سكرتير شركة صناديق الإيداع الآمِنة
وجد سبارجو راثبري يجلس وحدَه في غرفة صغيرة كئيبة بعض الشيء، كانت قلةُ أثاثها وإحساسُ السرية الغريبُ الذي تبعثه في النفس سِمتَين مميزتَين لها. وكانت هناك منضدةُ كتابةٍ وكرسيٌّ صُلب أو اثنان، وكانت على الحائط خريطةٌ للندن استحال لونها أو كاد، ووَجد كذلك القليلَ من الصور الباهتة لبعض العصابات البارزة في عالم الجريمة، وعددًا مُقارِبًا من المراجع البادي عليها تأثيرُ كثرةِ تقليبِ صفحاتها. وعندما دخل سبارجو على المحقق وجده جالسًا إلى الطاولة وفي فمه سيجار غير مشتعل، ومنهمكًا في رسمِ رموزٍ غير مفهومة على قصاصات من الورق على نحوٍ لم يَبدُ له هدف محدد. ولما دخل الصحفي رفع راثبري نظره إليه، ومدَّ يده يُصافحه.
وقال: «أهنئك على ما نشرته في «ووتشمان» هذا الصباح، وجدتُ قراءتَه ممتعة، حسنًا فعلوا أنْ كلَّفوك أنت بهذه المهمة، أظنك تمضي قُدُمًا فيها بلا هوادة يا سيد سبارجو، صحيح؟»
جلس سبارجو في الكرسيِّ الأقرب إلى يمين راثبري. وأشعل سيجارة، ونفث دفقة أو دفقتَين من دُخَانها، وأومأ برأسه على نحوٍ يوحي بالرد بنعم على سؤال راثبري.
وقال: «اسمع، اتفقنا بالأمس على أن نعتبر نفسَينا شريكَين في هذه المهمة، إن جاز التعبير، صحيح؟ لا بأس في ذلك.» أومأ راثبري بالإيجاب في هدوء بالغ، وواصَل سبارجو: «فهل أحرزتَ أيَّ تقدُّم؟»
دسَّ راثبري إبهامَيه في فتحتَي ذراعَي الصديري الذي كان يرتديه ومال للخلف في كرسيه، وهزَّ رأسه نافيًا.
ورد: «بصراحة، لم أُحرِز تقدمًا، بالطبع هناك الكثير من الأشياء التي تجري حاليًّا على النحو الروتيني الرسميِّ المعتاد، ورجالُنا خرَجوا يطرحون الكثير من الأسئلة، نسأل عن رحلة ماربري إلى إنجلترا، لكن كل ما نعلم حتى الآن هو أنه كان بلا شكٍّ مسافرًا على متن العبَّارة التي رسَت في ساوثهامبتون كما قال للقائمين على فندق أنجلو أورينت، وأنه نزل من السفينة كالمعتاد، وظنه الناس استقلَّ قطارًا إلى البلدة، وهو ما حدث فعلًا. هذا كل ما لدينا، وليس فيه أيُّ فائدة. أبرَقْنا إلى ميلبورن نطلب أيَّ معلومات عنه من هناك، لكني لا أتوقَّع أن يفيد ذلك كثيرًا.»
قال سبارجو: «حسنًا، وماذا تفعل أنت، أعني أنت نفسك؟ لأننا إذا كنا سنتبادل المعلومات، فعليَّ أن أعرف إلامَ يسعى شريكي، فالآن مثلًا بدا أنك كنتَ ترسم.»
ضحك راثبري وقال:
«في الحقيقة، عندما أريد التفكير في أمرٍ ما آتي إلى هذه الغرفة، فهي هادئةٌ كما تُلاحِظ، وأشخبط أيَّ شيء على الورق وأنا أفكر، كنت أفكر في خطوتي التالية، و…»
سأل سبارجو: «وهل عرَفتَ خطوتك التالية؟»
قال راثبري: «أريد أن أعثر على الرجل الذي رافَق ماربري إلى ذلك الفندق، يبدو لي أن …»
أشار سبارجو بإصبعه إلى شريكه وقال:
«أنا وجدته، وكان هذا السببَ في كتابة تلك المقالة؛ للعثور عليه. كنت أعرف أنها ستقود إليه. لم أتدرَّب على عملكم قط، لكني كنت أعرف أن تلك المقالة ستقود إليه، وهذا ما حدث.»
