شاهدٌ على اجتماع
دخل رونالد بريتون غرفةَ سبارجو بمقرِّ صحيفة «ووتشمان» صباحَ اليوم التالي، يحمل في يده نسخةً من العدد الحاليِّ للصحيفة. ولوَّحَ بها نحوَ سبارجو في حماسٍ صِبياني بعض الشيء.
وقال: «هكذا يكون العمل يا سبارجو! أهنِّئك. نعم، هكذا يكون العمل بكل تأكيد!»
كان سبارجو يُقلِّب بعض الأعداد المرفوضة في رَتابةٍ ويتثاءب.
ثم سأل بلا اهتمام: «ماذا تعني؟»
قال بريتون: «أسلوبك في كتابة القصة الصحفية. إنه أفضل مائةَ ألفِ مرة من الأسلوب التقليدي في سردِ قصصِ جرائم القتل. يكاد يكون فيه بعضُ الرومانسية!»
قال سبارجو: «ليس سوى أسلوبٍ جديد لنقل الأخبار.» وأمسك بنسخة من صحيفة «ووتشمان» ونظر إلى عمودَيه اللذين أصبحا ثلاثةَ أعمدة، وتأمَّل بعينٍ ناقدة الكلماتِ المكتوبةَ وصورةَ الرجل الميت المنشورة والرسمَ الكروكي لمدخل المبنى القائم في زقاق ميدل تمبل، والنسخةَ المطابقة لأصل القصاصة الرمادية. وواصَل: «نعم، ما هي إلا طريقة جديدة. السؤال هو: هل ستُحقِّق النتيجة المرجوَّة؟»
سأل بريتون: «أيَّ نتيجةٍ ترجو منها؟»
أخذ سبارجو علبةَ سجائر من درجه المبعثر، وقدَّمها لزائره، وأخذ منها سيجارة، ثم مال إلى الخلف في كرسيِّه ورفع قدمَيه حتى وضعهما على المكتب.
ردَّ بلا انفعال: «النتيجة المرجوَّة؟ حسنًا، النتيجة المرجوة هي اكتشاف القاتل في النهاية.»
قال بريتون: «وأنت تسعى إلى ذلك؟»
قال سبارجو: «نعم، هذا تحديدًا ما أسعى إليه.»
سأله بريتون: «لا تسعى فقط إلى كتابة الأخبار المثيرة إذن، صحيح؟»
قال سبارجو متعمدًا الحديثَ ببطء: «أنا أسعى إلى كشف قاتل جون ماربري. وسأكشفه.»
قال بريتون: «لكن الأدلة قليلة حتى الآن على ما يبدو. لا أجد شيئًا مفيدًا. ماذا عنك؟»
نفخ سبارجو دخان سيجارته فوقَه في دوَّامة محمَّلة بالرائحة.
وقال: «أريد أن أعرف الكثير. أنا متعطِّش للأخبار. أريد أن أعرف مَن هو جون ماربري. وأريد أن أعرف ماذا فعل بين خروجه من فندق أنجلو أورينت حيًّا يُرزَق، وبين العثورِ عليه في زقاق ميدل تمبل صريعًا مصابًا في جمجمته. وأريد أن أعرف من أين له بتلك القصاصة الورقية. والأهم من كل ذلك يا بريتون، أريد أن أعرف صلتَه بك!»
ونظر إلى المحامي الشابِّ متفحصًا، وأومأ بريتون بالإيجاب.
وقال: «نعم. أُقر بغرابة ذلك، لكني أعتقد أن …»
قال سبارجو: «تعتقد ماذا؟»
قال بريتون: «أعتقد أنه رجلٌ كانت لديه مسألةٌ قانونية تَشغَله، أو يتوقَّع أن ينخرط فيها في المستقبل، وأن أحدهم زكَّاني لديه.»
ابتسم سبارجو بقليلٍ من السخرية.
وقال: «هذا جيد. كانت قضيتك الأولى والوحيدة بالأمس. وشهرتك لم تتخطَّ الحدودَ وتبلغ الآفاقَ بعدُ يا صديقي! وعلاوةً على ذلك، أليس من قواعد اللباقة الصارمة أن يتواصل الموكِّلون معكم يا معشر محامِي المرافعات من خلال محامِي الإجراءات؟»
رد بريتون في أريحية: «ملحوظتان صحيحتان تمامًا، فبالطبع لستُ ذائعَ الصيت، ومع ذلك أعرف عدةَ قضايا فُوتِح فيها محامي المرافعات وطُلِب منه تزكية محامي الإجراءات. ربما حاوَل شخص ما أن يُسدِي إليَّ معروفًا، فأعطى ذلك الرجلَ عنواني.»
