اسم الرجل هو ماربري، وكان من أستراليا.»
أبقى عينَيه معلقتَين بالسيد إيلفيك، لكنه لم يلاحظ عليه أيَّ مفاجأة كالتي بدَت على السيد كاردلستون قبله. بدت على السيد إيلفيك اللامبالاة.
قال إيلفيك: «حقًّا؟ ماربري؟ ومن أستراليا. حسنًا … أريد أن أرى الجثةَ إذن.»
انتظر سبارجو وبريتون خارج المشرحة في حين دخل الرجلان الكبيران. وعندما خرجا لم يُفيدا بشيء.
قال السيد إيلفيك في هدوء: «لا نعرف الرجل. فكما قال لك السيد كاردلستون سابقًا — حسَبما علمت — لقد كنا نعرف رجالًا زاروا أستراليا، ونظرًا إلى أن هذا الرجل كان يتجوَّل في تمبل كما هو واضح، ظننَّاه واحدًا منهم عاد من سفره. لكننا لم نتعرَّف عليه.»
وقال السيد كاردلستون: «لم نتعرَّف عليه.»
غادَرا معًا كتفًا إلى كتف، ونظر بريتون إلى سبارجو.
وقال: «كما لو كان أحد على الأرض يتوقَّع أن يتعرَّفا عليه! ماذا ستفعل الآن إذن يا سبارجو؟ عليَّ الانصراف.»
كان سبارجو يدسُّ عصا المشي التي يستخدمها في صدع في الرصيف متفكرًا، ثم قطع تأمُّلَه فجأةً وقال:
«أنا؟ سأذهب إلى المكتب.» واستدار فجأةً ومشى مباشَرةً إلى غرف التحرير في مقر صحيفة «ووتشمان»، ودلف إلى واحدةٍ منها كان يجلس فيها سكرتير رئيس التحرير. قال سبارجو: «حاوِلْ أن تُرتِّب لي موعدًا لدقائقَ قليلة مع رئيس التحرير.»
رفع السكرتير الخاصُّ نظره إليه.
وسأل: «هل الأمر مهم؟»
أجاب سبارجو: «خطير! رتِّبِ الموعد.»
ما إن انفرد سبارجو بالرجل الأهمِّ الذي كان يعرف سِماته الشخصيةَ من قبلُ، حتى مضى في حديثه ولم يُهدِر أيَّ وقت.
قال سبارجو: «سمعتَ عن جريمة القتل التي وقعَتْ في زقاق ميدل تمبل، صحيح؟»
ردَّ رئيس التحرير باقتضاب: «الحقائق المؤكَّدة فحسب.»
واصَل سبارجو: «كنتُ في المكان عندما عُثِر على الجثة.» ولخَّص له ما فعَله. ثم قال: «أنا متأكد من أن الأمرَ بالغُ الغرابة. إنه لغزٌ بكل ما تحمل الكلمة من معنًى. أريد أن أُكرِّس انتباهي له. أريد التخصص فيه. يمكنني أن أبنيَ عليه قصةً صحفية لم نحظَ بمثيلٍ لها منذ وقتٍ طويل، طويل جدًّا. أعطِني إياها. اسمح لي بتغطيتِها، وأعطني عمودَين في عدد صباح الغد كبداية. سأجعل منها قصةً ضخمة.»
نظر رئيس التحرير من فوق مكتبه إلى وجه سبارجو الذي يعلوه الحماس.
وقال: «ماذا عن أعمالك الأخرى؟»
رد سبارجو: «كل شيء على ما يُرام. أنا متقدِّم بأسبوعٍ كامل في كتابة المقالات والاستعراضات. يُمكِنني الجمعُ بين العملَيْن.»
شبك رئيس التحرير أطرافَ أصابعه معًا.
وقال: «هل لديك فكرةٌ عن الأمر أيها الشاب؟»
أجاب سبارجو: «لديَّ فكرة عظيمة.» وحدَّق في رئيس التحرير بإصرار، حتى ابتسم الرجل. أضاف سبارجو: «ولهذا أريد أن أُغطيها أنا. ليس الأمر تفاخرًا أو ثقةً زائدة … لكني متأكدٌ أني سأُبْلي فيها بلاءً أفضلَ من أي شخص غيري.»
فكَّر رئيس التحرير لحظةً وجيزة.
ثم قال: «هل تريد كشفَ هُوِية مَن قتل ذلك الرجل؟»
أومأ سبارجو بالموافَقة مرتَين.
وقال مُصرًّا: «سأعرفه.»
أمسك رئيس التحرير قلمَ رصاصٍ وانحنى على مكتبه وقال:
«حسنًا. امضِ في ذلك. وسأمنحُك العمودَين.»
غادَر سبارجو في هدوء إلى ركنه الأثير. وأمسك رِزمةً من الأوراق وبدأ الكتابة. كان عازمًا على إظهار كيفية تحقيق الإنجاز.