رمق راثبري الصحفيَّ بنظرةِ إعجابٍ وقال:
«رائع! ومَن يكون؟»
أجاب سبارجو: «سأخبرك بالقصة باختصار: هذا الصباحَ جاءني رجل يُدعى ويبستر، مُزارِع في زيارة للندن، وقال إنه كان في مجلس العموم الليلةَ الماضية وشاهَد لقاءً بين ماربري ورجل كان على ما يبدو عضوًا في البرلمان، وشاهَدهما يخرجان معًا. فعرضتُ عليه ألبومًا يضمُّ صورًا لأعضاء البرلمان الحاليِّين، فتعرَّف فورًا على صورةِ أحدهم بوصفها صورةَ الرجل المقصود. فأخذتُ الصورة إلى فندق أنجلو أورينت، وتعرَّفتِ السيدةُ وولترز أيضًا على صاحب الصورة وأنه هو مَن جاء إلى الفندق مع ماربري ثم مكث معه في غرفته بعضَ الوقت ثم غادَر معه. الرجل هو ستيفن إيلمور، نائب بروكمينستر.»
أطلق راثبري صافرةً حادَّة عبَّرتْ عما شعر به.
وقال: «أعرفه! بالتأكيد … أتذكَّر وصْفَ السيدة وولترز له الآن. لكن أوصافه مألوفة؛ طويل القامة، له لحية رمادية، حسَن الهندام. علينا إذن أن نقابل السيد إيلمور على الفور.»
قال سبارجو: «قابَلتُه، فقد زوَّدَتني السيدة وولترز بالمزيد من الأدلة. لقد وجَدوا هذا الصباحَ ماسةً منفردة على أرضية الغرفة ٢٠، وبعد أن وجدوها تذكَّر النادل الذي أخذ المشروبات إلى ماربري وضيفه تلك الليلةَ أنه عندما دخل الغرفة كان الرجلان ينظران إلى ورقة مليئة بأشياءَ مشابِهة. فذهبتُ لرؤية السيد إيلمور. أتعرف الشابَّ بريتون محاميَ المرافعات؟ التقيتَ به بصحبتي، هل تتذكَّره؟»
رد راثبري: «الشاب الذي عُثِر على اسمه وعنوانه مع ماربري. أتذكَّره.»
واصَل سبارجو: «بريتون هو خطيبُ ابنةِ إيلمور، وقد أخذني بريتون إلى النادي الذي ينتسب إيلمور إلى عضويته. وهناك قدَّم إيلمور سردًا واضحًا ومباشرًا للأمر وسمح لي بنشره. وسرْدُه هذا يوضِّح الكثيرَ من الأمور. كان إيلمور يعرف ماربري منذ أكثرَ من عشرين عامًا. ثم انقطعت عنه أخباره. ثم التقيا بالصدفة في بهو مجلس العموم في المساء السابق للجريمة. وقال له ماربري إنه يودُّ استشارته بشأن الماسات الأسترالية النادرة. فعاد معه إلى فندقه وأمضى معه بعضَ الوقت، ثم خرجا معًا حتى وصلا إلى جسر ووترلو، وهناك تركه إيلمور وعاد إلى منزله. أما قُصاصة الورق الرمادية فقد أصبح لها تفسيرٌ هي الأخرى؛ كان ماربري يبحث عن عنوان محامي إجراءاتٍ بارع، ولم يعرف إيلمور واحدًا، فقال لماربري إنه لو زار الشابَّ بريتون لَدلَّه عليه ووضعه على المسار الصحيح، فدوَّنَ ماربري عُنوانَ بريتون. هذه رواية إيلمور، لكن بها إضافة مهمة: يقول إيلمور إنه عندما ترك ماربري كان مع ماربري عددٌ من هذه الماسات في كيسٍ من الجلد، فضلًا عن الكثير من الذهب، ومِلْء جيبه من الخطابات والأوراق. لكنه عندما عُثِر عليه صريعًا في زقاق ميدل تمبل لم يكن معه شيء.»
توقَّف سبارجو وأشعل سيجارة جديدة.
ثم قال: «هذا كل ما أعرف. ماذا تستنتجُ منه؟»
مال راثبري في كرسيِّه بحركته التي يبدو أنها المفضَّلة لديه، وحدَّق في السقف المترَّب فوقه.