قال سبارجو: «هذا وارد. لكنه ما كان ليأتيَ لاستشارتك في منتصف الليل. يا بريتون! كلما فكَّرتُ في الأمر، زاد يقيني بأن لغزًا رهيبًا يكمن وراء هذه القضية! لهذا طلبتُ من رئيس التحرير أن يسمح لي بالكتابة عنها كما فعلت هنا. كل أملي أن هذه الصورة — ولو كانت لوجه رجلٍ ميت — وهذه النسخة المطابقة للأصل من القصاصة، سيُؤديان إلى ظهورِ شخصٍ ما يمكنه أن …»
وفي تلك اللحظة دخل الغرفةَ أحدُ الشباب المتجولين بالملابس الرسمية في دهليز مقرِّ صحيفة «ووتشمان» ذي الأعمدة الرخامية، وكانت على وجهه نظرةٌ لا يُخطِئها الناظرُ تقول إن في جَعبته أخبارًا طارئة.
تمتم سبارجو بتعليقٍ هامشي: «أراهِن أني أعرف ما الأمر.» وقال للساعي: «حسنًا، ما الأمر؟»
اقترب الساعي إلى المكتب.
وقال: «سيد سبارجو، يوجد في الأسفل رجلٌ يقول إنه يريد مقابَلةَ شخصٍ ما للحديث عن جريمة القتل المنشورة في عدد هذا الصباح من الصحيفة. وقد كلَّفني السيد باريت بإخبارك.»
سأل سبارجو: «ومَن يكون هذا الرجل؟»
رد الساعي: «يرفض الإفصاحَ يا سيدي. أعطيتُه نموذجًا ليملأه، لكنه قال إنه لن يكتب شيئًا … قال إن كل ما يريد هو مقابَلة الرجل الذي كتب الخبرَ المنشور في الجريدة.»
قال سبارجو: «أحضِرْه إلى هنا.» ولما خرج الساعي التفت إلى بريتون وابتسم. وقال: «كنت أعرف أن شخصًا سيظهر عاجلًا أو آجلًا. لذا تناوَلتُ فطوري متعجلًا وجئت في العاشرة، والآن، بكم تُراهِن على أن تكون المعلومات التي لدى ذلك الرجلِ قيِّمة؟»
رد بريتون: «بلا شيء. أغلب الظن أنه مهووسٌ أو ساعٍ لمواكَبة الخبر، لديه نظريةٌ يريد أن يعرضها.»
من المظهر الخارجي وللوهلة الأولى، بدا الرجل الذي أدخَلَه الساعي بعد لحظاتٍ قليلة مماثِلًا لما توقَّع بريتون. كان رجلًا ريفيًّا طويلَ القامة نحيفًا في منتصف العمر، شعره أصفر، عيناه زرقاوان، يرتدي بنطالًا رماديًّا ومعطفًا أسودَ هما أفضل ملابسه على ما يبدو، ويضع رابطةَ عنق متعددة الألوان. بهَرَته روعةُ مبنى صحيفة «ووتشمان» وفخامته، فخلع قبعته اللبادية المستديرة وهو يسير في إثر الساعي، ولما وَطِئت قدَماه السجادةَ الثخينة المترفة المفروشة على أرضية غرفة سبارجو، انحنى برأسه المجرد من القبعة للشابَّين. وجالت عيناه الزرقاوان المفتوحتان على اتساعهما في المكان المحيط به في ذهولٍ من فخامة مقر الصحيفة الحديث.
قال سبارجو: «كيف حالك سيدي؟» وأشار بإصبعه إلى أحد الكراسي الوثيرة التي يشتهر بها مكتبُ صحيفة «ووتشمان». وقال: «قِيل لي إنك تريد لقائي؟»
أومأ الزائرُ برأسه المكسوِّ بالشعر الأصفر مجددًا وجلس على طرَفِ الكرسي، ووضع قبعته على الأرض، ثم أخذها من جديد، وحاوَل أن يُثبتها على ركبته، ونظر إلى سبارجو في براءةٍ وخجل.
وقال بلهجة ريفية: «ما أريد أن أراه يا سيدي هو الرجل الذي كتب الخبرَ المنشور في صحيفتكم عن جريمة القتل التي وقعَتْ في زقاق ميدل تمبل.»