وقال: «لا أعرف. لكن هذا يدفع التحقيقَ قُدمًا بالتأكيد، إيلمور وماربري افترقا عند جسر ووترلو … في وقتٍ متأخر جدًّا. وجسرُ ووترلو قريبٌ جدًّا من زقاق ميدل تمبل، لكن كيف وصل ماربري إلى زقاق ميدل تمبل دونَ أن يراه أحد؟ لقد طرحنا كلَّ ما أمكنَ من أسئلة، ولا يُمكِننا اقتفاءُ أثره بأي شكل، هناك دليلٌ على ذَهابه إلى هناك يتمثَّل في قصاصة الورق التي تحمل عنوان بريتون، ولكنْ حتى قاطِنو المستعمرات يعرفون أنْ ليس ثمةَ عملٌ يجري في ميدل تمبل في منتصف الليل، صحيح؟»
قال سبارجو: «حسنًا، لقد فكَّرتُ في احتمالٍ أو اثنين. قد يكون الرجل ممَّن يُحبون التجوُّلَ في الليل. وربما لاحَظ الأضواءَ الكثيرة القادمة من زقاق ميدل تمبل في تلك الساعة — وهذا وارد جدًّا — وربما يكون قد دخل الزقاقَ دونَ أن يُلاحِظه أحد، وهذا محتمَل. أنا نفسي تمشَّيت في زقاق ميدل تمبل ذات مرة بعد منتصف الليل، ولم أجد صعوبةً في دخوله أو الخروجِ منه. ومع ذلك، إذا كان ماربري قد قُتِل لسرقةِ ما كان يحمل معه، فكيف التقى بقاتِله أو قاتِلِيه هناك؟ فالمجرمون لا يتسكَّعون في زقاق ميدل تمبل.»
هز المحقِّق رأسَه نافيًا. ثم أخذ قلمَه الرصاص وطفق يرسم المزيدَ من الرموز غير المفهومة.
وفجأةً سأل: «ما فرضيتُك يا سيد سبارجو؟ أظنك كوَّنتَ فرضية.»
رد سبارجو بخشونة: «وهل كوَّنتَ أنت فرضية؟»
أجاب راثبري في تردد: «كلا، لم أكن قد كوَّنتُ فرضية حتى هذه اللحظة. ولكن الآن … الآن بعد ما أخبرتَني به، أظن بمقدوري الآن تكوين فرضية. يبدو لي أنه بعدما ترك ماربري إيلمور، تجوَّلَ ماربري وحدَه بلا هدفٍ محدد، وأنه استُدرِج إلى ميدل تمبل، وهناك قُتِل وسُرِق ما معه. يوجد الكثير من المداخل والمخارج، والممرات والزوايا الغريبة في هذه المنطقة القديمة يا سيد سبارجو، وإذا كان القاتل يعرف المنطقة جيدًا، فسيسهل عليه الاختباء إلى حين يُمكِنه الفرار في الصباح. ربما كان واحدًا ممَّن يمكنهم الدخول إلى المساكن والمكاتب … فكِّرْ إلى أي مدًى يسهل لواحدٍ من هؤلاء — فور أن يقتلَ ضحيتَه ويسرق مقتنياته — أن يكمن مُختبِئًا لساعات بعد ذلك؟ مَن يعلم؟ ربما كان الرجل الذي قتل ماربري على بُعد عشرين قدمًا منك عندما رأيتَ الجثة ذاك الصباح. أليس هذا صحيحًا؟»
وقبل أن يُبدِي سبارجو رأيَه في هذه الفرضية، دخل موظف الغرفة وهمس ببضعِ كلمات في أذن المحقِّق.
فقال راثبري: «أدخِلْه على الفور.» والتفتَ إلى سبارجو والرجل في طريقه للخروج من الغرفة وابتسم ابتسامةً ذات مغزًى. وقال: «هناك شخصٌ يودُّ الإدلاءَ بإفادةٍ حول قضية ماربري. لنأمُلْ أن تكون معلوماتٍ مفيدة.»
ابتسم سبارجو ابتسامتَه الغريبة.
وقال: «اللافت من رأيي أن كل ما على المرء فِعله لجمع الأخبار هو جذْبُ انتباه الجمهور وإثارةُ فضولهم. والأهم بعد ذلك هو أن تتحرَّى عن المعلومات ما إنْ تحصل عليها. مَن عساه يكون هذه المرة؟»
عاد الموظف برفقةِ رجلٍ يبدو عليه الهندام، يرتدي معطفًا طويلًا وقبعة حريرية، لا يُخطئ الناظر إليه سِمات رجل المدينة الواضحة عليه. نظر الرجل إلى راثبري في تأمُّل وألقى نظرةً خاطفة على سبارجو، وما إن جلس حتى التفتَ إلى المحقِّق على نحوٍ يَشِي بأنه هو تحديدًا مَن يريد الحديث معه.
وقال: «أفهم أنك الضابط المسئول عن قضيةِ قتْلِ ماربري. وأعتقد أن بإمكاني تزويدَك بمعلومات قيِّمة في هذا الشأن. قرأتُ سردًا للواقعة في صحيفة «ووتشمان» هذا الصباح، ورأيت صورةَ الرجل المقتول، في البداية كنت سأتوجَّه لمقرِّ صحيفة «ووتشمان» للإدلاء بما لديَّ من معلومات، لكني في النهاية قرَّرت التواصُلَ مع الشرطة بدلًا من الصحافة، فقد رأيت أن الشرطة أكثرُ مسئوليةً.»
قال راثبري: «جزيل الشكر لك يا سيدي.» وحدج سبارجو بنظرة سريعة. ثم واصَل: «ما اسم سيادتك؟»
أخرج الزائر بطاقةَ تعارُف ووضعها وهو يرد: «اسمي مايرست، إي بي مايرست، سكرتير شركة لندن آند يونيفرسال لصناديق الإيداع الآمِنة. أظن أنَّ بإمكاني الحديثَ بأريحية …» ورمق سبارجو بطرفِ عينه. ثم واصَل: «معلوماتي سرية.»
أمال راثبري رأسَه وشبك أصابعه.
وأجاب: «يُمكِنك الحديثُ بأريحية تامة يا سيد مايرست. إذا كان لما ستخبرنا به تأثيرٌ في سير قضية ماربري، فمن المرجَّح أنك ستُضطرُّ إلى تَكراره على الملأ كما تعرف يا سيدي. ولكن في الوقت الراهن كل ما ستقوله سيُعَدُّ سريًّا.»
قال مايرست: «ما سأخبركما به له تأثيرٌ أكيد على القضية. نعم يمكنني الجزم بذلك. الأمر أنه في الحادي والعشرين من يونيو، قرابةَ الساعة الثالثة بعد الظهر، جاء إلى شركتنا غريبٌ قال إن اسمه جون ماربري، وإن عنوانه فندق أنجلو أورينت في ووترلو، وطلب استئجارَ خزينةٍ صغيرة. وأوضح لي أنه يريد أن يُودِع في تلك الخزينة علبةً جلدية صغيرة أتى بها معه، وكان مظهرها عتيقًا جدًّا بالمناسبة. وأريتُه خزينةً تُطابِق ما طلب، وأخبرته بقيمتها الإيجارية، وبقواعد المكان، فاستأجر الخزينةَ ودفع إيجارَ سنةٍ مقدمًا على الفور، وأودع العلبة الجلدية، حجمها نحو قدَمٍ مربَّعة. وبعد تجاذُب أطراف الحديث بيني وبينه عن التغيرات التي طرأت على لندن، وقوله إنه لم يرَها منذ سنوات عديدة حسَبما فهمتُ منه، أخذ مفتاحَه وانصرف. أعتقد أن هذا الرجل هو بلا شك السيد ماربري الذي عُثِر عليه قتيلًا.»
قال راثبري: «لا شكَّ في ذلك على الإطلاق يا سيد مايرست. أنا ممتنٌّ لك على المجيء إلى هنا. والآن يمكنك المواصَلة سيدي. هل أخبرك ماربري بأي شيءٍ عن محتويات العلبة؟»
رد سكرتير الشركة: «كلا، كلُّ ما قال هو إنه يريد منا إيلاءَها عنايةً فائقة.»
سأل راثبري: «ألم يُلمِّح حتى إلى ما كان فيها؟»
قال مايرست: «كلا، لكنه كان شديدَ الحرص على ألَّا تتعرَّضَ للحريق أو السطو أو العبث بأي شكلٍ آخَر، أراد طمأنةَ نفسه على ذلك. وبدا عليه ارتياحٌ شديد عندما أدرك أنه يستحيل لأحدٍ غيره أخذ ممتلكاته من خزينته.»
قال راثبري وهو يغمز لسبارجو: «نعم! مفهوم، بلا شك. وماذا عن ماربري نفسِه يا سيدي؟ ما انطباعُك عنه؟»
فكَّر السيد مايرست في هذا السؤال بعمق.
وأخيرًا أجاب: «انطباعي عن السيد ماربري أنه على الأرجحِ رجلٌ زار أماكنَ غريبة. وقبل أن ينصرف قال عن عُلْبته الجلدية ما يُمكِنني أن أسمِّيه عبارةً مميزة.»
قال راثبري: «عن عُلْبته الجلدية؟! وماذا كانت العبارة يا سيدي؟»
رد مايرست: «قال: «هذه العُلْبة في أمانٍ الآن. لكنها كانت قبل ذلك في أمانٍ أكبر. فقد كانت مدفونةً على عمقٍ كبير لسنواتٍ عديدة!»»