قال سبارجو: «أنت تنظر إليه الآن. أنا ذلك الرجل.»
ابتسم الزائر بلباقة.
وقال: «حقًّا سيدي؟ كانت قراءة الخبر ممتعةً بالتأكيد. ما اسمك سيدي؟ معرفةُ اسم مَن أُحدِّثه تمنحني حريةً أكبر في الحديث معه دائمًا.»
قال سبارجو: «وأنا أيضًا. اسمي سبارجو … فرانك سبارجو. ما اسمك أنت؟»
أجاب الرجل: «اسمي ويبستر سيدي، ويليام ويبستر. أنا مُزارع في مزرعة وان آش في جوسبرتون بأوكشاير. أنا وزوجتي …» ووزع السيد ويبستر ابتساماته على مستمعَيه ثم واصَل: «أنا وزوجتي حاليًّا في إجازة في لندن، نجد لندن مبهجةً للغاية، طقسها وكل ما فيها.»
قال سبارجو: «هذا صحيح، وأردتَ أن تُقابلني للحديث عن جريمة القتل يا سيد ويبستر، صحيح؟»
قال ويبستر: «نعم سيدي. أعتقد، وأظن اعتقادي صحيحًا، أن لديَّ ما يمكنك نشره في صحيفتك. الأمر يا سيد سبارجو حدث على النحو الذي سأشرع في سرده، إذا سمحتَ لي بحكيه بطريقتي الخاصة.»
قال سبارجو: «هذا بالتحديد هو ما أريد.»
قال السيد ويبستر: «للتأكيد، ما كنتُ لأتمكَّن من حكيه بطريقة أخرى. الأمر أني قرأتُ صحيفتَكم هذا الصباح وأنا أنتظر فطوري … تتأخَّر وجبةُ الإفطار كثيرًا في هذه الفنادق … وعندما قرأتُ الخبر ورأيت الصور قلت لزوجتي: «فور أن أتناول فطوري سأذهب إلى حيث تُطبَع هذه الصحيفة لإخبارهم بما لدي.» فقالت: «حقًّا؟ وماذا لديك لتخبرهم به؟ أريد أن أعرف.» وهذا ما حدث بالضبط يا سيد سبارجو.»
قال سبارجو: «السيدة ويبستر سيدة ذات مبادئ جادة. وماذا لديك لتُخبرنا به؟»
نظر السيد ويبستر إلى داخل قبعته، ثم إلى خارجها، وابتسم ابتسامةَ مَن يعلم شيئًا.
وقال: «سيدي، أمسِ خرجَت زوجتي إلى منطقةٍ يُسمونها كلافام لتناوُل الشاي والعشاء مع صديقةٍ قديمة لها تسكن هناك، وأرادتا أن تتحدَّثا بكلام السيدات لبعض الوقت، فلم أُرافِقهما. فخطر ببالي أن أذهب لزيارة مجلس العموم. وكان جارٌ لي قد قال لي إنَّ كل ما عليَّ فعله هو أن أخبر الشرطيَّ الموجود لدى الباب أني أريد لقاءَ عضو البرلمان الذي يُمثِّلني. لذا، عندما وصلتُ إلى هناك، قلتُ لهم إني أريد لقاء ممثِّلي في البرلمان السيد ستونوود، لا شكَّ أنك سمعت عنه؛ هو يعرفني جيدًا، فسمحوا لي بالمرور، وكتبتُ له على بطاقة، وطلبوا مني الجلوس ريثما يعثرون عليه. فجلستُ في ساحة فخيمة لم يكن فيها إلا القليلُ من الناس يذهبون ويجيئون، وكانت فيها صورٌ جميلة جديرة بالمشاهدة، فأخذت أشاهدها، ثم بدأتُ ألاحظ الأشخاص القريبين مني، المنتظرين مثلي. وأقول لك يقينًا سيدي — كما هو يقيني أني رجل مُعمَّد — إن الرجل الذي نشرتم صورتَه في الصحيفة — الذي قُتِل — كان جالسًا بجواري! عرَفتُ صورته ما إن رأيتُها هذا الصباح.»
كان سبارجو يخطُّ على رِزمة من الورق بعضَ الخطوط التي لا معنى لها، ثم نظر إلى زائره فجأة.
وسأل: «متى حدث ذلك؟»
رد السيد ويبستر: «بين التاسعة والربع، والتاسعة والنصف سيدي. ربما في التاسعة وعشرين دقيقة، وربما في التاسعة وخمسٍ وعشرين دقيقة.»
قال سبارجو: «واصِلِ الحديثَ رجاءً.»
قال السيد ويبستر: «تحدَّثتُ مع هذا الرجل الميت لبعض الوقت. طوالَ المدة التي يستغرقها الأمر للقاء عضو البرلمان. ذكرتُ له أني لم تسبق لي زيارة المكان. فردَّ قائلًا: «ولا أنا، جئتُ بدافع الفضول.» ثم ضحك، ضحك ضحكةً غريبة سيدي. وبعد ذلك مباشَرةً حدث ما أنا على وشك إخبارك به.»
قال سبارجو: «تفضَّل.»
واصَل ويبستر: «حسنًا يا سيدي، جاء رجلٌ من الساحة الكبيرة التي كنا نجلس فيها؛ رجلٌ طويلُ القامة، حسَنُ الملامح، له لحية رمادية. لم تكن على رأسه قبعة، وكان يحمل الكثير من الأوراق والوثائق في يده، فظننته أحدَ أعضاء البرلمان. وفجأةً هبَّ الرجل الذي كان يجلس بجواري من مكانه وانتفض متعجبًا، و…»
رفع سبارجو يدَه. ثم نظر إلى زائره بتمعُّن.
وسأله: «هل أنت متأكِّد تمامًا مما سمعتَه يقول حين انتفض؟ متأكِّد تمامَ التأكُّد؟ لأني أظنك ستخبرنا بما قال عندما انتفض متعجبًا.»
رد ويبستر: «لن أخبرك إلا بما أنا متأكِّد منه سيدي، ما قاله عندما هبَّ منتفِضًا هو: «يا إلهي!» قالها بحدَّة، ثم ذكر اسمًا، لم أسمعه جيدًا، لكنه بدا مثل دينسوورث أو بينسوورث أو شيءٍ من هذا القبيل، ذكر أحدَ هذين الاسمَين، أو اسمًا شبيهًا لهما على أي حال. ثم أسرع إلى الرجل الآخَر ووضع يدَه على ذراعه فجأةً.»
سأل سبارجو في هدوء: «وماذا فعل الرجل؟»
قال ويبستر: «بدَتْ عليه المفاجأةُ يا سيدي. لقد انتفض. وحدَّق في الرجل. ثم تصافَحا. وبعد أن تحدَّثا معًا قليلًا بودِّية غادَرا معًا وهما يُواصِلان الحديث. وبالطبع لم أرَ أيًّا منهما بعد ذلك. لكني عندما رأيت صحيفتكم هذا الصباحَ سيدي، والصورة المنشورة فيها، قلت لنفسي: «هذا هو الرجل الذي كنت أجلس بجواره في ساحة مجلس العموم!» لا شك في ذلك يا سيدي!»
سأل سبارجو: «إذا رأيتَ صورةً لذلك الرجل الطويل ذي اللحية الرمادية، فهل يُمكِنك التعرُّف عليه منها؟»
أجاب السيد ويبستر: «بكل تأكيد سيدي. لقد راقَبتُه عن كثب.»
قام سبارجو وذهب إلى خِزانة وأخذ منها مجلدًا كبيرًا، وأخذ يُقلِّب أوراقَه عدةَ دقائق.
وقال: «تعالَ إلى هنا رجاءً يا سيد ويبستر.»
قطع المزارع الغرفةَ كما طلب منه.
قال سبارجو: «هناك مجموعةٌ كاملةٌ من صور أعضاء مجلس العموم الحاليِّ هنا. اختَرْ منها صورةَ الرجلِ الذي رأيتَه. خذ وقتَك وتأكَّد.»
ترك الزائر يُقلِّب صفحات الألبوم وعاد إلى بريتون.
وهمس: «ها نحن نقترب، ولو قليلًا. صحيح؟»
سأل بريتون: «مِمَّ نقترب؟ لا أرى …»
قاطعَ تعبيرٌ مفاجئ عن التعجُّب أصدَره المزارعُ جملةَ بريتون.
أجاب ويبستر: «هذا هو، يا سيدي! هذا هو الرجل، يُمكِنني تمييزُه في أي مكان!»
اتجه الشابَّان إليه عبر الغرفة. وكان المزارع يُشير بإصبعه الغليظة إلى صورةٍ مكتوبٍ تحتها: الموقَّر ستيفن إيلمور، عضو البرلمان عن بروكمينستر.